هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري] المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: الجزائري المروج، السيد محمدجعفر، 1378 - 1288، شارح

عنوان واسم المؤلف: هدی الطالب الی شرح المکاسب [انصاري]/ تالیف السيد محمدجعفر الجزائري المروج

تفاصيل المنشور: بیروت: موسسة التاریخ العربي، 1416ق. = - 1375.

ISBN : 1250ریال(ج.1) ؛ 1250ریال(ج.1)

لسان : العربية.

ملحوظة : الإدراج على أساس معلومات الفيفا.

ملحوظة : ج. 5 (1421ق. = 1379)10000 ریال :(ج. )5ISBN 964-5594-43-x

ملحوظة : ج. 4 (چاپ اول: 1420ق. = 1378)27500 ریال :ISBN 964-5594-28-6

ملحوظة : کتابنامه

عنوان آخر: المکاسب. شرح

موضوع : انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق.، المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

موضوع : فقه جعفري -- قرن ق 13

المعرف المضاف: انصاري، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214، المکاسب. شرح

ترتيب الكونجرس: BP190/1/الف 8م 70213 1375

تصنيف ديوي: 297/372

ص: 1

اشارة

الطبعة الأولى

١٤٢٨ه_ - ٢٠٠٧م

مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع

THE ARABIC HISTORY Publishing - Distributing

بيروت - لبنان - شارع دكاش - هاتف ٥٤٠٠٠٠ - ٥٤٤٤٤٠ - ٤٥٥٥٥٩ - فاكس 800717 - ص.ب. ١١/٧٩٥٧

Beyrouth - Liban - Rue Dakkache - Tel: 540000 - 544440-455559 - Fax: 850717 - p.o.box 7957/11

ص: 2

ص: 3

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء و المرسلين محمّد و آله الطيبين الطاهرين، لا سيّما الإمام المبين و غياث المضطر المستكين عجّل الله تعالى فرجه الشريف، و اللعن المؤبّد على أعدائهم أجمعين.

ص: 4

[تتمة كتاب البيع]

[تتمة بحث المعاطاة]

[تنبيهات المعاطاة]

اشارة

و ينبغي التنبيه على أمور (1):

[التنبيه الأوّل: جريان شروط البيع و أحكامه في المعاطاة]
اشارة

الأوّل (2):

______________________________

تنبيهات المعاطاة

(1) قد تقدم في أوّل بحث المعاطاة: أن المصنف قدّس سرّه اقتصر على بيان الأقوال، و الاستدلال لما اختاره، و أوكل جملة من أحكامها إلى التنبيهات، و لمّا فرغ قدّس سرّه عن إثبات صحة المعاطاة و كونها بيعا لازما نبّه على أمور تتميما للبحث. و لا يخفى أنّ بعض هذه الأمور مستغنى عنه، لابتنائه على تأثير المعاطاة في الإباحة التعبدية أو الملك الجائز، و كلا القولين ممنوع، لما تقدم مفصّلا من كونها كالبيع بالصيغة مفيدة للملك اللازم، لكن المصنف قدّس سرّه تعرّض لملزماتها استقصاء لجهات البحث.

التنبيه الأوّل: جريان شروط البيع و أحكامه في المعاطاة

(2) الغرض من عقد هذا الأمر تحقيق اشتراط المعاطاة بشرائط البيع العقدي المعتبرة فيه شرعا، و جريان أحكامه فيها، بعد وضوح اعتبار شرائط البيع العرفي فيها، فيبحث عن أنّه هل يعتبر في المعاطاة ما يعتبر شرعا في البيع القولي- عدا الصيغة- من الشروط المعتبرة في المتعاقدين و العوضين أم لا؟ و كذا هل تجري فيها الأحكام الثابتة للبيع بالصيغة كحرمة الربا و كالخيارات، و أنّ تلف المبيع قبل قبضه يكون من مال البائع، أم لا تجري فيها؟

ص: 5

[المقام الأول]

الظاهر (1) أنّ المعاطاة

______________________________

و تنقيح البحث في هذا التنبيه يتوقف على التكلم في مقامين، أحدهما: في الشروط، و الآخر: في ما يستتبعه البيع الصحيح من الأحكام.

أما المقام الأول ففيه جهات تظهر من مطاوي كلمات المصنف قدّس سرّه.

الأولى: أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفيّ قطعا سواء أفادت الملك اللازم أم الجائز أم الإباحة الشرعية.

الثانية: أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة ليست بيعا و لا محكومة بأحكامه.

الثالثة: أن شرائط البيع و أحكامه هل تجري في المعاطاة المقصود بها التمليك أم لا؟ و سيأتي الكلام في كلّ منها إن شاء اللّه تعالىٰ.

(1) هذا شروع في الجهة الأولى- و هي إثبات بيعية المعاطاة المقصود بها الملك- و تقريبه: أنّه إن قلنا بترتب الملك الجائز على المعاطاة المقصود بها الملك ففي كونها بيعا عرفيا أو معاوضة مستقلّة قولان:

أحدهما: أنّها معاوضة مستقلة، و هو محتمل المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد، فلا تكون حينئذ محكومة بأحكام البيع، إذ المرجع في تعيين شرائطها و أحكامها أدلة أخرىٰ.

ثانيهما: أنّها بيع.

و الصحيح من هذين القولين هو الثاني، بشهادة ما تقدّم عند نقل الأقوال في حكمها من رجوع الخلاف الى الحكم دون الموضوع. بل يظهر من كلام المحقق الثاني قدّس سرّه أنّ كونها بيعا ممّا لا كلام فيه حتى عند القائلين بكون المعاطاة فاسدة كما ذهب إليه العلامة في النهاية. و يدلّ على بيعيّتها عندهم تمسّكهم لذلك بقوله تعالى:

أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ إذ لو لم تكن بيعا لم يصحّ هذا التمسك كما لا يخفىٰ.

هذا في المعاطاة التي قصد بها التمليك و التملك مع إفادتها الملك. و أمّا مع إفادتها الإباحة فالظاهر أيضا أنّها بيع عرفي، إذ المفروض قصد المتعاطيين التمليك

ص: 6

قبل اللزوم (1)- على القول بإفادتها الملك (2)- بيع (3)، بل (4) الظاهر من كلام المحقق الثاني في جامع المقاصد

______________________________

البيعي، غاية الأمر أنّه لا يترتب عليها شرعا إلّا الإباحة، فالمراد بنفي بيعيّتها في كلامهم و معاقد إجماعهم هو نفي الملك فضلا عن اللزوم.

و أمّا المعاطاة المقصود بها الإباحة- كما احتمله بل استظهره صاحب الجواهر قدّس سرّه و جعلها مصبّ الأقوال- فلا إشكال في عدم كونها بيعا عرفا و لا شرعا.

فالمتحصل: أنّ المعاطاة إمّا أن يقصد بها التمليك مع إفادتها الملكية، و إمّا أن يقصد بها التمليك مع إفادتها الإباحة شرعا، و إمّا أن يقصد بها الإباحة. فهذه صور ثلاث تتكفّلها الجهة الأولىٰ التي تضمّنها كلام المصنف قدّس سرّه من أوّل التنبيه إلى قوله:

«و حيث ان المناسب لهذا القول التمسك في مشروعيته .. إلخ».

(1) التقييد ب «قبل اللزوم» لأجل أنه لا ريب في بيعيّة المعاطاة المفيدة للملك اللازم كما هو مختاره قدّس سرّه، أو بعد عروض أحد الملزمات.

(2) و كذا بناء على إفادتها الإباحة شرعا، كما سيأتي بقوله: «و أما على القول بإفادتها للإباحة فالظاهر أنّها بيع عرفي» فتقييد صدق البيع على المعاطاة بإفادة الملك الجائز لعلّه من جهة كونه أقوىٰ بحسب الاستظهار من الكلمات، و أنّ احتمال عدم بيعيتها موهون جدّا لا يعتنىٰ به.

(3) يعني: ليست معاملة مستقلة، كما يظهر من الشهيد قدّس سرّه في الحواشي على ما ينقله المصنف قدّس سرّه هنا و في الأمر السابع، بل في مفتاح الكرامة: «نسبة كونها معاملة مستقلة إلى ظاهر كلامهم» «1». و عليه فلا يشترط فيها شي ء من شروط البيع.

(4) مقصوده الإضراب عن مجرّد ظهور كون المعاطاة بيعا إلى أنّ بيعيّتها من المسلّمات، لا مجرّد الظهور الذي يبقى معه احتمال كونها معاملة مستقلة.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158

ص: 7

أنّه (1) ممّا لا كلام فيه (2)، حتّىٰ عند القائلين بكونها فاسدة، كالعلّامة في النهاية «1».

و دلّ على ذلك (3) تمسّكهم له (4) بقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ.

و أمّا (5) على القول بإفادتها للإباحة (6) فالظاهر أنّه (7) بيع عرفي لم يؤثّر.

______________________________

(1) أي: أنّ كون المعاطاة بيعا ممّا لا كلام فيه.

(2) حيث قال المحقق الثاني: «و قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ يتناولها، لأنّها بيع بالاتفاق، حتىٰ عند القائلين بفسادها، لأنّهم يقولون: هي بيع فاسد» «2».

(3) أي: على كونها بيعا.

(4) أي: تمسّكهم لكون المعاطاة بيعا، وجه الدّلالة: أنّها لو لم تكن بيعا لم تكن الآية المباركة متكفلة لحكم المعاطاة كأجنبيتها عن حكم الصلح و الهبة و نحوهما من المعاملات، فالاستدلال بالآية على مملّكية المعاطاة كاشف عن تسالمهم على كونها بيعا عرفا. و قد نبّه المصنف قدّس سرّه على هذا المطلب في الاستدلال بالآية الشريفة على صحة المعاطاة و في أدلة اللزوم أيضا، فقال في الموضع الأوّل: «و إنكار كونها بيعا مكابرة» فراجع.

(5) هذا عدل قوله: «على القول بإفادتها الملك» يعني: أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع عرفي سواء ترتب الملك عليها أم الإباحة تعبدا.

(6) يعني: مع قصد المتعاطيين للتمليك، فالمعاطاة حينئذ بيع عرفي، إلّا أنّها لا تؤثّر في ما قصداه من التمليك، بل تؤثّر بحكم الشارع في إباحة التصرفات، فنفي بيعيّة المعاطاة حينئذ لا يكون بحسب الموضوع، بل بحسب الحكم الشرعي، إذ المفروض صدق البيع العرفي عليها.

(7) أي: أنّ المعاطاة. و تذكير الضمير باعتبار الخبر، أو باعتبار رجوعه إلى التعاطي.

______________________________

(1): نهاية الاحكام، ج 2، ص 449

(2) جامع المقاصد، ج 4، ص 58

ص: 8

شرعا إلّا الإباحة، فنفي البيع عنها في كلامهم (1) و معاقد إجماعهم هو البيع المفيد شرعا للّزوم زيادة على الملك (2).

هذا (3) على ما اخترناه سابقا (4) من أن مقصود المتعاطيين في المعاطاة التملّك و البيع.

و أمّا على ما احتمله بعضهم (5)- بل استظهره- من أنّ محلّ الكلام هو ما

______________________________

(1) قد تقدمت هذه الكلمات في أوّل بحث المعاطاة عند بيان الأقوال، فراجع «1».

(2) لعلّ الأولىٰ بسلاسة العبارة أن يقال: «هو البيع المفيد شرعا للملك فضلا عن لزومه» وجه الأولوية: أنّ نفي بيعية المعاطاة في كلمات القدماء و معاقد إجماع مثل السيد أبي المكارم ابن زهرة قدّس سرّه يراد به عدم تأثيرها في الملك أصلا، لا اللازم منه و لا المتزلزل، لتصريحهم بإفادتها للإباحة خاصة. و أمّا المحقق الثاني القائل بالملك الجائز فقد صرّح بصدق البيع عليها شرعا، و لم ينكر ذلك أصلا. نعم لو كان مقصود المصنف أنّ المنفي شرعا هو الملك و اللزوم معا كان ملتئما مع كلمات القدماء القائلين بالإباحة المجرّدة عن الملك. و لكن يبقى التنافي بين استظهار المصنف عدم البيعية شرعا و بين قول المحقق الثاني بالبيعية شرعا و بعدم اللزوم.

(3) يعني: ما ذكرناه من صدق البيع على المعاطاة المقصود بها الملك، سواء أثّرت فيه أم أفادت الإباحة خاصة.

(4) حيث قال في تحرير محلّ النزاع في المعاطاة: «و الذي يقوىٰ في النفس إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها، و أنّهم يحكمون بالإباحة المجرّدة عن الملك في المعاطاة، مع فرض قصد المتعاطيين التمليك ..» «2».

(5) كصاحب الجواهر قدّس سرّه و قد تقدم كلامه في تحرير محلّ النزاع في المعاطاة، فراجع «3».

______________________________

(1): لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح. ص 336 إلى 344

(2) المصدر، ص 347

(3) المصدر، ص 332

ص: 9

إذا قصدا مجرّد الإباحة فلا إشكال في عدم كونها بيعا عرفا و لا شرعا (1).

و على هذا (2) فلا بدّ عند الشك في اعتبار شرط فيها من الرجوع إلى

______________________________

و بالجملة: فالمقصود في الجهة الأولىٰ هو: انقسام المعاطاة إلى ما يقصد به التمليك و إلى ما يقصد به الإباحة. و لا إشكال في كون الأوّل بيعا، كما لا إشكال في عدم كون الثاني بيعا.

(1) عدم بيعية المعاطاة المقصود بها الإباحة يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، لتقوّم البيع بقصد المبادلة و التمليك.

(2) أي: و بناء على كون محل الكلام هو المعاطاة المقصود بها الإباحة لا التمليك فلا بدّ .. و هذا شروع في الجهة الثانية، و محصّلها: أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة لمّا لم تكن بيعا لم تكن شرائط البيع معتبرة فيها، فإذا شكّ في اعتبار شرط فيها كان المرجع دليل مشروعية الإباحة المعوّضة، و الدليل منحصر في أمرين، أحدهما:

إطلاق الأدلة اللفظية، و الثاني: السيرة.

فإن اعتمدنا على الدليل اللفظي كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الناس مسلّطون على أموالهم»- بالتقريب المتقدم في أدلة المعاطاة- كان مقتضىٰ إطلاق سلطنة الملّاك على أموالهم جواز هذه الإباحة المعوّضة سواء أ كانت واجدة لشرائط البيع أم فاقدة لها، لاقتضاء الإطلاق نفي ما يشك دخله فيها، فتجوز إباحة جنس ربوي بمثله مع التفاضل بينهما، إذ ليست المعاطاة بيعا حتى تتوقّف مشروعيتها على رعاية شرائط البيع فيها.

و إن اعتمدنا على السيرة العقلائية الممضاة أو على السيرة المتشرعية تعيّن الاقتصار في مشروعية الإباحة المعوّضة على ما إذا روعي فيها شرائط البيع من معلومية العوضين و مساواتهما فيما كانا ربويّين و غير ذلك. وجه الاقتصار واضح، إذ السيرة دليل لبّيّ لا بدّ من الأخذ بالمتيقن منها، فلو لم يحرز أنّ مورد عمل العقلاء أو المتشرعة هو الإباحة المعوّضة مطلقا أو خصوص الواجد لشرائط البيع لزم الأخذ

ص: 10

الأدلة الدالّة على صحّة هذه الإباحة العوضية من خصوص (1) أو عموم.

و حيث إنّ المناسب لهذا القول التمسّك في مشروعيّته بعموم (2): «الناس مسلّطون على أموالهم» «1» كان مقتضى القاعدة (3) هو نفي شرطية غير ما ثبت شرطيّته [1].

______________________________

بالمتيقن من مورد إمضاء الشارع كما هو واضح.

(1) المراد بالدليل الخاص هو السيرة القائمة بين الناس في الإباحات المعوّضة، و وجه خصوصيتها اقتصارها على إعطاء كل منهما ماله للآخر بقصد إباحة التصرف، لا التمليك.

(2) المراد بالعموم مطلق الشمول سواء أ كان وضعيا أم حكميّا. و المراد به هنا هو الثاني أي إطلاق حديث السلطنة كمّا و كيفا، لدلالته على مشروعية كل تصرف في المال و بأيّ سبب من الأسباب عدا ما خرج بالدليل.

(3) و هو الأصل اللفظي أعني به إطلاق قاعدة السلطنة المقتضي لمشروعية كل تصرف في مال كمّا و كيفا.

______________________________

[1] و أضاف إليه في الجواهر الاستدلال على ذلك بقاعدة طيب النفس المستفادة من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فإنه لا يحل دم امرء مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفسه» و من مفهوم قوله عليه السّلام: «فلا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» و التجارة عن تراض، و نحو ذلك «2». فالمراد بالأصل الذي تمسّك به في الجواهر لعدم اعتبار العلم بالعوضين في هذه الإباحة المعوّضة هو إطلاق أدلته المذكورة، هذا.

لكن الأدلة المزبورة لا يخلو الاستدلال بأوّلها و ثالثها عن المناقشة، إذ في أوّلها عدم كون قاعدة السلطنة مشرّعة بالنسبة إلى الأسباب على ما أفاده المصنف قدّس سرّه في أدلّة

______________________________

(1): بحار الأنوار، ج 2، ص 272

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 218

ص: 11

كما أنّه لو تمسّك لها (1) بالسيرة كان مقتضى القاعدة العكس (2).

و الحاصل: أنّ المرجع على هذا (3) عند الشك في شروطها هي أدلة هذه المعاملة، سواء اعتبرت (4) في البيع أم لا.

______________________________

(1) أي: للمعاطاة المقصود بها الإباحة، و يمكن أن يستأنس لانعقاد السيرة عليها بمثل كلام شيخ الطائفة قدّس سرّه من قوله: «و إنما هي استباحات بين الناس» لظهور باب الاستفعال في قصد ذلك، كما أنّ الإضافة إلى الناس أمارة شيوعها و دورانها بينهم.

(2) للزوم الاقتصار على القدر المتيقن، و هو ما إذا جمعت هذه المعاطاة- المقصود بها الإباحة- جميع شرائط البيع، فإذا شكّ في شرطية شي ء فيها كان مقتضى السيرة- التي هي دليل لبّيّ- اعتباره.

(3) أىّ: على تقدير قصد الإباحة بالمعاطاة.

(4) أي: الشروط، كما إذا شك في اختصاص جواز الإباحة المعوّضة بكون المال حقيرا، و عدم جريانها في الخطير، فإن كان المرجع مثل إطلاق دليل السلطنة قلنا بها في الخطير، و إن كان هو السيرة اقتصر على الحقير.

______________________________

مملّكية المعاطاة، «1»، فالتمسك بها على مشروعية المعاطاة المقصود بها الإباحة ينافي ما سبق منه قدّس سرّه من الإشكال في مشرّعيّة قاعدة السلطنة للأسباب.

إلّا أن يقال: إنّ مقصود المصنف قدّس سرّه توجيه هذه الإباحة المعوّضة التي قال بمشروعيتها صاحب الجواهر قدّس سرّه مستدلّا بقاعدة السلطنة، و بحديث الحل، و حينئذ لا سبيل للجزم بأنّ المصنف قدّس سرّه بصدد تصحيح الإباحة المعوّضة بقاعدة السلطنة حتى يتّجه عليه التنافي في كلاميه هنا و في أدلة مملّكية المعاطاة، فراجع.

و في ثالثها: اختصاصه بالاكتساب، فلا تشمل آية التجارة إباحة التصرف.

نعم لا بأس بالتشبث بعموم «لا يحل مال امرء إلّا بطيب نفسه» إلّا على تأمّل فيه

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 395

ص: 12

______________________________

تقدّم في أدلة لزوم المعاطاة «1» و بعموم الوفاء بالعقود بناء على صدق العقد على المعاطاة المقصود بها الإباحة.

و عليه فلو شكّ في اعتبار شي ء فيها فالمرجع إطلاق هذه الأدلة المقتضي لعدم الاعتبار، إذ الموضوع للحلّ- بناء على التمسك بطيب النفس- هو الطيب المتحقق بالتعاطي من دون دخل شي ء في ذلك، و هو كاف في دفع الشك في اعتبار الشرائط المعتبرة في البيع في المعاطاة المقصود بها الإباحة كتقدم الإيجاب على القبول، و شرائط المتعاملين، و العوضين، و كاعتبار التقابض في الصرف، و التساوي في المكيل و الموزون، و غير ذلك من الشرائط المعتبرة في البيع، فإنّه لا دليل على اعتبار شي ء منها في المعاطاة المذكورة.

فإن قلت: إنّ دليل النهي عن الغرر يوجب اعتبار العلم بالعوضين في المعاطاة.

قلت: إنّ النهي عن الغرر مختص بالبيع الذي ليس منه المعاطاة المذكورة، و النهي عن الغرر مطلقا غير ثابت بنحو يعتمد عليه.

نعم بناء على التمسك بعموم الوفاء بالعقود يعتبر شروط العقد كالتنجيز فيه، و يرجع إليه في رفع احتمال شروط أخر. لكن صدق العقد على المعاطاة المقصود بها الإباحة لا يخلو عن خفاء.

و التمسّك بالسيرة أيضا مشكل جدّا، لعدم تحققها، إذ المفروض- كما تقدم آنفا و سابقا- أنّ المعاطاة المتداولة بين الناس هي المقصود بها التمليك. و السيرة العقلائية كالمتشرعية جارية على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة المزبورة.

و لا يخفى أن الموجود في الجواهر في الاستدلال على هذه الإباحة المعوضة هو الأدلة اللفظيّة المتقدّمة، و ليس فيها من السيرة عين و لا أثر. فلعلّ تعرض المصنف للسيرة لأجل استقصاء جهات البحث و إن لم يوجد بينهم من يعتمد عليها. و يمكن

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 519

ص: 13

و أمّا (1) على المختار من أنّ الكلام فيما قصد به البيع، فهل يشترط فيه شروط البيع مطلقا (2)، أم لا كذلك (3)، أم يبتني (4) على القول بإفادتها للملك و القول بعدم إفادتها إلّا الإباحة؟ وجوه.

______________________________

(1) إشارة إلى الجهة الثالثة، و هي ما إذا قصد بالمعاطاة التمليك، و هو مختار المصنف، و حاصلها: أنّه هل يعتبر في المعاطاة المقصود بها التمليك شروط البيع مطلقا أم لا تعتبر كذلك، أم يفصّل في المعاطاة المقصود بها الملك بين ما يترتب عليها ما قصده المتعاطيان من التمليك، و بين ما يترتب عليها الإباحة بحكم الشارع، بأن يقال باعتبار شروط البيع في المعاطاة المؤثّرة في الملكية دون المؤثّرة في الإباحة؟ فيه وجوه أوّلها: الاعتبار مطلقا، ثانيها: عدم الاعتبار مطلقا، ثالثها: التفصيل بين ترتب الملك و بين ترتب الإباحة، و سيأتي الاستدلال على كلّ منها.

(2) يعني: سواء أفادت المعاطاة الملكية التي قصدها المتعاطيان، أم الإباحة التي لم يقصداها لكن الشارع حكم بها. كما أنّه بناء على إفادة الملك لم يفرق بين ترتب الملك اللازم عليه أم الجائز، عملا بإطلاق الملك.

(3) أي: مطلقا، و قد عرفت المراد بهذا الإطلاق.

(4) هذا إشارة إلى التفصيل المزبور.

______________________________

استفادة عدم صلاحية السيرة من تعبيره ب «لو» الامتناعية.

و على هذا فينحصر الوجه في هذه الإباحة بما دل على حلية المال بطيب نفس مالكه، و مقتضى حصر الحلّ بطيب النفس هو كون الموضوع المنحصر للحلّ مجرّد طيب النفس، فإطلاقه ينفي احتمال شرطية كل ما يشكّ في شرطيته للإباحة المترتبة على المعاطاة.

فالمتحصل: أنّ المعاطاة المقصود بها الإباحة ليست بيعا، و لا محكومة بشرائطه و أحكامه كالخيار، لانتفاء موضوعها. و إذا شك في شرطيّة شي ء من شرائط البيع في المعاطاة المذكورة يتمسك لنفيها بإطلاق دليل مشروعيتها، و هو قاعدة طيب النفس.

ص: 14

يشهد [1] للأوّل (1) كونها بيعا عرفا، فيشترط فيها جميع ما دلّ على اشتراطه في البيع.

______________________________

(1) يعني: للوجه الأوّل، و هو اعتبار شروط البيع في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا. و حاصل ما استدل به المصنف قدّس سرّه على الوجه الأوّل هو: أنّ البيع يصدق على المعاطاة بحيث تكون من أفراده و مصاديقه، فيشملها حينئذ ما دلّ على اعتبار شروط فيه كالقبض في بيع الصرف، و معلومية العوضين، و تساويهما في المكيل و الموزون مع وحدة الجنس. أمّا صدق البيع العرفي على المعاطاة المقصود بها التمليك فظاهر، و مع صدقه عليها يشملها أدلّة الشرائط الثابتة للبيع. و عليه فيشترط في المعاطاة المذكورة جميع ما يشترط في البيع بالصيغة.

______________________________

[1] مجرّد صدق البيع العرفي على المعاطاة لا يشهد باعتبار شروط البيع فيها، إلّا إذا أفادت الملكية التي قصدها المتعاطيان، لأنّ المعاطاة حينئذ بيع عرفي و شرعي، و من المعلوم أنّ موضوع الشروط الشرعية هو البيع الصحيح أي المؤثّر في الملكيّة في نظر الشارع حتى يكون وجوده مساوقا لنفوذه، و المفروض كون المعاطاة كذلك. نعم موضوع دليل الإمضاء هو البيع العرفي، و أدلّة الشروط تقيّد البيع العرفي بالشرعي، يعني:

أنّ البيع النافذ شرعا هو المقيد بالشروط الكذائية، لا البيع العرفي بما هو بيع عرفي.

و أمّا إذا أفادت الإباحة فليست المعاطاة حينئذ بيعا شرعيا أي ليست مشمولة لدليل الإمضاء و النفوذ كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و من المعلوم أنّ الشروط لا تعتبر في غير البيع الشرعي الموضوع للأثر، و المفروض أنّ المعاطاة المذكورة ليست بيعا مؤثّرا، فلا تعتبر فيها شرائط البيع.

إلّا أن يقال: إنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع حقيقة، فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع القولي، و لا يقدح في بيعيتها عدم إمضاء الشارع الملكية المنشئة بها إلى زمان طروء أحد ملزمات المعاطاة، و ذلك لإمكان أن يكون توقف الملكية في المعاطاة على ملزماتها كتوقفها على القبض في بيع الصرف و السّلم، فكما يكونان بيعا

ص: 15

______________________________

عرفا و شرعا، و لا يخرجهما التوقف المزبور عن البيع العرفي و الشرعي، فكذلك المعاطاة المفيدة للإباحة إلى زمان عروض أحد الملزمات.

و إن أبيت عن ذلك، لكونه قياسا- مضافا إلى أنه مع الفارق، لثبوت الإباحة في المعاطاة إلى حصول الملزم دون بيع الصرف و السّلم، لعدم ثبوت إباحة التصرف فيهما بنفس العقد، بل لا يترتب عليهما إلّا الملك بعد القبض- فيمكن أن نقول: إنّ هذه المعاطاة المقصود بها التمليك و إن كانت فاسدة، لعدم إمضاء الشارع لها، فلا يترتب عليها الأثر المقصود و هو الملكية، إلّا أنّ الإجماع قام على جواز تصرف المتعاطيين في المالين، و لم يقم على جوازه في سائر العقود الفاسدة، و حيث إنّ الإجماع من الأدلّة اللّبّيّة فيقتصر على ما هو المتيقّن و هو كون المعاطاة واجدة لجميع شرائط البيع حتى المختلف فيها، إلّا الصيغة.

و إن شئت فقل: إنّ مقتضى عموم حرمة التصرف في مال الغير إلّا بإذنه هو حرمة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة التي قصد بها التمليك و لم يمضها الشارع، لكن المخصّص و هو الإجماع دلّ على جواز التصرف فيه، و لمّا كان لبّيّا فيقتصر في تخصيصه للعام على القدر المتيقن، و هو ما إذا استجمع المعاطاة شرائط البيع بأسرها، و يبقى الباقي تحت العام.

فقد ظهر من هذا البيان عدم الفرق في الشرائط المعتبرة في المعاطاة المذكورة بين كون مستندها دليلا لفظيا و بين كونه لبّيّا. و لا منافاة بين الإجماع على إباحة التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة، و بين إجماعهم على نفي بيعيتها حتى يتوهم عدم الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع هنا بعد تصريحهم بأنّها ليست بيعا.

وجه عدم المنافاة: أنّ المقصود بنفي البيعية هو نفيها حدوثا، لاعترافهم بإفادتها الملك بعد طروء الملزمات.

و عليه لا مانع من الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع. هذا.

لكن قد عرفت سابقا عدم إجماع تعبدي على الإباحة، فالتوجيه الثاني أيضا في غير محله.

ص: 16

و يؤيّده (1) أنّ محل النزاع بين العامة و الخاصة في المعاطاة هو: أنّ الصيغة معتبرة في البيع كسائر الشرائط أم لا؟ كما يفصح عنه (2) عنوان المسألة في كتب كثير من العامة و الخاصة، فما (3) انتفى فيه غير الصيغة من شروط البيع خارج عن هذا العنوان و إن (4) فرض

______________________________

(1) معطوف على «يشهد» و الضمير البارز راجع الى الأوّل. و حاصل وجه التأييد: أنّهم جعلوا محل النزاع بين العامة و الخاصة اعتبار الصيغة في البيع و عدمه، فمن قال باعتبار الصيغة فيه نفى بيعيّة المعاطاة، و من قال بعدم اعتبار الصيغة فيه قال بصحة المعاطاة، و لذا فرّعوا عدم كفاية المعاطاة على اعتبار الصيغة فيه، فيظهر من هذا التفريع أنّ الفارق بين البيع القولي و المعاطاتي هو وجود الصيغة و عدمها، دون غير الصيغة من الشرائط. و لا يصح هذا التفريع إلّا مع اعتبار جميع شرائط البيع في المعاطاة إلّا الصيغة، فلو لم يكن سائر شرائط صحة البيع مجتمعة فيها لم يصدق عليها عنوان البيع قطعا.

ثمّ إنّ التعبير عن هذا الوجه بالتأييد- دون الدلالة و الشهادة- إنّما هو لكونه استشهادا بما صنعه الفقهاء من تفريع بحث المعاطاة على بحث ألفاظ العقود، و هو ليس دليلا شرعيا من الكتاب و السنة و الإجماع، و لكن هذا المقدار صالح للتأييد كما لا يخفى.

(2) أي: عن كون محل النزاع في المعاطاة هو .. إلخ.

(3) أي: فالمعاطاة الفاقدة لشرط آخر- غير الصيغة- من شروط البيع خارجة عن المعاطاة التي هي مورد البحث بين العامة و الخاصة، وجه الخروج اتفاق الكل على اعتبار شرائط البيع القولي في المعاطاة، و أنّ الفارق بينهما مجرّد الصيغة.

(4) وصلية، يعني: أنّه بعد وضوح استجماع شرائط العوضين و المتعاقدين في المعاطاة، نقول: لو فرض قيام دليل على أنّ المعاطاة الفاقدة لشرط معلومية العوضين مثلا تفيد الإباحة أو الملك كالمعاطاة المستجمعة للشرائط لم يكن هذا الاشتراك في الأثر كاشفا عن بيعية المعاطاة الفاقدة لبعض الشرائط حتى يتوهم عدم اعتبار

ص: 17

مشاركا له (1) في الحكم، و لذا (2) ادّعى في الحدائق «ان المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة صحة المعاطاة المذكورة إذا استكمل شروط البيع غير الصيغة المخصوصة، و أنّها (3) تفيد إباحة تصرف كل منهما فيما صار إليه من العوض» «1» و مقابل المشهور في كلامه قول العلامة في النهاية «2» بفساد المعاطاة، كما صرّح به بعد ذلك (4)، فلا يكون كلامه (5) موهما لثبوت الخلاف في اشتراط صحة

______________________________

شرائط البيع القولي في المعاطاة، بل الاشتراك المزبور حكم تعبدي، مع تعدد الموضوع. كما أنّ البيع و الهبة متحدان في اعتبار كون المبيع و الموهوب عينا لا منفعة و إن كان لكلّ منهما أحكام مختصة.

(1) أيّ: للبيع المعاطاتي المستجمع لشرائط البيع القولي عدا الصيغة.

(2) و لأجل لزوم اجتماع الشرائط إلّا الصيغة في المعاطاة ادّعى في الحدائق .. إلخ.

(3) معطوف على «صحة» و مفسّر لها، حيث إنّ ظاهر الصحة هو ترتب الأثر المقصود أعني الملكية، و المفروض عدم ترتبها على المعاطاة. فالمراد بصحتها حينئذ هو ترتب الإباحة عليها بحكم الشارع لا الملكية المقصودة للمتعاطيين.

(4) حيث قال المحدث البحراني بعد العبارة المتقدمة: «و عن العلّامة في النهاية القول بفساد بيع المعاطاة، و أنّه لا يجوز لكل منهما التصرف فيما صار إليه، من حيث الإخلال بالصيغة».

(5) أي: كلام الحدائق. و حاصل كلامه: أنّ موضوع كلام المشهور من إفادة المعاطاة للإباحة و قول العلامة بفسادها و عدم ترتب أثر عليها هو المعاطاة الجامعة لجميع شرائط البيع، فيكون قول المشهور بالإباحة مقابلا لقول العلامة، لا مقابلا لاستكمال شروط البيع، فموضوع الحكم بالصحة عند المشهور و بالفساد عند العلّامة هو استكمالها لشرائط البيع، فلو لم تستكملها كانت فاسدة عند الكلّ.

______________________________

(1): الحدائق الناضرة، ج 18، ص 356، و العبارة منقولة باختلاف يسير عمّا في الحدائق.

(2) نهاية الأحكام، ج 2، ص 449

ص: 18

المعاطاة باستجماع شرائط البيع.

و يشهد للثاني (1) أنّ البيع في النص (2) و الفتوى (3) ظاهر فيما حكم فيه باللزوم، و ثبت له الخيار في قولهم: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»

______________________________

(1) أي: للوجه الثاني و هو عدم اعتبار شروط البيع القولي في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا سواء أفادت الملكية أم الإباحة. أمّا على الثاني فواضح، لعدم كون هذه المعاطاة بيعا لا في نظر الشارع و لا في نظر المتشرعة، لأنّ الأثر المقصود من البيع- و هو التمليك أو التبديل- لا يترتب عليها، فلا تكون المعاطاة حينئذ بيعا حتى يعتبر فيها شروطه.

و أمّا على الأوّل فلأنّ البيع في النص و الفتوى ظاهر في البيع المبنيّ على اللزوم لو لا الخيار، لأنّه مفاد دليل الإمضاء كآيتي أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بحيث يكون الخيار على خلاف مقتضى طبعه.

و إن شئت فقل: إنّه لا إطلاق لأدلّة شروط البيع حتى يشمل البيع العرفيّ المفيد شرعا للإباحة أو الملك الجائز، و مع عدم الإطلاق من هاتين الجهتين لا يمكن التمسّك بأدلّة الشروط.

كما أنّه بناء على الإطلاق من كلتا الجهتين المذكورتين تكون المعاطاة المقصود بها التمليك مشمولة لأدلة شروط البيع و إن كانت مفيدة للإباحة.

و بناء على الإطلاق من الجهة الثانية- و هي إفادة البيع الملك اللازم أو الجائز- تكون المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة شرعا للملك الجائز أو اللازم صحيحة و مشمولة لأدلة الشروط المعتبرة في البيع.

(2) يعني: النصوص المتكفلة لأحكام البيع، مثل «أقاله في البيع» و «نهي النبي عن بيع الغرر» و نحوهما.

(3) كقول الفقهاء: «الأصل في البيع اللزوم» و «البيع هو العقد الدّال على نقل العين ..» و نحوهما من الإطلاقات التي يراد بالبيع فيها ما هو المبني على اللزوم، لا الأعم منه و من الجائز.

ص: 19

و نحوه [1]. أمّا على القول بالإباحة، فواضح (1)، لأنّ المعاطاة ليست على هذا القول بيعا في نظر الشارع و المتشرعة، إذ لا نقل (2) فيه عند الشارع، فإذا ثبت (3) إطلاق الشارع عليه في مقام فنحمله على الجري على ما هو بيع باعتقاد العرف، لاشتماله على النقل في نظرهم. و قد تقدّم سابقا (4) في تصحيح دعوى الإجماع (5)

______________________________

(1) يعني: فعدم صدق البيع على المعاطاة واضح.

(2) يعني: و المفروض أنّ البيع هو النقل، فعدم النقل يكشف عن عدم البيع.

(3) غرضه قدّس سرّه التفكيك بين نظر المتشرعة بما هم متشرعة و بين نظر العقلاء بما هم عقلاء، فإنّهم بما هم متديّنون يلتزمون بعدم بيعية المعاطاة، لكونها مؤثّرة في الإباحة خاصة. و لكنّهم بما هم عقلاء لا يفرّقون بين البيع القولي و الفعلي بعد اشتراكهما في قصد التمليك و النقل. و على هذا فلو أطلق الشارع البيع على المعاطاة أحيانا- مع سلب العنوان عنها حقيقة- كان المراد صدقه بنظر العرف الّذين لا عبرة بنظرهم ما لم يمضه الشارع.

(4) يعني: في المعاطاة، حيث قال في مقام التفكيك بين الصحة العرفية و الشرعية:

«فيصحّ على ذلك نفي البيعية على وجه الحقيقة في كلام كلّ من اعتبر في صحّته الصيغة» «1».

(5) الذي ادّعاه في الغنية في مقام الاحتراز عن القول بانعقاد البيع بالاستدعاء من المشتري- بعد اعتبار الإيجاب و القبول- حيث قال: «و احترازا أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة و يقول: أعطني بقلا، فيعطيه، فإنّ ذلك

______________________________

[1] مرجع هذا الشاهد إلى منع إطلاق أدلة شروط البيع للبيع الشرعي اللازم و الجائز، بل تختص بالبيع النافذ اللازم، فلا يشمل البيع النافذ الجائز كما هو مفروض المصنف قدّس سرّه في المعاطاة المقصود بها التمليك.

______________________________

(1) راجع الجزء الأول من هذا الشرح، ص 361

ص: 20

على عدم (1) كون المعاطاة بيعا بيان ذلك (2).

و أمّا على القول بالملك فلأنّ المطلق ينصرف الى الفرد المحكوم باللزوم (3) في قولهم: «البيّعان بالخيار (4)» و قولهم (5) «انّ الأصل في البيع اللزوم، و الخيار (6) إنّما ثبت لدليل».

______________________________

ليس ببيع، و إنّما هو إباحة للتصرف» «1». و نحوه غيره من عبارات جملة من الأصحاب.

(1) حيث قال المصنف قدّس سرّه بعد نقل كلمات الأعلام في المعاطاة: «و أمّا دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا كابن زهرة في الغنية فمرادهم بالبيع المعاملة اللازمة التي هي أحد العقود، و لذا صرّح في الغنية بكون الإيجاب و القبول من شرائط صحة البيع. و دعوى: أنّ البيع الفاسد عندهم ليس بيعا قد عرفت الحال فيها» «2».

(2) يعني: بيان إرادة البيع الصحيح الشرعي- المحكوم باللّزوم و بالخيار- من البيع في كلام المتشرعة، و معقد إجماعهم على نفي البيع عن المعاطاة.

(3) استشهد المصنف قدّس سرّه بعبارات أربع على أنّهم أرادوا من «البيع» في فتاواهم البيع المفيد للملك اللازم، فإذا لم يؤثّر فيه لم يكن بيعا حقيقة.

(4) هذا هو المورد الأوّل من كلمات الأصحاب، حيث ينزّل إطلاق «البيّعان» على من أنشأ بيعا لازما، فلا يجري الخيار في المعاطاة، لعدم ترتب ملك لازم عليها.

(5) هذا هو المورد الثاني، إذ المراد من «البيع» هو اللّازم، فما ليس بلازم لا يكون بيعا.

(6) هذه الجملة متمّمة للعبارة الثانية الّتي نقلها المصنف عن الفقهاء، و الأولى تأخيرها عن العبارة الثالثة، و هي: قول الفقهاء: «ان البيع- بقول مطلق- من العقود اللازمة» و لا يخفى وجهه.

______________________________

(1): غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية) ص 524

(2) راجع الجزء الأول من هذا الشرح، ص 384 إلى 386

ص: 21

و أنّ (1) البيع- بقول مطلق- من العقود اللازمة. و قولهم (2): البيع هو العقد الدالّ على كذا. و نحو ذلك (3).

و بالجملة (4): فلا يبقى [1] للمتأمّل شكّ في أنّ إطلاق البيع في النص

______________________________

(1) معطوف على: «قولهم» يعني: و قول الفقهاء: إنّ البيع بقول مطلق ينصرف إلى الفرد المحكوم باللزوم.

(2) معطوف على «قولهم» و هذه هي العبارة الرابعة، يعني: أنّ مراد الفقهاء من تعريف البيع بالعقد الدال على نقل الملك هو البيع المبني على اللزوم، لا الأعم منه و من المبني على الجواز أو الإباحة.

(3) كقولهم: «الإقالة في البيع كذا» إذ ينصرف كلامهم إلى إقالة البيع اللازم، و لا يشمل المعاطاة.

(4) هذه خلاصة ما أفاده بقوله: «و يشهد للثاني». و المقصود تثبيت انصراف البيع- في النص و الفتوى- إلى خصوص فرده اللازم، و عدم شمول أحكام البيع للعقد المفيد للملك المتزلزل، أو للإباحة.

______________________________

[1] هذا الجزم بالانصراف مناف لما تكرر في كلماته قدّس سرّه، منها: قوله- بعد أسطر في وجه تفصيل آخر في المسألة بين الشرائط-: «و يمكن الفرق بين الشرط الذي ثبت اعتباره في البيع من النص .. إلخ» لتسليمه الإطلاق، و عدم الانصراف في النصوص.

و منها: قوله في تقوية الوجه الأوّل فيما بعد: «و الأقوى اعتبارها .. إلخ» لابتنائها على عدم الانصراف في النص و الفتوى معا، أو في خصوص الأوّل.

و منها: قوله- بعد نقل كلام الشهيد- من: أنّ مورد أدلة اعتبار الشرائط هو البيع المعاطاتي العرفي، لندرة البيع العقدي اللفظي.

و منها: غير ذلك مما سيأتي التنبيه عليه.

ص: 22

و الفتوى يراد به (1) ما لا يجوز فسخه إلّا بفسخ عقده بخيار أو بتقايل.

و وجه الثالث (2): ما تقدّم للثاني (3) على القول بالإباحة من سلب البيع عنه (4)، و للأوّل (5) على القول بالملك من صدق البيع عليه

______________________________

(1) يعني: يراد به البيع الذي يكون بطبعه لازما، بحيث لا ينفسخ إلّا بالخيار أو التقايل.

(2) و هو اعتبار شروط البيع في المعاطاة المفيدة للملك، و عدم اعتبارها فيها بناء على إفادتها للإباحة. و الدليل على هذا التفصيل مؤلّف من الدليلين المتقدمين في الاحتمالين الأوّلين، و سيأتي تقريب ذلك.

(3) و هو عدم اعتبار الشروط في المعاطاة مطلقا و إن أفادت الملك، توضيحه:

أنّه قد تقدّم في المعاطاة المقصود بها التمليك عدم اعتبار شروط البيع فيها حتى على القول بإفادتها الملك، لظهور «البيع» في النصّ و الفتوى في البيع اللازم أي المبني على اللزوم، فالمعاطاة المفيدة للملك الجائز خارجة عن موضوع أدلة شروط البيع. و عليه فالمعاطاة المفيدة للإباحة خارجة عن موضوع أدلة الشروط بالأولوية، لعدم كونها بيعا حقيقة، و لذا يصح سلبه عنها.

(4) أي: عن المعاطاة، و الأولى تأنيث الضمير.

(5) أي: للوجه الأوّل، و هو كون المعاطاة مشروطة بشرائط البيع، توضيحه:

أنّ الوجه في الاحتمال الثالث- و هو التفصيل في الشروط بين ترتيب الملك و الإباحة- هو ما تقدم في الاحتمال الثاني أعني به عدم اعتبار الشروط في المعاطاة مطلقا، و في الاحتمال الأوّل و هو اعتبارها مطلقا، فنقول: إنّ وجه اعتبارها في المعاطاة المفيدة للملك هو ما تقدم في الوجه الأوّل من كون المعاطاة بيعا عرفا، فيشملها أدلة شروط البيع.

و وجه عدم اعتبارها في المعاطاة المفيدة للإباحة ما تقدّم في الوجه الثاني بناء على القول بالإباحة من عدم كون المعاطاة بيعا، فلا تشملها أدلّة شروط البيع.

ص: 23

حينئذ (1) و إن لم يكن لازما.

و يمكن الفرق (2) بين الشرط الذي ثبت اعتباره في البيع من النص، فيحمل [1] على البيع العرفي و إن لم يفد عند الشارع إلّا الإباحة، و بين ما ثبت

______________________________

(1) أي: حين إفادتها للملك و إن كان الملك جائزا متزلزلا.

(2) مقصوده قدّس سرّه إبداء تفصيل آخر في المسألة غير التفصيل المتقدم المبتني على صدق البيع على المعاطاة و عدمه. و توضيح هذا التفصيل: أنّ المعوّل- في اشتراط المعاطاة بشروط البيع اللفظي- أدلة الشروط، فإن ثبت الشرط بدليل لفظي له إطلاق كان معتبرا في المعاطاة المقصود بها الملك أيضا. و إن ثبت بدليل لبّيّ كالإجماع لم يكن معتبرا فيها، لكون المجمعين بصدد بيان شروط البيع المبني على اللزوم بحسب طبعه، لا مطلق البيع حتى لو كان مؤثّرا في الملك الجائز، أو الإباحة التعبدية.

و على هذا فشرطية معلومية العوضين- مثلا- لمّا كانت ثابتة بمثل نهيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «عن بيع الغرر» فلا بد من اعتبارها في المعاطاة أيضا بعد صدق البيع العرفي عليها. و أمّا شرطية التنجيز فلا تجري في المعاطاة، إذ المستند فيها هو الإجماع على ما سيأتي في شروط الصيغة إن شاء اللّه تعالى. و عليه فلا مانع من تعليق المعاطاة على أمر متوقّع الحصول.

______________________________

[1] هذا أحد مواضع المنافاة لما أفاده بقوله: «و بالجملة فلا يبقى للمتأمّل شك .. إلخ» وجه المنافاة: أنّ حمل «البيع» في النص على العرفي المبني على تسليم الإطلاق و عدم الانصراف في النصوص و إن لم يفد عند الشارع إلّا الإباحة ينافي الجزم بما أفاده من قوله: «انّ إطلاق البيع في النص و الفتوى يراد به ما لا يجوز فسخه .. إلخ» و بما أفاده بقوله: «و يشهد للثاني: أن البيع في النص و الفتوى ظاهر فيما حكم فيه باللزوم .. إلخ.»

ص: 24

بالإجماع على اعتباره في البيع بناء (1) [1] على انصراف البيع في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم.

و الاحتمال الأوّل (2) لا يخلو عن قوّة، لكونها (3) [2] بيعا ظاهرا على

______________________________

هذا بناء على تسليم انصراف «البيع» في كلمات المجمعين إلى العقد اللازم. و أمّا إذا أنكرنا الانصراف و سلّمنا إطلاق معقد الإجماع لكل بيع عرفي- و إن لم يفد الملك اللازم- كان حال الشرط الثابت به حال الشرط الثابت بدليل لفظي.

و بالجملة: فالاحتمالات- بناء على هذا التفصيل- ثلاثة أيضا.

(1) و أمّا بناء على منع الانصراف كان الشرط الثابت بالإجماع كالشرط الثابت بدليل لفظي في جريانه في كل بيع عرفي، سواء أ كان قوليّا أم فعليّا كما مرّ.

(2) و هو اعتبار الشروط في المعاطاة المقصود بها التمليك مطلقا، يعني: سواء أفادت الملك أم الإباحة. و مقصوده قدّس سرّه ترجيح الاحتمال الأوّل- من الاحتمالات الثلاثة المتقدمة أوّلا- أمّا بناء على إفادة الملك فلأنّها بيع عرفي. و أمّا بناء على ترتب الإباحة الشرعية عليها فلأنّ القدر المتيقن منها اجتماع شرائط البيع فيها، فمع فقد بعضها يشك في شمول الإجماع لها، و من المعلوم أنّ أصالة عدم ترتّب الإباحة محكّمة.

(3) أي: لكون المعاطاة بيعا ظاهرا بناء على القول بالملك مع قصد المتعاطيين للتمليك كما هو المفروض، و التقييد بقوله: «ظاهرا» إشارة إلى احتمال كونها معاملة مستقلة و إن كان موهوما.

______________________________

[1] هذا أيضا ينافي الجزم بانصراف البيع في النص و الفتوى إلى العقد اللازم.

[2] منافاة هذا أيضا للجزم بانصراف البيع إلى العقد اللازم واضحة، لأنّ المعاطاة على القول بالملك جائزة، فالبيع منصرف عنها، فتقوية الاحتمال الأوّل تنافي الجزم بإرادة خصوص البيع اللّازم من إطلاق البيع في النص و الفتوى.

ص: 25

القول بالملك كما عرفت (1) من جامع المقاصد.

و أمّا (2) على القول بالإباحة فلأنّها لم تثبت [1] إلّا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط، فلا تشمل الفاقدة للشرط الآخر أيضا (3) [2].

______________________________

(1) في أوائل المعاطاة- بعد نقل الأقوال فيها- حيث حكى المصنف عن جامع المقاصد ما لفظه: «إن المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم تكن كالعقد في اللزوم» «1».

(2) معطوف على «على القول بالملك» و مقصوده إثبات اعتبار الشروط في المعاطاة حتى لو أفادت الإباحة خاصة. و الوجه في الاعتبار هو الأخذ بالقدر المتيقن من الإجماع على ترتب الإباحة عليها و عدم كونها فاسدة أصلا.

(3) أي: كما كانت فاقدة للصيغة.

______________________________

[1] قال المدقق الأصفهاني قدّس سرّه: «و أما قصور دليل تأثير المعاطاة و الإباحة عن شموله لفاقد غير الصيغة أيضا فهو خلاف المشاهد من سيرة المسلمين من عدم رعايتهم لما يعتبر في العقد القولي كما عن كاشف الغطاء و غيره» «2». بل ينبغي الجزم بعدم اعتبار شي ء من شروط البيع في المعاطاة بناء على الإباحة المالكية كما لا يخفى، لكنها غير مقصودة، إذ المقصود هو الإباحة الشرعية.

[2] هذا وجيه بناء على كون الوجه في الإباحة الإجماع أو السيرة، لأنّ المتيقّن منها هو صورة استجماع المعاطاة للشرائط، و أمّا إذا كان الوجه فيها قاعدة طيب النفس أو قاعدة السلطنة- بناء على مشرّعيّتها للأسباب- فلا وجه لاعتبار شروط البيع فيها أصلا.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 58

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 38

ص: 26

ثمّ إنّه (1) حكي عن الشهيد رحمه اللّه في حواشيه على القواعد:

______________________________

(1) غرضه من نقل كلام الشهيد قدّس سرّهما التنبيه على أنّ اعتبار الشروط في المعاطاة ممّا اختلف فيه الأصحاب و ليس من المسلّمات، فيكون هذا كالاستدراك على قوله:

«و أمّا على القول بالإباحة» لأنّ المصنف قدّس سرّه حكم باعتبار شروط البيع في المعاطاة المفيدة للإباحة من باب الأخذ بالمتيقن من الدليل اللّبّي، و من المعلوم أنّ حكم الشهيد قدّس سرّه بترتّب الإباحة على المعاطاة الفاقدة لشرائط البيع ينافي ترجيح الاحتمال الأوّل، و هو اعتبار الشروط فيها مطلقا سواء أفادت الملك أم الإباحة.

و ما أفاده المصنف حول كلام الشهيد أمران، الأوّل تقرير كلامه، و الآخر توجيهه بنحو لا يعدّ قدّس سرّه مخالفا في المسألة.

أما الأوّل فبيانه: أنّ الشهيد منع- في حواشيه على قواعد العلّامة- من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في ما يتوقّف على الملك كأداء الخمس و الزكاة به، و شراء الهدي به، لتوقف هذه التصرفات على الملك المفقود على المعاطاة قبل طروء الملزم. ثم ذكر مسائل أربع يظهر منها عدم توقف تأثير المعاطاة في الإباحة- مع قصد الملك- على اجتماع شروط البيع القولي فيها، و هي كما يلي:

الأولى: جواز التعاطي على عوضين مجهولين، فيباح لكلّ منهما التصرف فيما أخذه من الآخر. و من المعلوم أنّها لو كانت عقدا كالبيع القولي اعتبر فيها العلم بالعوضين حتى ينتفي الغرر.

الثانية: أنّه يعتبر في بيع النسيئة تعيين الأجل الذي يستحق البائع- عند حلوله- مطالبة الثمن من المشتري، فلو اشترى زيد من عمرو شيئا معاطاة لم يتوقف إباحة التصرف فيه على تسمية الأجل. و يستكشف من هذه الفتوى أنّ المعاطاة المفيدة للإباحة لا تكون محكومة بأحكام البيع أصلا.

الثالثة: أنّه لا يجوز مباشرة الأمة المشتراة بالمعاطاة، لتوقف هذا التصرف الخاص على ملك اليمين أو التحليل المعلوم انتفاؤه، و حيث إنّ المعاطاة لا تؤثّر إلّا في

ص: 27

أنّه بعد ما منع (1) من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة و ثمن الهدي إلّا بعد تلف العين- يعني العين الأخرى- ذكر: «أنّه يجوز (2) أن يكون الثمن و المثمن في المعاطاة مجهولين، لأنّها ليست عقدا. و كذا (3) جهالة الأجل، و أنّه (4) لو اشترى أمة بالمعاطاة لم يجز له (5) نكاحها قبل تلف الثمن» انتهى.

______________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك لم يجز للمشتري ذلك، نعم لو تحقّق الملزم بأن تلف الثمن في يد البائع جاز نكاحها للمشتري، لدخولها في ملكه حسب الفرض.

الرابعة: أنّه لا ريب في توقف الملك في بيع الصرف على التقابض في مجلس العقد، و كذا يعتبر قبض الثمن في بيع السّلم، و هذا واضح في البيع بالصيغة. و أمّا لو باع الدرهم و الدينار بالمعاطاة فلا يتوقف إباحة التصرف فيهما على التقابض، بل يكفي إعطاء أحدهما و أخذ الآخر، فيكون كبيع النسيئة. و هذا كاشف عن عدم بيعية المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا و إن كان مقصودهما الملك.

هذا توضيح نظر الشهيد، و أمّا توجيهه فسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذا المنع ظاهر في عدم إفادة المعاطاة للملك، و لذا لا يجوز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة و ثمن الهدي إلّا بعد حصول ما يوجب الملك كتلف العين الأخرى عند المتعاطي الآخر.

(2) غرضه أنّ المعاطاة المفيدة للإباحة لا يعتبر فيها معلومية العوضين التي هي شرط صحة البيع. و هذه هي المسألة الأولى.

(3) معطوف على «يجوز» و هذه هي المسألة الثانية.

(4) معطوف على «أنّه» و هذه هي المسألة الثالثة.

(5) لعدم صيرورتها ملكا للمشتري قبل تلف الثمن عند البائع. و أمّا بعد التلف فيجوز التصرف في الأمة، لحصول الملك بتلف إحدى العينين.

و بالجملة: فالمعاطاة المفيدة للإباحة و إن قصد بها التمليك- كما هو المفروض- لا يعتبر فيها شروط البيع.

ص: 28

و حكي عنه في باب الصرف أيضا: «أنّه (1) لا يعتبر [1] التقابض في المجلس في معاطاة النقدين».

أقول (2): حكمه قدّس سرّه [2] بعدم جواز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في

______________________________

(1) هذه هي المسألة الرابعة. و لا يخفى عليك أنّ كلام الشهيد قدّس سرّه مبني على كفاية الإعطاء من طرف واحد و الأخذ من آخر في تحقق المعاطاة، فلو اعتبر فيه التعاطي لم يتصوّر المعاطاة بدون التقابض من الطرفين. و سيأتي تحقيق هذه الجهة في التنبيه الثاني إن شاء اللّه تعالى.

(2) هذا هو الأمر الثاني أعني به توجيه كلام الشهيد بنحو لا يعدّ مخالفا في مسألة اعتبار شروط البيع القولي في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة.

توضيحه: أنه قدّس سرّه أفتى أوّلا بحرمة التصرف- المتوقف على الملك- في المأخوذ بالمعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة. ثم أفتى ثانيا بعدم اعتبار معلومية العوضين في المعاطاة، و علّله قدّس سرّه بقوله: «لأنّها ليست عقدا». و هذه الفتوى الثانية و إن كانت ظاهرة في أنّ شرائط البيع ملغاة في المعاطاة المبيحة، فيكون قدّس سرّه مخالفا لما أفاده المصنف من اعتبار شروط البيع فيها سواء أفادت الملك أم الإباحة. إلّا أنّ التعليل المذكور في كلام الشهيد ربما يكون قرينة على خروج المعاطاة عن عقد البيع رأسا، فعدم اعتبار شروطه فيها يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

______________________________

[1] لم يظهر شهادة هذا الفرع بعدم اعتبار شروط البيع في المعاطاة، إذ المستفاد منه توقف الملك على العقد، فلا يجوز التصرف في الأمة المشتراة بالمعاطاة. و لا دلالة فيها على عدم اعتبار شروط البيع في إفادة الإباحة، فتدبّره.

[2] ربما يقال: بأن المناسب التعرض لكلام الشهيد قدّس سرّه ذيل الوجه الثالث،

ص: 29

الصدقات الواجبة و عدم جواز نكاح المأخوذ بها صريح في عدم إفادتها

______________________________

و بيانه: أنّ في التعليل احتمالين:

الأوّل: أن يكون مراده من عدم كون المعاطاة عقدا عدم تأثيرها في الملك، بدعوى ترتب الملك على خصوص العقد المؤلّف من إيجاب و قبول لفظيّين، فإذا أفادت إباحة التصرف فيما لا يتوقف على الملك كان عدم اعتبار شروط البيع فيها مقتضى القاعدة، إذ لا وجه لكون المعاطاة المفيدة للإباحة التعبدية محكومة بأحكام البيع الذي هو عقد مملّك.

الثاني: أن يكون مراده عدم تأثيرها في الملك اللازم، و إنّما تفيد ملكا جائزا، و يكون عدم اعتبار معلومية العوضين في المعاطاة لأجل اختصاص هذا الشرط بالبيع المبني على اللزوم بحسب طبعه و هو المنشأ باللفظ. و على هذا فإلغاء شروط البيع اللازم في المعاطاة المؤثّرة في الملك المتزلزل موافق للقاعدة، و اعتبارها فيها منوط بدليل.

إذا عرفت هذين الاحتمالين في التعليل يتضح عدم كون الشهيد قدّس سرّه مخالفا في المسألة، و ذلك لأنّ تقوية المصنف قدّس سرّه جريان شروط البيع في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة مبنيّة على كونها بيعا عرفيا، لقصدهما تمليك عين بعوض، و هذا حقيقة البيع. و أمّا الشهيد قدّس سرّه النافي لاعتبار العلم بالعوضين في المعاطاة فإنّما هو لمنع صدق العقد عليها، لظهور العقد في الإنشاء بالصيغة المعهودة.

نعم لو التزم الشهيد ببيعية المعاطاة المفيدة للإباحة كان مخالفا في المسألة.

______________________________

قبل تقوية الوجه الأوّل، ليظهر أنّ الوجه الثالث يستفاد من كلام الشهيد. هذا.

لكن لا يخلو ذكره بعد تقوية الوجه الأوّل من المناسبة، إذ بعد ترجيح المصنف له لا بدّ من التعرض لما ينافيه ظاهرا و توجيهه. و الأمر سهل.

ص: 30

للملك (1)، إلّا أنّ حكمه قدّس سرّه بعدم اعتبار الشروط المذكورة للبيع و الصرف معلّلا بأنّ المعاطاة ليست عقدا يحتمل (2) [1] أن يكون باعتبار عدم الملك، حيث إنّ المفيد للملك منحصر في العقد (3). و أن (4) يكون باعتبار عدم اللزوم، حيث إنّ الشروط المذكورة (5) شرائط للبيع العقدي اللازم.

______________________________

(1) إذ مع إفادة المعاطاة للملك- و لو للملك الجائز- يجوز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة بلا إشكال، لسلطنة الناس على أموالهم، و ليس اللزوم شرطا في صحة التصرفات، فنفس جواز التصرفات المزبورة يكشف عن عدم إفادة المعاطاة إلّا للإباحة، هذا.

لكن الحق جواز التصرفات المذكورة و عدم توقفها على الملك كما قرّر في محله.

نعم بناء على إفادة المعاطاة للإباحة المالكية و بناء على كفاية ذلك في حصول التحليل المسوّغ لوطي أمة الغير جاز وطؤها بالمعاطاة المفيدة للإباحة، و إلّا فلا.

(2) خبر قوله: «أنّ حكمه» و هذا هو الاحتمال الأوّل، أي: لأنّ المعاطاة تفيد الإباحة لا الملك.

(3) يعني: فإذا لم تكن المعاطاة مفيدة للملك لم تكن عقدا، فعدم اعتبار شروط البيع فيها يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.

(4) معطوف على قوله: «أن يكون» و هذا هو الاحتمال الثاني في التعليل.

(5) مثل معلومية العوضين و التقابض في بيع الصرف، و إقباض الثمن في بيع السّلم، و نحوها.

______________________________

[1] هذا الاحتمال أقوى من الاحتمال الثاني الذي ذكره بقوله قدّس سرّه: «و أن يكون باعتبار عدم اللزوم» و ذلك لأنّ عدم جواز التصرفات المزبورة المتوقفة على الملك يكشف عن عدم الملك، فعدم اعتبار الشروط حينئذ في المعاطاة إنّما هو لعدم كونها بيعا مفيدا للملك، و المفروض أنّ الشرائط مختصة بالبيع.

ص: 31

و الأقوى (1) اعتبارها (2) و إن قلنا بالإباحة، لأنّها (3) بيع عرفي و إن لم تفد شرعا إلّا الإباحة، و مورد الأدلة الدالة على اعتبار تلك الشروط هو البيع العرفي، لا خصوص العقدي (4) [1]

______________________________

(1) بعد أن فرغ المصنف قدّس سرّه من الاستدلال لكلّ واحد من الوجوه الثلاثة أراد أن يبيّن مختاره في المسألة، و اعترض في خلاله على التعليل المتقدم في كلام الشهيد قدّس سرّه و قال: إنّ الأقوى هو الاحتمال الأوّل، أعني به اعتبار شرائط البيع في المعاطاة مطلقا سواء أفادت الملك أم الإباحة، و استدل عليه بدليلين:

الأوّل: أنّ المعاطاة المذكورة بيع عرفي، إذ المفروض قصد المتعاطيين لتمليك عين متموّلة بمال، الذي هو معنى البيع على ما تقدم في تعريفه، فبيعيّة المعاطاة عرفا حينئذ مما لا إشكال فيه و إن أفادت شرعا الإباحة، و مورد أدلة شروط البيع هو البيع العرفي الصادق على المعاطاة، لا خصوص البيع العقدي حتّى لا يصدق عليها.

و بعبارة أخرى: كلام المصنف قدّس سرّه مؤلّف من صغرى، و هي قوله: «انّ المعاطاة بيع عرفي» و كبرى، و هي: «أنّ كل بيع عرفي محكوم بشرائط البيع الواردة في الأدلة» و هذه الكبرى مفاد قوله: «و مورد الأدلة .. إلخ».

(2) أي: اعتبار شروط البيع في المعاطاة سواء أفادت الملك أم الإباحة الشرعية.

(3) هذا هو الدليل الأوّل على مختاره، و قد تقدّم توضيحه.

(4) كما زعمه الشهيد، حيث قال: «لأنها ليست عقدا» إذ لا وجه لمنع بيعية المعاطاة المقصود بها التمليك.

______________________________

[1] هذا أحد مواضع المنافاة لقوله: «و بالجملة: فلا يبقى للمتأمّل شك في أنّ إطلاق البيع في النص و الفتوى يراد به ما لا يجوز فسخه إلّا بفسخ عقده .. إلخ» لأنّ كلامه هذا صريح في إرادة خصوص العقد اللازم، لا البيع العرفي فقط، و هو مناف

ص: 32

بل (1) تقييدها بالبيع العقدي تقييد بغير الغالب [1].

و لما (2) عرفت

______________________________

(1) غرضه أنّ تقييد إطلاق البيع العرفي في أدلة الشروط بخصوص البيع العقدي تقييد بالفرد النادر، لكون الغالب في الخارج هو البيع المعاطاتي، و من المعلوم أنّ تقييد الإطلاق بالفرد النادر ممّا لا سبيل للالتزام به.

(2) معطوف على قوله: «لأنها بيع عرفي» و إشارة إلى الدليل الثاني، و حاصله:

أنّه- بعد البناء على عدم استفادة حكم المعاطاة من الأدلة الاجتهادية من حيث إفادتها للملك- يكون مقتضى الأصل العملي عدم ترتب الأثر المقصود و هو الملكية على المعاطاة المقصود بها الملك، و قد خرجت المعاطاة الجامعة لشروط البيع- عدا الصيغة- عمّا يقتضيه الأصل من حرمة التصرف في مال الغير، و بقي الباقي، لأنّ

______________________________

لقوله: «لأنّها بيع عرفي و إن لم تفد شرعا .. إلخ» لأنّه مبني على تسليم الإطلاق و عدم الانصراف. و منافاة هذا الكلام لقوله: «و بالجملة فلا يبقى للمتأمّل شك .. إلخ» من الواضحات.

و أيضا ينافي قوله: «لا خصوص العقدي» ما تقدم عنه سابقا من جعل المعاطاة عقدا، لأنّه قضية تمسّكه على صحتها بعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و مجرّد عدم إفادتها الملك على قول بعض لا يخرجها عن العقد العرفي، كما لا يخرجها عن البيع العرفي فالأنسب حينئذ مقابلة البيع العرفي للبيع الشرعي لا العقدي.

[1] هذا أيضا من مواضع التنافي المزبور، لأنّ غلبة أفراد المعاطاة و ندرة أفراد البيع العقدي تنافي دعوى انصراف البيع إلى خصوص العقدي، لأنّ التقييد بالعقدي بناء على ندرته يكون من تقييد الإطلاق بالفرد النادر المستهجن عند أبناء المحاورة، و مع ندرته كيف يكون هو المتيقن و المنصرف إليه الإطلاق؟

ص: 33

من أنّ الأصل (1) في المعاطاة- بعد القول بعدم الملك- الفساد، و عدم تأثيره (2) شيئا (3)، خرج ما هو محلّ الخلاف بين العلماء من (4) حيث اللزوم و عدمه (5)، و هو (6) المعاملة الجامعة للشروط عدا الصيغة، و بقي الباقي (7).

______________________________

موضوع إباحة التصرفات هو المعاطاة الجامعة لتلك الشرائط دون غيرها.

فالمتحصل: أنه يعتبر في المعاطاة المقصود بها التمليك- و إن أفادت الإباحة- جميع الشروط المعتبرة في البيع.

(1) المراد به استصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة، و يعبّر عنه بأصالة الفساد، و قد نبّه المصنف على هذا الأصل عند مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه، حيث قال: «و أما ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرف مملّكا فلا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين الأصل و دليل جواز التصرف المطلق .. إلخ». و كذا قال في ردّ قاعدة التبعيّة: «أما المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحّتها دليل فلا يحكم بترتب الأثر المقصود عليها» «1».

(2) أي: عدم تأثير المعاطاة، و الأولى تأنيث الضمير.

(3) أي: لا ملكا و لا إباحة.

(4) متعلق ب «الخلاف».

(5) يعني: من حيث إنّ الصيغة دخيلة في اللزوم أو غير دخيلة فيه.

(6) بيان للموصول في «ما هو محل الخلاف» يعني: أنّ محلّ النزاع بينهم هو خصوص المعاملة الجامعة لشروط البيع، و لا تغايرها إلّا من حيث فقد الصيغة فيها.

(7) يعني: تحت أصالة الفساد، كالمعاطاة مع الجهل بأحد العوضين، أو بدون القبض في الصرف و السّلم، و غير ذلك.

______________________________

(1): لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 441 و 455

ص: 34

[المقام الثاني: جريان أحكام البيع في المعاطاة]
[حرمة الرّبا]

و بما (1) ذكرنا يظهر وجه تحريم الرّبا فيه (2) أيضا (3) و إن (4) خصّصنا الحكم

______________________________

المقام الثاني: جريان أحكام البيع في المعاطاة أ حرمة الرّبا

(1) أي: بما ذكرناه في وجه اعتبار شرائط البيع في المعاطاة مطلقا- من أن موردها البيع العرفي، و المعاطاة بيع عرفا- يظهر وجه تحريم الرّبا فيها .. إلخ.

توضيح المقام: أنّه قد تقدم في أوّل هذا التنبيه: أنّ المصنّف تعرّض للبحث عن جريان شرائط البيع و أحكامه في المعاطاة في مقامين، أحدهما في الشرائط، و الآخر في الأحكام. و هذا شروع في المقام الثاني، و هو يتضمن جهتين، الأولى: في حكم جريان الرّبا المعاوضي في المعاطاة، و الثانية في حكم جريان الخيار فيها.

أمّا الجهة الأولى فمحصلها: أنّ الظاهر حرمة الربا في المعاطاة إذا كان العوضان من الجنس الربوي، كحرمته في البيع العقدي، سواء قلنا باختصاص دليل حرمة الرّبا بالبيع، أم بشموله لكل معاوضة عرفية أو شرعية، و سواء أ كان مقصودهما الملك أم الإباحة. أمّا بناء على اختصاص الحرمة بالبيع فلصدقه على المعاطاة المقصود بها الملك. و أمّا بناء على جريان حرمة الربا في كل معاوضة فالأمر أوضح، إذ لو فرض الشك في بيعية المعاطاة لم يكن شك في صدق المعاوضة عليها سواء قصد الملك أم الإباحة. و الشاهد على كونها معاوضة كلام الشهيد في حواشي القواعد من «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة لازمة أو جائزة».

و عليه فلا مجال للقول بمشروعيّتها عند كون العوضين من جنسين ربويّين مع التفاضل، هذا. و لا يخفى أنّ المذكور من صور المسألة في المتن- ثلاث، سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

(2) أي: في المعاطاة، و الأولى تأنيث الضمير.

(3) يعني: كحرمة الرّبا في البيع العقدي.

(4) وصلية. و الوجه في حرمة الرّبا واضح بناء على اختصاص حرمته بالبيع، لفرض صدقه عرفا على المعاطاة كما مرّ مرارا. ثم إنّ قوله: «و إن خصّصنا ..» إشارة

ص: 35

بالبيع (1)، بل (2) الظاهر التحريم حتى عند من لا يراها مفيدة للملك،

______________________________

الى الخلاف في حرمة الرّبا في مطلق العقود المعاوضية. فمنهم من خصّ الحرمة بالبيع كما حكي عن غصب السرائر، و المختلف و القواعد و الإرشاد. و منهم من عمّمها لكلّ معاوضة، كما حكي عن السيد المرتضى و شيخ الطائفة. و القاضي، و جمع من المتأخرين. و منهم من توقّف في ذلك كما حكي عن العلامة في غصب القواعد و صلحه، و عن فخر المحققين في غصب الإيضاح. و إن شئت الوقوف على التفصيل فراجع مفتاح الكرامة «1».

(1) فلو عمّمنا حرمة الرّبا لكلّ معاوضة- و إن لم تكن بيعا- فالأمر أوضح، لصدق المعاوضة على المعاطاة و إن لم يحرز بيعيّتها.

(2) هذا إضراب عن مجرد ظهور جريان حرمة الرّبا في المعاطاة- بناء على اختصاصها بالبيع- إلى إثبات حرمتها فيها حتى مع التشكيك في صدق البيع على المعاطاة. و كلام المصنف هنا إشارة إلى توهم و دفعه.

أمّا التوهم، فهو: أنّه لا مجال للجزم بحرمة الرّبا في المعاطاة، لأنّ وزانها وزان الشروط التي تقدّم البحث فيها في المقام الأوّل من تطرّق احتمالات ثلاثة فيها من جريانها مطلقا، و عدمه كذلك، و التفصيل بين إفادة الملك و الإباحة، فينبغي إلحاق حرمة الرّبا ببحث الشروط، لا استظهار جريانها فيها مطلقا على ما هو مفاد قوله: «و بما ذكرنا يظهر وجه تحريم الرّبا فيه ..».

و أما الدفع فحاصله: أنّه ليس في الرّبا إلّا احتمال الجريان مطلقا، لبطلان المعاملة الرّبوية، فلا مجال لأن يقال: إن موضوع حرمة الرّبا هو البيع اللازم أو الصحيح، اللّذان هما وجهان للاحتمال الثاني و الأخير في مسألة اعتبار الشروط و عدمه. فالمراد بقوله: «بل الظاهر» هو أنّه لا بد من القول بتحريم الرّبا في المعاطاة مطلقا حتى عند من يراها مفيدة للإباحة، إذ لا شبهة في كون موضوع حرمة الرّبا

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 502

ص: 36

لأنّها (1) معاوضة عرفية و إن لم يفد (2) الملك، بل (3) معاوضة شرعية كما اعترف بها (4) الشهيد رحمه اللّه في موضع من الحواشي، حيث قال: «إنّ المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمة» «1» انتهى [1].

______________________________

هو مطلق المعاوضة العرفية و من المعلوم أنّ المعاطاة معاوضة عرفية، فيحرم الرّبا فيها.

(1) تعليل للتعميم المستفاد من قوله: «بل الظاهر» و المستفاد من هذه العبارة حكم صورة ثانية، و هي ما لو شكّ في صدق البيع على المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا.

و الوجه في حرمة الرّبا فيها صدق المعاوضة عليها عرفا، بضميمة إطلاق دليل حرمة الرّبا لكلّ معاوضة و إن لم ينطبق عليها حدّ البيع.

(2) بل أفادت الإباحة تعبّدا كما هو مسلك مشهور القدماء.

(3) إضراب عن مجرّد كون المعاطاة معاوضة عرفية، إلى أنّها معاوضة ممضاة شرعا و إن اختلف في حكمها لزوما و جوازا. و حيث كانت معاوضة شرعية كانت محكومة بأحكام المعاوضات المالية التي منها حرمة الرّبا، فلا مجال لدعوى اختصاص الحرمة بالمعاوضات المشروعة كالبيع و الصلح، و عدم جريانها في المعاوضة العرفية التي لم يحرز إمضاؤها شرعا.

(4) أي: بشرعية المعاوضة. و المراد بالمعاوضة الشرعية هنا المعاوضة بين العينين في الإباحة، في قبال المعاوضة العرفية التي هي المبادلة بينهما في الملك.

______________________________

[1] الاستشهاد بهذه العبارة على كون المعاطاة الإباحية معاوضة شرعية مبني على ما استظهره المصنّف منها في التنبيه السابع من أنّها ناظرة إلى حكم المعاطاة الإباحية لا التمليكيّة، فيكون مراد الشهيد من جواز الإباحة و لزومها حكمها قبل طروء الملزم و بعده. و إلّا فلو كانت العبارة ناظرة إلى المعاطاة المفيدة للملك لم يتجه

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158

ص: 37

و لو قلنا (1) بأن المقصود للمتعاطيين الإباحة- لا الملك- فلا يبعد أيضا (2) جريان الرّبا، لكونها معاوضة عرفا [1]،

______________________________

(1) هذه إشارة إلى صورة ثالثة، و هي: إثبات حرمة الرّبا في المعاطاة المقصود بها الإباحة المالكية، لا الملك، و الوجه فيه صدق المعاوضة العرفية على إباحة كل منهما ماله للآخر، فيحرم الرّبا فيها بناء على جريان الرّبا في مطلق المعاوضات و عدم اختصاص حرمتها بالبيع.

(2) يعني: كما لا يبعد جريان الرّبا في الصورة الثانية، و هي المعاطاة المفيدة للإباحة تعبدا مع قصدهما الملك.

______________________________

الاستشهاد بها على المقام من كون المعاطاة المفيدة للإباحة معاوضة، و ذلك للشبهة في صدق المعاوضة على المقابلة بين الإباحتين.

[1] ينبغي أن يقال: بأنّ المعاطاة إمّا أن يقصد بها الملك، و أمّا أن يقصد بها الإباحة. و الأوّل على قسمين: أحدهما: إفادتها الملك، و الآخر: الإباحة، فالأقسام ثلاثة.

ثم إنّ الرّبا إمّا تختص بالبيع، و إمّا تعمّ جميع المعاوضات، فمن ضرب الثلاثة في الاثنين يحصل ست صور.

أمّا المعاطاة المقصود بها الملك مع ترتب الملك عليها فلا إشكال في جريان الرّبا فيها سواء قلنا باختصاصها بالبيع أم لا.

و أمّا المعاطاة التي تترتب عليها الإباحة مع قصد التمليك بها، فبناء على صدق البيع أو المعاوضة عليها يجري فيها الرّبا. و بناء على عدم الصدق نقول بجريان الرّبا فيها أيضا، للزوم الاقتصار في الإباحة على القدر المتيقن، و هو اجتماع الشرائط التي منها التساوي بين العوضين مع وحدة الجنس و كونهما من المكيل و الموزون، بعد كون الأصل الفساد.

و أمّا المعاطاة المقصود بها الإباحة، فإن صدق عليها عنوان المعاوضة مع تعميم

ص: 38

فتأمّل (1).

[ب: جريان الخيار في المعاطاة قبل لزومها]

و أمّا حكم (2) جريان الخيار فيها قبل اللزوم [1]

______________________________

(1) لعلّه إشارة إلى: أنّه- بناء على اختصاص الرّبا بالبيع- لا تجري الرّبا في المعاطاة التي قصد بها الإباحة، لوضوح عدم صدق البيع عليها حينئذ. و بناء على تعميم الرّبا لمطلق المعاوضة يكون الظاهر إرادة المعاوضة بين المالين لا بين الإباحتين، فلا تجري الرّبا على كلا التقديرين في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

ب: جريان الخيار في المعاطاة قبل لزومها

(2) هذه هي الجهة الثانية المتكفلة للبحث عن جريان حكم آخر من أحكام البيع في المعاطاة، و هو الخيار. و توضيح المقام: أنّه يقع الكلام تارة في ثبوت جريان الخيارات في المعاطاة قبل طروء أحد الملزمات و عدمه، و أخرى في ثبوتها فيها بعد طروئه. و البحث في الأخير موكول إلى التنبيه السابع و الثامن، كما نبّه عليه بعد أسطر.

فيقتصر فعلا على التقدير الأوّل و هو المعاطاة قبل طروء الملزم.

______________________________

الرّبا لمطلق المعاوضة جرت الرّبا فيها، و إلّا فلا، لعدم كونها بيعا و لا معاوضة أخرى، فمع الشك في جريان الرّبا فيها يتمسك بإطلاق دليل هذه المعاطاة، و هو قاعدة طيب النفس على ما قيل.

هذا لو تمت إطلاقات الأدلّة اللفظية. و إن كان الدليل على مشروعيّتها السيرة و شكّ في انعقادها على هذا النحو من الإباحة المعوّضة كان مقتضى القاعدة الأخذ بالقدر المتيقن منها و هو عدم التفاضل بين العوضين، إذ في غير المتيقن تجري أصالة الفساد المقتضية لحرمة التصرف.

[1] المانع المتوهم من جعل الخيار قبل اللزوم أمور: أحدها: تحصيل الحاصل.

ثانيها: اجتماع المثلين، ثالثها: اللّغوية. و الجميع مندفع باعتبار حقّية الخيار المترتبة عليها الآثار.

ص: 39

فيمكن (1) نفيه على المشهور، لأنّها إباحة (2) عندهم، فلا معنى للخيار.

و إن قلنا (3) بإفادة الملك فيمكن (4) القول بثبوت الخيار فيه

______________________________

و قد فصّل المصنف قدّس سرّه بين المعاطاة المفيدة للإباحة فلا يجري شي ء من الخيارات فيها، لجواز رجوع المبيح ما دامت العين باقية، فلا معنى للخيار الذي هو حقّ إقرار العقد و إزالته. و بين المعاطاة المفيدة للملك الجائز، و فيها احتمالان:

أحدهما: جريان الخيارات بأجمعها فيها.

ثانيهما: التفصيل بين الخيارات الخاصة بالبيع فلا تجري، و العامّة لغيره فتجري.

هذا مجمل ما أفاده، و سيأتي مفصّلة إن شاء اللّه تعالى.

(1) لأنّ الخيار «ملك فسخ العقد و رفع مضمونه بالفسخ» و هذا المعنى من الخيار مفقود هنا، لأنّ العقد على القول بالإباحة لا مضمون له، بداهة أنّ مضمونه و هو التمليك لم يتحقق، و الإباحة ليست مضمون العقد، بل هي حكم شرعي بناء على كون الإباحة شرعية. و كذا إذا كانت الإباحة مالكيّة، لأنّها تحصل بنفس الإعطاء و التسليط، و ليست مضمون عقد. فمانع الخيار في المعاطاة المفيدة للإباحة ثبوتي لا إثباتي.

(2) هذا هو الصحيح كما في بعض النسخ المصححة. و أمّا ما في غيرها من:

«أنها جائزة» فغير سديد. أمّا أوّلا فلأنّ المشهور بين القدماء هو أنّ المعاطاة تفيد الإباحة لا الملك الجائز.

و أمّا ثانيا فلأنّ الجواز لا ينافي الخيار كما عرفت آنفا.

و أمّا ثالثا: فلأنّ حكم الخيار- بناء على إفادة الملك الجائز- قد أفاده بقوله:

«و إن قلنا بإفادة الملك، بعد اللزوم» فيكون تكرارا مخلّا.

(3) هذا عدل قوله: «على المشهور»، فكأنّه قال: «فيمكن نفيه إن قلنا بإفادة الإباحة كما هو مختار المشهور .. و ان قلنا بإفادة الملك .. إلخ».

(4) هذا الاحتمال في قبال الاحتمال الآتي في كلامه بقوله: «و يحتمل أن يفصّل» يعني: أنّه بناء على إفادة الملك يتطرّق احتمالان في ثبوت الخيارات في المعاطاة.

ص: 40

مطلقا (1) بناء على صيرورتها بيعا (2) بعد اللزوم [بيعا لازما بعد عروض الملزمات] كما سيأتي عند تعرّض الملزمات (3)، فالخيار موجود من زمان المعاطاة، إلّا أنّ أثره (4) يظهر بعد اللزوم. و على هذا (5) فيصحّ إسقاطه و المصالحة عليه قبل اللزوم [1].

______________________________

(1) يعني: من غير فرق بين الخيار المختصّ بالبيع كخياري المجلس و الحيوان، و غير المختص به كخيار الغبن.

(2) يعني: لا معاوضة مستقلة في قبال البيع كما سيأتي في التنبيه السابع إن شاء اللّه تعالى.

(3) الأولى أن يقال: «بعد تعرض الملزمات» لأنّ الملزمات ذكرت في التنبيه السادس، و ليس هناك دلالة على صيرورتها بيعا بعد عروض الملزم، و إنّما أفاده في التنبيه السابع الّذي افتتحه بقوله: «ان الشهيد الثاني في المسالك ذكر وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف، أو معاوضة مستقلة».

(4) يعني: أثره العملي و هو القدرة على الفسخ، و إلّا فالإسقاط و المصالحة عليه من الآثار أيضا كما صرّح به المصنف بقوله: «و على هذا فيصح إسقاطه و المصالحة عليه قبل اللزوم».

(5) أي: و على فرض وجود الخيار من زمان المعاطاة.

______________________________

[1] فلا يرد عليه ما في حاشية المحقق الخراساني قدّس سرّه من قوله: «و الخيار موجود من زمن المعاطاة، و أثره يظهر من حيث ثبوته، لصحة إسقاطه و المصالحة عليه قبل اللزوم، فلا وجه لما أفاده من ظهور أثره بعده» «1».

و كأنّه قدّس سرّه لم يلاحظ من كلام المصنف قدّس سرّه إلّا قوله: «إلّا أنّ أثره يظهر بعد اللزوم» و لم يلاحظ ما بعده من قوله: «و على هذا فيصح إسقاطه .. إلخ».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 17

ص: 41

و يحتمل (1) أن يفصّل بين الخيارات المختصة بالبيع، فلا تجري (2)، لاختصاص أدلّتها (3) بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار (4)، و بين غيرها (5) كخيار الغبن و العيب [1]

______________________________

(1) معطوف على «فيمكن القول» لا على قوله: «فيمكن نفيه ..» لأنّ المقصود إبداء احتمالين في المعاطاة المفيدة للملك، و أمّا المفيدة للإباحة فلا معنى للخيار فيها.

و كيف كان فحاصل ما أفاده: أنّه يحتمل التفصيل بين الخيارات بأن يقال: إنّ ما يختص منها بالبيع لا يجري في المعاطاة، لاختصاص أدلّتها بالبيع المبني على اللزوم من غير ناحية الخيار، يعني: لو لا الخيار كان لازما، و لم يكن سبب لجوازه إلّا الخيار، فمع جواز العقد في نفسه لا يثبت فيه الخيار. و أمّا ما لا يختص من الخيارات بالبيع كخيار الغبن فيجري في المعاطاة، لعموم أدلة تلك الخيارات كقاعدة نفي الضرر، و بناء المتعاملين على مساواة العوضين في المالية. فجاز فسخ العقد عند التخلف.

(2) يعني: فلا تجري الخيارات المختصة بالبيع في المعاطاة المفيدة للملك.

(3) أي: أدلة الخيارات المختصة بالبيع، مثل «البيّعان بالخيار» و «صاحب الحيوان المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيّام».

(4) و المفروض استناد جواز الملك و تزلزله في المعاطاة إلى نفس العقد الفعلي، لا إلى الخيار، فإنّه لو لم يجري شي ء من الخيارات فيها كان الملك جائزا بعد، و من المعلوم عدم جريان الخيار المخصوص بالبيع- المبني على اللزوم بحسب طبعه الأوّلي- في المعاطاة.

(5) أي: غير الخيارات المختصة.

______________________________

[1] لا يخفى أن هذين الخيارين أولى من غيرهما بعدم الجريان، لأنّ دليلهما- و هو قاعدة نفي الضرر- لا يجري في البيع الجائز ذاتا، ضرورة أنّ الضرر ينشأ من وجوب الوفاء بالمعاملة، فلا ضرر- إذ لا وجوب وفاء بالمعاملة الجائزة ذاتا- حتى ينشأ منه الخيار.

ص: 42

بالنسبة (1) إلى الرّدّ دون الأرش، فتجري، لعموم أدلّتها [1].

و أمّا (2) حكم الخيار بعد اللّزوم فسيأتي بعد ذكر الملزمات.

______________________________

(1) هذه الكلمة قيد ل «خيار العيب» و مقصوده قدّس سرّه أنّ دليل خيار العيب المقتضي لجريانه في العقود المعاوضية يوجب في المعاطاة الردّ خاصة، و لا يقتضي الأرش.

توضيحه: أنّهم عرّفوا الخيار ب «ملك فسخ العقد و إقراره» و هذا المعنى جار في جميع الخيارات، و لخيار العيب حكم آخر في البيع، و هو جواز إبقاء العقد و أخذ الأرش، أي التفاوت بين الصحيح و المعيب، فلو باع متاعا معيبا تخيّر المشتري بين فسخ العقد و أخذ الأرش. لكن هذا التخيير مخصوص بالبيع اللفظي المفيد بطبعه للملك اللّازم، لأنّه حكم تعبدي ثبت في البيع، و ليس مما يقتضيه مطلق الخيار، و ليس من شؤونه.

و على هذا فالبناء على عموم دليل خيار العيب لغير البيع كان مقتضى جريانه في المعاطاة- التي هي معاوضة جائزة حسب الفرض- جواز فسخ أصل العقد. و أمّا إذا كان المأخوذ بالمعاطاة معيبا، فليس للآخذ مطالبة الأرش، لفرض كون الأرش حكما تعبديا في خصوص البيع اللازم. فهو نظير الخيارات المخصوصة بالبيع- كخياري المجلس و الحيوان- في عدم جريانها في سائر العقود المعاوضية.

(2) يعني: أنّ ما تقدم من التفصيل في حكم جريان الخيار في المعاطاة يكون مورده قبل طروء أحد الملزمات، و أمّا جريانه فيها بعد اللّزوم فسيأتي إن شاء اللّه تعالى في التنبيه السابع، فإنّه يذكر هناك حكم الخيار بعد اللزوم على كلا القولين و هما الملكية و الإباحة.

______________________________

[1] لا وجه لهذا الاحتمال، لما فيه أوّلا: من النقض بالبيع القولي إذا اجتمعت فيه موجبات عديدة للخيار كالغبن و العيب، إذ لازم دلالة كل واحد من أدلّة تلك

ص: 43

______________________________

الخيارات على اختصاص الخيار بالعقد الذي وضع على اللزوم من ناحية غير هذا الخيار هو عدم اجتماع تلك الخيارات في البيع اللفظي، مع عدم التزام أحد بذلك.

و ثانيا: من الحلّ، و حاصله: أنّ المراد بلزوم العقد هو كون العقد بطبعه مقتضيا للزوم، و هذا لا ينافي جوازه للجهات العارضة.

و بعبارة أخرى: المراد لزومه لو خلّي و طبعه، فلا مانع من جوازه لجهات خارجة عن ذاته.

و تفصيل البحث أن يقال: إنّ المعاطاة المقصود بها الملك إن أفادت الملك اللّازم كما هو الأصح فلا ينبغي الارتياب في تطرّق الخيارات طرّا فيها، لإطلاق أدلتها، من غير فرق بين الخيارات المختصة بالبيع و غيرها. و أمّا الخيارات الثابتة بدليل لبّي فالمتيقّن من موردها هو البيع اللّازم.

و إن أفادت الملك الجائز فكذلك أيضا، لإطلاق أدلّتها، و توهم منافاة جوازها للخيار، للزوم تحصيل الحاصل أو اجتماع المثلين أو اللغويّة مندفع بما مرّ آنفا.

نعم إن كان دليل الخيار لبيّا فلا يحكم بثبوته في المعاطاة المفيدة للملك الجائز.

و إن أفادت الإباحة فلا معنى للخيار- الذي هو حلّ العقد و فسخ مضمونه- في المعاطاة المفيدة للإباحة كما عرفت في توضيح كلام المصنف قدّس سرّه، لأنّها إباحة عندهم فلا معنى للخيار.

لكن لسيّدنا المحقق الخويي قدّس سرّه هنا كلام محصّله: أنّه لا شبهة في صدق البيع العرفي على المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة شرعا، فإنّ الإباحة الشرعية لا تخرجها عن البيع العرفي، و لذا يصح حمله عليها بالحمل الشائع، فتشملها العمومات الدالة على صحة البيع، فيحكم بكونها بيعا في نظر الشارع كحصول الملكية في بيع الصرف و السّلم المتوقف على القبض الخارجي. و حينئذ نقول: إن كان المقصود من ثبوت الخيار في العقد سلطنة ذي الخيار على فسخه فعلا فلا إشكال في

ص: 44

______________________________

عدم شمول أدلة الخيارات للمعاطاة المفيدة للإباحة، لعدم حصول الملكية إلّا بعد طروء أحد الملزمات، و إباحة التصرف ترتفع بعدم رضا المالك بالتصرف بلا احتياج إلى فسخ المعاطاة.

إلّا أن يقال: إنّ الإباحة شرعيّة لا مالكيّة حتى ترتفع بعدم رضا المالك، و من المعلوم بقاء الإباحة الشرعية إلى أن يحكم الشارع بارتفاعها.

لكنه مندفع بأنّ الإباحة هنا ثبتت بالإجماع، و المتيقن منه إنّما هو مع بقاء الباذل على إذنه، فلا يشمل الإجماع صورة رجوعه عن إذنه.

و الحاصل: أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي عليه لم يجر ذلك في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للإباحة.

لكنّه بديهي البطلان، إذ لو كان الغرض من الخيار الأثر الفعلي لزم منه امتناع اجتماع الخيارات العديدة في البيع و غيره من العقود. و إن كان الغرض من الخيار استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل و الانتقال، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة، لأنّها قابلة للتأثير في الملكية، فإذا ثبت الخيار لكلّ من المتعاطيين جاز لكلّ منهما رفع تلك القابلية برفع موضوعها لئلّا تؤثّر في الملكية بعد طروء أحد الملزمات.

و على هذا فيكفي في صحة جعل الخيار في المعاطاة التمكن من إلغائها بالفسخ عن قابلية التأثير في الملكية. هذا ملخص كلامه «1».

لكن لا يمكن المساعدة على ما أفاده قدّس سرّه، لمنع صدق البيع العرفي على المعاطاة المفيدة للإباحة و إن قصد بها التمليك، فإنّ صدق البيع مع التفات العرف إلى عدم إمضاء الشارع له، و جعل الإباحة له ممنوع أشدّ المنع، و صدقه عليه أحيانا عرفا إنّما هو لأجل عدم اطّلاعه على عدم إمضاء الشارع له، و بدون إمضائه لا عقد حتى يجري فيه الخيار

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 164 و 165

ص: 45

______________________________

الذي هو حلّ العقد. و الإباحة الشرعية أجنبية عن العقد، و طروء الملزمات لا يوجب الملك، بل لزوم الإباحة كما هو ظاهر جلّ كلمات القائلين بالإباحة.

و قياس المعاطاة المفيدة للإباحة حدوثا و الملك بقاء ببيع الصرف المتوقف تأثيره في الملكية على القبض مع الفارق، لأنّه بيع عرفي لا يؤثّر شرعا في الملكيّة إلّا بالقبض بحيث يكون القبض شرطا لتأثيره، من دون ترتّب أثر على مجرّد البيع حتى الإباحة. بخلاف المعاطاة، فإنّها تؤثّر في الإباحة، و تأثيرها في الملكية بعد طروء أحد الملزمات غير ثابت، لما عرفت من أنّ كلمات جلّ القائلين بالإباحة خالية عن تأثيرها في الملكية، بل عبّروا بأنّها تلزم بالتصرف أو التلف، و الظاهر من ذلك أنّ الإباحة تلزم بهما، فلاحظ.

ثم إنّه يظهر ممّا ذكرنا: أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا، لأنّ الخيار عبارة عن حلّ ما عقده و التزم به، و بدون الإمضاء الشرعي لا يتحقق عقد حتى ينحلّ بالفسخ الناشئ عن الخيار. و المعاطاة المفيدة للإباحة و إن قصد بها الملك ليست عقدا شرعا حتّى يجري فيها الخيار.

و عليه فلا موضوع لما أفاده قدّس سرّه من «أنّ الغرض من جعل الخيار إن كان هو ترتب الأثر الفعلي امتنع اجتماع الخيارات العديدة في البيع و غيره من العقود، و هو بديهي البطلان. و إن كان هو استيلاء صاحبه على إلغاء ما هو مؤثّر في النقل و الانتقال، فلا شبهة في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المذكورة، لأنها قابلة للتأثير في الملكية فلا مانع من إلغائها عن التأثير المزبور بالخيار، هذا» و ذلك لأنّه لا يصدق العقد العرفي و الشرعي على المعاطاة المذكورة حتى يصحّ جعل الخيار فيها، و يجي ء فيه التشقيق المزبور في الخيار.

هذا كلّه مضافا إلى: أنّ دليل الخيار يخصّص أدلة لزوم الملك التي هي دليل الإمضاء، فدليل الخيار مترتب عليها، و مخصّص لعمومها الأفرادي أو الأزماني.

ص: 46

______________________________

و إن شئت فقل: إنّ الخيار دافع لأصالة اللزوم كخيار المجلس، أو رافع لها كخيار العيب و الغبن بناء على كون ظهور العيب و الغبن سببا للخيار.

و على كلّ حال يعتبر في تعلق الخيار وقوع مضمون العقد، و لا يكفي مجرّد القابلية في تعلّقه، و إلّا لصحّ تعلق خيار المجلس ببيع الصرف قبل التقابض، لكونه قابلا للمملّكية، و صيرورة هذه القابلية فعليّة بعد التقابض، مع أنّ من البديهي عدم جعل الخيار فيه إلّا بعد التقابض. و لا ملك فعلا في المعاطاة حتى يثبت فيها الخيار، و لذا لا يجري خيار المجلس في بيع الصرف و السّلم قبل القبض، حيث إنّ نفس العقد فيهما لا يفيد الملك حتى يجي ء فيهما الخيار و إن كانا قابلين للتأثير في الملكيّة.

و الحاصل: أنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ موضوع الخيار هو العقد الممضى شرعا، لا مجرّد العقد العرفي و إن لم يمضه الشارع كالمعاطاة المفيدة للإباحة شرعا المقصود بها الملك.

فتلخص مما ذكرنا: أنّ شيئا من الخيارات لا يتطرّق في المعاطاة المفيدة للإباحة و إن قصد بها التمليك، كعدم تطرّقه في المعاطاة المقصود بها الإباحة.

ص: 47

[التنبيه الثاني: إنشاء المعاطاة بوجوه أربعة]

الأمر الثاني (1): أنّ المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي

______________________________

التنبيه الثاني: إنشاء المعاطاة بوجوه أربعة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه بيان ما يتحقق به المعاطاة، يعني: أنّه هل يعتبر في تحققها- حتى تفيد الملك أو الإباحة- التعاطي من الطرفين، أم تتحقق بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر، و بغير ذلك.

و توضيح المقام: أنّ في كل معاملة- و منها المعاطاة في البيع- جهتين:

إحداهما: المنشأ، و هو الأمر الاعتباري المقصود للمتعاملين، و هو إمّا التمليك أو الإباحة.

و ثانيهما: الإنشاء، و هو ما يكون مبرزا للقصد النفساني أو موجدا للأمر الاعتباري. و لا بد من تحقيق كلتا الجهتين، و قد عقد المصنف قدّس سرّه التنبيه الرابع لاستيفاء الكلام في أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين. كما عقد هذا التنبيه للبحث عن الجهة الثانية.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ المذكور في المتن صور أربع:

الأولى: اعتبار الإعطاء من الطرفين في تحقق الملكية أو الإباحة، فلا يحصل شي ء منهما بإعطاء واحد، و هو مقتضى الجمود على مدلول هيئة المفاعلة أي المشاركة بين اثنين في المبدأ، و عليه فالإعطاء الواحد جزء السبب المؤثّر في الملكية أو

ص: 48

فعلا (1) من الطرفين (2)، فالملك (3) أو الإباحة في كلّ منهما بالإعطاء، فلو (4) حصل الإعطاء من جانب واحد لم يحصل ما يوجب إباحة الآخر أو ملكيّته، فلا (5) يتحقق المعاوضة (6)

______________________________

الإباحة، نظير الإيجاب الواحد القولي في عدم ترتب أثر عليه ما لم ينضم إليه قبول قولي.

الثانية: إعطاء أحد المتعاطيين و أخذ الآخر، من دون أن يعطي الآخذ شيئا.

الثالثة: عدم تحقق الإعطاء أصلا، لا من الطرفين و لا من طرف واحد. بل مجرّد إيصال المال الى الآخر بوضعه في المكان المعدّ له.

الرابعة: مجرّد الكلام و المقاولة، من دون تحقق الإعطاء و لا إيصال أحد العوضين للآخر.

هذا إجمال الكلام، و سيأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

(1) التقييد بفعلية التعاطي يكون لإخراج سائر الصور، فإنّ الإعطاء سيتحقق منهما، لكنه ليس بعنوان إنشاء المعاوضة، بل لأجل الوفاء بها، كما هو الحال في القبض في البيع القولي.

(2) هذا إشارة إلى الصورة الأولى. و هي مقتضى الجمود على ظاهر باب المفاعلة.

(3) إذا كان هو المقصود، و قلنا بترتبه على المعاطاة كترتبه على البيع بالصيغة.

(4) هذه الإباحة إمّا مالكية لو كانت مقصودة، أو تعبدية كما هو رأي القدماء من ترتبها على المعاطاة المقصود بها الملك.

(5) هذه نتيجة اعتبار فعلية التعاطي من الطرفين في ترتب الأثر على المعاطاة.

(6) يعني: بناء على كون المعاطاة مفيدة للملك.

ص: 49

و لا الإباحة (1) رأسا، لأنّ (2) كلّا منهما ملك أو مباح في مقابل ملكية الآخر (3) أو إباحته.

إلّا (4) أن الظاهر من جماعة (5) من متأخري المتأخرين تبعا للشهيد في الدروس جعله (6) من المعاطاة (7).

______________________________

(1) بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

(2) محصل هذا التعليل: أنّ المعاوضة البيعية أو الإباحيّة تتوقف على قيام كلّ من المالين مقام الآخر في الملكية أو الإباحية، و لا يقوم ذلك إلّا بإعطاء المالك، فالإعطاء من كلّ واحد من المالكين تمليك أو إباحة، فالإعطاء من طرف واحد تمليك أو إباحة بلا عوض، و هذا غير المعاوضة المتقومة بإعطاء كلّ واحد من المالكين.

(3) أي: ملكية المال الآخر.

(4) هذا استدراك على قوله: «المتيقن من مورد المعاطاة» و غرضه بيان الصورة الثانية، يعني: إلحاق الإعطاء من طرف واحد- و أخذ الآخر- بالمعاطاة من الطرفين في إفادة الإباحة على رأي القدماء، و الملك على رأي المتأخرين.

(5) كالشهيد الثاني «1» و المحدث البحراني «2».

(6) أي: جعل الإعطاء- من جانب واحد- من مصاديق المعاطاة.

(7) قال الشهيد قدّس سرّه: «و من المعاطاة: أن يدفع إليه سلعة بثمن يوافقه عليه من غير عقد، ثم تهلك عند القابض، فيلزم الثمن المسمّى» «3».

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 151

(2) الحدائق الناضرة، ج 18، ص 364

(3) الدروس الشرعية، ج 3، ص 192

ص: 50

و لا ريب (1) أنّه لا يصدق (2) معنى المعاطاة، لكن هذا (3) لا يقدح في جريان حكمها عليه بناء (4) على عموم الحكم لكلّ بيع فعلي (5)، فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض، أو مبيحا (6) له به (7)،

______________________________

(1) هذا إشكال على إلحاق الإعطاء من طرف واحد بالمعاطاة موضوعا، ثم وجّهه بقوله: «لكن» و حاصل ما أفاده: أنّ جعل الإعطاء من طرف واحد معاطاة إن أريد به كونه معاطاة موضوعا فهو ممنوع، لظهور هيئة المفاعلة في اعتبار الإعطاء من الجانبين فعلا، فإعطاء أحدهما ليس معاطاة. و إن أريد به إلحاقه حكما بالمعاطاة كان متينا، بناء على أن يكون مفاد دليل مشروعية المعاطاة صحة البيع الفعلي في قبال القولي، سواء تحقق بالتعاطي من الجانبين، أم بإعطاء أحدهما، أم بنحو آخر، إذ المتّبع حينئذ هو دليل المعاملة الفعلية و إن لم يصدق عنوان المعاطاة عليها. و عليه فما في دروس الشهيد و تبعه جماعة في غاية المتانة.

(2) لتوقّفه على الإعطاء من الطرفين، بدعوى دلالة هيئة المفاعلة على الاشتراك في المبدأ.

(3) أي: عدم صدق المعاطاة لا يقدح في جريان حكم المعاطاة على الإعطاء الواحد.

(4) قيد لقوله: «لا يقدح» يعني: فلو قيل بدوران صحة المعاطاة مدار صدق المعاطاة المنوطة بالتعاطي لم يكن وجه للإلحاق المزبور.

(5) غرضه قدّس سرّه أنّ الإعطاء من طرف واحد محكوم عليه بحكم المعاطاة- و إن لم يصدق عليه عنوانها- بناء على عموم حكم المعاطاة عند الأصحاب لكل بيع فعلي من دون مزيّة و خصوصية للتعاطي من طرفين، إذ من المعلوم حينئذ كون الإعطاء من طرف واحد مصداقا للبيع الفعلي و إن لم يكن مصداقا للمعاطاة، إذ لم يرد عنوان المعاطاة في نصّ حتى يكون لها خصوصية.

(6) الأنسب بالمقابلة أن يقال: «أو إباحة له» أو يقال: «مملّكا له بعوض».

(7) أي: بالعوض، و ضمير «له» في المواضع الخمسة راجع إلى أحد العوضين.

ص: 51

و أخذ الآخر له تملّكا (1) له بالعوض أو إباحة له بإزائه، فلو كان (2) [1] المعطى (3) هو الثمن كان دفعه على القول بالملك و البيع اشتراء، و أخذه (4) بيعا للمثمن به، فيحصل الإيجاب و القبول الفعليّان بفعل واحد (5) في زمان واحد [2].

ثم صحّة هذا (6) على القول بكون المعاطاة بيعا مملّكا واضحة، إذ يدلّ عليها ما دلّ على صحة المعاطاة من الطرفين.

______________________________

(1) فيكون الأخذ كالقبول القولي، و إعطاء البائع بمنزلة الإيجاب اللفظي.

و لا حاجة حينئذ إلى الإعطاء من طرف آخر، بل يتحقق البيع بإعطاء واحد منهما و أخذ الآخر.

(2) هذا متفرع على كفاية إعطاء أحدهما و أخذ الآخر في صدق البيع الفعلي- و هو المعاطاة بالمعنى الأعم- عليه.

(3) بصيغة المفعول.

(4) يعني: و أخذ مالك المبيع للثمن من مالكه بيع للمثمن بذلك الثمن الذي أخذه، و هذا بناء على صحة تقدم القبول على الإيجاب لا مانع عنه، و إلّا ففيه منع.

(5) يعني: بإعطاء واحد مقرون بأخذ الطرف الآخر في زمان واحد.

(6) أي: صحة المعاطاة المتحققة بإعطاء واحد. و حاصل ما أفاده قدّس سرّه هو: أنّه

______________________________

[1] هذا التفريع غير ظاهر، لأنّ دفع الثمن- الذي هو وظيفة المشتري- تملك لا تمليك. و غرضه قدّس سرّه كون الإعطاء تمليكا لا تملّكا. و الظاهر عدم تحقق البيع بدفع الثمن إلى مالك المبيع.

[2] فالإعطاء من الطرف الآخر يكون وفاء بالعقد المتحقق بإعطاء واحد، و ليس إنشاء لقبول العقد، لتحققه قبله على الفرض. بل مقتضى كفاية إعطاء واحد في تحقق المعاطاة هو كون الإعطاء من الطرف الآخر- في المعاطاة من الطرفين أيضا- وفاء، لا إنشاء للقبول.

ص: 52

و أمّا على القول بالإباحة فيشكل بأنّه- بعد عدم حصول الملك بها- لا دليل على تأثيرها في الإباحة (1).

اللّهم (2) إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها (3) كقيامها على المعاطاة الحقيقية (4).

و ربما يدّعى (5) انعقاد المعاطاة بمجرد إيصال الثمن و أخذ المثمن من غير

______________________________

بناء على كون المعاطاة بيعا مفيدا للملك يكون دليل صحتها ما دلّ على صحة المعاطاة- الحاصلة من الإعطائين- من الأدلّة المتقدمة، فإنّ المعاطاة حينئذ بيع يشملها جميع ما دلّ على صحة البيع. و بناء على كون المعاطاة مفيدة للإباحة لا تكون بيعا حتى تشملها أدلّة البيع، و لا دليل على إفادتها الإباحة، لظهور كلمات القدماء القائلين بالإباحة في توقفها على إعطاء الجانبين، كقولهم: «إذا دفع قطعة الى البقلي أو الشارب فقال: أعطني بقلا أو: اسقني ماء» و ظهورها في توقف الإباحة على الإعطاء من جانبين ممّا لا ينكر. إلّا أن يدّعى قيام السيرة عليها كقيامها على المعاطاة الحقيقية المتحققة بالإعطاء من الطرفين، بأن يقال: إنّ موضوع السيرة هي المعاطاة المتحققة عرفا بالإعطاء من طرف واحد.

(1) حيث إنّ مقتضى القاعدة عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه.

(2) استدراك على قوله: «فيشكل» و مقصوده- كما تقدم توضيحه- تصحيح المعاطاة- بإعطاء واحد منهما- بالسيرة المستمرة على ترتب الإباحة عليه.

(3) أي: على المعاطاة الحاصلة بإعطاء واحد منهما.

(4) و هي بالتعاطي من الطرفين.

(5) هذا ثالث الوجوه المتصورة في المعاطاة، و محصل هذا الوجه هو: أنّه لا إعطاء في البين أصلا، لا من الطرفين و لا من الطرف الواحد، بل ليس فيه إلّا إيصال و وصول، فالموصل يتسبب بإيصاله إلى التمليك، و الطرف الآخر يتسبب بوصول المال إليه إلى مطاوعته، فيتحقق بهما البيع. و لعلّ السيرة الجارية على ذلك

ص: 53

صدق إعطاء أصلا فضلا عن التعاطي كما تعارف (1) أخذ الماء مع غيبة السّقّاء، و وضع الفلس في المكان المعدّ له إذا علم من حال السّقّاء الرّضا بذلك. و كذا غير الماء من المحقّرات كالخضريات و نحوها. و من هذا القبيل (2) دخول الحمّام و وضع الأجرة في كوز صاحب الحمّام مع غيبته (3).

فالمعيار (4) في المعاطاة وصول العوضين أو أحدهما مع الرضا بالتصرف.

و يظهر ذلك (5) من المحقق الأردبيلي رحمه اللّه أيضا في مسألة المعاطاة،

______________________________

- في السقاية و الاستحمام بل و غيرهما- موردها قصد التمليك. و قد تقدّم أنّ «تبديل العين المتمولة بمال» هو البيع، فكل فعل يكون قابلا لإبراز هذا التبديل الاعتباري فهو بيع فعلي و إن لم يكن معاطاة مصطلحة. و مع صدق البيع عليه يشمله عموم ما دلّ على صحة البيع، و لا يدور الحكم مدار صدق المعاطاة عليه بعد ما عرفت من عدم ورود عنوان «المعاطاة» في آية و لا رواية و لا معقد إجماع حتّى يدور الحكم مدارها.

(1) مقصوده قدّس سرّه: أنّ الصورة الثالثة ليست صرف فرض، بل هي واقعة خارجا، لجريان سيرتهم عليها، إذ لا يتصور الإعطاء و الأخذ عند غيبة السّقّاء و البقلي، فضلا عن تحقق التعاطي.

(2) أي: من قبيل أخذ الماء عند غيبة السّقّاء و وضع الثمن في المكان المعدّ له- في كونه معاطاة- دخول الحمام.

(3) التقييد بالغيبة واضح، إذ مع حضوره في الحمّام يندرج في الصورة الثانية و هي إعطاء المستحم و أخذ الحمّامي.

(4) يعني: بناء على هذه الصورة الثالثة.

(5) يعني: يظهر انعقاد المعاطاة- بمجرّد إيصال الثمن و أخذ المثمن- من المحقق الأردبيلي قدس سرّه كما يظهر من غيره، و لعلّ المصنف استظهر كفاية الإيصال من قوله في شرح الإرشاد: «فاعلم أن الذي يظهر أنّه لا يحتاج في انعقاد عقد البيع- المملّك

ص: 54

و سيأتي توضيح ذلك (1) في مقامه (2) إن شاء اللّه تعالى.

ثم (3) إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر (4) في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة أمكن خلوّ المعاطاة (5)

______________________________

الناقل للملك من البائع إلى المشتري و بالعكس- إلى الصيغة المعيّنة كما هو المشهور، بل يكفي كل ما يدلّ على قصد ذلك مع الإقباض» «1» بأن يراد من الإقباض مجرّد الوصول و الإيصال، لا ظاهره و هو تسليم أحد المتعاطيين ماله للآخر. و لعلّ المصنف قدّس سرّه اعتمد في هذه النسبة على ما في مفتاح الكرامة «2» فراجع.

(1) أي: انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن و أخذ المثمن، من غير إعطاء أصلا.

(2) و هو التنبيه الثامن، حيث يقول فيه: «و السيرة موجودة في المقام، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء و البقل و غير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم، و وضعهم الفلوس في الموضع المعدّلة .. إلخ» لكن المصنف خصّ جواز هذه الصورة بالقول بالإباحة دون الملك، و سيأتي تفصيل الكلام هناك إن شاء اللّه تعالى.

(3) هذا إشارة إلى الصورة الرابعة من صور المعاطاة، و هو إنشاء البيع باللفظ الفاقد لشرائط الصيغة مادّة أو هيئة، بدون إعطاء العوضين و لا أحدهما و لا إيصاله.

و حكم هذه الصورة الصحّة بناء على إفادة الملك المقصود للمتعاطيين، و البطلان بناء على الإباحة كما سيأتي.

(4) كأن يقول في إنشاء البيع: «عوّضت» بدل «بعت» أو قال أحدهما: «هذا لك» و قال الآخر: «هذا لك بدل ما أعطيتني».

(5) الأولى تبديله ب «خلوّ المبادلة» لفرض عدم تحقق الإعطاء و الإيصال في هذه الصورة أصلا، و إنّما يراد إلحاقها بالمعاطاة حكما. نعم لا بأس بهذا التعبير بناء على أن يراد بالمعاطاة ما يقابل البيع القولي الجامع لشروط الصيغة، إذ ليست هذه

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 139

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 159

ص: 55

من الإعطاء و الإيصال رأسا، فيتقاولان (1) على مبادلة شي ء بشي ء من غير إيصال. و لا يبعد (2) صحّته مع صدق البيع عليه (3) بناء على الملك. و أمّا على القول بالإباحة فالإشكال المتقدم (4) هنا آكد (5) [1].

______________________________

الصورة الرابعة بيعا بالصيغة فتندرج في المعاطاة التي هي بيع فعلي.

(1) بأن يقصد إنشاء البيع بالألفاظ غير المعتبرة في إنشاء البيع.

(2) هذا إشارة إلى حكم الصورة الرابعة، و هو التفصيل بين ترتب الملك و الإباحة، فتصحّ على الأوّل، لكونها بيعا عرفيا، و تبطل على الثاني، لكون المتيقن من دليل الاعتبار- و هو مثل السيرة- تحقق الإعطاء من الجانبين.

(3) و إن لم يصدق عليه المعاطاة، لما مرّ من عدم دوران الحكم بالصحة مدار خصوص الإعطاء و الإيصال، بل يكفي قصد الملك و صدق «البيع» على الإنشاء.

(4) بقوله في الصورة الثانية: «فيشكل بأنّه بعد عدم حصول الملك بها لا دليل على تأثيرها في الإباحة».

(5) وجه الآكديّة: أنّ الإباحة لمّا كانت لأجل السيرة و الإجماع- و هما لبّيّان- اختصّا بصورة التعاطي من الطرفين، فلو تعدّينا عن التعاطي إلى الإعطاء الواحد لم يتجه التعدّي إلى المقام ممّا لا فعل فيه أصلا، و إنّما هو إنشاء قولي ملحون، و لا يصدق عليه المعاطاة موضوعا.

______________________________

[1] عبارة المصنف قدّس سرّه في هذا التنبيه قد تضمّنت صورا أربعا:

الأولى: تحقق الإعطاء من الطرفين، و هي المنسبقة إلى الأذهان.

الثانية: تحقق الإعطاء من طرف واحد فقط.

الثالثة: عدم الإعطاء لا من الطرفين و لا من طرف واحد، بل مجرّد إيصال و وصول كالأمثلة المذكورة في المتن من شرب الماء، و الدخول في الحمّام، و أخذ الخضروات و وضع العوض في الموضع المعدّ له من كوز أو صندوق أو غيرهما.

ص: 56

______________________________

الرابعة: مجرّد الكلام الدال على المقاولة من غير إيصال و وصول.

أمّا الصورة الاولى فلا ينبغي الإشكال فيها، لكونها هي المتيقنة من المعاطاة، فيشملها ما يدلّ على صحّتها. و دعوى «عدم تعقّل توقف المعاطاة المقصود بها المبادلة على الإعطاء من الطرفين، بل لا محيص عن تحققها بالإعطاء و الأخذ لطرف واحد، نظرا إلى: أنّ الأخذ إن قصد بأخذه للعين قبول ما ملّكه المعطي فقد تمّت به المعاملة، لاشتمالها على تمليك و تملّك، فيكون إعطاء الآخر بعد ذلك وفاء بالعقد، لا إنشاء للقبول. و إن لم يقصد بأخذه القبول فلا يجزي إعطاؤه، لأنّه تمليك مستقلّ، فيتحقّق إيجابان مستقلّان بإعطائين. و لا ريب في عدم انعقاد المعاملة حينئذ، لكون كل منهما إيجابا مستقلا بلا قبول» «1».

غير مسموعة، لأنّ البيع ليس إلّا تمليكا بإزاء تمليك كما في الإعطائين، فإنّ كلّا منهما تمليك بإزاء تمليك. و هذا المقدار من الربط كاف في الربط المعاملي، و لا دليل على اعتبار خصوص الربط المطاوعي، فلا يكون الإعطائان في المقام تمليكين مستقلّين. و لو كان خصوص الرّبط المطاوعي معتبرا في تحقق البيع لما صحّ إنشاء وكيل المتعاملين تبادل المالين بقوله: «بادلت بينهما» مع صحته قطعا، فلا ينحصر إيجاد ماهية البيع بالإيجاب و القبول.

فالمتحصل: أنّ البيع يتحقق بإعطائين كما يتحقق بإعطاء واحد، هذا.

و أمّا الصورة الثانية فقد ظهر مما ذكرنا في الصورة الأولى صحتها، و أنّها بيع مشتمل على الإيجاب و القبول، لكون الإعطاء إيجابا و الأخذ قبولا، فيشمله دليل البيع سواء أ كان لفظيا أم لبّيّا، لصدق البيع العرفي عليه.

لكن قد يناقش في تحقق المعاطاة بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر، تارة بما

______________________________

(1): حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني، ج 1، ص 83

ص: 57

______________________________

في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه، و أخرى بما في حاشية المحقق الإيرواني قدّس سرّه.

أمّا الأوّل فقد مهّد لإثبات دعواه مقدّمة، محصّلها: أنّ العقود المعاوضية التي يمكن إنشاؤها بالمعاطاة هي البيع و الإجارة و القرض و الهبة، و أما غيرها كالصلح فلا يقع بالمعاطاة، و ذلك لأنّه يعتبر كون الفعل آلة لذلك العنوان المعاملي حتى يتحقق في وعاء الاعتبار، فلا معنى لإيجاد كل عنوان بكل فعل و إن لم يكن آلة له، و لذا لا يقع الصلح بالتسليط الخارجي على المال، لكونه مصداقا للتمليك لا للتسالم الذي هو حقيقة الصلح.

و على هذا فلمّا كانت حقيقة البيع تبديل طرفي الإضافة توقّف حصولها بالمعاطاة على التعاطي من الجانبين، حتى يفكّ كل منهما ربطه الملكي بماله و يشدّه بمال الآخر، فيتبدّل طرفا الإضافة. و لا يتحقق عقد البيع لو كان الإعطاء من طرف واحد، فإنّ البائع مثلا و إن حلّ علقته بماله و شدّها بالمشتري، إلّا أنّه لم يقم مقامه شي ء من المشتري، إذ لم يصدر منه إلّا الأخذ، و أمّا حلّ ربطه بمال نفسه فلم يتحقق منه ما يوجبه لا قولا و لا فعلا.

و حينئذ فإمّا أن يكون إعطاء أحدهما و أخذ الآخر مصداقا للهبة، و إمّا أن يكون باطلا لا بيعا و لا غيره، إذ البيع تبديل الطرفين و النقل من طرف واحد ليس بيعا.

مضافا إلى: لزوم بقاء نفس إضافة البائع على حالها مع عدم وجود طرف لها، لعدم انتقال مال المشتري إليه بعد، و من المعلوم امتناع بقاء الإضافة بدون طرفها، لتضايف المالكية و المملوكية. هذا ما يستفاد من تقرير درسه الشريف «1».

و أما الثاني فقد قال: «و أمّا اعتبار العطاء من جانب واحد فهو أيضا باطل،

______________________________

(1): المكاسب و البيع، ج 1، ص 197- 198

ص: 58

______________________________

فإنّ دليل صحة المعاطاة إن كانت هي الأدلة اللفظية المتقدمة فإطلاقها كما ينفي اعتبار اللفظ في الإنشاء كذلك ينفي اعتبار الفعل، فكلّ ما حصل به إنشاء المعاملة صحّ بمقتضى تلك الأدلّة. و إن كانت هي السيرة و الإجماع فكلّ أحد يعلم أنّ السيرة لا تدور مدار الإنشاء بأسباب خاصة، بل كلّ ما حصل به إنشاء المعاملة من قول أو فعل أو إشارة كفى في ترتيب أثر المعاملة عند العقلاء و أهل العرف» «1».

لكن يمكن أن يقال: أمّا ما أفاده الميرزا قدّس سرّه فإنّ قابلية الفعل لإبراز العنوان القصدي أو إيجاده أو آليته له و إن كانت مسلّمة، فكما لا تصلح صيغة النكاح لإنشاء البيع مثلا، فكذا الحال في الإنشاء بالفعل. إنّما الكلام في التطبيق، إذ المرجع في صدق البيع على المعاطاة هو العرف، و لا يعتبر عندهم أزيد من قصد العنوان و التوصّل إليه بلفظ أو فعل، فكما تقع المعاملة عندهم بالملامسة و المنابذة، فكذا يصح إنشاؤها بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر.

هذا مضافا إلى: النقض بموارد التزم الميرزا قدّس سرّه بجريان المعاطاة فيها بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر كالقرض و بيع النسيئة و السّلم، فالقرض مثلا تمليك عين بضمان البدل، فلا بد أن يكون أخذ المقترض تملّكا للعين و تمليكا للمثل أو القيمة، إذ لو لا هذا التمليك و ضمانه بالبدل لكان تصرفه عدوانيا. و لا وجه لتصحيح القرض المعاطاتي إلّا الالتزام بأنّ أخذ المقترض آلة عرفا لتملكه للمال و لتمليكه للمثل أو القيمة أي ضمانه لأحدهما.

و كذا الحال في بيع السّلم، إذ لم يصدر منهما إعطاءان، بل إقباض الثمن خاصة.

فتحصّل: أن بيان الميرزا قدّس سرّه غير ظاهر نقضا و حلّا.

و أمّا ما أفاده المحقق الإيرواني قدّس سرّه فلا يخلو من غموض أيضا، إذ المقصود البحث عن حال الإعطاء الواحد من حيث كونه سببا لإنشاء البيع عرفا و عدمه، لا من

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 83

ص: 59

______________________________

حيث اعتبار الإعطاء الواحد شرعا في إنشاء البيع حتى ينفى اعتباره بإطلاق الأدلّة.

و لا ريب في أنّ الإعطاء الواحد سبب عرفي لإنشاء البيع، فتشمله أدلة البيع، و إلّا لانسدّ باب البيع نسيئة و السّلم، فهما من أقوى شواهد صحة إنشاء البيع بإعطاء واحد، فدليل صحة البيع- سواء أ كان لفظيا أم لبيا- يشمل البيع المنشأ بإعطاء واحد.

و لا فرق فيما ذكرناه من صحة إنشاء البيع بالإعطائين و الإعطاء الواحد بين إفادة المعاطاة الملك كما هو مقصود المتعاملين، و بين إفادتها الإباحة تعبّدا كما عن مشهور القدماء، لأنّ السيرة جارية على كل منهما، ضرورة أنّ المعاملات الجارية بين العرف تارة تكون بإعطائين، و أخرى بإعطاء واحد.

و أمّا مع قصد المالكين للإباحة فالأمر أوضح، لأنّ الإباحة حينئذ مالكية، فتشمله قاعدة سلطنة المالكين على أموالهم، كما استدل بها صاحب الجواهر قدّس سرّه، فلا فرق في حصول الإباحة المالكية بين صدور إعطائين و إعطاء واحد، و بين عدم صدور فعل منهما أصلا، لكفاية مجرّد الإذن في التصرف سواء حصل بقول، أم فعل، أم إشارة، أم غيرها.

و أمّا الصورة الثالثة- و هي عدم حصول إعطاء لا من كليهما و لا من أحدهما بل مجرّد إيصال و وصول- فملخص الكلام فيها: أنّ المحقق الإيرواني قدّس سرّه منع عن كون الأمثلة المزبورة من المعاطاة المجردة عن الفعل، بل جعلها من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الجانبين، حيث قال ما لفظه: «التعاطي من الجانبين في الأمثلة التي ذكرها موجود، فوضع الماء في موضع معدّ لأن يؤخذ إعطاء من السّقاء للماء، و هكذا فتح باب الحمام للداخلين، و وضع الفلس من شارب الماء و الداخل في الحمّام في موضع أعدّ لذلك أخذ منه للفلس، فكلّ منهما قد أعطى، و كلّ قد أخذ ما أعطاه الآخر. و إنما تتحقق المعاملة بلا عطاء من شي ء من الجانبين فيما إذا كان المالان عند كل منهما بسبق أمانة

________________________________________

ص: 60

______________________________

أو غصب أو إطارة ريح، فقصد المعاوضة بلا فعل من كلّ منهما» «1».

و أنت خبير بما فيه، لأنّ المراد بالعطاء هو ما يتحقق به البيع و يكون سببا لإنشائه، و من المعلوم أنّ وضع الماء في مكان معدّ للاستسقاء منه، و فتح باب الحمّام ليسا كذلك، إذ لو كانا سببين للإنشاء لزم منه إشكالان:

أحدهما: الفصل بين الإيجاب و القبول غالبا.

ثانيهما: الجهل بالمبيع، لتفاوت الشاربين و داخلي الحمام في مقدار الماء الذي يستعملونه للارتواء و التنظيف أو الغسل، إلّا إذا عيّن مالك الماء و الحمام كيلا معيّنا للماء الذي يشربه الشارب، كما يضع السّقاء أحيانا بدل القربة أواني مملوءة من الماء في محلّ لشرب الشاربين منها، أو يستعمله من يدخل الحمام.

و لكنه خلاف المتعارف ظاهرا، فإنّ بناءهم على ارتواء الظامي بمبلغ معيّن، و من المعلوم اختلاف المقدار الذي يروي الظامي باختلاف مراتب عطشه، فدعوى كون الأمثلة المتقدمة من المعاطاة المتحققة بالتعاطي من الطرفين غير ثابتة.

و الحق أن يقال: إنّ مثالي الشارب و الوارد في الحمّام خارجان عن البيع المعاطاتي رأسا، و داخلان في الإباحة بالعوض، و الدليل على ذلك السيرة القطعية الجارية على ذلك في الأشياء الحقيرة.

أو داخلان في معاوضة خاصة تمليكية. و دليلها قوله تعالى إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ أو «كونها من قبيل: أعتق عبدك عني، فيكون الشارب و الوارد في الحمّام وكيلين عن السقّاء و مالك الحمام في إنشاء الإيجاب» كما احتمله سيّدنا الأستاذ قدّس سرّه «2».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 83

(2) نهج الفقاهة، ص 60 و 61

ص: 61

______________________________

لكنه لا يخلو من غموض، لعدم خطور ذلك في ذهن الحمّامي غالبا حتى يمكن أن يقال بتحقق التوكيل، و المفروض أنّ الوكالة من العقود المتقومة بالقصد. و ليس هنا كلام يتوقّف صحته على التقدير حتى يقال: إنّ دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا ليصح الكلام معه، و يكون ذلك كاشفا عن الثبوت و هو قصد التوكيل، إذ لم يصدر هنا إلّا فعل كفتح باب الحمام، و صحّته لا تتوقّف على فرض قصد التوكيل حتى يكون من قبيل «أعتق عبدك عنّي» و ذلك لما عرفت من إمكان كونهما من الإباحة بالعوض.

كما أنّ توهّم «كون مثال الحمام من قبيل الإجارة المعاطاتية، بدعوى: كون العين المستأجرة نفس الحمام كلّا أو بعضا، و عدّ المياه المستعملة فيه منفعة له حتى لا يرد عليه: أنّ المياه عين، و هي تتلف بالانتفاع بها، و هذا خلاف مقتضى الإجارة من اعتبار بقاء العين المستأجرة لينتفع بها» مندفع بجهالة المدة، مع أنّ تعيينها من أركان الإجارة.

كما أنّ احتمال كونها مصالحة معاطاتية أو هبة كذلك بشرط العوض ممّا لا مثبت له بعد كون كل منهما عنوانا قصديّا يحتاج ترتيب أحكام كل منهما إلى إحراز عنوانهما.

فالأولى أن يقال: إنّ الأمثلة المذكورة كلّها من قبيل الإباحة بالعوض، فإنّ مقتضى الاستصحاب بقاء الأعيان المزبورة من الماء و الخضروات على ملك مالكيها. و فتح باب الحمام أو دكّان بائع الخضروات، و كذا وضع السّقّاء قربة الماء أو أوانيه مملوءة من الماء في مكان معدّ لشرب الناس منها إذن و إباحة في التصرف في الماء و الخضروات، فبقاؤهما على ملك مالكيهما محرز تعبّدا، و الإذن محرز وجدانا. و ليس هذا إلّا إباحة التصرف الثابتة بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم.

و مع هذا الاحتمال الذي يساعده الصناعة لا موجب لجعل الأمثلة المذكورة من قبيل قوله: «أعتق عبدك عنّي» إذ لا دليل على كونها من قبيل ذلك، فإنّ الالتزام بالوكالة

ص: 62

______________________________

هناك إنّما هو لتوقف صحة الكلام على ذلك، فهذه قرينة على كون مراد المتكلم توكيل المخاطب في شراء العبد عن نفسه، ثم إعتاقه عنه. و هذا بخلاف الأمثلة المتقدمة، فإنّه لا موجب للالتزام المزبور أصلا، بل قضية الاستصحاب كما عرفت هو بقاء الماء و الخضروات على ملك مالكيهما، و فتح باب الحمام و نحوه مصداق فعلي للإباحة، فتأمّل في أطراف ما ذكرناه جيّدا، و اللّه تعالى هو العالم بالصواب.

و أمّا الصورة الرابعة- و هي مجرّد الكلام الدال على المقاولة- فحاصل البحث فيها: أنّ مراد المصنف قدّس سرّه إن كان إنشاء المعاملة بالألفاظ غير الجامعة للشرائط بأن يكون مقصوده قدّس سرّه بالمقاولة القول غير الجامع للشروط- بقرينة قوله: «ثم إنّه لو قلنا بأنّ اللفظ غير المعتبر في العقد .. إلخ» إذ مقصوده إنشاء البيع باللفظ الفاقد للشرائط، فالمراد بالمقاولة الإنشاء بالألفاظ التي يتكلّمان بها مع فقدها للشرائط- فلا يرد عليه ما في جملة من الحواشي من مغايرة المقاولة مفهوما للبيع، فلاحظ.

و بالجملة: فوقوع البيع حينئذ مبني على عدم اعتبار سبب خاص في إنشائه، هذا.

و إن كان مجرّد المقاولة و المساومة فلا ينبغي الارتياب في عدم وقوع البيع بها، لأنّ المقاولة بهذا المعنى مباينة للبيع.

و الظاهر أنّ مراده هو الأوّل، إذ لا يتوهم أحد أن تكون المقاولة بيعا، هذا.

ثم إنّه بناء على وقوع البيع بهذه المقاولة لا تندرج في المعاطاة المصطلحة، لعدم إنشائه بفعل حتى يندرج فيها، بل هو بيع عرفي أنشئ بألفاظ غير جامعة للشرائط، فيشمله ما دلّ على صحة البيع إن لم يثبت اعتبار لفظ خاص فيه، و إلّا فهو بيع باطل، و لا يفيد الإباحة أيضا، لخروجه عن مورد السيرة و الإجماع، حيث إنّ موردهما وقوع فعل أو فعلين من المتعاملين. كما لا يشمله قاعدة السلطنة الموجبة للإباحة المالكية، و ذلك لعدم قصدهما للإباحة.

ص: 63

[التنبيه الثالث: تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة]

الثالث (1): تمييز البائع من المشتري في المعاطاة

______________________________

التنبيه الثالث: تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه هو تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة الفعلية، و محصل ما أفاده هو: أنّه تارة يكون أحد العوضين من النقدين كالدنانير و الدراهم، و أخرى يكون العوضان من غير الأثمان بأن كانا من العروض كالحنطة و السّكّر مثلا.

ففي الصورة الأولى يكون المشتري باذل النقدين، إلّا مع التصريح بكونه البائع كأن يقول: «بعتك هذه الليرة مثلا بوزنة من الحنطة» فحينئذ يكون باذل الليرة بائعا.

و في الصورة الثانية يتصور وجوه:

أحدها: أن يقوّم أحد المالين بنقد دون الآخر، فالمشتري دافع المقوّم.

ثانيها: أن يقوّم كلاهما، كأن يقوّم الحنطة بدرهم، و السّكّر أيضا بدرهم.

ثالثها: أن لا يقوّم شي ء منهما بالنقدين، بأن يقع التبادل بين العروضين أصالة كالحنطة و اللحم من دون تقدير شي ء منهما بالدرهم و الدينار، بل يقع المبادلة بين وقيّة من الحنطة و بين ربع وقيّة من اللحم مثلا.

و في هذين الوجهين احتمالات أربعة:

الأوّل: كونه بيعا و شراء بالنسبة إلى كلّ منهما، فكلّ من المتعاملين بائع، لأنّه بدّل ماله بمال، و هو تعريف البيع- كما تقدّم في محلّه- و مشتر، لأنّه ترك شيئا و أخذ بغيره.

الثاني: كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا، لصدق الموجب عليه، و شراء بالنسبة إلى الآخذ، لكونه قابلا عرفا.

ص: 64

الفعلية (1) مع كون أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمنا كالدراهم و الدنانير و الفلوس المسكوكة واضح، فإنّ صاحب الثمن هو المشتري ما لم يصرّح بالخلاف (2).

و أمّا مع كون العوضين من غيرها (3) فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن في العوضية، فإذا أعطى (4) الحنطة في مقابل اللحم قاصدا أنّ هذا المقدار من الحنطة يسوى درهما هو ثمن اللّحم، فيصدق (5) عرفا أنّه اشترى اللّحم بالحنطة. و إذا انعكس انعكس الصدق (6)، فيكون المدفوع بنيّة البدليّة عن الدرهم و الدينار هو

______________________________

الثالث: كونه مصالحة معاطاتية، لصدق المصالحة التي هي التسالم عليه.

الرابع: كونه معاملة مستقلة يجب الوفاء به بمقتضى الأمر بالوفاء بكلّ عقد عرفي.

(1) لعلّ التقييد بالفعلية لإخراج الصورة الرابعة مما تقدّم في التنبيه الثاني، فإنّ المقاولة و الإنشاء باللفظ الفاقد لبعض شرائط الصيغة يميّزان البائع عن المشتري، بخلاف المعاطاة الفعلية، فإنّه لا بدّ من تمييز أحدهما عن الآخر بالصور المذكورة في المتن.

و بعبارة أخرى: محط البحث في هذا التنبيه هو المعاملة الفعلية الفاقدة للإنشاء اللفظي، فلو أنشئت باللفظ الملحون كان البادي هو البائع، و الآخر هو المشتري.

(2) كأن يقول: «بعتك هذا الدينار- مثلا- بحقّة من اللّحم» فإنّ البائع حينئذ هو صاحب الدينار.

(3) أي: من غير الدراهم و الدنانير و الفلوس المسكوكة، أو كونهما منها كالمعاطاة في بيع الصرف.

(4) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل من الصورة الثانية التي يكون كلا العوضين فيها عروضا، كمبادلة اللحم بالحنطة، فيتميّز البائع عن المشتري بأنّ دافع اللحم هو البائع، و باذل الحنطة هو المشتري، لكونهما قاصدين إعطاء درهم- أو ما يساويه في المالية- بعنوان ثمن اللحم، و عليه يترتب أحكام البائع على باذل اللحم.

(5) جواب قوله: «فإذا أعطى» و هذا بيان حكم هذه الصورة.

(6) بأن كان مقصودهما بدليّة اللّحم عن الدّرهم، فالمعوّض هو الحنطة، و باذلها

ص: 65

الثمن، و صاحبه (1) هو المشتري.

و لو لم يلاحظ (2) إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون نيّة قيام أحدهما مقام الثمن في العوضية، أو لوحظت (3) القيمة في كليهما بأن لوحظ كون المقدار من اللّحم بدرهم، و ذلك المقدار من الحنطة بدرهم، فتعاطيا من غير سبق (4) مقاولة تدلّ على كون أحدهما بالخصوص بائعا، ففي كونه (5) بيعا و شراء بالنسبة إلى كلّ منهما بناء (6) على أنّ البيع لغة

______________________________

هو البائع، و الثمن هو اللحم، و صاحبه هو المشتري.

(1) أي: صاحب المدفوع- بنيّة البدلية عن الدرهم- هو المشتري.

(2) معطوف على قوله: «فالثمن ما قصدا قيامه» و هذا يتضمن الوجه الثاني و الثالث من الصورة الثانية، لأنّ قصد بدليّة أحدهما عن الآخر يكون تارة مع عدم النظر إلى كون الثمن الواقعي درهما حتى يقوّم السّكّر بالدرهم الذي هو الثمن حقيقة.

و أخرى مع تقدير كلا العروضين بالأثمان و الدراهم، فالعوضان و إن كانا من العروض، إلّا أنّ حيثية التقويم بالدرهم ملحوظة فيهما. و قد عرفت تطرّق احتمالات ثلاثة في تمييز البائع عن المشتري فيهما.

(3) معطوف على «من دون نية» فكأنّه قيل: «و لو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر و لوحظت القيمة في كليهما ..» و هذا بيان الوجه الثالث مما تقدم في الصورة الثانية.

(4) التقييد بعدم سبق مقاولة واضح، إذ مع سبق المقاولة على التعاطي يكون سبقها قرينة على أنّ أحدهما بالخصوص بائع، و الآخر مشتر، فلا يبقى شك حتى تتطرّق فيه الاحتمالات الآتية.

(5) جزاء لقوله: «و لو لم يلاحظ» و هو خبر مقدّم لقوله: «وجوه» أي: ففي كون التعاطي بيعا و شراء .. إلخ، و هذا شروع في بيان محتملات المسألة، و الاحتمال الأوّل هو صدق «البائع و المشتري» على كلّ من المتعاطيين.

(6) حاصله: أنّ هذا الاحتمال الأوّل مبني على أمرين:

أحدهما: كون البيع مبادلة مال بمال، كما تقدم في تعريف المصباح.

ص: 66

كما عرفت (1) «مبادلة مال بمال» [1]، و الاشتراء (2) «ترك شي ء و الأخذ بغيره»

______________________________

ثانيهما: كون الشراء بمعنى ترك شي ء و أخذ غيره كما في القاموس «1».

و على هذا يصدق تعريف البيع و الشراء على كليهما، أمّا صدق البيع فلأنّ كلّا من باذل الحنطة و اللّحم بادل ماله بمال آخر.

و أمّا صدق الشراء فلأنّ كلّا منهما ترك شيئا و أخذ غيره.

و ما أفاده المصنف قدّس سرّه موافق لكلام الراغب، حيث قال: «إذا كانت المبايعة بين سلعة بسلعة صحّ أن يتصور كل واحد منهما مشتريا و بائعا» «2».

هذا بناء على تسليم ما ذكر في معنى البيع و الشراء، فلو كان المفهوم منهما أو من أحدهما أمرا آخر لم يصدق «البائع و المشتري» على كل واحد من المتعاطيين، كما إذا عرّف البيع «بإعطاء المثمن و أخذ الثمن» «3»، أو اعتبر في الشراء المطاوعة و قبول إنشاء البائع كما هو كذلك في الجملة بنظر المصنف، و أنّ التمليك فيه ضمني لا أصلي.

و عليه فمجرّد المبادلة بين المالين و أخذ شي ء و ترك آخر غير كاف في صدق عنوان البائع و المشتري على كل منهما.

(1) يعني: في أوّل كتاب البيع، حيث قال: «و هو في الأصل- كما عن المصباح- مبادلة مال بمال».

(2) بالنصب معطوف على «البيع» يعني: و بناء على أنّ الاشتراء هو مطلق «ترك شي ء و أخذ غيره» من دون اعتبار المطاوعة فيه، و لا اعتبار كون تملّكه أصليا

______________________________

[1] لكن مع هذا البناء يصدق البائع و المشتري على كلّ واحد من الطرفين في جميع المقامات، و لا يختص بهذه الصورة.

______________________________

(1): القاموس المحيط، ج 4، ص 348

(2) مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص 260

(3) المصدر، ص 67

ص: 67

كما عن بعض (1) أهل اللغة، فيصدق (2) على صاحب اللحم: أنّه باعه بحنطة، و أنّه اشترى الحنطة، فحنث (3) لو حلف على عدم بيع اللّحم و عدم شراء الحنطة [1].

نعم (4) لا يترتب عليهما أحكام البائع و لا المشتري،

______________________________

و تمليكه تبعيّا.

(1) كالفيروزآبادي، حيث قال: «و كلّ من ترك شيئا و تمسّك بغيره فقد اشتراه. و منه: اشتروا الضلالة بالهدي» «1».

(2) هذه نتيجة صدق «البائع و المشتري» على كلّ واحد من المتعاطيين.

(3) غرضه بيان ثمرة مترتبة على الاحتمال الأوّل و هو صدق البائع و المشتري على الطرفين، و بيانها: أنّه إذا حلف المكلّف على ترك بيع اللّحم و ترك شراء الحنطة، فباعه بها، فقد خالف الحلف و حصل الحنث، و وجبت عليه كفارتان، إحداهما لبيع اللّحم، و الأخرى لشراء الحنطة. و هذا شاهد على إمكان صدق عنوانين متقابلين- و هما البائع و المشتري- على كلّ منهما، إذ لو امتنع الانطباق لم يكن وجه لإيجاب كفارتين عليه.

(4) هذا استدراك على قوله: «فيصدق ..» يعني: أنّه بناء على هذا الاحتمال الأوّل و إن صدق البائع و المشتري على كلّ منهما، لكنّ الأحكام المختصة بالبائع و المشتري لا تثبت في هذين المتعاطيين. و الوجه في عدم ثبوتها أنّ الأدلة المتكفلة

______________________________

[1] حنث الحلف تابع لكيفية يمينه، فلو كان متعلّقا بترك بيع اللحم و شراء الحنطة مطلقا و لو في معاملة واحدة اتّجه ما في المتن من حصول الحنث ببيع اللحم بشراء الحنطة. و لو كان حلفه منزّلا على الغالب و منصرفا عن هذه الصورة كما ادّعاه في أدلة الأحكام لم تبعد دعوى عدم حصول الحنث فيمن صدق عليه العنوانان في معاملة واحدة.

______________________________

(1): القاموس المحيط، ج 4، ص 348

ص: 68

لانصرافهما (1) في أدلة تلك الأحكام إلى من اختصّ بصفة البيع (2) أو الشراء (3)، فلا تعمّ (4) من كان في معاملة واحدة مصداقا لهما [1] باعتبارين.

أو (5) كونه بيعا بالنسبة إلى من يعطي أوّلا،

______________________________

لتلك الأحكام ناظرة إلى ترتب أحكام البائع على من يكون بائعا في معاملة و لا يكون مشتريا فيها، و كذا ترتّب أحكام المشتري على من يكون مشتريا في معاملة و لا يكون بائعا فيها، فهذه الأدلة منصرفة عمّن صدق عليه «البائع و المشتري» في معاملة واحدة.

(1) أي: لانصراف البائع و المشتري في أدلة تلك الأحكام إلى خصوص من اختصّ بكونه بائعا، و إلى خصوص من اختص بكونه مشتريا.

(2) كقولهم: «تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع» «1».

(3) كقوله عليه السّلام: «صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيام ..» «2».

(4) يعني: فلا تعمّ و لا تشمل أدلّة تلك الأحكام من صدق عليه البائع و المشتري في معاملة واحدة.

(5) معطوف على قوله: «كونه بيعا و شراء» و هذا إشارة إلى الاحتمال الثاني الجاري في الصورتين الأخيرتين، و محصّله: تمييز البائع عن المشتري بالتقدّم و التأخر،

______________________________

[1] بناء على عدم مغايرة مفهومي البيع و الشراء على نحو التباين، بأن يكون لكل منهما معنى عام يصدق على كل من البائع و المشتري. لكنه غير ثابت، فإنّ معنى البيع مباين لمعنى الشراء، فلا يصدق أحدهما على الآخر في المقام و إن كانا من الأضداد، إذ المقصود مقابلة العنوانين، لاختصاص كل منهما بحكم، هذا.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 358، الباب 10 من أبواب الخيار، و هو مضمون غير واحد من النصوص.

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 349، الباب 3 من أبواب الخيار، الحديث: 2

ص: 69

لصدق الموجب عليه (1)، و شراء (2) بالنسبة إلى الآخذ، لكونه قابلا عرفا.

أو كونها (3) معاطاة مصالحة [1]، لأنّها بمعنى التسالم على شي ء (4) [2]

______________________________

فالبائع هو من سبق الآخر بإعطاء سلعته كاللحم في المثال» و المشتري هو الآخذ للّحم و الدّافع للحنطة.

(1) أي: على من يعطي أوّلا. وجه صدقه عليه هو: كون الإنشاء الأوّل إيجابا للمعاملة، و الإنشاء الثاني قبولا لها عرفا، فالمدار في تشخيص الموجب على البادي بالإنشاء.

(2) معطوف على «بيعا» و ضمير «لكونه» راجع الى الآخذ.

(3) معطوف على «كونه بيعا و شراء» و تأنيث الضمير لرعاية الخبر.

و هذا إشارة إلى الاحتمال الثالث، و هو عدم كون هذا التعاطي بيعا أصلا، و إنما هو صلح معاطاتي. لأنّهما تسالما على مبادلة سلعة بسلعة أخرى، كمبادلة اللحم بالحنطة.

(4) يعني: و المفروض أنّهما تسالما على المبادلة المزبورة، فتكون هذه المعاطاة مصالحة معاطاتية.

______________________________

[1] لا يناسب ذكر هذا الاحتمال، لأنه في مقام تمييز البائع عن المشتري، و يكون ذلك أجنبيا عن كون المعاملة مصالحة. و كذا الحال في احتمال كونها معاوضة مستقلّة.

[2] بحيث يكون نفس التسالم منشأ. و أمّا إذا كان الإنشاء متعلقا بموضوع التسالم كالتبادل بين المالين، أو تمليك أحدهما مجانا فلا مجال لكونه صلحا، و إلّا كان جميع العقود صلحا.

فالفارق بين الصلح و غيره من العقود هو: أنّ الإنشاء إن تعلق بالتسالم على أمر كان صلحا، و إن تعلق بموضوع التسالم كالمبادلة بين المالين أو تمليك أحدهما مجّانا، أو رهن مال، أو تمليك منفعة بمال لم يكن صلحا. فاحتمال كون المعاملة في المقام

ص: 70

و لذا (1) حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه: «لك ما عندك و لي ما عندي» على الصلح (2) [1].

______________________________

(1) يعني: و لأجل كون التسالم على تبديل ماله بمال صاحبه صلحا حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه: «لك ما عندك و لي ما عندي» على الصلح، و هي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه قال: في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه، و لا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك و لي ما عندي. فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا و طابت أنفسهما» «1».

و تقريب الدلالة: أنّ كل واحد من الشريكين جاهل بقدر الطعام الموجود عند الآخر، فأرادا فسخ الشركة- في هذه الحال- بالصلح، بأن يكون لكل منهما ما عنده من الطعام بلا مطالبة الآخر أصلا، فأجاب عليه السّلام بأنّ قول أحدهما للآخر «لك ما عندك و لي ما عندي» إن كان مع رضاهما صحّ ذلك، و إلّا فلا.

و المقام من هذا القبيل، فإنّ مالك اللّحم يقول لصاحب الحنطة: «أعطيك اللحم و آخذ الحنطة» فيقبل، فهذا إنشاء التسالم على مبادلة إحدى السلعتين بالأخرى.

(2) متعلق ب «حملوا».

______________________________

صلحا معاطاتيا ضعيف غايته، ضرورة أنّه لم ينشأ فيه إلّا نفس المبادلة، دون التسالم عليها كما لا يخفى.

[1] لكنه حمل بلا شاهد، بل لعلّ حملها على الهبة المعوّضة أولى. و بعد التسليم نقول: بمغايرة مورد الرواية لما نحن فيه، إذ فيها قرينة على إرادة الصلح، لكون كل واحد من المالين مجهول المقدار، لقول السائل: «و لا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه» فإنّ الجهل بالمقدار ربما يكون قرينة على إرادة الصلح. بخلاف المقام، فلا قرينة فيه على إرادة الصلح منه.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 165، الباب 5 من أبواب أحكام الصلح، الحديث: 1

ص: 71

أو (1) كونها معاوضة مستقلة لا تدخل تحت العناوين المتعارفة؟ وجوه (2)، لا يخلو ثانيها عن قوّة، لصدق (3) تعريف «البائع» لغة و عرفا على الدافع أوّلا دون الآخر، و صدق (4) المشتري على الآخذ أوّلا دون الآخر، فتدبّر (5) [1].

______________________________

(1) معطوف على «كونه بيعا و شراء» و تأنيث الضمير باعتبار الخبر. و هذا هو الاحتمال الرابع في الصورتين الأخيرتين، و محصّله: كون هذا التعاطي معاملة مستقلة غير مندرجة في العقود المتعارفة المعهودة، لعدم انطباق مفهوم البيع و الشراء و الصلح عليها، فلا مناص من كونه عقدا مستقلّا يجب الوفاء به بمقتضى الآية الكريمة.

هذه محتملات هذا التعاطي في مقام الثبوت، و سيأتي استظهار الاحتمال الثاني.

(2) مبتدأ مؤخر، و خبره قوله: «ففي كونه».

(3) هذا وجه ترجيح الاحتمال الثاني و استظهاره في مقام الإثبات، و محصّله: أنّ تعريف البائع ب «من يعطي المثمن و يأخذ الثمن» صادق على البادي بدفع سلعته إلى الآخر، و تعريف المشتري ب «من يأخذ الشي ء أوّلا و يترك الآخر» صادق على المشتري، لأنّه يتسلّم السلعة ثم يدفع بدلها.

(4) بالجر معطوف على «صدق» في قوله: «لصدق البائع».

(5) لعلّه إشارة إلى: أنّه مبني على تسليم منع تقديم القبول على الإيجاب، و أنّ المتقدم هو الإيجاب لا محالة، لكنّه أخصّ من المدّعى، لاختصاصه بما إذا تقدّم أحد الإعطائين على الآخر. و أمّا إذا تقارنا فلا يتميّز البائع فيه عن المشتري بذلك، لفرض الاقتران.

أو إشارة إلى: عدم صحته في نفسه، و عدم كون مجرّد التقدم موجبا لصيرورة المتقدم موجبا و المتأخر قابلا، لعدم ندرة تقدم إعطاء الثمن على إعطاء المثمن.

______________________________

[1] اعلم أنّ عبارات المصنف قدّس سرّه في هذا التنبيه مضطربة، لظهور بعضها في كون الاختلاف و الشبهة في الموضوع و الإثبات، لا المفهوم و الثبوت، كقوله في أوّل التنبيه:

«مما تعارف جعله ثمنا كالدراهم و الدنانير .. إلخ» فإنّ التعارف يلائم كون الشبهة في

ص: 72

______________________________

المصداق، و أنّه المرجع في مقام الإثبات و هو المناسب لمقام المرافعة.

و ظهور بعضها الآخر في كون الشبهة مفهومية، و أنّ الاختلاف في مقام الثبوت، كقوله: «فالثمن ما قصدا قيامه مقام المثمن» و كقوله: «فيكون المدفوع بنية البدلية عن الدرهم و الدينار هو الثمن .. إلخ» و كقوله: «و لو لم يلاحظ إلّا كون أحدهما بدلا عن الآخر ..

إلخ» لأنّه تعريف لمفهوم الشراء، من دون نصب طريق لمعرفته في مقام الإثبات الذي هو مقصود المصنف قدّس سرّه من عقد هذا التنبيه، حيث قال: «الثالث تمييز البائع من المشتري .. إلخ».

كما أنّ الاحتمالات التي ذكرها بعد ذلك كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية لا المصداقية التي هي محلّ الكلام.

إلّا أن يقال: إنّ غرض المصنف قدّس سرّه في هذا التنبيه ليس مجرّد بيان الشبهة المصداقية التي يكون الاشتباه فيها من جهة الأمور الخارجية، لأنّ ذلك راجع إلى باب المرافعات، و لا ربط لها بالمقام الذي يكون الغرض منه معرفة البائع و المشتري لترتيب أحكامهما عليهما. بل غرضه بيان مقدار المفهوم سعة و ضيقا، و هذا هو الذي سمّاه المصنف في طهارته بالشك في الصدق. و هذا أيضا من الشبهة المفهومية، و الاحتمالات التي ذكرها كلّها راجعة إلى الشبهة المفهومية.

فالإنصاف أنّ عبارة المصنف قدّس سرّه في بيان كون الشبهة مفهومية أو مصداقية مضطربة.

و ما ذكرناه من أنّ غرضه رحمه اللّه بيان كون الشبهة مفهومية غير ظاهر أيضا بعد الإحالة إلى التعارف الذي هو طريق إلى معرفة المصداق.

و كيف كان فالحقّ أن يقال: إنّ البيع المسبّبي- الذي هو مقابل غيره من العقود كالصلح و الإجارة و نحوهما- عبارة عن المبادلة بين المالين من غير تقوّمها بالإيجاب و القبول، لعدم تعقل تقوم المسبّب بسببه، أو الأمر الاعتباري بموضوع اعتباره،

ص: 73

______________________________

لاستلزامه تقدم الشي ء على نفسه، فحقيقة البيع المسبّبي ليست إلّا مبادلة مال بمال، و لا يعقل تقييدها بسبب خاص.

و على هذا فالمبادلة لا تتوقف على سبب خاص من إيجاب و قبول، بل كما تحصل بهما كذلك تتحقق بقول أحدهما: «ملّكتك هذا الكتاب بدرهم» و الآخر:

«ملّكتك درهما بكتابك هذا». بل تتحقّق بإيجاب بدون قبول، كقول وكيل المتبايعين:

«بادلت بين المالين» و قول سيّد العبد و الأمة: «زوّجت عبدي فلانا أمتي فلانة» من دون حاجة إلى القبول.

فتوهّم اعتبار القبول و المطاوعة في البيع لا منشأ له إلّا شيوع إيقاع المعاملات بالإيجاب و القبول، أو الخلط بين البيع السببي و المسبّبي، و من المعلوم عدم صلاحية شي ء منهما للاعتبار.

فالمتحصل: أنّ حقيقة البيع- و هي المبادلة بين المالين- تحصل بالإيجاب و القبول تارة، و بالإيجاب المجرّد اخرى كالوكيل من الطرفين أو الوليّ عليهما، و ثالثة بالإيجابين كتمليك عين بمال صاحبه، و بالعكس، فلا تتقوم ماهية البيع بخصوص الإيجاب و القبول حتى يكون منشئ الأوّل موجبا و منشئ الثاني قابلا.

و على هذا فإذا تبادلا عروضين أو نقدين كان ذلك بيعا عرفيا أي «مبادلة بين مالين» من دون حاجة إلى صدق البائع على أحدهما و المشتري على الآخر.

و إن أبيت عن ذلك، فلا مانع من صدق البائع و المشتري على كل منهما، لأنّ كل واحد منهما باعتبار إعطاء سلعته بعوض موجب، و باعتبار أخذه سلعة الغير قابل. و عليه فلا حاجة في إطلاق البائع عليهما في قوله: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» إلى إعمال عناية التغليب.

نعم في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على البائع و المشتري بعنوانهما يراعى العلم الإجمالي، فتجري فيها الأصول العملية، إذ لا تميّز لهما في مقام الإثبات، إلّا

ص: 74

______________________________

إذا كان إعطاء أحدهما مقدّما على الآخر، فالمقدّم هو الإيجاب بناء على عدم جواز تقديم القبول عليه.

و بالجملة: فصدق البيع على تبديل العروضين أو النقدين مع تقارن الإعطائين غير خفي بعد صدق التبديل عليهما و إن لم يصدق على المتعاطيين عنوان البائع و المشتري، لما عرفت من عدم تقوّم البيع المسببي بالإيجاب و القبول حتى يكون أحدهما بائعا و الآخر مشتريا.

و إن أبيت عن ذلك بدعوى: عدم إمكان خلوّ البيع عن البائع و المشتري، فنقول:

إنّه معاملة مستقلة تشملها آية التجارة.

و منع كونه معاملة مستقلة كما في تقريرات المحقق النائيني قدّس سرّه بما لفظه: «لأنّ مع قصدهما التبديل لا يكون إلّا بيعا، فالحق كون أحدهما لا على التعيين بائعا و الآخر مشتريا من دون امتياز بينهما واقعا، فلا يترتّب على كل منهما الآثار الخاصة الثابتة للمشتري و البائع» «1».

لا يخلوا من غموض، لأنّ المفروض عدم كون مطلق التبديل عنده قدّس سرّه بيعا، بل التبديل المتعقب بالقبول، دون ما إذا كان الصادر من كلّ من المتعاطيين تبديلا، فإنّ التبديل حينئذ ليس متعقبا بالقبول، فلا يكون بيعا، هذا.

و أمّا ما أفاده قدّس سرّه من كون أحدهما لا على التعيين- حتى واقعا- بائعا و الآخر مشتريا، فيتوجّه عليه، أنّ الاتصاف بكون المعطي بائعا أو مشتريا منوط بتحقق منشأه، فإن أنشأ بإعطائه مبدليّة ماله فهو بائع، و إن أنشأ بدليّته فهو مشتر ثبوتا و إن لم نحرزه إثباتا، فكون أحدهما لا على التعيين حتى واقعا بائعا و الآخر مشتريا ممّا لم يظهر له وجه.

مضافا إلى لغويته، لعدم كونه موضوعا لأثر شرعي كما اعترف قدّس سرّه بذلك، حيث قال: فلا يترتب على كل منهما الآثار .. إلخ».

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 70

ص: 75

[التنبيه الرابع: أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين]
اشارة

الرابع (1): أنّ أصل المعاطاة- و هي إعطاء كلّ منهما الآخر ماله- يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه:

______________________________

التنبيه الرابع: أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين القسم الأوّل: المقابلة بين المالين في الملكية

(1) الغرض من عقد هذا الأمر بيان أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين و مقام الثبوت. كما كان التنبيه الثاني متكفلا لمقام الإثبات على ما سبق توضيحه هناك.

ثم إنّ أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين و إن كانت كثيرة [1]، إلّا أنّ المصنف قدّس سرّه ذكر منها وجوها أربعة، لاتّضاح أحكام غيرها منها.

الأوّل: أن يكون كل منهما قاصدا لتمليك ماله بمال الآخر، فالمقابلة تكون بين المالين لا بين التمليكين- كما هو مناط الوجه الآتي- فتكمل المعاملة بإعطاء البائع

______________________________

[1] لأنّ المبادلة إمّا بين المالين و امّا بين الفعلين و إمّا بين مال و فعل. ثم ما يكون بين المالين إمّا ملكيّة و إمّا إباحة و إمّا مختلف. و ما يكون بين الفعلين إمّا تمليك من الطرفين أو إباحة كذلك، أو تمليك و إباحة. و ما يكون بين مال و فعل فصوره أربع، لأنّ الفعل إمّا تمليك و إمّا إباحة. و المال إمّا يجعل عوضا في كونه ملكا أو في كونه مباحا فإنّ الجميع مما يصدق عليه العقد و يشمله عموم وجوب الوفاء بالعقود، فتأمّل جيّدا.

ص: 76

[القسم الأوّل: المقابلة بين المالين في الملكية]

أحدها: أن يقصد كلّ منهما تمليك ماله بمال الآخر، فيكون الآخر (1) في أخذه قابلا (2) و متملّكا بإزاء ما يدفعه، فلا يكون في دفعه (3) العوض إنشاء تمليك، بل دفع لما التزمه (4) على نفسه بإزاء ما تملّكه، فيكون الإيجاب و القبول بدفع العين الاولى و قبضها (5)، فدفع العين الثانية خارج عن حقيقة المعاطاة (6)

______________________________

و أخذ المشتري، لأنّ الأوّل تمليك و الثاني تملّك، فإعطاء المشتري خارج عن ركني المعاملة، و إنما هو وفاء بالعقد، لا إنشاء للقبول، و لا إنشاء للتمليك، بل تمت المعاملة بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر، و لذا لو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة، فإطلاق المعاطاة عليه مع عدم حصول التعاطي من الطرفين- كما هو ظاهر باب المفاعلة- إنّما هو في قبال المعاملة القولية، و ليس إطلاقها عليه من حيث تقوّمها بالعطاء من الطرفين.

و مثل هذا الإطلاق شائع في العقود كالمصالحة و نحوها، فإنّ إطلاقها ليس باعتبار اشتراك المبدأ بين الطرفين، ضرورة أنّ المبدء- و هو الصلح- قائم بواحد منهما، و القائم بالآخر هو قبول الصلح، و كذا في المزارعة و المساقاة و الإجارة و المضاربة و غيرها في كون المبدء فيها قائما بواحد لا باثنين.

(1) هذا الآخر هو المشتري، بناء على ما تقدم في التنبيه الثالث من كون البادي في الإعطاء بائعا، و المتأخر مشتريا.

(2) يعني: أنّ الفعل الواحد- و هو الأخذ- قابل لإنشاء التملّك و إن كان متضمنا للتمليك أيضا.

(3) يعني: فلا يكون إنشاء تمليك في دفع الآخر- و هو المشتري- العوض إلى الأوّل، بل يكون دفعه وفاء بالعقد الذي تمّ بالإعطاء و الأخذ، فإعطاء الأوّل إيجاب، و أخذ الثاني قبول.

(4) الأولى أن يقال: «لما ألزمه على نفسه، أو: لما التزم به» إلّا بإشراب معنى «ألزمه» في «التزمه» لوضوح أنّ باب الافتعال لازم غالب لا متعدّ.

(5) يعني: أنّ الإيجاب يكون بدفع العين الأولى، و القبول بقبضها.

(6) بل هو وفاء بالعقد لا إنشاء القبول.

ص: 77

فلو مات (1) الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة.

و بهذا الوجه (2) صحّحنا سابقا (3) عدم توقف المعاطاة على قبض كلا العوضين، فيكون إطلاق المعاطاة عليه (4) من حيث حصول المعاملة فيه بالعطاء دون القبول، لا من (5) حيث كونها متقومة بالعطاء من الطرفين [1].

______________________________

(1) هذا متفرع على تمامية المعاطاة بدفع العين الأولى و أخذها، و غرضه بيان ثمرة كفاية الإعطاء و الأخذ في تحقق المعاطاة، حيث يجب على ورثة الآخذ تسليم العوض إلى المعطي، وفاء بالعقد الذي تمّ بأخذ المورّث.

(2) أي: بحصول المعاطاة بالإعطاء و الأخذ الواحد- أو كون الإعطاء الثاني وفاء، لا جزءا للعقد و متمّما له- صحّحنا .. إلخ.

(3) يعني: في التنبيه الثاني، حيث قال: «فيكون إقباض أحد العوضين من مالكه تمليكا له بعوض ..».

(4) أي: على ما تقدم من حصول المعاطاة بإعطاء و أخذ، و عدم اعتبار إعطائين في تحققها.

(5) يعني: أنّ صدق المعاطاة ليس لأجل ظاهر هيئة «المفاعلة» من الاشتراك في المبدأ، كالتعاطي من الجانبين، بل لأجل مقابلة العقد الفعلي للقولي، سواء تحقق بإعطاءين أم بإعطاء واحد.

______________________________

[1] فجهة البحث في هذا التنبيه هي بيان أقسام المعاطاة المتصوّرة بحسب قصد المتعاطيين. و في الأمر الثاني هي بيان المبرز الخارجي لما قصده المتعاطيان. فجهة البحث في الأمر الرابع- و هي أنحاء المبرز- مغايرة للجهة المبحوث عنها في الأمر الثاني و هي بيان المبرز، لما عرفت. و للجهة المبحوث عنها في الأمر الأوّل التي هي تشخيص صغروية المعاطاة قبل اللزوم للبيع و عدمها، و للجهة المبحوث عنها في الأمر الثالث التي هي تمييز البائع عن المشتري.

ص: 78

و مثله (1) في هذا الإطلاق لفظ المصالحة و المساقاة و المزارعة و المؤاجرة و غيرها (2).

______________________________

(1) أي: و مثل صدق المعاطاة بإعطاء واحد- خلافا لظاهر باب المفاعلة- صدق المصالحة و المزارعة و المؤاجرة. حيث إنّ المبدأ في هذه العناوين قائم بالموجب، و شأن القابل مجرّد القبول. و قد تقدم توضيح قيام عناوين المعاملات بطرفين أو بأحدهما في إطلاقات البيع، فراجع «1».

(2) كالمضاربة.

______________________________

ثم إنّ مقتضى الترتيب تقديم الأمر الثالث على الأمر الثاني، لأنّه بعد تشخيص صغروية المعاطاة للبيع يقع الكلام في أنّ أيّ واحد من المتعاطيين بائع و أيّهما مشتر، و الأمر سهل.

و كيف كان فقد أورد على المصنف قدّس سرّه بما في تقريرات المحقق النائيني قدّس سرّه «من المنافاة بين ما أفاده هنا من تقوم المعاطاة بالعطاء من واحد و الأخذ من الآخر و كون دفع العين الثانية دائما خارجا عن حقيقة المعاطاة و وفاء بالعقد، و بين ما أفاده في التنبيه الثاني من كون المتيقن من مورد المعاطاة هو العطاء من الطرفين.

وجه التنافي واضح، و هو خروج العطاء الثاني عن حقيقة المعاطاة بناء على ما أفاده هنا، و دخوله فيها بناء على ما تقدم عنه في التنبيه الثاني، لكونه المتيقن من مورد المعاطاة» «2»، هذا.

و قد دفع هذا التنافي سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه من قول المقرّر: «فإنّ العقد و إن تمّ بالإقباض و القبض أوّلا، إلّا أنّ المتيقن منه قبال العقد اللفظي هو ما تعقّبه الإعطاء من الطرف الثاني أيضا. و إذن فلا تنافي بين الأمرين» «3».

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 269، 270

(2) منية الطالب، ج 1، ص 70

(3) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 176

ص: 79

و بهذا (1) الإطلاق يستعمل المعاطاة في الرهن و القرض و الهبة.

______________________________

(1) أي: بما ذكرناه- من أن إطلاق المعاطاة في البيع على الإعطاء الواحد يكون لأجل مقابلة البيع المعاطاتي للقولي، لا للتقوّم بطرفين- ظهر وجه إطلاق المعاطاة في عقود أخرى، و أنّه لا يتحقق من القابل إعطاء أصلا، بل يكون إنشاؤها بإعطاء الموجب خاصة، و ذلك كالرّهن و القرض و الهبة، فالرّهن المعاطاتي إعطاء العين المرهونة إلى المرتهن و قبض المرتهن لها، و هو لا يدفع شيئا الى الراهن.

و كذا القرض و الهبة، فإنّ الإقباض من طرف المقرض و الواهب، و ليس من المقترض و المتهب إلّا القبول بالأخذ.

______________________________

لكنه لا يخلو من غموض، لأنّ الأخذ من المتعاطي الآخر فعل يصدر منه بعنوان القبول، و هذا هو القائم مقام القبول اللفظي، لأنّ الأخذ بقصد التملك قبول عرفي يصلح لأن يكون متمّما للعقد المؤلّف من الإيجاب و القبول. و مع تمامية العقد لا يعقل أن يتصف الإعطاء الثاني بالقبول و المطاوعة، لكونه تحصيلا للحاصل، بل لا يصلح إعطاء الثاني لأن يكون تملّكا لما أعطاه الأوّل، لعدم مناسبة كون إعطائه تملكا لمال الغير، بل لا بد أن يكون إعطاؤه تمليكا لماله كإعطاء الأوّل.

فلعلّ الأولى في دفع المنافاة أن يقال: إنّ مراد الشيخ قدّس سرّه بتيقن التعاطي من الطرفين هو تيقنه من معنى المفاعلة، لأنّ المتيقن من موارد استعمال هذا الباب هو اشتراك المبدء بين الطرفين، فهذا الوزن ينادي باعتبار إنشاء المعاملة بالعطاء من الطرفين، فكما ينشأ الإيجاب بالإعطاء، فكذلك القبول، و أخذ الثاني متمّم للإيجاب و ليس إنشاء للقبول، هذا.

لكن قد تقدّم سابقا أنّ المعاطاة لم ترد في دليل من آية أو غيرها حتى يؤخذ بالمتيقن من معناها، بل المراد هو المعاملة المجرّدة عن الصيغة المتداولة بين الناس.

فالمرجع في إنشائها هو العرف، و من المعلوم أنّ الأخذ عندهم قبول عرفي، فيتم به العقد المركّب من الإيجاب و القبول من دون حاجة إلى إعطاء الطرف الآخر.

ص: 80

و ربّما (1) يستعمل في المعاملة الحاصلة بالفعل و لو لم يكن عطاء، و في صحته تأمّل (2)

[القسم الثاني: المقابلة بين التمليكين]

ثانيها (3): أن يقصد كلّ منهما تمليك الآخر ماله بإزاء تمليك ماله إيّاه،

______________________________

(1) غرضه بيان صورة ثالثة لإنشاء المعاملة، و هي ما ليس فيها إعطاء حتى من طرف واحد كما تقدم ذكره في التنبيه الثاني، فالمعاملة الفعلية تتحقق بإيصال العوضين إلى الجانبين من دون إعطاء و أخذ أصلا، و مثّل له هناك بأخذ البقل و الماء من آنية السّقاء، و وضع العوض في المكان المعدّ له.

(2) أي: في صحّة التعامل بالإيصال- دون الإعطاء- تأمّل، لأنّ المتيقن من الدليل اللبّي على صحّة المعاطاة في البيع هو إنشاء المعاملة بإعطاء الطرفين، و لا أقلّ من كونه بإعطاء أحدهما، و أمّا مجرّد الإيصال فلا. و يكفي الشك في قيام السيرة عليه في الحكم بصحته. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل أعني به قصدهما التمليك، و هو يتحقق خارجا تارة بإعطاءين، و أخرى بإعطاء واحد، و ثالثة بإيصال العوضين.

القسم الثاني: المقابلة بين التمليكين

(3) محصل هذا القسم هو: أن يقصد كلّ من المتعاطيين تمليك ماله للآخر بإزاء تمليك الآخر ماله إيّاه، بحيث تكون المعاطاة متقومة بالعطاء من الطرفين كما هو ظاهر باب المفاعلة من اشتراك المبدء بين الطرفين، فالمقابلة على هذا تكون بين التمليكين، و لازمه عدم تحقق المعاطاة إن مات الثاني قبل تمليك ماله للأوّل.

و الفرق بين هذا القسم و سابقه واضح، إذ المفروض في القسم الأوّل قصد أحدهما تمليك ماله بعوض، و قبول الآخر له، و هو البيع المعهود المتعارف. و لذا يقع البحث في كفاية إنشائه بإعطاء أحدهما و أخذ الآخر، أو اعتبار التعاطي فيه.

بل احتمل إنشاؤه بإيصال العوضين. و لكن المفروض في هذا القسم الثاني قصد كلا المتعاطيين التمليك، بأن يكون تمليك الأوّل مشروطا بتمليك الثاني، بحيث لو لم يملّك

ص: 81

فيكون تمليك بإزاء تمليك (1)، فالمقابلة بين التمليكين (2) لا الملكين (3)، و المعاملة (4) متقومة بالعطاء من الطرفين [1]

______________________________

الثاني لانتفى تمليك الأوّل، فكأنّ مقاولتهما هكذا: «ملّكتك هذا الكتاب على أن تملّكني الدينار» فوقوع هذه المعاملة منوط بصدور التمليك من كليهما، فلا تنعقد المعاطاة بتمليك أحدهما. هذا بيان الموضوع، و سيأتي حكم هذا القسم.

(1) لا تمليك مال بإزاء مال، كما كان في الصورة الأولى.

(2) و هما فعلان صادران من المتعاطيين.

(3) كما هو حال البيوع المتعارفة، للفرق بين «مبادلة مال بمال» و «تمليك مال بإزاء تمليك مال».

(4) لكون المقابلة بين فعلين، فلا معاملة بدونهما.

______________________________

[1] أورد عليه بما حاصله: «أنّ المعاملة تتحقق بإعطاء أحدهما و قبول الآخر بأخذه من دون حاجة الى إعطاء الثاني، حيث إنّ الأخذ يوجب صيرورة الأوّل مالكا للتمليك على عهدة الآخذ، فيجب عليه الوفاء، فإعطاؤه حينئذ يتصف بالوفاء الخارج عن إنشاء المعاملة المتحققة بالإعطاء و الأخذ.

و بالجملة: فيكون القسم الثاني و هو التمليك بإزاء التمليك كالأوّل- و هو تمليك مال بمال- في تحققه بعطاء واحد، و عدم الحاجة إلى العطاء الثاني، فلو مات القابل المتحقق قبوله بالأخذ قبل إعطائه مات بعد تمامية المعاملة في كلتا الصورتين من دون تفاوت بينهما.

و لا يندفع هذا الإيراد بما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من: «أنّ التعاوض و التبادل بين شيئين لا بدّ من أن يكون بلحاظ أمر، فإذا كان عين عوضا عن عين فلا بد من أن تكون في الملكية. و إذا كان عمل عوضا عن عمل فلا بد من أن يكون في الاستحقاق.

و ربما يكون التعاوض بين شيئين بلحاظ ذاتهما، لقبولهما بذاتهما للإضافة كالملكية،

ص: 82

و لو مات (1) الثاني قبل الدفع لم يتحقق المعاطاة.

و هذا (2) بعيد (3) عن معنى البيع و قريب (4) إلى الهبة المعوّضة، لكون كلّ من

______________________________

(1) هذا متفرع على تقوم المعاملة بالعطاء من الجانبين.

(2) هذا شروع في بيان حكم القسم الثاني- أي التمليك بإزاء التمليك- و قد احتمل المصنف فيها وجوها ثلاثة بعد استبعاد كونه بيعا، أوّلها: الهبة المعوّضة، ثانيها:

المصالحة المعاطاتية، ثالثتها: المعاوضة المستقلة.

(3) وجه بعد كونه بيعا واضح، لما تقدّم في أوّل الكتاب من أنه يعتبر في مفهومه أن يكون المبيع من الأعيان، و من المعلوم أنّ التمليك من الأفعال لا الأعيان، فلا يقع مبيعا.

(4) وجه قربه إلى الهبة المعوّضة هو خلوّ كلّ من المالين عن العوض، لأنّ المقابلة وقعت- على الفرض- بين التمليكين اللّذين هما فعلان، لا بين الملكين، فتكون هذه المعاطاة كالهبة المعوّضة.

______________________________

فإنّها مضافة بذاتها لا بإضافة أخرى، فمرجع التمليك بإزاء التمليك إلى جعل إضافة الملكية بإزاء إضافة الملكية، و مقتضى التضايف بين العوضيّة و المعوّضية حصولهما معا و عدم انفكاك أحد المتضايفين عن الآخر» «1».

و فيه، أنّ التضايف في المقام ملحوظ بين التمليكين اللذين هما فعلان للمتعاملين، فاتصاف التمليك الصادر من الموجب بالمعوّضية ملازم لاتصاف التمليك الآخر بالعوضية، و صيرورته على عهدة القابل، لأنّه بالأخذ صار التمليك على عهدته فيجب عليه الوفاء به، من دون أن يكون إعطاؤه دخيلا في حصول المعاطاة و التضايف.

فدعوى عدم الحاجة الى العطائين و تحقق المعاطاة بين التمليكين بالإعطاء الواحد في غاية القرب. فالإيراد وارد على كلام المصنف قدّس سرّه فتأمّل جيّدا.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 39

ص: 83

المالين خاليا عن العوض (1).

لكن (2) إجراء حكم الهبة المعوّضة عليه مشكل، إذ (3) لو لم يملّكه الثاني هنا (4) لم يتحقق التمليك من الأوّل، لأنّه (5) إنّما ملّكه بإزاء تمليكه، فما لم يتحقق تمليك (6) الثاني لم يتحقق تمليكه.

إلّا (7) أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل

______________________________

(1) المقصود بالعوض هنا هو المال، و إلّا فالعوض بالمعنى الأعمّ منه و من الفعل- و هو التمليك- موجود حسب الفرض.

(2) غرضه تضعيف احتمال كون «التمليك بإزاء التمليك» هبة معوّضة، كبعد كونه بيعا، و ذلك للفرق بين المقام و بين الهبة، و محصّل الفرق: أنّه جعل أحد التمليكين- في هذا القسم- بإزاء الآخر، فالإيجاب المنشأ به التمليك المعوّض ينشأ به التمليك العوض أيضا، فيتم العقد بقبول الآخر من دون حاجة إلى إنشاء التمليك العوض بالاستقلال، لعدم انفكاك إنشاء التمليك المعوّض عن إنشاء التمليك العوض.

و هذا بخلاف التمليك في الهبة المعوّضة، فإنّ إيجاب الواهب يتضمن إنشاء تمليكه فقط، و قبول المتّهب يتمّ العقد المحقّق للتمليك المعوّض. و أمّا التمليك العوض فلا يتحقق إلّا بإنشاء آخر من المتهب، و قبول من الواهب. و على هذا فينفك أحد التمليكين في الهبة المعوضة عن الآخر.

نعم في المقام إن لوحظ تمليك الآخر على نحو الداعي- لا على وجه المقابلة- انفكّ أحد التمليكين عن الآخر، و سيأتي توضيحه.

(3) هذا تقريب الاشكال، و قد عرفته آنفا.

(4) يعني: في القسم الثاني، و هو كون التمليك بإزاء التمليك.

(5) أي: لأنّ الأوّل إنّما ملّك الثاني بإزاء تمليك الثاني الأوّل.

(6) المصدر مضاف إلى الفاعل، يعني: إذا لم يملّك الثاني الأوّل لم يتحقق تملّك الثاني، و وجه عدم تحقق تملّكه هو: أنّ تمليك الأوّل كان مشروطا بتمليك الثاني، و إذ ليس فليس.

(7) ظاهره الاستدراك على قوله: «مشكل» و إمكان إدراج «التمليك بإزاء

ص: 84

على نحو الداعي (1) لا العوض، فلا يقدح (2) تخلفه.

______________________________

التمليك» في الهبة المعوضة. لكن مقصوده قدّس سرّه تصحيح هذا القسم الثاني بتغييره موضوعا و حكما. و بيانه: أنّ المقابلة بين التمليكين تكون على نحو الاشتراط، أي يقصد كلّ منهما تمليك ماله للآخر بشرط تمليك الآخر، فلو تخلّف الثاني و لم يملّك ماله لم يكن للأوّل تمليك أيضا. و مثله ليس هبة معوّضة، إذ تمليك الواهب غير معلّق على شي ء، و لذا يكون تخلّف المتهب موجبا لثبوت الخيار للواهب، لا لبطلان أصل هبته.

و ما أفاده بقوله: «إلّا أن يكون» تغيير في موضوع المقابلة بين التمليكين، و ذلك بأن يكون تمليك الأوّل غير مشروط بتمليك الثاني، بل يكون قصده تمليك ماله للثاني مطلقا، و داعيه عليه هو رجاء تمليك الثاني ماله له. و من المعلوم أنّ تخلّف الداعي غير قادح في صحة المعاملة، كما إذا باع داره بداعي علاج ولده المريض، فعوفي الولد بعد البيع و قبل صرف الثمن في المعالجة، فإنّ البيع صحيح و لا خيار للبائع أصلا، و ذلك لعدم العبرة بتخلّف الداعي إلى المعاملة.

و المقام من هذا القبيل، فيندرج «التمليك بإزاء التمليك» في قسم آخر من أقسام الهبة المعوّضة، و هو ما إذا لم يشترط فيها العوض أصلا، و إنّما يهب المتهب شيئا للواهب تداركا لإحسانه، بحيث لو لم يهب لم يطلب الواهب عوضا من المتهب.

و قد اتضح من هذا: إلغاء شرطية تمليك الثاني لتمليك الأوّل، و جعله داعيا له.

كما أنّ الهبة المعوضة المنطبقة على هذا الفرض مغايرة للهبة المعوّضة التي استشكل فيها بقوله: «مشكل». وجه المغايرة: أنّ العوض هنا غير مشروط أصلا، بل يعطى تداركا لإحسان الواهب.

(1) يعني: فيحتاج إلى إنشاء ابتدائي من الآخذ، و لا يكفي في إنشائه التمليك المعوّض.

(2) لخروج الدّاعي عن حاقّ التمليك الأوّل، و من المعلوم عدم قدح تخلف الداعي في الصحة.

ص: 85

فالأولى أن يقال (1): إنّها مصالحة [1] و تسالم على أمر معيّن. أو معاوضة مستقلّة.

[القسم الثالث: المقابلة بين إباحة أحدهما و تمليك الآخر]

ثالثها (2): أن يقصد الأوّل إباحة ماله بعوض، فيقبل الآخر بأخذه إيّاه،

______________________________

(1) بعد أن تعذّر تصحيح «التمليك بإزاء التمليك» بنحو الهبة المعوّضة- لفرض كون المقابلة بين التمليكين بالاشتراط لا الداعوية- تصدّى قدّس سرّه لتصحيحها بأحد وجهين آخرين:

الأوّل: أن يكون من الصلح المعاطاتي، لأنّهما تسالما على إنشاء تمليك بإزاء تمليك.

الثاني: أن يكون معاوضة مستقلة، يشملها إطلاق «التجارة عن تراض» فتكون صحيحة.

القسم الثالث: المقابلة بين إباحة أحدهما و تمليك الآخر

(2) محصل هذا الوجه الثالث هو الإباحة بالعوض، في مقابل الإباحة مجّانا، فيكون الفعل الصادر من الموجب إباحة التصرف في ماله مع العوض، لا بدونه، و الصادر من القابل قبول الإباحة بتمليك ماله للموجب المبيح، فالموجب يتملّك العوض، و القابل لا يملك ما أباحه الموجب له، بل يباح له التصرف فيه مع بقاء رقبته على ملك الموجب. فهذا التعاطي بمنزلة الإباحة القولية، كأن يقول: «أبحت لك التصرف في الكتاب الفلاني بدرهم، بمعنى أن يكون الدرهم ملكا لي».

و بالجملة: فيظهر من عبارة المصنف قدّس سرّه اعتبار أمرين في هذا القسم.

أحدهما: كون الإباحة مقابلة بالمال، لا بالتمليك الذي هو فعل الآخر، كما يشهد به قوله: «أبحت لك كذا بدرهم».

______________________________

[1] إن كان التسالم موردا للإنشاء، و إلّا فلا وجه لكونه صلحا.

ص: 86

فيكون الصادر من الأوّل الإباحة بالعوض، و من (1) الثاني بقبوله لها التمليك (2)، كما لو (3) صرّح بقوله: أبحت لك كذا بدرهم.

[القسم الرابع: المقابلة بين الإباحتين]

رابعها (4): أن يقصد كلّ منهما الإباحة بإزاء إباحة أخرى، فيكون (5) إباحة بإزاء إباحة، أو (6) إباحة

______________________________

و ثانيهما: كون القبول أخذ الطرف المقابل لما دفعه الأوّل إليه على وجه الإباحة، فيكون إعطاء الدرهم إلى المبيح وفاء بالمعاملة، لا لتقوم هذه الإباحة المعوّضة بإعطاءين.

(1) معطوف على «من الأوّل» يعني: فيكون الفعل الصادر من المباح له قبول تلك الإباحة في قبال تمليك الدرهم للمبيح.

و على هذا فالإباحة تكون تارة مع العوض، و أخرى بدونه. و على الأوّل فإمّا أن يكون العوض إباحة شي ء و إما أن يكون تمليكه. و مفروض المتن هذه الصورة الأخيرة، لا الإباحة مجّانا، و لا بعوض الإباحة.

(2) أي: التمليك الضمني، فإنّ المدلول المطابقي للقبول هو قبول الإباحة، و مدلوله التضمني هو التمليك، إذ المفروض كون إباحة المبيح بإزاء تمليك المباح له.

(3) يعني: لا فرق في مشروعية «الإباحة بعوض التمليك» بين إنشائها باللفظ و بالفعل، كما هو المفروض.

القسم الرابع: المقابلة بين الإباحتين

(4) ملخص هذا الوجه هو كون المقابلة بين الإباحتين- اللتين هما من الأفعال- كالتمليكين في القسم الثاني، فلا يتحقق الملكيّة حينئذ أصلا، بل يباح لكل منهما التصرف في المال الذي أخذه من الآخر.

(5) يعني: فيكون إعطاء كلّ منهما إباحة بشرط إباحة الآخر بنحو المقابلة.

(6) يعني: أو يكون إعطاء كلّ منهما إباحة بداعي إباحة الآخر.

ص: 87

لداعي إباحة (1)، على ما تقدّم نظيره في الوجه الثاني (2) من إمكان تصوّره على نحو الداعي و على نحو العوضية.

و كيف كان (3) فالإشكال في حكم القسمين الأخيرين [1] على (4) فرض قصد المتعاطيين لهما.

______________________________

(1) فلا تقابل حينئذ بين الإباحتين، لكون إباحة الطرف الآخر داعية إلى إباحة الأوّل، لا عوضا عنها، كما تقدم نظير ذلك في الوجه الثاني، و هو قصد كل منهما تمليك ماله للآخر، حيث قال: «إلّا أن يكون تمليك الآخر له ملحوظا عند تمليك الأوّل على نحو الداعي لا العوض».

(2) حيث قال: «أن يقصد كل منهما تمليك الآخر بإزاء تمليك ماله إيّاه».

(3) يعني: سواء أمكن تصوّر الإباحة بداعي الإباحة، أم كانت المقابلة بين الإباحتين بنحو العوضية.

و هذا شروع في مقام الإثبات، و هو بيان حكم الأقسام الأربعة المتقدمة، و حيث إنّه قدّس سرّه أفاد حكم القسمين الأوّلين عند بيانهما، فلذا خصّ البحث من هنا إلى آخر التنبيه بالقسمين الأخيرين صحّة و فسادا، و قد ذكر في المتن إشكالين، أحدهما مشترك بين كلا القسمين، و الآخر مختص بالرابع، و سيأتي بيانهما إن شاء اللّه تعالى.

(4) مقصوده قدّس سرّه أنّ أصل وقوع المعاطاة بقصد الإباحة لا يخلو من بعد و إن كان محتملا ثبوتا، إذ المعاطاة المعهودة بين العقلاء و المتشرعة هي ما يقصد بها الملك كالبيع بالصيغة. و عليه فبيان حكم هذين القسمين مبنيّ على فرض قصد الإباحة، كما يستفاد من بعض كلمات القدماء من كون مقصودهما إباحة التصرف لا التمليك.

______________________________

[1] أمّا القسم الأوّل- و هو تمليك كل منهما ماله بمال الآخر- فلا إشكال فيه أصلا، لأنّه مصداق حقيقي للبيع، فيشمله جميع ما دلّ على صحة البيع و نفوذه.

و أمّا القسم الثاني- و هو كون التمليك بإزاء التمليك، بحيث تكون المقابلة بين

ص: 88

______________________________

الفعلين لا المالين- فقد استشكل فيه بوجهين:

أحدهما: ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه من: «أنّه ليس التمليك بالمعنى المصدري مالا، بل المال هو الحاصل من المصدر، و ليس هذا الفعل إلّا آلة لحصول اسم المصدر، فلا يمكن أن يقابل بالمال. فمقابلة التمليك بالمال باطلة، فضلا عن مقابلة التمليك بالتمليك، لأنّ التمليك ليس بمال. و فرق بين البيع بإزاء التمليك و بيع المال على أن يخيط له ثوبا، فإن الفعل في الأوّل آليّ، بخلاف الثاني فإنّه استقلالي يبذل بإزائه المال» «1».

و محصل ما أفاده يرجع إلى منع مالية التمليك الموجب لبطلان المعاملة المتقومة بمقابلة المالين، فمع عدم مالية أحد العوضين- فضلا عن كليهما- لا تصحّ المعاوضة، لفقدان ركنها، هذا.

و قد يورد عليه تارة: بأنّ التمليك مال، لأنّ مناط المالية المستكشف عنه بتنافس العقلاء عليه موجود في التمليك، ضرورة أن السلطنة على مال بالتمليك و نحوه ممّا يرغب فيه العقلاء و يتنافسون عليه. فوزان التمليك وزان الخياطة و النجارة و نحوهما من الأفعال التي تعدّ أموالا عند العقلاء، خصوصا بعد اتحاد المصدر و اسمه ذاتا و اختلافهما اعتبارا، فتدبّر.

و أخرى- بعد تسليم عدم ماليّته- أنّه حقّ قابل للانتقال و أخذ العوض بإزائه، و من المعلوم كفاية مثل هذا الحق في صحة المعاملة، فإنّ سلطنة المالك على نقل تمليك ماله إلى الغير حقّ للمالك. و قد تقدّم سابقا: أن الأصل في الحقوق هو جواز نقلها و إسقاطها. فتوهم كون السلطنة حكما شرعيا غير قابل للنقل فاسد.

لكنك خبير بما فيهما. إذ في الأوّل: أنّ المال هو ما يتنافس العقلاء عليه، لكن تطبيقه على تمليك التمليك ممنوع، فإنّ رغبة العقلاء في أمر ليست بلا مناط، فالعين شخصية كانت أم كلّية بأقسامها مال بلحاظ منفعتها، و كذا الحال في المنافع المتجددة

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 71

ص: 89

______________________________

و بعض الحقوق. و أمّا التمليك فلا سبيل لاستكشاف ماليّته. عندهم بعد الاعتراف بعدم تعارف هذا النوع من المعاملة. و قياسه بالأعمال المحترمة كالخياطة و النجارة لا يخلو من تأمّل، حيث إنّ ماليّتها بلحاظ الأثر المطلوب من إعمال صنعة و تغيير هيئة في القماش و الخشب. و هذا بخلاف التمليك، فإنّ ما يرغب فيه نفس العين الخارجية ذات المنفعة كالدار و الدّكّان، و أمّا التسليط على التسليط فلم يعلم مقابلته بالمال، و لا أقل من الشك في ماليته عرفا، و هو كاف في منع عدم شمول أدلة الإمضاء له.

و في الثاني: أن المالك و إن كان مسلّطا على ماله بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» إلّا أنّ المسلّط عليه هو نفس المال، فلا بدّ من إحراز ماليّة شي ء حتى يتحقق موضوع السلطان، و حيث إنّ مالية التمليك مشكوكة لم يتجه التمسك بالقاعدة لتجويز المقابلة بين تمليكين.

و أمّا ما أفيد من كون السلطنة حقّا للمالك قابلا للنقل إلى الغير فممنوع، بالفرق بين هذه السلطنة و بين الحق، لما تقدم في مباحث الحقوق من أنّ الحق القابل للنقل إلى الغير هو ما كان المجعول فيه تفويض الأمر إلى شخص كما في حق القصاص و حق الشفعة و التحجير. و أمّا سلطنة المالك على ماله فمتعلقها نفس المال، و أمّا سلطنته على التسليط على المال فليست من شؤون المال حتى يشمله إطلاق الحديث.

و لا فرق فيما ذكرناه بين محتملات الحديث من كونه مشرّعا مطلقا أو للمسببات خاصة، و كونه غير مشرّع أصلا، بأن كان مدلوله استقلال المالك في أنحاء التصرفات في المال. و وجه عدم الفرق ما ذكرناه من أن موضوع السلطنة المجعولة نفس المال، لا تفويض تمليكه إلى الغير.

و عليه فالإنصاف تمامية ما أفاده المحقق النائيني في المنع عن مشروعية تمليك التمليك، هذا.

ثانيهما: ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بقوله: «و منها: أنّ أصل المقابلة بين

ص: 90

______________________________

التمليكين فيه غموض و خفاء، فإنّ التمليك بالإعطاء حال تعلقه بمتعلقه ملحوظ آلي، و في جعل نفسه معوّضا يحتاج إلى لحاظ استقلالي، و لا يعقل اجتماع اللحاظين المتباينين في ملحوظ واحد، فلا بدّ من أن يكون هذه المعاملة في ضمن معاملة أخرى كالصلح على التمليك بإزاء التمليك، فيستحق كل منهما التمليك من الآخر بإزاء تمليك نفسه» «1».

توضيحه: أنّ الفعل كاللفظ ملحوظ آلة لمعناه الإنشائي أو الإخباري، فالإعطاء إن كان ملحوظا آلة لإنشاء تمليك متعلقة فكيف يكون ملحوظا استقلالا كما هو المفروض؟ إذ التمليك المعوّض ملحوظ استقلالا. و الجمع بين هذين اللحاظين في ملحوظ واحد جمع بين المتنافيين، فالتمليك بإزاء التمليك غير معقول.

فلا بد من تصحيح هذه المعاملة مثلا بجعلها في ضمن صلح مثله، كما إذا صالحه على أن يملّكه تمليك داره على أن يملّكه الآخر تمليك بستانه مثلا حتّى يكون التمليك ملحوظا استقلاليا، هذا.

لكنك خبير بأنّ التمليك في المقام ليس إلّا ملحوظا بالاستقلال، لأنّ المعوض- و هو التمليك- مقصود استقلالي، كما إذا كان المطلوب نقل إضافة الملكية، فإن نقلها مقصود بالاستقلال، و لا تناله يد اللحاظ الآلي أصلا حتى يلزم اجتماع اللحاظ الاستقلالي و الآلي اللّذين هما متباينان.

و ببيان أوضح: تارة يكون العوضان إضافتي الملكيتين، فيتعلق الإنشاء بنقل إضافة الملكية من الطرفين و تبديلها، و هذا هو المبادلة بين المالين المفسّر بها البيع في المصباح. و أخرى: يكون العوضان نقل التمليك بإزاء مثله من الطرف الآخر، بحيث يكون كلّ منهما ناقلا للتمليك إلى الآخر، لا ناقلا لنفس المال.

فإذا قال: «ملّكتك الدار بالبستان» كان المنشأ نقل إضافة ملكية الدار بإزاء ملكية

______________________________

(1): حاشية المكاسب: ج 1، ص 39

ص: 91

______________________________

البستان. و هذا هو أوّل الوجوه المذكورة في كلام المصنف قدّس سرّه و هو المسمّى بالبيع، و إذا قال: «ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» كان ممّا نحن فيه، و هو أجنبي عن تمليك نفس المال، فإذا أريد إنشاؤه باللفظ فلا محيص من أن يقال:

«ملّكتك تمليك داري بأن تملّكني تمليك بستانك» و لا يصح أن يقال: «ملّكتك داري ببستانك».

و عليه فإعطاء العين بقصد أن يملّك تمليكها، لا بلحاظ كونه آلة لإنشاء ملكية متعلّقه حتى يكون هذا اللّحاظ آليّا، و لحاظ نفس المال استقلاليا، بل ليس إلّا لحاظ استقلالي، هذا.

و أمّا دفع إشكال اجتماع اللحاظين في الفعل بما في كلام بعض الأجلة من «أنّه جار في الألفاظ الدالة بالذات أو الوضع على المعاني، حيث إنّها آلات لإبراز معانيها، و مع لحاظها آلة لا يعقل لحاظها استقلالا. و أمّا الأفعال فليست بذاتها أو بالمواضعة آلات لشي ء، فيمكن لحاظ الإعطاء الخارجي المقصود به التمليك مستقلا» فلا يخلو من غموض، لأنّ الأفعال أيضا تكون آلة لإبراز المقاصد، غاية الأمر أنّ مبرزيّتها لها إنّما تكون بالقرينة كالمقاولة المتقدمة على المعاملة، فمجرد عدم دلالتها ذاتا أو بالوضع على المعاني لا يكون فارقا بين الألفاظ و بينها. و إنكار دلالة الأفعال على المعاني و إبرازها عنها مساوق لإنكار المعاطاة في جميع المعاملات.

فتلخص مما ذكرناه: أنّه لا مانع من ناحية اجتماع اللحاظ الآلي و الاستقلالي عن إمكان التمليك بإزاء التمليك.

ثم إنّ هذه المعاملة- أعني بها التمليك بإزاء التمليك- قد يقال: إنّها بيع، حيث إنّ تعريفه- و هو المبادلة بين المالين- صادق عليها، لما مرّ من أنّ التمليك بنفسه من الأموال. لكن صدق مفهوم البيع عليها مبنيّ على عدم اعتبار كون المبيع عينا، و هو في حيّز المنع كما تقدّم في محلّه.

ص: 92

و منشأ الإشكال أوّلا: الإشكال (1) في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية المتصرف بأن يقول: «أبحت لك كلّ تصرف» من دون أن يملّكه العين.

______________________________

(1) هذا هو الإشكال المشترك بين القسمين الثالث و الرابع، و محصّله: عدم الدليل على مشروعية إباحة جميع التصرفات حتّى ما يتوقف منها على ملكيّة المتصرّف كالوقف و العتق و البيع، بأن يقول: «أبحت لك كل تصرف، مع بقاء العين على ملكي».

و منشأ الإشكال: أنّ الدليل على جواز الإباحة قاعدة السلطنة، و هي ليست مشرّعة، و إنّما تدل على صحة كل تصرّف ثبت جوازه شرعا بدليل آخر، فإنّ الناس مسلّطون على أموالهم لا على أحكام أموالهم. و لمّا كان توقف صحة البيع و العتق و نحوهما على الملك حكما شرعيا- لا من شؤون سلطنة المالك على ماله- لم يكن للمالك أن يبيح للغير كل تصرّف في ماله حتّى ما يناط بملكية المتصرّف، و لا تكفي الإباحة في نفوذه و صحته. و لا فرق في هذا الإشكال بين كون الإباحة معوّضة و خالية عن العوض، و كان العوض تمليكا أم إباحة.

______________________________

كما أنّها ليست بهبة معوّضة، لأنّ العوض فيها يكون بنحو الاشتراط، لا المقابلة.

بخلاف المقام، فإنّ العوض فيه يكون على وجه المقابلة.

مضافا إلى: أنّه يعتبر في الهبة أن يكون الموهوب عينا. و هو مفقود في المقام، إذ المفروض كون التعاوض بين التمليكين، و هما أجنبيان عن العين.

كما أنّها ليست بإجارة أيضا، لعدم كون التسليط على التمليك منفعة عرفا، و لعدم كون توقيته بوقت معيّن، مع أنّ تعيين الأجل ممّا لا بدّ منه في الإجارة.

فالظاهر أنّ هذه المعاملة- على تقدير صحتها- معاوضة خاصة يشملها دليل التجارة، و لا يجري فيها الأحكام المختصة بالبيع كخيار المجلس و الغرر بناء على اختصاصه بالبيع، و اللّه العالم.

ص: 93

و ثانيا (1): الإشكال في صحة الإباحة بالعوض، الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة و تمليك (2) فنقول:

أمّا إباحة (3) جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك فالظاهر أنّها لا تجوز، إذ التصرف الموقوف على الملك لا يسوغ لغير المالك بمجرّد إذن المالك، فإنّ إذن المالك ليس مشرّعا، و إنما يمضى فيما يجوز شرعا. فإذا (4) كان بيع الإنسان مال غيره لنفسه- بأن يملك الثمن مع خروج المبيع عن ملك غيره- غير (5) معقول كما صرّح به العلّامة في القواعد (6)

______________________________

(1) هذا هو الإشكال الثاني المختصّ بالقسم الثالث، و محصّله: أنّ العقد المؤلّف من «إباحة و تمليك» ليس من المعاوضات المعهودة حتى تشملها أدلة الإمضاء مثل الأمر بالوفاء بالعقود و التجارة عن تراض.

(2) الإباحة من المبيح، و التمليك من المباح له.

(3) هذا شروع في تحقيق الإشكال الأوّل، و أنّه هل يمكن التفصّي منه أم لا؟

و قد أوضحه المصنف قدّس سرّه أوّلا، ثم تصدّى لتصحيح إباحة جميع التصرفات بوجوه ثلاثة سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

(4) غرضه قدّس سرّه الاستشهاد بكلام العلّامة في القواعد على أنّ سلطنة المالك على ماله مقصورة على التصرفات المشروعة بنفسها. و لمّا كان البيع «مبادلة مال بمال» و هي تتوقف على دخول كلّ من العوضين في ملك الآخر، فلذا لا يصحّ أن يبيح المالك لغيره بيع ملكه من دون أن يصل الثمن إلى مالك المعوّض. وجه عدم الصحة:

عدم ثبوت سلطنة المالك على إباحة بيع ماله لغيره، فلا يكون مجرّد إذنه للغير مصحّحا لكلّ تصرّف منه.

(5) خبر قوله: «كان بيع الإنسان».

(6) حيث قال قدّس سرّه: «لو قال: بع عبدك من فلان، على أنّ عليّ خمسمائة، فباعه بهذا الشرط بطل، لوجوب الثمن بأجمعه على المشتري، فليس له أن يملك العين و الثمن على غيره. بخلاف: أعتق عبدك و عليّ خمسمائة، أو: طلّق امرأتك و عليّ مائة، لأنّه

ص: 94

فكيف (1) يجوز للمالك أن يأذن فيه (2)؟

نعم (3) يصح ذلك (4) بأحد وجهين كلاهما في المقام مفقود.

أحدهما (5): أن يقصد المبيح بقوله: «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك»

______________________________

عوض في مقابلة فكّ» «1».

(1) جزاء قوله: «فإذا كان».

(2) أي: في بيع ملك نفسه مع عدم وصول العوض إليه، لفرض دخول العوض في ملك المأذون.

(3) استدراك على قوله: «فكيف يجوز للمالك» و غرضه إبداء الفرق بين إباحة جميع التصرفات و بين إذن المالك لغيره في بيع ماله، و محصّله: أنّ إذن المالك لغيره في البيع يمكن تصحيحه بأحد وجوه ثلاثة، بخلاف إباحة جميع التصرفات، إذ لا يمكن تصحيحها بها كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

(4) يعني: يصحّ البيع مع إذن المالك.

(5) هذا الوجه الأوّل محكي عن بعض الأساطين، و هو مأخوذ ممّا ذكروه في تصحيح وقوع العتق عن الأمر بالعتق في قوله: «أعتق عبدك عنّي» فيراد تصحيح الإباحة المطلقة بتنظيره بالأمر بالعتق، و محصله: أنّ قول المبيح: «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إمّا أن يقصد به إنشاء التوكيل، و إمّا أن يقصد به التمليك بلسان الإباحة.

و التوكيل إمّا أن يكون في بيع المال ثم تملكه بهبة، و إمّا أن يكون بتملّك المال أوّلا ثم بيعه، فالصور ثلاث:

الأولى: أن يقصد المبيح بقوله: «أبحت ..» إنشاء التوكيل للمباح له في أمرين:

أحدهما: أن يبيع مال الموكّل المبيح. ثانيهما: نقل الثمن إلى نفسه بالهبة، يعني يهب المباح له الثمن لنفسه وكالة عن المبيح، فإذا فعل ذلك كان الثمن ملكا له.

الثانية: أن يقصد المبيح صيرورة المباح له وكيلا في تمليك المال لنفسه، ثم بيعه،

______________________________

(1): قواعد الأحكام، ص 58 (الطبعة الحجرية).

ص: 95

أن ينشأ توكيلا له [إنشاء توكيل] في بيع ماله، ثم (1) نقل الثمن إلى نفسه بالهبة، أو (2) في نقله أوّلا إلى نفسه ثم بيعه. أو تمليكا (3) له (4) بنفسه هذه الإباحة، فيكون (5) إنشاء تمليك له، و يكون بيع (6) المخاطب بمنزلة قبوله

______________________________

و لا ريب حينئذ في وقوع البيع لنفسه و دخول الثمن في ملكه، لفرض كون المعوّض ملكه قبل البيع.

الثالثة: أن يقصد المبيح بقوله: «أبحت ..» إنشاء تمليك المال للمباح له كناية، فليس مقصوده التوكيل أصلا، بل يكون هذا الإنشاء تمليكا ابتدائيا، لكنّه لا بالصراحة بل بالكناية، من جهة ذكر اللازم و هو إباحة بيع المال لنفس الآخذ المباح له، و إرادة الملزوم و هو التمليك.

هذا توضيح ما أفاده في الوجه الأوّل. و شي ء من صور المسألة لا ينطبق على ما نحن فيه و هو إباحة جميع التصرفات، لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذا إشارة إلى الصورة الأولى من الصور الثلاث المتقدمة، و قد عرفت أنّه يتضمن توكيلين: أحدهما في البيع، و الثاني في الهبة.

(2) معطوف على «في بيع ماله» و هذا إشارة إلى الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(3) معطوف على «توكيلا» و هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من الصور الثلاث.

(4) أي: تمليكا للمباح له بنفس هذا الإنشاء من دون توكيل في البين أصلا، فهذا تمليك كنائي، لا صريح و لا ظاهر.

(5) يعني: فيكون قوله: «أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك» إنشاء تمليك للمباح له، و يكون بيع المباح له إنشاء التملّك.

(6) بل يتحقق القبول بنفسه الأخذ، من دون حاجة إلى بيع المال في حصول الملكية، إذ بعد فرض كون العبارة المذكورة كناية عن التمليك- لا المبادلة- كان أخذ المباح له تملّكا، و لا يتوقف تملكه و قبوله على بيعه.

إلّا أن يفرض كلام المصنف قدّس سرّه فيما إذا لم يتسلّم المباح له المال كي يتحقق قبوله

ص: 96

كما صرّح في التذكرة (1) بأنّ «قول الرجل لمالك العبد: أعتق عبدك عنّي بكذا استدعاء لتمليكه، و إعتاق المولى عنه جواب لذلك الاستدعاء، فيحصل النقل و الانتقال بهذا الاستدعاء و الجواب،

______________________________

بالأخذ، و حينئذ فيكون إنشاء قبول الإباحة بنفس إنشاء بيع المال.

(1) قال في التذكرة بعد بيان الشروط المعتبرة في صيغة البيع ما لفظه: «فروع الأوّل: إنّما يفتقر إلى الإيجاب و القبول فيما ليس الضمني من البيوع. و أمّا الضمني- كأعتق عبدك عنّي بكذا- فيكفي فيه الالتماس و الجواب، و لا تعتبر الصيغة المتقدمة إجماعا» «1».

و اعتمد صاحب الجواهر على هذه الملكية الآنيّة في تصحيح الصورة الأولى من صور المعاطاة و هي إباحة كل منهما التصرف للآخر على جهة المعاوضة «من غير فرق بين أنواع التصرفات، ما توقف منها على الملك و غيره. و على معنى إباحة إيقاعها للمباح له لا للمبيح، فتجري عليها أحكام الإباحة المجانية من اللزوم بالتلف، و أحكام المعاوضة من تعيين العوض بالمسمّى، و أحكام: أعتق عبدك عنّي، و: بع هذا المال لك، و نحوه مما يفيد الملك الضمني بوقوع التصرف بناء على جريانه على القواعد، ضرورة انحلال الإباحة بالعوض على الوجه المزبور إلى ذلك كلّه، فليس لها حكم جديد مستنكر» «2».

و استدل على صحته في موضع آخر بقوله: «و للجمع بين ما دلّ على صحة هذا التصرف في هذا المال المفروض إباحته، و بين ما دلّ على: أن لا عتق إلّا في ملك، قدّر الملك ضمنا نحو ما قدّروه في: أعتق عبدك عنّي، و انعتاق العمودين على المشتري لهما، و نحو ذلك. و لا حاجة إلى شاهد لهذا الجمع، بل هو مقتضى الدليلين، ضرورة أنّ غاية ما دلّ على اعتبار الملك اقتضاء عدم وقوع التصرّف المزبور على غير المملوك

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 225

ص: 97

و يقدّر وقوعه (1) قبل العتق آنا ما، فيكون هذا بيعا ضمنيا لا يحتاج إلى الشروط المقرّرة لعقد البيع».

و لا شك (2) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس الإذن في نقل المال إلى نفسه أوّلا (3)، و لا في نقل الثمن إليه ثانيا (4)، و لا قصد (5) التمليك بالإباحة المذكورة، و لا قصد (6) المخاطب التملّك عند البيع

______________________________

مثلا، فيكفي فيه التقدّم الذاتي الذي هو كتقدّم العلة على المعلول ..» «1».

(1) أي: وقوع النقل و الانتقال.

(2) غرضه بيان فقدان الوجه الأوّل الذي أفاده بقوله: «أحدهما: أن يقصد المبيح بقوله: أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك .. إلخ» في المقام.

و محصله: إنكار الإذن و التوكيل ههنا، لعدم كونه مقصودا للمتعاطيين، و من المعلوم تقوّم الإذن و التوكيل بالقصد، فليس قول المبيح: «أبحت» من صغريات الإذن و التوكيل بكلتا صورتيه المتقدّمتين.

(3) هذا نفي التوكيل في التملّك حتى تقع التصرفات في ملك المباح له، و هي الصورة الثانية من الصور الثلاث.

(4) هذا نفي التوكيل في البيع عن المالك المبيح، ثم التوكيل في تملّك الثمن بالهبة، و هي الصورة الأولى من الصور الثلاث.

(5) معطوف على «ليس الإذن» و غرضه أجنبية المقام عن الصورة الثالثة، و هي إنشاء التمليك بلفظ الإباحة كناية. و وجه عدم تحقق هذا التمليك الكنائي في المقام هو:

توقف التمليك على القصد و الاعتبار، فمع قصد الإباحة المعوّضة- أو المجرّدة عن العوض- لا يبقى مجال للحمل على إنشاء التمليك، لفرض كون المالك مبيحا للعين لا مملّكا لها.

(6) هذا متمّم لنفي التمليك الكنائي الذي أفاده بقوله: «و لا قصد» و حاصله: أنّ

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 232

ص: 98

حتى يتحقق تمليك ضمنيّ مقصود للمتكلم و المخاطب كما (1) كان مقصودا- و لو إجمالا (2)- في مسألة «أعتق عبدك عنّي» و لذا (3) عدّ العامة و الخاصة من الأصوليين دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي عرّفوها بأنّها دلالة مقصودة للمتكلم يتوقف صحة الكلام عقلا أو شرعا عليه (4)، فمثّلوا للعقلي بقوله تعالى وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ و للشرعي بهذا المثال (5)، و من المعلوم بحكم الفرض (6) أنّ المقصود فيما نحن فيه ليس إلّا مجرد الإباحة.

______________________________

حمل الإباحة هنا على التمليك ممنوع من جهتين: الأولى: عدم قصد المبيح تمليك ماله.

الثانية: عدم قصد المخاطب التملّك، فلو فرض قصد المبيح للتمليك امتنع تحققه من جهة انتفاء قصد التملك من المخاطب.

(1) يعني: أنّ قصد التمليك و إن لم يتوقف على قصده بالاستقلال، إلّا أنّ قصده ضمنا ممّا لا بدّ منه، كما كان هذا التمليك الضمني مقصودا في الوكالة المتحققة بقول الآمر لمالك العبد: «أعتق عبدك عنّي» حيث يقصد الآمر الموكّل تملّك العبد، و يقصد المأمور تمليك عبد نفسه للآمر، ثم عتقه عنه. و المفروض في المقام انتفاء قصد التمليك و التملّك.

(2) المراد بالقصد الإجمالي هو: أنّ الآمر لو التفت إلى توقف العتق الصحيح على تملّكه للعبد المعتق لوكّل سيّده في التمليك.

(3) أي: و لأجل القصد الإجمالي عدّوا دلالة هذا الكلام على التمليك من دلالة الاقتضاء التي هي مقصودة للمتكلّم، و تتوقف صحة الكلام عقلا عليها كسؤال القرية و نحوها من الجمادات، أو شرعا كالمثال المذكور، و هو قوله: «أعتق عبدك عنّي» و من المعلوم أنّ قصد التمليك و لو إجمالا مفقود في المقام، إذ ليس قصد المبيح غير الإباحة، فدلالة الاقتضاء هنا مفقودة.

(4) أي: على دلالة الاقتضاء، و الأولى تأنيث الضمير.

(5) أي: بقول الآمر: «أعتق عبدك عنّي».

(6) إذ المفروض كون الوجهين الأخيرين- و هما الإباحة في مقابل المال،

ص: 99

الثاني (1): أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرّد

______________________________

و الإباحة في مقابل الإباحة- في قبال الوجهين الأوّلين، فالمقصود بالأخيرين منحصر في الإباحة من دون قصد التمليك أصلا.

فتحصل: أنّ الوجه الأوّل- من إنشاء التوكيل أو إنشاء التمليك كناية- غير جار في المقام، و لا يندفع به الإشكال.

(1) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح بيع المباح له للمال الذي أبيح له، و محصله:

قيام دليل شرعي على حصول الملك للمباح له- تعبّدا- بمجرد الإباحة، لكن لمّا لم يكن المبيح قاصدا للتمليك- لقصده الإباحة المحضة- فلا بدّ من الالتزام بالملكية الآنيّة، إمّا في حقّ المبيح، أو المباح له. و عليه يمكن تقريب هذا الدليل الشرعي الدال على مالكية المباح له بأحد وجهين:

الأوّل: أن يكون المال باقيا على ملك المبيح إلى زمان إرادة التصرف المنوط بالملك كالبيع، فيحكم بانتقال المباح إلى ملك المباح له- شرعا- في آن إرادة التصرف، و نتيجته وقوع البيع في ملكه لا في ملك المبيح.

الثاني: أن يكون المال باقيا على ملك المبيح حتى في الآن الذي يريد المباح له بيعه، فيكون البيع تصرّفا في ملك المبيح، لعدم انتقاله إلى المباح له بعد، فإذا باعه دلّ الدليل على انتقال الثمن الى ملك المبيح- تحقيقا لمفهوم المعاوضة من دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عنه- آنا ما، ثم ينتقل إلى المباح له. و من المعلوم أنّ قيام الدليل التعبدي على هذه الملكية الآنية في المقام غير مستبعد، لوجود نظيره في الشرع، كما ذكروه في مسألة دخول العمودين آنا ما في ملك المشتري، و انعتاقهما عليه قهرا.

و اعلم أنّ الفارق بين هذا الوجه الثاني المبني على الملكية الآنيّة- بكلا تقريبية- و بين الوجه الأوّل المتقدم بقوله: «أحدهما أن يقصد المبيح بقوله .. إلخ» هو: أنّ الملكية في ذلك الوجه مقصودة إمّا بالتوكيل و إما بالإنشاء الكنائي. بخلافه في هذا الوجه الثاني، إذ الملكية غير مقصودة أصلا، و إنّما تحصل الملكيّة قهرا بجعل

ص: 100

الإباحة، فيكون (1) كاشفا عن ثبوت الملك له عند إرادة البيع آنا ما، فيقع البيع في ملكه (2). أو يدلّ (3) دليل شرعي على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع، فيكون ذلك (4) شبه دخول العمودين في ملك الشخص آنا ما لا يقبل (5) غير العتق.

فإنه (6) حينئذ يقال بالملك المقدّر آنا ما، للجمع بين الأدلة (7).

______________________________

الشارع و إن لم يقصدها المبيح أصلا.

(1) يعني: فيكون الدليل الشرعي كاشفا عن الملكية الآنامّائيّة تعبّدا في آن إرادة البيع.

(2) أي: في ملك المباح له، لدخول المال في ملكه بإرادة البيع.

(3) معطوف على «يدلّ» و هذا هو التقريب الثاني لقيام الدليل التبعدي.

(4) يعني: فيكون دخول ثمن المبيع المباح في ملك المباح له نظير انعتاق العمودين بعد دخولهما آنا ما في ملك المشتري.

و الظاهر أنّ مقصود المصنف قدّس سرّه تنظير قيام الدليل التعبدي على الملكية الآنية بمسألة ملكية المشتري للعمودين آنا ما، سواء أريد توجيه دخول المباح في ملك المباح له آنا ما بإرادة البيع، أم أريد توجيه مالكية المبيح للثمن آنا ما بعد البيع و خروجه عن ملكه.

(5) صفة لقوله: «ملك شخص» يعني: أنّ هذا الملك التطرّقي لا يترتب عليه شي ء من آثار الملك، و إنّما يترتب عليه العتق القهري.

(6) الضمير للشأن، و مقصوده قدّس سرّه تطبيق هذا التوجيه الثاني- أي الملكية الآنيّة التعبدية الجارية في مسألة بيع مال الغير لنفسه- على المقام و هو إباحة جميع التصرفات، سواء أ كانت بعوض إباحة أم بعوض مال.

(7) الظاهر أنّ المراد بها هو دليل صحة الشراء، و دليل إناطة العتق بالملك، و دليل عدم ملكية العمودين.

ص: 101

و هذا الوجه (1) مفقود فيما نحن فيه،

______________________________

(1) الأولى إضافة «أيضا» إليه، بأن يقال: «و هذا الوجه أيضا مفقود».

و كيف كان فالمراد بهذا الوجه هو الوجه الثاني المذكور بقوله: «الثاني أن يدلّ دليل شرعي .. إلخ» الذي كان متضمنا للملكية الآنيّة بنحوين.

و حاصل ما أفاده في عدم جريان الملكية الآنامّائيّة في المقام هو: أنّ مجرّد احتمال دلالة الدليل الشرعي غير كاف في الالتزام بها، بل لا بد من الدليل- في مقام الإثبات- على صحة إباحة جميع التصرفات حتى ما يتوقف منها على الملك، و المفروض عدم الظفر بهذا الدليل بعد.

فإن قلت: إنّ الدليل على الصحة هو حديث السلطنة، لاقتضاء إطلاق سلطنة المالك على أمواله حلية كل تصرف تكليفا، و نفوذه وضعا. و عليه يجوز له أن يبيح ماله للغير إباحة مطلقة.

و حيث إنّه ثبتت صحة هذه الإباحة جرى استكشاف الملكية الآنيّة للمبيح أو للمباح له، هذا.

قلت: نعم، و إن اقتضى إطلاق السلطنة صحة هذه الإباحة المطلقة، لكن لا مجال للأخذ بهذا الإطلاق، لوجود المعارض، و هو القواعد المسلّمة الأخرى، مثل توقف انتقال الثمن إلى شخص على خروج المثمن عن ملكه، و توقف صحة العتق و البيع على الملك. و وجه المعارضة واضح، فإنّ إطلاق السلطنة يقضي بصحة بيع المباح له و دخول الثمن في ملكه، و قاعدة «لا بيع إلّا في ملك» تقضي ببطلان بيع غير الملك، فلا بد من تقييد إطلاق السلطنة بأن يقال: بصحة إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

هذا تقريب رفع اليد عن عموم قاعدة السلطنة، و لكنه سيأتي بعد أسطر حكومة تلك القواعد على حديث السلطنة، فانتظر.

ص: 102

إذ (1) المفروض أنّه لم يدلّ دليل بالخصوص على صحة هذه الإباحة (2). و إثبات (3) صحته بعموم مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» يتوقف على عدم مخالفة مؤدّاها (4) لقواعد أخر (5) مثل توقف انتقال الثمن إلى الشخص على كون المثمن مالا له (6)، و توقف صحة العتق على الملك، و صحة (7) الوطي على التحليل بصيغة خاصّة (8)

______________________________

(1) تعليل للفقدان، و قد عرفت توضيحه.

(2) أي: إباحة كل تصرّف حتى ما يتوقف على الملك.

(3) مبتدأ خبره: «يتوقف» و مقصوده قصور قاعدة السلطنة عن إثبات مشروعية الإباحة المطلقة، لوجود المعارض، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «ان قلت ..

قلت».

(4) الأولى تذكير الضمير، لرجوعه الى «عموم مثل» إلّا أن يراد قاعدة السلطنة.

(5) كالقواعد الثلاث المذكورة في المتن، فيرفع اليد عن الإطلاق بمقدار منافاته له.

(6) تحقيقا لمفهوم البيع الذي هو من المعاوضات.

(7) معطوف على «صحة» أي: و توقف صحة الوطي على التحليل كما هو المشهور، و يدلّ عليه بعض النصوص. و هذه قاعدة ثالثة معارضة لإطلاق سلطنة المالك. و وجه المعارضة واضح، لاقتضاء الإطلاق جواز تحليل الأمة بكل ما يدلّ عليه من لفظ صريح أو كناية أو مجاز أو إشارة أو فعل كإرسالها إلى دار المحلّل له مع قصد التحليل. و قاعدة توقف التحليل على إنشائه بصيغة خاصة تقتضي حرمة الوطي بغير الصيغة الخاصة، و لا مناص من تقييد إطلاق السلطنة بهذه القاعدة.

و المقام كذلك.

(8) قال في الجواهر: «أما الصيغة فلا خلاف في اعتبارها فيه، بل الإجماع بقسميه

ص: 103

لا بمجرّد (1) الإذن في مطلق التصرف.

و لأجل ما ذكرنا (2) صرّح المشهور- بل قيل لم يوجد خلاف في- «أنّه لو دفع إلى غيره مالا، و قال: اشتر به لنفسك طعاما، من غير قصد الإذن في

______________________________

عليه، فلا يكفي التراضي مطلقا. و صيغته هي: أحللت لك وطئها، أو: جعلتك في حلّ من وطئها» «1».

(1) يعني: لا يحصل التحليل بالإذن في مطلق التصرف، كما لا يصح العتق و البيع به. ففي المقام لا يجوز لغير المالك البيع و العتق اعتمادا على إباحة المالك المطلقة.

(2) من كون البيع تبديل طرفي الإضافة، و دخول كل من العوضين في كيس من خرج عنه الآخر صرّح المشهور بأنّ المالك لو دفع مالا إلى غيره، و قال له:

«اشتر به لنفسك طعاما» لم يصح هذا الشراء، لبقاء المال على ملك الدافع مع عدم وصول عوضه- و هو الطعام- إليه. نعم لو قصد أحد الأمور الثلاثة صحّ و جاز للآخذ التصرف في الطعام:

الأوّل: أن يقصد الدافع الإذن في أن يقترض الآخذ المال لنفسه قبل شراء الطعام، فيتملّك المال بالقرض، فيشتري بمال نفسه.

الثاني: أن يقصد الدافع الإذن للآخذ في أن يقترض الطعام بعد أن اشتراه من مال الدافع.

الثالث: أن يأذن الدافع للآخذ في أن يشتري طعاما في ذمة نفسه، ثم يؤدّي دينه بمال الدافع، فيتملّك الآخذ الطعام بالشراء لنفسه، و يصير مديونا للدافع بماله الذي أدّى به دينه.

فبناء على كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة يصحّ دفع المال و شراء الطعام به، لفرض تحقق المعاوضة الحقيقية حينئذ.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 30، ص 298

ص: 104

اقتراض المال قبل الشراء (1) أو اقتراض الطعام (2) أو استيفاء الدّين منه بعد الشراء (3) [1] لم يصح» (4) كما صرّح به (5) في مواضع (6) من القواعد.

______________________________

(1) لأنّه باقتراض المال يصير مالكا له، فيشتري بمال نفسه، فتتحقق المعاوضة الحقيقية حينئذ، لدخول المثمن في كيسه بدل المال الذي اقترضه.

(2) هذا الطريق الثاني لتصحيح دفع المال و شراء الطعام، و هو في صورة بقاء المال على ملك الدافع، و دخول المثمن في ملكه، غايته أنّه بعد البيع يقترض الطعام عن الدافع، فيملك الطعام.

(3) يعني: أنّه يشتري الطعام على ذمته، ثم يوفي دينه من مال الدافع، و الأولى تبديل الاستيفاء بالأداء، أو الوفاء، أو نحوهما كما لا يخفى.

و لعلّ المصنف اعتمد على نقل كلام المحقق الثاني قدّس سرّه في استثناء هذه الموارد الثلاثة، حيث قال: «إلّا أن يعلم بقرينة أنّه يريد قضاء طعامه بالدراهم و إن كانت من غير الجنس. أو يريد قرضه إيّاها، أو شراءه لمن عليه الطعام و استيفاؤه بعد الشراء.

و يكون التعبير بكون الشراء له- أي للآخذ- آئلا إلى ذلك» «1».

(4) جواب «لو» في قوله: «لو دفع إلى غيره».

(5) أي: بعدم الصحة.

(6) منها: كلامه في هذه المسألة، حيث قال: «و كذا لو دفع إليه مالا و أمره بشراء طعام له لم يصح الشراء و لا تتعيّن له بالقبض، أمّا لو قال: اشتر به طعاما و اقبضه لي، ثم أقبضه لنفسك صح الشراء. و في القبض قولان» «2».

و منها: في مسألة الأمر بعتق عبد الغير، و قد تقدم في (ص 94).

______________________________

[1] أورد السيد قدّس سرّه عليه بأنّ إشكال الشراء للنفس بمال الغير يجري في أداء

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 400

(2) قواعد الأحكام، ص 57 (الطبعة الحجرية).

ص: 105

و علّله (1) في بعضها:

______________________________

(1) يعني: و علّل العلّامة في بعض مواضع القواعد عدم صحة دفع المال- بدون قصد أحد الأمور الثلاثة- بأنّه لا يعقل .. إلخ. و لا يخفى أنّ الموجود في عبارة القواعد «البطلان» لا عدم المعقولية، و لعلّ المصنف ظفر بعدم المعقولية في موضع آخر من

______________________________

الدين بمال الغير، فهما مشتركان إشكالا و دفعا «1».

لكن أجاب المحقق الأصفهاني عنه بالفرق، حيث إنّ محذور الشراء بمال الغير هو امتناع المعاوضة الحقيقية، المقتضية لدخول كل من العوضين في ملك الآخر، فلا يعقل تملك المشتري للطعام مع خروج العوض عن ملك المستدعي و الآمر.

بخلاف أداء الدين، فإنّه ليس فيه معاوضة أصلا بين عينين، لاستقرار الكلي في ذمة المديون، و لا مانع من أدائه بملك الغير بإذنه.

نعم لو قيل بوقوع الفرد طرفا للمعاملة بمجرّد انطباق الكلي عليه، أو أنّ نفس وفاء الدين مبادلة، فيلزم دخول العوض في ملك شخص و خروج المعوّض عن ملك شخص آخر لكان الأداء بمال الغير كالشراء به في الامتناع.

لكنه ممنوع. أمّا الأوّل فلاستحالة خروج المعاملة من حدّ إلى حدّ آخر، فحيث كان الثمن كلّيا مستقرا في الذمة امتنع أن ينقلب إلى العين الشخصية التي يحصل بها الأداء.

و أمّا الثاني فلأنّ الوفاء ليس بنفسه معاملة و مبادلة، بل محض تطبيق الكلّي على فرده.

بل و كذا الأمر في الوفاء بغير الجنس، فإنّ مرجعه إلى رفع اليد عن الخصوصية و القناعة بأصل المالية، فتدبّر «2».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 80

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 42

ص: 106

بأنه لا يعقل شراء شي ء لنفسه بمال الغير (1)». و هو (2) كذلك، فإنّ (3) مقتضى مفهوم المعاوضة و المبادلة دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه، و إلّا (4) لم يكن عوضا و بدلا [1].

و لما ذكرنا (5) حكم الشيخ و غيره بأنّ الهبة الخالية عن الصيغة تفيد إباحة

______________________________

كلمات العلّامة، أو نقل بالمعنى.

(1) هذا التعليل يرجع إلى كون الإشكال في صحة التصرف المتوقف على الملك الذي أبيح له من ناحية المالك عقليا، لأنّ مفهوم المعاوضة بناء على ما في المتن- من كون مقتضاه دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه- عدم تعقّل تحقق المعاوضة حينئذ.

(2) يعني: أنّ تعليل البطلان بعدم المعقولية- الذي أفاده العلّامة- متين.

(3) هذا وجه متانة التعليل.

(4) أي: و إن لم يدخل العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه لم تتحقق المعاوضة أصلا.

(5) يعني: ما ذكره قبل أسطر في نفي مشروعية إباحة جميع التصرفات، حيث قال: «إذ المفروض أنّه لم يدل دليل شرعي بالخصوص على صحة هذه الإباحة العامّة».

و على هذا فمقصود المصنف تأييد إشكاله- في إباحة جميع التصرفات- بنقل عبارتين، إحداهما من شيخ الطائفة، و الأخرى من الشهيد، فالشيخ قدّس سرّه أفتى في الهبة المعاطاتية بإباحة التصرف غير المتوقف على الملك- كالوطي- في العين الموهوبة إذا تجرّدت الهبة عن الصيغة، و ذلك لأنّ جواز الوطي متوقف على الملك، و المفروض أنّ

______________________________

[1] سيأتي في التعليقة أنّ البيع متقوّم بالتعاوض بين المالين، مع الغضّ عن المالكين، بل مع عدم مالك في البين، كبيع الوقف العام بمثله، فراجع.

ص: 107

التصرف، لكن لا يجوز وطي الجارية، مع أنّ الإباحة المتحققة من الواهب يعمّ جميع التصرفات (1).

و عرفت (2) أيضا: أنّ الشهيد في الحواشي لم يجوّز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة و ثمن الهدي، و لا وطي الجارية.

مع (3) أنّ مقصود المتعاطيين الإباحة المطلقة.

و دعوى (4) «أنّ الملك التقديري

______________________________

الهبة المعاطاتية لا تفيد الملك، بل إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

(1) لكن لا عبرة بهذه الإباحة المالكية العامة لمطلق التصرفات، بعد عدم الدليل على مشروعيتها.

(2) مقتضى السياق أن يكون معطوفا على قوله: «حكم الشيخ» يعني: كما حكم الشيخ بحرمة ..، فكذا منع الشهيد من إخراج المأخوذ بالمعاطاة، و لكن لا يستقيم العطف.

و كيف كان فقد حكى المصنف قدّس سرّه كلام الشهيد في مواضع، منها: في الأقوال في المعاطاة، قال: «مع أن المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد: المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة و كوطي الجارية» «1».

و منها: في التنبيه الأوّل من تنبيهات المعاطاة، و قد تقدم في (ص 28).

(3) يعني: أنّ المتعاطيين و إن قصدا الإباحة المطلقة الشاملة للتصرف المنوط بالملك، لكنّها غير ممضاة شرعا بالنسبة إلى ما يتوقف على الملك.

(4) الغرض من هذه الدّعوى الإشكال على قوله: «و هذا الوجه مفقود فيما نحن فيه، إذ المفروض أنّه لم يدلّ دليل بالخصوص .. إلخ». و قد عرفت فيما نقلناه من كلام الجواهر أنّه قد استدلّ بهذه الدّعوى على مشروعية الإباحة المطلقة.

و محصّل الدعوى: أنّ الجميع بين الأدلة- المقتضي لتقدير الملك آنا ما-

______________________________

(1): لاحظ الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 256

ص: 108

هنا (1) أيضا (2) لا يتوقف على دلالة دليل خاص (3)، بل يكفي الدلالة بمجرّد الجمع بين عموم: الناس مسلّطون على أموالهم، الدالّ على جواز هذه الإباحة المطلقة، و بين أدلّة توقف مثل العتق و البيع على الملك. نظير الجمع بين الأدلة في الملك التقديري» مدفوعة (4)

______________________________

لا يتوقف على وجود دليل خاص يدلّ على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة، بل يكفي في الالتزام بالملك التقديري كونه مقتضى الجمع بين عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الذي هو دليل جواز هذه الإباحة المطلقة، و بين أدلة توقف مثل العتق و البيع على الملك، نظير الجمع بين الأدلة بالملك التقديري في مثل «أعتق عبدك عنّي».

(1) أي: في مورد البحث و هو الإباحة المطلقة.

(2) يعني: كما في صورة الأمر بعتق عبد الغير عن نفس الآمر، فإنّ دلالة الاقتضاء فيها كافية في لزوم الجمع بين الأدلة المقتضي للملك التقديري.

(3) في قبال ما يقتضيه الجمع بين الأدلة، فالمراد بالدليل الخاص ما يكون مضمونه تحقق الملك التقديري في بعض الموارد، كالمقام و هو إباحة أنحاء التصرفات.

(4) خبر «دعوى» و دفع لها، و محصله: عدم صلاحية عموم دليل السلطنة لأن يكون دليلا على جواز الإباحة المزبورة، كما أشار إليه في الوجه الثاني بقوله: «و إثبات صحته بعموم مثل الناس مسلّطون على أموالهم يتوقف على .. إلخ».

وجه عدم صلاحيّته هو: أنّ دليل السلطنة ليس مشرّعا بحيث يكون دليلا على جواز تصرف شكّ في مشروعيته، لعدم دليل عليها، أو مخصّصا لعموم ما دلّ على عدم مشروعيته، إذ لو كان كذلك لكان المناسب أن يقال: «الناس مسلّطون على أحكامهم» لا «على أموالهم».

و على هذا فالقاعدة السلطنة بصدد بيان عدم كون المالك محجورا عن التصرفات المباحة شرعا للمالك في ماله، فإذا لم يكن مشرّعا فلا يثبت التنافي بينه و بين الأدلة الدالة على توقف البيع و نحوه على الملك حتى يجمع بينهما بالملك

ص: 109

بأنّ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» إنّما يدلّ على تسلّط الناس على أموالهم لا على أحكامهم، فمقتضاه إمضاء الشارع لإباحة المالك كل تصرف جائز شرعا [1].

______________________________

التقديري.

و إن شئت فقل: إنّ أدلة توقف البيع و نحوه على الملك حاكمة على عموم السلطنة.

بتقريب: أنّ موضوع السلطنة المجعولة للمالك هو التصرفات المحرز جوازها بأدلتها، فكأنّه قيل: «كل تصرف في الملك ثبت مشروعيّته كان المالك مسلّطا عليه» هذا من جهة.

و من جهة أخرى يدل مثل قوله عليه السّلام: «لا عتق إلّا في ملك» على توقف صحة العتق بإنشائه من المالك مباشرة أو تسبيبا، و أنّه ليس من التصرفات الجائزة للمالك أن يبيح للغير عتق عبده لنفسه، فتخرج حينئذ إباحة عتق غير المالك عن موضوع دليل السلطنة.

و لا يبقى مجال للجمع بينه و بين سائر الأدلة بالملك التقديري، لتوقف الجمع بين الدليلين المتعارضين على تحقق موضوع كلّ واحد منهما، و من المعلوم أنّ الدليل الحاكم يتصرّف في موضوع الدليل المحكوم و يبيّن حدوده، و لا يستقرّ التعارض حتى تترتب أحكامه عليه، من الجمع و التساقط أو التخيير، و غير ذلك.

و نظير المقام حكومة دليل عدم جواز عتق عبد الغير على عموم وجوب

______________________________

[1] استظهار دلالة قاعدة السلطنة هنا على نفوذ تصرفات المالك في كل ما هو جائز بذاته ينافي استظهار مشرّعيتها للمسبّبات كالبيع و الصلح و الإجارة و نحوها من المعاملات، على ما سبق في أدلة مملّكية المعاطاة و أدلة لزومها، و قد ذكرنا هناك اختلاف كلمات المصنف قدّس سرّه في مدلول القاعدة، فلاحظ.

ص: 110

فالإباحة و إن كانت مطلقة، إلّا أنّه لا يباح بتلك الإباحة المطلقة إلّا ما هو جائز بذاته (1) في الشريعة، و من المعلوم أنّ بيع الإنسان مال غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل (2) و النقل (3) الدال (4) على لزوم دخول العوض في ملك مالك المعوّض، فلا يشمله (5) العموم في «الناس مسلّطون على أموالهم» حتى يثبت التنافي بينه و بين الأدلة الدالة على توقف البيع على الملك

______________________________

الوفاء بالنذر و العهد، فيما إذا نذر عتق عبد الغير، فهل يصحّ أن يقال بالملك التقديري آنا ما؟

(1) المراد بالجائز الذاتي هو التصرف الذي ثبت حليّته للمالك مع الغضّ عن دليل السلطنة، فتقتضي قاعدة السلطنة استقلاله في ذلك التصرف و عدم كونه محجورا عنه. و أمّا مثل عتق المباح له لعبد المبيح- بحيث يقع العتق للمباح له لا للمبيح- فليس من شؤون سلطنة المالك على ماله حتى تجوز إباحته للغير.

(2) بناء على كون مفهوم المعاوضة تبادل الإضافتين الملكيتين عقلا.

(3) بناء على دلالة الدليل الشرعي- و لو إمضاء- على التبادل بين الإضافتين الملكيّتين.

(4) صفة للعقل و النقل، لا للمقتضي، إذ المقصود أنّ العقل و النقل يقتضيان دخول العوض في ملك من خرج المعوّض عن ملكه، فإذا باع المباح له مال المبيح لنفسه لا للمبيح لم يدخل العوض في كيس مالك المعوّض، فلم يتحقق مفهوم المعاوضة لا عقلا و لا نقلا. و عليه فالأولى أن يقال: «الدالين» لئلا يتوهم كونه وصفا ل «مقتضى».

(5) هذه نتيجة قوله: «غير جائز» يعني: إذا كان موضوع قاعدة السلطنة خصوص التصرفات المشروعة- بأدلتها- كانت إباحة المالك لغيره البيع أو العتق أجنبية عن مدلول القاعدة.

ص: 111

فيجمع (1) بينهما بالتزام الملك التقديري آنا ما.

و بالجملة (2): دليل عدم جواز بيع ملك الغير أو عتقه لنفسه حاكم (3) على عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدال على إمضاء الإباحة المطلقة من المالك على إطلاقها (4)، نظير (5) حكومة دليل عدم جواز عتق مال الغير على عموم وجوب الوفاء بالنذر و العهد إذا نذر عتق عبد غيره له أو لنفسه، فلا يتوهم الجمع بينهما بالملك القهري للناذر.

______________________________

(1) بالنصب، يعني: لا تعارض بين دليل السلطنة و بين «لا عتق إلّا في ملك» حتى يجمع بينهما بالملك التقديري الآنامّائي، كما جمعوا به في مثل قول الآمر: «أعتق عبدك عنّي». و وجه عدم التعارض ما عرفت من حكومة «لا عتق إلّا في ملك» عليه، كحكومة «لا شك لكثير الشك» على أدلة أحكام الشكوك.

(2) هذه خلاصة ما أفاده في ردّ الجمع بالملك التقديري بقوله: «مدفوعة بأن عموم الناس مسلّطون على أموالهم ..» إلى هنا.

(3) وجه الحكومة: أنّه رافع لموضوع دليل السلطنة و هو الجواز، لأنّه يدلّ على بطلان بيع مال الغير لنفسه أو عتقه كذلك.

(4) متعلق ب «إمضاء» و الضمير راجع إلى الإباحة.

(5) يعني: أنّ عموم قاعدة السلطنة يكون نظير عموم قوله عليه السّلام: «ف بنذرك» إذا نذر شخص عتق عبد غيره، سواء قصد عتقه عن مالكه أو عن نفسه، فمثله لا يجب الوفاء به، لأنّ الواجب هو الوفاء بما إذا نذر عتق عبد نفسه لا عبد غيره.

و على هذا فدليل توقف صحة العتق على إعتاق مالكه له رافع لموضوع دليل وجوب الوفاء بالنذر. و لم يلتزم فقيه بدخول العبد المنذور عتقه في ملك الناذر آنا ما حتى ينعتق في ملكه، أداء لنذره. لما عرفت من أنّ الجمع بين الدليلين منوط بوحدتهما رتبة، لا حكومة أحدهما على الآخر.

و المقام كذلك، لحكومة دليل إناطة البيع و العتق بالملك على دليل السلطنة.

ص: 112

نعم (1) لو كان هناك تعارض و تزاحم (2) من الطرفين بحيث أمكن تخصيص كلّ منهما لأجل الآخر أمكن الجمع بينهما بالقول بحصول الملك القهري (3) آنا ما،

______________________________

(1) هذا استدراك على ما أفاده قدّس سرّه من امتناع الجمع- بالملك الآنامّائي- بين عموم دليل السلطنة و دليل توقف البيع على الملك، حيث قال قبل أسطر: «فلا يشمله العموم .. حتى يثبت التنافي .. فيجمع بينهما بالتزام الملك آنا ما».

و حاصل الاستدراك: أنّ الدليل على مشروعية إباحة جميع التصرفات حتى المتوقّفة على الملك ليس منحصرا في قاعدة السلطنة حتى يمتنع الالتزام بالملك الآنامّائي من جهة وجود الدليل الحاكم عليها، بل هناك دليل آخر اعتمد عليه صاحب الجواهر قدّس سرّه- على ما تقدم من كلامه في التنبيه الأوّل- و هو أخبار إناطة حلية التصرف في مال الغير بطيب نفس مالكه، و هي غير محكومة بدليل توقف العتق على الملك، بل هما متعارضان، لاتحادهما رتبة، فتلك الأخبار تدلّ على حليّة كل تصرف في مال الغير عند رضاه و طيب نفسه، سواء أ كان ذلك التصرف مما يكفي في حليّته إذن المالك، أم كان متوقفا على الملك. و دليل إناطة صحة البيع و العتق بالملك يقتضي وقوعهما من المالك لا من المباح له، فعتق المباح له مجمع دليلين يقتضي أحدهما صحته، و الآخر بطلانه.

و لمّا كان الجمع بين الدليلين- مهما أمكن- أول من الطرح أمكن الالتزام بالملك الآنامّائي، بأن يدخل العبد في ملك المباح له آنا قبل عتقه حتى يقع في ملكه.

و بناء على هذا لا مجال لإنكار الإباحة المطلقة، بل ينبغي القول بصحتها بالالتزام بالملك القهري آنا ما.

(2) المراد بالتزاحم هنا التنافي في مرحلة الجعل، و هو التعارض المصطلح، و لا يراد به التمانع في مرحلة الامتثال المعبّر عنه بالتزاحم المأموري.

(3) أي: بغير أسبابه المعهودة من البيع و الهبة و غيرهما. ثم إنّ المراد بالملك به

ص: 113

فتأمّل (1).

و أمّا (2) حصول الملك

________________________________________

هو الملك التحقيقي، لا الفرضي التقديري، لأنّ المعتبر في البيع عندهم هو الملك التحقيقي.

(1) لعله إشارة إلى: أنّ الجمع بالملك التقديري تبرّعي لا شاهد عليه، فلا بد من الرجوع إلى مقتضى قواعد التعارض و هو التوقف و الرجوع إلى القواعد، أو الترجيح مع المرجح و التخيير بدونه. لا الالتزام بالملك آنا ما. هذا إذا كان التعارض بالتباين.

و إن كان بالعموم و الخصوص تعيّن التخصيص، فتصير أخبار طيب النفس كقاعدة السلطنة في قصورهما عن إثبات جواز الإباحة المطلقة، لكن الفرق بينهما في أنّ القاعدة محكومة، و الأخبار مخصّصة، و النتيجة واحدة.

(2) هذا وجه ثالث لتصحيح الإباحة المطلقة بالالتزام بالملك التقديري بعد أن تعذّر الجمع بنحو الملك الآني. و قد سبق الإشارة إليه أيضا في قوله: «و دعوى: أنّ الملك التقديري هنا لا يتوقف على دلالة دليل خاص» و ناقش فيه المصنف بأنّه لا موضوع في المقام للجمع بين الأدلة بالملك الفرضي.

و حاصل ما أفاده هنا هو: تصحيح الإباحة المطلقة بوجود نظائر لها في الشريعة المقدسة ممّا يمكن أن يستأنس بها للمقام.

منها: ما ذكروه في تصرف الواهب ببيع العين الموهوبة من دون أن يفسخ العقد قولا، و لا أن يستردّ العين من المتهب:

و منها: تصرّفه في العبد الموهوب بعتقه.

و منها: تصرّف ذي الخيار- فيما انتقل عنه بعقد خياري- بمثل البيع و العتق و الوقف.

ففي هذه الفروع جمعوا بين الأدلّة بالملك التقديري حتى يقع تصرّف الواهب و ذي الخيار في ملك نفسه. و ليكن المقام من هذا القبيل، فالجمع بين دليل حليّة إباحة

ص: 114

في الآن المتعقّب (1) بالبيع و العتق فيما إذا باع الواهب عبده الموهوب أو أعتقه (2)،

______________________________

كل تصرّف و بين دليل توقف البيع و العتق على الملك يقتضي الالتزام بصحة هذه الإباحة، و صيرورة المال ملكا تقديريا للمباح له حتى يقع بيعه و عتقه في ملكه. و مع إمكان الجمع بهذا النحو بين الأدلّة. لا يبقى مجال لتخصيص دليل الإباحة المطلقة بما دلّ على إناطة مثل البيع بالملك، بل يقال ببقاء المال على ملك المبيح، و يقدّر دخوله في ملك المباح له بإرادة بيعه، هذا.

و أجاب المصنف عنه بمنع قياس المقام برجوع الواهب و ذي الخيار، للفرق بين الملك التقديري الفرضي الذي التزموا به في مالكيّة الميّت لدية الجناية و بين ملك الواهب و ذي الخيار، فإنّه ملك حقيقي آنيّ في قبال الملك المستقر، لأنّ تصرّفهما في العين ببيع و نحوه كاشف عن عودها إلى ملكيهما حقيقة و لو آنا ما. و هذا بخلاف مالكية الميت للدية، فإنّها مجرّد فرض، لامتناع تملكه حتى في آن واحد، و لذا يفرض كونه مالكا للدية مقدّمة لصرفها، و يقولون إنّها بحكم مال الميت.

و الحاصل: أنّ كلّا من الملك الحقيقي و الفرضي منوط بدليل شرعي، و لو كان هو الجمع بين الأدلّة، و المفروض كونه مفقودا في إباحة جميع التصرفات.

ثم إنّ الفرق بين الوجوه الثلاثة المذكورة إلى هنا لتصحيح الإباحة المطلقة هو:

أنّ الملكية في الوجه الأوّل مجعولة من المتعاقدين ابتداء. و في الوجه الثاني مجعولة ابتداء من الشارع، لكونها مقتضى الجمع بين الدليلين. و في الثالث مجعولة من الشارع أيضا، نتيجة للإيقاع، حيث إنّ فسخ الهبة أو البيع و رجوع الملك إلى مالكه يكون بالإيقاع لا بجعل الواهب أو ذي الخيار، لكن الملك في الوجه الأوّل يكون مضمون العقد.

(1) بصيغة المفعول، أي الآن الذي يتعقبه البيع و العتق.

(2) قد سبق توضيح تملك الواهب بفسخه الفعلي في ما يتعلق باستبعادات

ص: 115

فليس (1) ملكا تقديريا (2) نظير (3) الملك التقديري في الدية (4) بالنسبة إلى الميت، أو (5) شراء العبد المعتق عليه، بل (6)

______________________________

كاشف الغطاء قدّس سرّه «1».

(1) جواب «و أمّا» و هذا ردّ الدليل الثالث، و قد أوضحناه بقولنا: «و أجاب المصنف عنه بمنع قياس المقام .. إلخ».

(2) أي: فرضيّا، بل هو ملك حقيقي حاصل في وعاء الزمان و لو في آن واحد.

(3) هذا مثال للمنفي و هو الملك التقديري، يعني أنّ الملك في باب الدية فرضيّ لا حقيقي.

(4) كون الملك فيها تقديريّا لأجل عدم معقولية إضافة الملكية- التي هي إضافة التابعية و المتبوعية- بالنسبة إلى الميت، لأنّه جماد كالمال، و لا معنى لتابعية أحد الجمادين للآخر، بل لا بدّ من جعل الدية بمنزلة مال الميت و بحكمه، لا أنّه ملك الميت حقيقة. و هذا التقدير ناظر إلى حال الحياة ليترتّب عليه آثار ملك الميت من إنفاذ وصاياه و إيفاء ديونه من الدية.

و فرق بين دية القتل و بين دية الجناية على أعضائه بعد الموت، فإنّها تصرف في الوجوه البريّة، إجماعا كما ادّعاه غير واحد، و لا تندرج في «ما تركه الميت» حتى تورث. بخلاف دية القتل، فإنّها تدخل في «ما تركه الميت» و تنتقل إلى الوارث كسائر تركته.

فالمصرف في الديتين مختلف، لكن ملكها للميت فرضا مشترك بين دية القتل و دية الجناية على الأعضاء بعد الموت.

(5) معطوف على «الدية» يعني: أنّ للملك التقديري موردا ثانيا في الفقه، و هو شراء العبد المعتق على المشتري.

(6) هذا متعلق بقوله: «فليس ملكا تقديريا» و مقصوده إبطال قياس المقام-

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 352

ص: 116

هو ملك حقيقي (1) حاصل قبل البيع، من جهة كشف البيع عن الرجوع قبله (2) في الآن المتصل بناء (3) على الإكتفاء بمثل هذا في الرجوع، و ليس (4) كذلك فيما نحن فيه.

و بالجملة (5): فما نحن فيه لا ينطبق على التمليك الضمني المذكور

______________________________

و هو الملك التقديري لو قيل به- بمالكية الواهب و ذي الخيار، فإنّها حقيقية آنية جمعا بين الأدلة.

(1) لكنّه آنيّ، و هو غير ضائر بحقيقيّته المتقومة بالحصول في وعاء الزمان.

(2) أي: قبل البيع.

(3) و أمّا بناء على عدم كاشفية البيع عن الرجوع قبله، و قلنا بتوقف الرجوع على إنشائه باللفظ أو باسترداد العين كان بيع الواهب باطلا، لعدم وجود كاشف عن عود المال إلى ملكه.

(4) يعني: أنّ ما تقدم من تصحيح بيع الواهب بملكيته الحقيقية الآنيّة- و كذا في مالكية الميت تقديرا و فرضا لديته- إنّما هو من جهة وجود الكاشف عن هذا النحو من الملك، و هو الجمع بين الأدلة. و لا موضوع له في المقام حسب الفرض، لما عرفت من أنّ دليل الإباحة المطلقة إمّا محكوم و إمّا مخصّص.

(5) هذا تلخيص ما تقدم من الوجوه الثلاثة التي أفادها لدفع الإشكال الأوّل المشترك بين القسم الثالث و الرابع، و هو الإشكال في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على صدورها من المالك مباشرة أو تسبيبا.

و غرضه قدّس سرّه عدم انطباق شي ء من تلك الوجوه الثلاثة على ما نحن فيه.

أمّا الوجه الأوّل- و هو التمليك الضمني الموجود في مثال: أعتق عبدك عنّي- ففقدانه في المقام و هو الإباحة المطلقة واضح، لعدم القصد المقوّم للتمليك الضمني فيه و لو قصدا إجماليا. و أمّا الوجهان الثاني و الثالث فسيأتي بيان أجنبيتهما عن المقام.

ص: 117

أوّلا (1) في «أعتق عبدك عنّي» لتوقفه (2) على القصد (3).

و لا (4) على الملك المذكور ثانيا (5) في شراء من ينعتق عليه (6)، لتوقفه (7) على التنافي بين دليل التسلّط و دليل توقف العتق على الملك،

______________________________

(1) و هو ما تقدّم بقوله: «أحدهما: أن يقصد المبيح بقوله: أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك إنشاء توكيل له في بيع ماله .. كما صرّح في التذكرة بأن قول الرجل لمالك العبد: أعتق عبدك عنّي بكذا استدعاء لتمليكه .. إلخ».

(2) تعليل لقوله: «لا ينطبق» يعني: أنّ المبيح ليس قاصدا للتمليك الضمني حتى يلتزم به، بخلاف قول الآمر: «أعتق عبدك عنّي» فإنّه قاصد للتمليك الضمني، إذ بعد العلم بتوقف العتق على الملك لا بدّ من قصد التوكيل و تملّك العبد حتى ينعتق في ملكه.

(3) و لو إجمالا و ارتكازا لا تفصيلا.

(4) معطوف على «التمليك الضمني».

(5) و هو ما تقدّم بقوله: «الثاني: أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكية للمباح له بمجرّد الإباحة .. فيكون ذلك شبه دخول العمودين في ملك الشخص آنا ما .. للجمع بين الأدلة»

(6) هذا ردّ الوجه الثاني، و هو تقدير الملك في شراء من ينعتق عليه، و وجه فقدانه في المقام هو عدم الدليل عليه هنا- أي في الإباحة- حتى يقع التنافي بينه و بين دليل توقف العتق و نحوه على الملك، فنلتجئ بالالتزام بالملك الآنيّ، لما مرّ من أن دليل السلطنة لا يصلح لأن يكون مستندا للإباحة إلّا إذا كان مشرّعا، و المفروض عدم مشرّعيّته، فلا وجه للالتزام بالملك آنا ما في الإباحة المطلقة، لتوقفها على دلالة دليل على مشروعيّتها حتّى نلتزم به، كما نلتزم بالملك الآنيّ في شراء من ينعتق عليه، جمعا بين دليل صحّة شراء من ينعتق عليه و بين دليل عدم ملكيته، فإنّ التنافي بينهما أوجب الجمع بينهما بالملك الآني.

(7) تعليل لقوله: «و لا على الملك المذكور ثانيا» يعني: أنّ الجمع بين الأدلة

ص: 118

و عدم (1) حكومة الثاني على الأوّل.

و لا (2) على التمليك الضمني المذكور ثالثا (3) في بيع الواهب و ذي الخيار، لعدم (4) تحقق سبب الملك هنا (5) سابقا (6)

______________________________

بالملك الآنيّ يتوقف على أمرين:

أحدهما: التنافي بين الدليلين بعد تمامية المقتضي للحجية في كلّ منهما.

الثاني: عدم حكومة أحدهما على الآخر، فلو لم يكن تناف أصلا، أو كان التنافي البدوي و ارتفع بحكومة أحدهما على الآخر لم يبق دليل على الملكية الآنيّة.

(1) معطوف على «التنافي» يعني: لتوقف التنافي على عدم حكومة الثاني على الأوّل.

(2) معطوف على «التمليك الضمني» يعني: و لا ينطبق ما نحن فيه على التمليك الضمني المذكور ثالثا. و هذا إشارة إلى فقدان الوجه الثالث، و هو الالتزام بالملك الآنيّ في بيع الواهب للعين الموهوبة قبل صيرورة الهبة لازمة، و في بيع ذي الخيار.

وجه فقدانه في المقام هو وجود سبب الملك أعني إرادته قبل تحقق البيع في بيع الواهب أو عتقه، و كذا في بيع ذي الخيار. بخلاف ما نحن فيه، فإنّ إرادة الملك فيه مفقودة، إذ المفروض أنّ المبيح المالك لم يقصد التمليك، و المباح له لم يقصد التملّك عند البيع، هذا.

(3) و هو ما تقدم بقوله: «و أمّا حصول الملك في الآن المتعقب بالبيع و العتق .. إلخ».

(4) تعليل لقوله: «و لا على التمليك الضمني المذكور ثالثا ..» و قد تقدم توضيحه.

(5) يعني: في الإباحة المطلقة الشاملة لجميع التصرفات حتى المتوقّفة على الملك.

(6) أي: السابق على البيع و لو بآن، و هو ظرف لقوله: «تحقق سبب الملك».

ص: 119

بحيث (1) يكشف البيع عنه (2)، فلم يبق (3) إلّا الحكم ببطلان الإذن في بيع ماله لغيره، سواء صرّح (4) بذلك، كما لو قال: «بع مالي لنفسك، أو: اشتر بمالي لنفسك» أم (5) أدخله (6) في عموم قوله: «أبحت لك كل تصرف». فإذا باع المباح له على هذا الوجه (7) وقع البيع للمالك، إمّا لازما بناء على أنّ قصد البائع البيع لنفسه غير مؤثّر (8)، أو موقوفا (9) على الإجازة، بناء على أنّ المالك لم ينو تملّك

______________________________

(1) هذا بيان لتحقق الملكية الآنيّة السابقة على البيع و العتق و نحوهما ممّا يتوقف على الملك، فهذه الملكية متحققة في رجوع الواهب و ذي الخيار، و غير متحققة في إباحة أنحاء التصرفات.

(2) أي: عن الملك الآنيّ السابق على البيع.

(3) هذه نتيجة أجنبية المقام عن تلك الوجوه الثلاثة، حيث إنّه بعد فقد دليل الصحة يتعيّن الحكم ببطلان الإباحة المطلقة.

(4) أي: صرّح المبيح بالإذن للمباح له في بيع المال لنفسه لا للمبيح.

(5) عدل لقوله: «صرّح» أي: لم يصرّح المبيح بالإذن في خصوص البيع، و لكنه أباح كل تصرف، و منه البيع.

(6) أي: أدخل الإذن- في بيع ماله لغيره- في عموم قوله: «أبحت لك .. إلخ».

(7) أي: على وجه الإذن في التصرف في المال، إمّا بالتنصيص على البيع، و إمّا بالإذن العام الشامل له و لغيره.

(8) لأنّ مقتضى التعاوض بين المالين- بناء على ما قيل- هو دخول كل مال في كيس من خرج عنه الآخر. و وجه لزومه هو كون المباح له مأذونا في البيع كالوكيل، فينفذ كلّ تصرّف منه في المال المباح له.

(9) معطوف على «لازما» و الوجه في توقف البيع على الإجارة هو: أنّ المبيح لم يقصد تملّك الثمن، لزعمه وقوع البيع للمباح له، و دخول الثمن في ملكه. و لمّا لم تثبت مشروعية هذه الإباحة كان بيع المباح له فضوليا، لكونه تصرّفا في مال المبيح بغير

ص: 120

الثمن (1)، هذا.

و لكنّ (2) الذي يظهر من جماعة منهم قطب الدّين و الشهيد رحمهما اللّه في باب

______________________________

إذن صحيح، فيتوقف وقوع البيع للمبيح و تملّكه للثمن على إجازته.

(1) إذ لو نوى المالك تملّك الثمن- حين إباحة ماله للغير- لم تتوقف صحة بيع المباح له على إجازة المبيح، لوقوع البيع للمالك من جهة كون الإذن توكيلا للمباح له، و من المعلوم نفوذ تصرف الوكيل كالأصيل.

و قد تحصّل من كلمات المصنّف إلى هنا: أنّ إباحة جميع التصرّفات غير صحيحة، لعدم الدليل على مشروعيّتها.

(2) غرضه النقض على ما ذكره من عدم جواز التصرفات المتوقفة على الملك بمجرّد إباحة التصرف. توضيحه: أنّ جماعة بنوا على أنّ الغاصب إذا باع العين المغصوبة بثمن مع علم المشتري بغصبية المبيع جاز للغاصب أن يشتري بذلك الثمن متاعا و يملك المثمن. و ليس للمشتري إجازة شراء الغاصب، لأنّه بدفع الثمن إلى الغاصب البائع للمغصوب- مع علمه بغصبية المبيع- أباح للغاصب التصرف في الثمن بحيث يصير مالكا لبدله.

و كذا الحال فيما حكي عن المختلف من جواز وطي الجارية التي اشتراها بعين مغصوبة مع علم بائعها بغصبية الثمن. فإنّ هذين الموردين منافيان لما ذكرناه من عدم جواز التصرف المتوقف على الملك بمجرّد الإباحة.

و هكذا الكلام فيما نحن فيه، فيقال: إنّ المباح له و إن لم يصر مالكا، إلّا أنّه إذا اشترى بمال المبيح شيئا ملك المبيع، أو إذا باعه ملك الثمن، فهو كالغصب الذي يبيع العين المغصوبة، فإنّه يصح تصرفه في الثمن بشراء شي ء به، و يملك المثمن مع عدم كونه مالكا للثمن.

و عليه لا وجه لما ذكره الماتن بقوله: «أو موقوفا على الإجازة» إذ ليس للمالك المسلّط إجازة تصرّف بيع المباح له و وقفه و عتقه.

ص: 121

بيع الغاصب أنّ (1) تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن و الإذن (2) في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب (3) به شيئا، و أنّه (4) يملك المثمن بدفعه إليه، فليس للمالك (5) إجازة هذا الشراء (6).

و يظهر (7) أيضا من محكي المختلف، حيث استظهر من كلامه- فيما

______________________________

(1) خبر «و لكن» و العبارة منقولة بالمعنى، قال السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه:

«و المنقول عن قطب الدين في بيان إشكال الكتاب- أي الإشكال المذكور في القواعد في بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب- أنّه في التتبّع، و وجّهه بأنّ المشتري مع العلم يكون مسلّطا للبائع الغاصب على الثمن، و لهذا لو تلف لم يكن له الرجوع عليه.

و لو بقي ففيه وجهان، فلا ينفذ فيه إجازة الغير بعد تلفه بفعل المسلّط بدفعه ثمنا عن مبيع اشتراه ..» ثم حكى كلام الشهيد في حواشي القواعد، فراجع «1».

(2) معطوف على تسليط، يعني: كالإذن و الإباحة فيما نحن فيه.

(3) يعني: شراء الغاصب لنفسه بالثمن الذي أخذه من المشتري.

(4) معطوف على «جواز» يعني: أنّ تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن- مع علم المشتري بغصبية المبيع- يوجب جواز شراء الغاصب بالثمن و صيرورته مالكا للمثمن بسبب دفع المشتري- العالم بالغصبية- الثمن الى الغاصب. يعني: أنّ ملكية المثمن له مسبّبه عن ملكية الثمن له، الناشئة من دفع المشتري له إلى الغاصب.

(5) أي: ليس لمالك الثمن- و هو الذي اشترى من الغاصب- إجازة شراء الغاصب، إذ المفروض صيرورة الثمن ملكا للبائع الغاصب و أجنبيا عن المشتري، فليس له الإجازة.

(6) هذا ما نقله المصنف عن قطب الدين و الشهيد قدّس سرّهما.

(7) معطوف على «يظهر من جماعة» أي: و يظهر أن تسليط .. إلخ من العلّامة كما ظهر من قطب الدين و الشهيد قدّس سرّهم. و لعلّ الوجه في إفراد كلام العلامة قدّس سرّه بالذّكر

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 192

ص: 122

لو اشترى جارية بعين مغصوبة-

______________________________

و عدم ضمّه إلى كلام قطب الدين الرازي و الشهيد قدّس سرّهما هو عدم صراحة عبارة المختلف في أنّ بائع الجارية يسلّط المشتري- الغاصب للثمن- على مملوكته، و إنّما يستبيح المشتري التصرف فيها.

و الأولى ملاحظة نصّ كلامه، فنقول: نقل في باب الغرر و المجازفة حكمين متغايرين عن شيخ الطائفة، أحدهما في النهاية، و الآخر في المسائل الحائرية، فقال:

«قال الشيخ في النهاية: من غصب غيره مالا و اشترى به جارية كان الفرج له حلالا، و عليه وزر المال، و لا يجوز أن يحج به» ثم حكى جواب الشيخ في المسائل الحائرية الذي نقله الحلّي في السرائر بما لفظه: «فأجاب الشيخ: إن كان الشراء وقع بعين المال كان باطلا و لم يصح جميع ذلك. و إن كان الشراء قد وقع بمال في ذمته كان الشراء صحيحا، و قبضه ذلك المال فاسدا، و حلّ له وطي الجارية و غلّة الأرض و الشجر، لأنّ ثمن الأصل في ذمته» و استصوب ابن إدريس هذا الجواب.

ثم قال العلامة: «أقول: كلام الشيخ في النهاية يحتمل أمرين. أحدهما: ما ذكره من أنّ الشراء بالمال أعمّ من أن يكون بالعين أو في الذمّة .. و الثاني: أن يكون البائع عالما بأنّ المال غصب، فإنّ المشتري يستبيح وطي الجارية. و عليه وزر المال و إن كان الشراء وقع بالعين» «1».

و هذه الجملة الأخيرة هي محطّ نظر المصنف قدّس سرّه، إذ ربما يستفاد منها أنّ بائع الأمة سلّط المشتري على التصرف في المبيع- و هي الأمة- مع علمه بعدم تحقق المعاوضة من جهة كون الثمن مغصوبا و غير مملوك للمشتري، و من المعلوم توقف جواز وطي الأمة على الملك، أو التحليل المنشأ بصيغة خاصة.

و قد اتّضح من نقل عبارة المختلف أمران:

الأوّل: أنّ أصل الفتوى بحلية التصرف في الأمة من الشيخ، لا من العلامة،

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 258 و 259

ص: 123

أنّ (1) له وطي الجارية (2) مع علم البائع بغصبية الثمن، فراجع.

و مقتضى (3) ذلك أن يكون تسليط الشخص لغيره على ماله- و إن لم يكن على وجه الملكية- يوجب (4) جواز التصرفات المتوقفة على الملك، فتأمّل (5) و سيأتي توضيحه في مسألة الفضولي (6).

______________________________

و إنّما كان غرضه توجيهه بنحو لا يخالف قواعد الفقه المسلّمة.

الثاني: أنّ المسألة المنقولة عن قطب الدين و الشهيد و المسألة المنقولة عن المختلف تشتركان في كون أحد العوضين مغصوبا، و تفترقان في أنّ البائع هو الغاصب في كلام قطب الدين، فيكون التسليط على الثمن من قبل المشتري، و المشتري هو الغاصب في كلام العلامة، فيكون التسليط على المبيع- و هي الأمة- من طرف البائع.

(1) نائب فاعل «استظهر».

(2) يعني: مع أنّهم جعلوا وطي الجارية من التصرفات المتوقفة على الملك.

(3) أي: و مقتضى حكمهم في هذين الموردين: أنّ إذن المالك و تسليطه كاف في جواز التصرف المنوط بالملك من دون أن يقع بيع أصلا حتى تتوقف صحّته على إجازة المالك.

(4) خبر «أن يكون» و الأولى تبديله ب «موجبا للجواز».

(5) لعلّه إشارة إلى: عدم ظهور الكلمات المذكورة في كون التسليط- على وجه الإباحة- موجبا لجواز التصرف المتوقف على الملك، لأنّ التسليط المزبور يوجب الملكية لا مجرّد الإباحة، فكلمات الجماعة أجنبية عن المقام.

(6) سيأتي هناك بقوله: «انّ المشتري مع العلم يكون مسلّطا للبائع الغاصب ..». هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل المشترك بين القسم الثالث و الرابع، و قد عرفت عدم اندفاع الإشكال بشي ء من الوجوه الثلاثة، و نتيجة ذلك عدم صحة إباحة جميع التصرفات.

ص: 124

و أمّا (1) الكلام في صحة الإباحة بالعوض- سواء صحّحنا إباحة التصرفات

______________________________

(1) معطوف على قوله: «أما إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك» و هذا شروع في تحقيق الإشكال الثاني المتقدم بقوله: «و ثانيا: الإشكال في صحة الإباحة بالعوض الراجعة إلى عقد مركّب من إباحة و تمليك» و كان هذا الإشكال مختصا بالقسم الثالث- من الأقسام الأربعة المذكورة في التنبيه الرابع- و هو كون الإباحة في مقابل التمليك. كما أنّ الإشكال الأوّل كان مشتركا بين القسمين الثالث و الرابع.

و غرضه قدّس سرّه إقامة الدليل على صحة الإباحة بعوض التمليك- و لو بالنسبة إلى غير التصرفات المنوطة بالملك- و أمّا الإباحة بعوض الإباحة فسيأتي بيان حكمها في آخر التنبيه إن شاء اللّه تعالى، فالمقصود فعلا تحقيق العقد المركّب من إباحة و تمليك.

و قد بيّن المصنف أوّلا الإشكال في صحة الإباحة المعوّضة، ثم صحّحها ثانيا بإدراجها في الصلح أو بكونها معاوضة مستقلة.

أمّا ما أفاده في مقام الإشكال فحاصله: أنّ هذا النحو من الإباحة لا يندرج في المعاوضات المالية ليدخل كل من العوضين في ملك، الآخر، لكون العوضين كليهما ملكا للمبيح. أمّا ما أباحه فمعلوم، و أمّا عوضه- الذي دفعه المباح له إليه- فالمفروض أنّه عوض الإباحة، فصار ملكا للمبيح.

و لا دليل على مشروعيّة هذه الإباحة المعوضة، لأنّ ما يمكن أن يستدلّ به على الصحة هو آية الوفاء بالعقود و التجارة عن تراض و حلّ البيع. و الكل غير جار.

أمّا الأوّل فلاختصاص «العقود» التي يجب الوفاء بها بالعهود المتعارفة بين الناس، و هي محصورة في أمور معيّنة معهودة كالبيع و الصلح و الإجارة و الهبة و نحوها من عناوين المعاملات.

و أما الثاني فلأنّ «التجارة» هي التكسب بالمال بقصد الاسترباح بالبيع و الشراء، و لا أقلّ من الشك في صدقها على الإباحة، إذ ليس فيها مبادلة الأموال،

ص: 125

المتوقفة على الملك أم خصّصنا الإباحة بغيرها (1)- فمحصّله: أنّ هذا النحو من الإباحة المعوّضة ليست معاوضة مالية (2) ليدخل كلّ (3) من العوضين في ملك مالك العوض الآخر، بل كلاهما ملك (4) للمبيح، إلّا أنّ المباح له يستحق التصرف (5)، فيشكل الأمر فيه (6)

______________________________

و لم تنقطع إضافة الملكية بين المبيح و المال.

و أمّا الثالث فلوضوح تقوم «البيع» بالمبادلة بين المالين و تمليك كل منهما الآخر، و لا مبادلة و لا تمليك حسب الفرض.

و على هذا فالإباحة بالعوض أجنبية عن المعاوضات المعهودة التي يكون العوضان فيها ملكا للمتعاملين.

هذا كله في توضيح ما أفاده المصنف قدّس سرّه أوّلا في تقريب الإشكال. و أما ما أفاده ثانيا في التفصّي عنه، فسيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(1) أي: بغير التصرفات المتوقفة على الملك.

(2) لاختصاصها بالأموال، و من المعلوم عدم كون الإباحة- بما هي فعل من الأفعال- من الأموال، بل المال موضوعها.

(3) هذا بيان للمنفي و هو المعاوضة، يعني: أنّ شأن المعاوضة التبادل في الملكية.

(4) أمّا المال المباح فلأنّ المفروض بقاؤه على ملك المبيح، لعدم خروجه عن ملكه بمجرّد الإباحة. و أمّا العوض فلأنّ المقصود من عوضيّته هو كونه ملكا للمبيح.

فالغرض من العوض هنا الجزاء، لا قيامه مقام المعوّض في إضافة الملكية.

و إن شئت فقل: إنّ العوضين هنا مملوكان لشخص واحد، و هذا خلاف مقتضى المعاوضة، و هو كون العوضين مملوكين لشخصين.

(5) يعني: لا يستحق نفس الرقبة، بل يستحق التصرف تكليفا لا وضعا، و لذا لا يسقط بالإسقاط.

(6) أي: في هذا القسم الثالث، و هو الإباحة بالعوض.

ص: 126

من جهة (1) خروجه عن المعاوضات المعهودة شرعا و عرفا (2)، مع التأمّل (3) في صدق التجارة عليها فضلا عن البيع.

إلّا (4) أن يكون نوعا من الصلح،

______________________________

(1) هذا وجه أصالة الفساد التي ذكرها بقوله: «فيشكل الأمر فيه».

(2) فتكون هذه الإباحة المعوّضة بالتمليك أجنبية عن العقود التي يجب الوفاء بها.

(3) يعني: أنّه يكفي في عدم شمول آية «التجارة عن تراض» لهذه الإباحة الشّكّ في صدق «التجارة» على مجرّد الإباحة، و لا يعتبر إحراز عدم كونها تجارة.

و على هذا فلو لم يعوّل على تفسير اللّغوي للتجارة «بأنّها الإعطاء و الأخذ بقصد الاسترباح» كفى الشك في صدقها على الإباحة في عدم جواز التمسك بالآية المباركة لإثبات مشروعيّتها.

(4) هذا استثناء من قوله: «فليست معاوضة ماليّة، فيشكل الأمر فيه» و هو شروع في التفصّي عن الإشكال، و تصحيح الإباحة المعوّضة بأحد وجهين:

الأوّل: دعوى دخولها في الصلح، فتندرج في المعاوضات المعهودة، و ذلك بعد تمامية مقدمتين.

إحداهما: أنّ المبيح و المباح له تسالما على أمر، و هو إباحة التصرف في المال في قبال عوض، و هذا التسالم و التوافق هو الصلح المعدود من المعاوضات.

و ثانيتهما: أنّه لا يعتبر في صحة الصلح إنشاؤه بصيغة خاصة، بل يكفي في إنشائه كل ما يدلّ عليه من صيغة خاصة أو مقاولة، أو فعل، أو كتابة. و يشهد لعدم اعتبار الصيغة الخاصة فيه ما ورد في بعض الأخبار من تحقّق الصلح بقول أحدهما:

«لك ما عندك و لي ما عندي» و كذا ما ورد في مصالحة الزوجين. فليكن قول المبيح:

«أبحت لك التصرف في مالي على أن تملّكني دينارا» إنشاء للصلح.

الثاني: أن تكون الإباحة بالعوض معاملة مستقلة، و يدلّ على مشروعيّتها أمران.

ص: 127

لمناسبته (1) له لغة، لأنّه (2) في معنى التسالم على أمر، بناء (3) على أنّه لا يشترط فيه لفظ الصلح، كما يستفاد (4) من بعض الأخبار الدالة على صحّته (5) بقول المتصالحين: «لك ما عندك، و لي ما عندي (6)»

______________________________

أحدهما: قاعدة السلطنة، فإنّ السلطنة المطلقة للمالك تقتضي حلّيّة كلّ تصرف للمالك في ماله، سواء أ كان ذلك التصرف الخاص مما أحرزه جوازه أم لا.

ثانيهما: قاعدة وجوب وفاء المؤمنين بشروطهم، فإنّ التزام أحدهما بإباحة التصرف، و التزام الآخر بتمليك ماله للمبيح شرط يجب الوفاء به و يحرم نقضه، فالتشكيك في الصحة ينافي إطلاق وجوب الوفاء بالشرط.

(1) أي: لمناسبة الصلح لهذا النحو من الإباحة أي الإباحة المعوّضة.

(2) أي: لأنّ هذا النحو من الإباحة يكون بمعنى التراضي و التسالم على أمر.

(3) قيد لقوله: «نوعا من الصلح» و هذا إشارة إلى المقدمة الثانية التي لا بدّ من إثباتها حتى تندرج الإباحة بالعوض في الصلح، و قد تقدّمت بقولنا: «ثانيتهما: أنه لا يعتبر في صحة الصلح .. إلخ».

(4) يعني: كما يستفاد عدم الاشتراط بلفظ الصلح. و لعلّ وجه الاستفادة هو الجهل بمقدار المال الموجود عند كل واحد من الشريكين، و الجهل غير قادح في الصلح.

(5) هذا الضمير و ضمير «فيه» راجعان الى الصلح.

(6) روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «في رجلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه، و لا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك، و لي ما عندي، فقال: لا بأس بذلك إذا تراضيا و طابت أنفسهما» «1».

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 165، الباب 5 من أحكام الصلح، الحديث: 1

ص: 128

و نحوه (1) ما ورد في مصالحة الزوجين.

و لو (2) كانت معاملة

______________________________

(1) ففي مصحح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «سألته عن قول اللّه عزّ و جل:

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فقال عليه السّلام: هي المرأة تكون عند الرجل، فيكرهها فيقول لها: إنّي أريد أن أطلّقك، فتقول له: لا تفعل، إنّي أكره أن تشمت بي، و لكن أنظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شي ء فهو لك، و دعني على حالتي، فهو قوله تعالى فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً و هذا هو الصلح» «1» [1].

(2) الأولى أن يقال: «و أن يكون معاوضة مستقلّة» ليكون معطوفا على «أن يكون نوعا من الصلح».

و كيف كان فهذا ثاني وجهي صحة الإباحة مع العوض، و حاصله: أنّ هذه الإباحة و إن كانت خارجة عن المعاملات المعهودة حتى الصلح، إلّا أنّه لا يقدح في الصحة، لوجود دليل يمنع عن الرجوع إلى أصالة الفساد، و ذلك الدليل هو حديث

______________________________

[1] لكن الظاهر عدم إجداء شي ء من هاتين الروايتين في المقام.

أمّا الرواية الأولى فلعدم ظهورها في الصلح، لاحتمال كونها هبة معوّضة، أو معاوضة مستقلة، و إن ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الصلح. و بعد تسليم ظهورها في الصلح لا يدلّ على عدم اعتبار اللفظ مطلقا في باب الصلح، بل غايته دلالتها على عدم اعتبار لفظ خاصّ فيه.

و أمّا الرواية الثانية فلأنّ ظاهرها هو الصلح الحقيقي الخارجي في مقابل النشوز و النزاع، لا الصلح الاعتباري الإنشائي الذي هو مقابل سائر العناوين الإنشائية. و مورد البحث هو الثاني، لا الأوّل كما لا يخفى.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 90، الباب 11 من أبواب القسم و النشوز و الشقاق، الحديث: 1

ص: 129

مستقلة (1) كفى فيها عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» [1] و «المؤمنون عند شروطهم» (2) [2].

و على تقدير الصحّة (3)، ففي لزومها مطلقا، لعموم «المؤمنون عند

______________________________

السلطنة و الشرط.

(1) كما في الجواهر، حيث قال بعد منع حصر المعاوضات في المعهودة: «فلا بأس بإجراء حكم المعاوضة المستقلّة عليها، كما صرّح به الشهيد في المحكيّ عن حواشيه ..» «1».

(2) بناء على تعميم الشرط لنفس العقد و عدم اختصاصه بالشرط الخارج عن العقد كما هو الظاهر، فالتمسك به محلّ تأمّل بل منع.

(3) الظاهر أنّ البحث عن لزوم الإباحة المعوّضة و جوازها مخصوص بما إذا صحّحت بالمعاوضة المستقلة، دون ما إذا كانت صلحا، ضرورة كونه عقدا لازما، فلا يبقى مجال لاحتمال الجواز حينئذ.

و كيف كان فقد أشار إلى وجوه ثلاثة:

أحدها: اللزوم مطلقا أي من كلا الطرفين، فلا يصح رجوع المبيح عن إباحته، و لا رجوع المباح له عن تمليكه للعوض.

ثانيها: اللزوم من طرف المباح له دون المبيح، فيجوز رجوع المبيح عن إباحته، لبقاء ما أباحه على ملكه، و عدم انتقاله عنه.

ثالثها: الجواز من كلا الطرفين.

______________________________

[1] هذا خلاف مبناه قدّس سرّه من عدم مشرّعية «الناس مسلّطون على أموالهم» للأسباب.

[2] هذا مبنيّ على عموم الشروط للشروط الابتدائية، و ذلك غير ظاهر، بل خلافه ظاهر.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 226

ص: 130

شروطهم» أو من طرف المباح له، حيث (1) إنّه [1] يخرج ماله عن ملكه، دون المبيح، حيث إنّ ماله باق على ملكه، فهو مسلّط [2] عليه (2). أو جوازها مطلقا؟ وجوه (3)، أقواها

______________________________

(1) حاصله: أنّ المباح له يخرج ماله عن ملكه، لفرض كونه عوضا عن الإباحة.

(2) يعني: أنّ مقتضى قاعدة السلطنة هو بقاء سلطنة المبيح على ماله.

(3) وجه اللزوم مطلقا ما أفاده قبيل ذلك من عموم «المؤمنون عند شروطهم».

و وجه اللّزوم من طرف المباح له ما ذكره أيضا بقوله: «حيث إنه يخرج ماله عن ملكه». و محصّله أصالة اللزوم في الملك، فليس للمباح له أن يتصرف فيه إلّا بإذن المبيح، لأنّه مالكه.

و وجه الجواز مطلقا: كون هذه الإباحة بالعوض من المعاطاة التي بنوا على جوازها، و أناطوا لزومها بأحد ملزماتها المعهودة.

______________________________

[1] هذا التعليل عليل، لأنّ مجرد الإخراج عن الملك لا يصلح لأن يكون دليلا على اللزوم، إلّا أن يثبت كون الأصل في الخروج عن الملك هو اللزوم. كما هو مقتضى استصحاب بقاء الملك للمبيح على ما تقدّم في أصالة اللزوم، فتصرّف المباح له فيه منوط بإذن المبيح.

[2] لكن حكومة دليل وجوب الوفاء بالشروط على قاعدة السلطنة تقتضي رفع سلطنته على ماله، لكون الإباحة لازمة، هذا.

مضافا إلى: أنّ المصنف قدّس سرّه بنى سابقا على عدم مشرّعية قاعدة السلطنة للأسباب و الأحكام. إلّا أن يكون مقصوده المماشاة مع مثل صاحب الجواهر الذي صحّح الإباحة المطلقة بقاعدة السلطنة.

ص: 131

أوّلها (1)، ثم أوسطها (2).

و أمّا حكم الإباحة بالإباحة (3) فالإشكال فيه أيضا يظهر

______________________________

(1) و هو اللزوم مطلقا، لعموم دليل نفوذ الشروط الذي هو مستند هذه الإباحة. وجه أقوائيّته: أنّ مقتضى عموم «المؤمنون عند شروطهم» وجوب وفاء كل واحد من المؤمنين بشرطه و التزامه، سواء أ كان التزامه بإباحة ماله للغير ليتصرف فيه، أم بتمليك رقبة ماله للغير، و لا يجوز نقض الالتزام بوجه من الوجوه.

(2) و هو اللزوم من طرف المباح له، لأصالة اللزوم كما مرّ آنفا.

وجهه: أنّه لو نوقش في صدق الشرط على التزام المبيح بالإباحة، لكنه لا ريب في شموله لالتزام المباح له بتمليك ماله للمبيح، فيلزمه الوفاء بشرطه و عدم نقضه، بخلاف المبيح، فإنّه لا دليل على وجوب الوفاء بإباحته، إذا شكّ في صدق «الشرط» على الإباحة المالكية.

و وجه أولويّة هذا الاحتمال من الاحتمال الثالث- الّذي يجوز لكل منهما الرجوع فيه- هو: أنّه يلزم طرح عموم «المؤمنون» كلّيّة، و هذا خلاف ما فرضناه من دلالة الحديث على صحة الإباحة المعوّضة.

(3) هذا هو القسم الرابع من أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين. و لا يخفى أنّ المصنف قدّس سرّه لم يتعرّض عند بيان الإشكالين- الواردين على هذا القسم و سابقه- لما يختص بهذا القسم من الإشكال حتى يتصدّى لدفعه، و إنّما اقتصر على الإشكال المختص بالقسم الثالث من كونه عقدا مؤلّفا من إباحة و تمليك. ثم أجاب عنه بما عرفت آنفا.

و أمّا هذا القسم الرابع فقد أفاد فيه المصنف أنه كالقسم الثالث إشكالا و جوابا. فالإشكال فيه هو: عدم كون «الإباحة بعوض الإباحة» من المعاوضات المالية المعهودة، و لا تجارة عن تراض، و لا بيعا، و عليه يشكل إباحة المالك التصرّف في ماله بإزاء إباحة الآخر التصرف في ماله، و لو فيما لا يتوقف على الملك.

ص: 132

مما ذكرنا (1) في سابقه. و الأقوى فيها أيضا الصحة و اللزوم، للعموم (2) [1].

أو الجواز (3) من الطرفين، لأصالة التسلّط (4).

______________________________

و الجواب هو: أنّ الإباحة المعوضة من المالك صحيحة شرعا، لكونها صلحا أو معاوضة مستقلة. و حيث كانت صحيحة جرى فيها احتمال الجواز مطلقا و اللزوم كذلك.

و لا مجال للاحتمال الآخر المتقدم في القسم الثالث من كونها لازمة من طرف المالك دون المبيح، و وجهه واضح، إذ لا تمليك هنا أصلا، بل هو إباحة في قبال إباحة، فإمّا اللزوم من الجانبين عملا بوجوب الوفاء بالشرط و الالتزام به. و أمّا الجواز من الجانبين أخذا بأصالة الإطلاق في تسلّط الملّاك على أموالهم، فللمالك الرجوع عن إباحته متى شاء.

(1) من خروجها عن المعاوضات المعهودة شرعا و عرفا، مع التأمّل في صدق التجارة عليها.

(2) أي: عموم «المؤمنون عند شروطهم» كما ذكره في الإباحة بالعوض.

(3) معطوف على «اللزوم».

(4) إذ المفروض في هذه الإباحة بقاء المالين على ملك مالكيهما، فيكونان مسلّطين على استردادهما بمقتضى إطلاق قاعدة السلطنة.

______________________________

[1] مراده عموم «المؤمنون عند شروطهم» لكن قد عرفت المناقشة فيه، بل الوجه فيه هو عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.

و الإشكال فيه: بأن الإباحة هنا مالكية، و من المعلوم زوالها بمجرد كراهة المالك فليس للعقد مضمون يشك في ارتفاعه بالفسخ حتى يقال بدلالة العموم على بقائه.

مندفع بأنّ الزائل بالكراهة هو الإباحة النفسانية، دون الاعتبارية الإنشائية التي هي منشأ الآثار، فمع الشك في زوالها بالفسخ يتمسك بعموم أَوْفُوا الدال على اللزوم. فدليل

ص: 133

______________________________

السلطنة- مضافا إلى قصوره في نفسه- محكوم بدليل وجوب الوفاء بالعقود، بل و بدليل صحة التجارة عن تراض بناء على ما هو الصحيح من صدق «التجارة» على الإباحة بالإباحة و بالمال.

فالقاعدة تقتضي لزوم الإباحة مطلقا و لو بدون العوض كما هو ظاهر وفاقا للسيد قدّس سرّه «1».

ثم إنّه ينبغي التعرّض لشطر من الكلام في القسمين الأخيرين، فالقسم الثالث هو إباحة الموجب بالعوض، بحيث تكون المقابلة بين الإباحة و المال عروضا أو ثمنا، و القسم الرّابع هو كون الإباحة بإزاء الإباحة أو لداعي الإباحة. فنقول: قد استشكل المصنف قدّس سرّه فيهما بوجهين:

الأوّل: الإشكال في صحة إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على ملكية المال للمتصرف، بأن يقول: «أبحت لك كل تصرف» من دون أن يملّكه العين.

الثاني: الإشكال في صحة الإباحة بالعوض، حيث إنّ مرجعها إلى العقد المركّب من إباحة و تمليك، و هي خارجة عن المعاوضات المعهودة، و صدق «التجارة عن تراض» عليها لا يخلو عن التأمّل كما سيأتي في كلام المصنف قدّس سرّه.

ثم إنّ الإشكال الأوّل و هو إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك جار في كلا القسمين الثالث و الرابع، و في غير المعاطاة أيضا، لجريانه في الإباحة القولية سواء أ كانت مع العوض أم بدونه، و سواء أ كانت مستقلة أم ضمنية. و الاشكال الثاني و هو تركب العقد من إباحة و تمليك مختص بالقسم الثالث كما لا يخفى.

أمّا الإشكال الأوّل فهو تارة يكون عقليّا، و أخرى عقلائيا و عرفيّا، و ثالثة شرعيّا أي من ناحية الأدلة الشرعية بناء على كون ماهية البيع تبادل إضافة المالكية و المملوكية في العوضين، بمعنى تبدّل إضافة المبيع إلى مالكه- و هي إضافة المالكية و المملوكية-

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 81

ص: 134

______________________________

بإضافة الثمن إلى صاحبه التي هي أيضا إضافة المالكية و المملوكية، فلا يعقل تحقق ماهية البيع بدون هذه المبادلة.

و على هذا فالإباحة تضادّ المبادلة في إضافة المالكية و المملوكية التي هي حقيقة البيع.

و يظهر من هذا البيان تقريب الإشكال العقلائي، حيث إنّ الإباحة بالعوض لا تكون بيعا عقلائيا بعد كون البيع عندهم تبادل الإضافتين المزبورتين المفقود في الإباحة بالعوض، إذ المفروض عدم تبادل الإضافتين فيها، فمفهوم البيع لا يصدق عليها.

و الحاصل: أنّ هذا الاشكال مبني على كون البيع عبارة عن تبادل إضافة المالكية و المملوكية في العوضين.

لكن فيه منع تقدّم في تعريف البيع، و حاصله: أنّ حقيقة البيع ليست تبادل الإضافة المالكية و المملوكيّة في العوضين، و إلّا لم يصح بيع الوقف العام المسوّغ بيعه بأحد مسوّغاته، و كذا شراء الجنس الزكوي بسهم سبيل اللّه من الزكاة، و اشتراء الأخيار من الوجوه البرّية ما يحتاج إليه الفقراء و المساكين من المأكول و الملبوس و غيرهما لهم.

و بالجملة: فصحة البيع في هذه الموارد تكشف عن سعة دائرة مفهوم البيع، و أنّه عبارة عن التعاوض بين المالين، و عدم تقوّمه بتبادل إضافة الملكية. فالإشكال العقلي و العقلائي مندفع بعدم كون ماهية البيع تبادل الإضافتين، هذا.

و أمّا إشكال منافاة إباحة البيع- للمباح له- لما دلّ من الأدلة الشرعية على توقف البيع و غيره من التصرفات على الملك، مثل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا بيع إلّا فيما تملك» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا طلاق إلّا فيما تملكه، و لا بيع إلّا فيما تملكه» وجه المنافاة: أنّ البيع و إن لم يكن بمفهومه مانعا عقلا و لا عقلائيا عن بيع المباح له مال المبيح، لكن الدليل النقلي يعتبر ملكية المبيع للبائع، فإذن المبيح في بيع ماله لغيره- و هو المباح له-

ص: 135

______________________________

ينافي الدليل الشرعي.

ففيه: أنّ الظاهر عدم قيام دليل تام على اعتبار كون المبيع ملكا للبائع، لأنّ ظاهر الروايتين المزبورتين- بعد تسليم اعتبار سندهما- هو عدم نفوذ بيع مال الغير بلا إذنه، لوضوح صحّته مع إذنه كالوكيل، فالمراد: أنّ البيع لا بدّ أن يكون مضافا إلى المالك إمّا بمباشرته للبيع، و إمّا بتسبيبه له كالتوكيل.

بل ظاهر الرواية الثانية هو ملك التصرّف بشهادة الفقرة الأولى، فإنّ مالكية الطلاق لا معنى لها إلّا ذلك، فليست الروايتان بصدد بيان لزوم دخول الثمن في كيس الذي يخرج المبيع من كيسه كما هو مناط الإشكال، و من المعلوم أنّ المباح له لا يبيع إلّا بإباحة المالك المبيح له بيع ماله، فهو مأذون من المالك في البيع.

و إن أبيت عن ذلك و ناقشت فيما ذكرناه- بأنّ مفهوم البيع هو تبادل الإضافتين- فنقول: إنّ مقتضى الإباحة المطلقة ليس دخول الثمن في ملك المباح له حتى يكون منافيا لحقيقة البيع، بل مقتضاها جواز التصرف في الثمن كجوازه في نفس المثمن، فبيع المباح له نافذ، لاقترانه بإذن المالك المبيح.

و إن شئت فقل: إنّ إطلاق الإباحة للتصرفات في مال يقتضي جواز التصرف في المال بجميع شؤونه من الشخصية و النوعية و المالكية، فكما يباح للمباح له التصرف في شخص المال الذي أبيح له، فكذلك يباح له التصرف في ماليّته المتحققة في ضمن شي ء آخر، فالمال إذا كان كتابا فكما يجوز للمباح له التصرف فيه، فكذلك يجوز التصرف في بدله إذا بيع بدينار مثلا.

فالمتحصل: أنّه- بعد تسليم كون ماهية البيع دخول الثمن في ملك من خرج عن ملكه المبيع- لا إشكال و لا تنافي بين ماهيّة البيع و بين إباحة كل تصرف حتى ما يتوقف منه على الملك كالبيع، هذا.

و لا يندفع الإشكال بالوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف قدّس سرّه.

ص: 136

______________________________

أحدها: كون غرض المبيح توكيل المباح له في نقل المال إلى نفسه ليقع البيع له- أي: للمباح له- أو توكيل المباح له في بيع المال لمالكه، ثم نقل الثمن الذي هو ملك المبيح إلى نفسه، أو تمليك المبيح ماله للمباح له بقوله: «أبحت» أو بالفعل المؤدي للإباحة الذي هو بمنزلة إنشاء الهبة، و كون بيع المباح له بمنزلة القبول، نظير قوله: «أعتق عبدك عنّي بكذا» هذا.

إذ فيه: أنّ هذا الوجه بجميع شقوقه بعيد عمّا نحن فيه، إذ ليس المقصود هنا إلّا إذن المالك للمباح له في التصرف، و مجرّد إمكان قصد أحد الوجوه المزبورة لا يثبت وقوعه الذي هو المدار في الجواز.

ثانيها: أن يدلّ دليل خاص على كون مال المبيح ملكا للمباح له بمجرد الإباحة، فيقع البيع في ملك المباح له. أو يدلّ دليل على صيرورة الثمن ملكا للمباح له، فإنّه يكشف عن دخول الثمن في ملك المبيح آنا ما لئلّا يستحيل صدق مفهوم البيع عليه، ثم انتقاله عنه إلى المباح له، نظير شراء العمودين، حيث إنّهما يدخلان في ملك المشتري آنا ما، ثم ينعتقان عليه، لأنّه قضية الجمع بين الأدلّة، و هي ما دلّ على صحة الشراء، و ما دلّ على أنّه لا عتق إلّا في ملك، و ما دلّ على أنّ الإنسان لا يملك عموديه، هذا.

إذ فيه: أنّ من المعلوم فقدان دليل خاص في المقام يدل على كون مال المبيح ملكا للمباح له بمجرد الإباحة. أو يدلّ على صيرورة الثمن ملكا للمباح له حتى نلتزم فيه بما التزموا به في مثال شراء العمودين، حيث إنّ ما يمكن أن يكون دليل على الإباحة في المقام هو دليل السلطنة الذي لا يزاحم الأدلة الدالة على توقف بعض التصرفات على الملك كالعتق و البيع و الوطي و نحوها، بل هي حاكمة على دليل السلطنة، لما أفاده المصنف قدّس سرّه من أنّ مفاد دليل السلطنة هو نفوذ سلطنة المالك على التصرفات التي ثبت جوازها في الشرع مع الغضّ عن دليل السلطنة. و ليس دليل السلطنة مشرّعا. فاتّضح الفرق بين المقام و بين مسألة شراء العمودين.

ص: 137

______________________________

ثالثها: ما أشار إليه بقوله: «و أمّا حصول الملك في الآن المتعقب بالبيع و العتق فيما إذا باع الواهب عبده الموهوب أو أعتقه .. إلخ» و حاصله: تنظير المقام برجوع الواهب عن هبته ليقع البيع في ملكه، فكما يقتضي بيع الواهب رجوعه عن الهبة و دخول العين الموهوبة في ملكه، فكذلك التصرف في المباح تصرفا موقوفا على الملك يقتضي دخول المال في ملك المباح له.

إذ فيه أيضا ما لا يخفى، لعدم دليل على صحة مثل هذا التصرف للمباح له حتى يكشف ذلك الدليل عن حصول الملكية التحقيقيّة آنا ما قبل تحقق ذلك التصرف.

و الحاصل: أنّ شيئا من هذه الوجوه الثلاثة المذكورة في كلام المصنف قدّس سرّه لا يصلح لتصحيح بيع المباح له للمال الذي أبيح له التصرف فيه كما نبّه هو قدّس سرّه أيضا على ذلك.

هذا حال البيع الذي قيل بتوقفه على الملك.

و أمّا سائر صغريات التصرف المتوقف على الملك فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها، فنقول:

إنّه عدّ منها العتق. و قد نسب ذلك إلى المشهور، و لذا حكموا بالملك التقديري في مثل قوله: «أعتق عبدك عنّي» بل ربما يدّعي الإجماع على ذلك.

و يدل عليه صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام «قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك» «1».

و رواية مسمع أبي سيّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا عتق إلّا بعد ملك» «2». و نحوهما غيرهما.

و ما في حاشية السيد قدّس سرّه «من حمل الملك على ملكية الإعتاق كما تقدم في

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 16، ص 7، الباب 5 من أبواب كتاب العتق، الحديث: 1

(2) المصدر، الحديث: 2

ص: 138

______________________________

البيع، لا ملكية العبد، فلا مانع حينئذ من جواز العتق إذا كان بإباحة المالك و إذنه، لكون المباح له حينئذ مالكا للإعتاق و سلطانا عليه» «1» خلاف الظاهر جدّا، لكون الظاهر هو إضافة الملكية لا مجرّد السلطنة و لو بإذن من المالك. و الحمل المزبور مما لا موجب له و لا داعي إليه، إذ لا قرينة على هذا الحمل، كما كانت موجودة في بعض الروايات الدالة على اعتبار الملكية في المبيع كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا طلاق إلّا فيما تملكه، و لا بيع إلّا فيما تملكه» ضرورة عدم اعتبار ملكية الزوجة في الطلاق.

نعم في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «كان الّذين من قبلنا يقولون:

لا عتاق و لا طلاق إلّا بعد ما يملك الرجل» «2». و لا بأس بقرينية هذه الرواية على إرادة ملكية الإعتاق.

إلّا أن يقال: بعدم منافاة الجمع بين اعتبار إضافة الملكيّة و بين اعتبار السلطنة، لأنّ اعتبار هذه يرجع إلى عدم الحجر، و أنّ من يتصدّى الإعتاق لا بدّ أن يكون سلطانا على ذلك و غير محجور عنه.

و على هذا فيعتبر في المعتق الملكية و عدم الحجر، فلا تكون رواية أبي بصير قرينة على إرادة السلطنة من الملكية في سائر الروايات، لكونهما من المثبتين اللّذين لا تنافي بينهما، و مقتضى الجمع بينهما هو اعتبار كون المعتق مالكا غير محجور عن التصرف، و يجري مثل هذا الكلام في البيع أيضا، فتدبّر.

و منها: مسألة الخمس و الزكاة، بمعنى: أنّ ما يخرج خمسا أو زكاة لا بدّ أن يكون ملكا. و توضيح الكلام في ذلك: أنّه بناء على تعلّق الخمس بنفس المال بنحو الإشاعة كما هو الأظهر أو الكلّيّ في المعيّن- مع بقاء العين و عدم تبديل الحق- فالظاهر وجوب الدفع من نفس العين، لعدم موجب لجواز الأداء بغير عين المال الذي تعلّق الحق بهما،

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 79

(2) وسائل الشيعة، ج 16، ص 7، الباب 5 من أبواب كتاب العتق، الحديث: 3

ص: 139

______________________________

إذ الموجب له هو تخلّص تلك العين عن الحق بالتبديل بعين أخرى خارجية أو ذميّة، بمقتضى ولاية المالك على التبديل.

و إن شئت فقل: إنّه بدون التبديل لا يصدق الدّين على من عليه الحق حتى يجوز أداؤه بمال الغير بإذنه، فليس للمباح له إخراج ما أبيح له خمسا أو زكاة.

و بناء على كونهما في الذمة- إمّا للقول بتعلقهما بها لا بنفس العين، و إمّا لتلف العين التي تعلّق بها الخميس أو الزكاة على وجه يوجب ضمانهما و اشتغال ذمته بهما بحيث صارا دينا عليه. و إمّا لنقل الحق في ذمته بإذن المجتهد- لا مانع حينئذ من أدائهما بمال الغير بإذنه، و المفروض كون المال من ناحية مالكه مباحا له، فيجوز للمباح له أداء دينه الذي منه الخمس و الزكاة.

و بالجملة: يجب الأداء من نفس العين بناء على تعلقهما بها، و عدم تبديل الحق بمال آخر. و لا يكفي الأداء من مال غيره و لو مع إذنه و إباحته، لأنّ ولاية التبديل الرافع للشركة ثابتة للمالك لا لكل أحد حتى تثبت الولاية للمبيح، و يكون إذنه في الأداء من ماله رافعا للشركة، و يجوز الأداء من مال غيره، مع صيرورة الحق في ذمّته بأحد الوجوه الموجبة لانتقال الحق إلى الذمة.

فقد ظهر مما ذكرنا أنّ توقف جواز إخراج مال خمسا أو زكاة على الملك- كما قيل- ليس في محله، لأنّهما بعد صيرورتهما دينا على من عليه الخمس و الزكاة يجوز التبرّع بأدائهما من مال الغير بلا إشكال، لما دلّ على جواز التبرّع بأداء دين الغير، فلا مانع حينئذ من قصد القربة.

فما في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه من الإشكال في قصد القربة «1» لا يخلو من غموض.

و قبل صيرورتهما دينا عليه- بأن كانت العين باقية و لم يبدّلها المالك بمال آخر-

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 188

ص: 140

______________________________

يجب الدفع من نفس العين التي هي مشتركة بين المالك و بين السّادة أو الفقراء، فالمبذول حينئذ هو عين مالهم، و ليس من مال المالك أصلا، كما هو واضح.

و منها: كون ثمن الهدي مملوكا للناسك كما حكاه المصنف عن الشهيد قدّس سرّهما حيث قال في هذا التنبيه: «و عرفت أيضا: أن الشهيد في الحواشي لم يجوّز إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس و الزكاة و ثمن الهدي، و لا وطي الجارية، مع أن مقصود المتعاطيين الإباحة المطلقة» و هذه العبارة كالصريح في اعتبار كون ثمن الهدي مملوكا و عدم كفاية إباحته.

لكن فيه: أنّه لم يدلّ دليل على اعتبار ملكية ثمن الهدي، بل مقتضى إطلاق أخبار الاستطاعة البذليّة «1»- و خلوّ روايات وجوب سوق الهدي في حجّ القران «2»، و وجوب ذبحه في منى في حج التمتع «3» عن اعتبار ملك الثمن- هو عدم اعتبار كون ثمن الهدي ملكا للناسك، ففي رواية الفقيه: «كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساق معه مائة بدنة، فجعل لعليّ عليه السّلام منها أربعا و ثلاثين، و لنفسه ستّا و ستين، و نحرها كلّها بيده» الحديث. و هي ظاهرة في عدم اعتبار ملكية ثمن الهدي. و لو شك في اعتبارها فالأصل عدمه.

و عليه فلو جعل المال المباح له ثمنا للهدي كما إذا اشتراه بعينه لنفسه أو أدّى به دينه الذي اشتغلت به ذمّته، كما إذا جعل ثمن الهدي في ذمّته و أدّاه من المأخوذ بالمعاطاة الذي أبيح له التصرف فيه لم يكن به بأس.

و أمّا ما في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه من: «أنّه لا يتصوّر لإخراج ثمن الهدي من مال الغير معنى معقولا، و ذلك لأنّ المهدي إمّا أن يشتري الهدي بذمّته .. إلى أن قال: و إمّا

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 8، ص 26 إلى 28، الباب 10 من أبواب وجوب الحج و شرائطه.

(2) وسائل الشيعة، ج 8، ص 149، الباب 2 من أبواب أقسام الحج.

(3) المصدر، ص 164، الحديث: 25

ص: 141

______________________________

أن يشتريه بشخص مال الغير. و عليه إن قصد الشراء للمالك فالهدي بنفسه يكون للمبيح .. الى أن قال المقرّر: و إن قصد الشراء لنفسه فهو داخل فيما هو معلوم من شراء أحد بمال الغير لنفسه شيئا. و لا معنى لإخراج ملك الغير في ثمن الهدي» «1».

ففيه: أنّه مبني على كون المعاوضة تبادل الإضافتين الملكيتين، و قد عرفت خلافه، فيتصور إخراج ملك الغير في ثمن الهدي.

بل على ما ذكرنا في دفع إشكال المعاوضة تكون المعاوضة بمعنى تبادل الإضافتين الملكيتين محفوظة، حيث إنّ الهدي يصير ملكا لمالك الثمن، و يباح للمباح له التصرف في الهدي بمقتضى الإباحة المطلقة، حيث إنّها تقتضي إباحة التصرف في نفس المباح و بدله إذا عوّض بشي ء، و بدل بدله، و هكذا، و المفروض عدم قيام دليل على تعيّن إخراج الهدي من ملك الناسك.

و منها: وطي الجارية كما أشار إليه الشهيد رحمه اللّه، فإنّه متوقف على الملك أو النكاح أو التحليل، فلا يجوز وطيها إذا أخذت بالمعاطاة، لأنّ الإباحة ليست ملكا و لا نكاحا و لا تحليلا، إذ يعتبر في التحليل الصيغة الخاصة بلا خلاف، بل الإجماع بقسميه عليه كما تقدّم في كلام الجواهر عند شرح كلام المصنف قدّس سرّه: «و صحة الوطي على التحليل بصيغة خاصة لا بمجرّد الإذن» و المراد بالصيغة الخاصة هي قوله: «أبحت لك وطي أمتي» أو «أنت في حلّ من وطي أمتي» هذا.

أقول: ليس الوطي متوقفا على الملك، بل يتوقف على كون الواطي مالكا للوطي سواء أ كان ذلك لكونه مالكا لرقبة الموطوئة أم زوجا لها، أم ممّن أبيح له وطؤها من ناحية مالكها بألفاظ خاصة بالتحليل، بناء على تمامية الإجماع على اعتبار تلك الألفاظ الخاصة في التحليل. و إلّا فالأظهر تحقق التحليل بكل لفظ يدل عليه و إن لم يكن عربيّا، و التفصيل في محلّه.

______________________________

(1): محاضرات في الفقه الجعفري، ج 2، ص 93

ص: 142

______________________________

و منها: المهر، فإنّه قيل باعتبار كونه ملكا للزوج.

و فيه: أنه لا مجال لهذا التوهم، بعد كون الزوجين ركنين في العقد، في مقابل ركنيّة العوضين في العقود المعاوضيّة، و لذا يجوز تفويض المهر و عدم ذكره في العقد، بخلاف العقود المعاوضيّة، فإنّه لا يجوز عدم ذكر العوض فيها. و كذا يجوز جعل المهر على غير الزوج الذي هو أجنبيّ عن المتعاقدين.

فتلخص من جميع ما ذكرناه صحة بعض ما قيل من التوقف على الملك في الموارد المذكورة، فإنّ بعضها متوقف على الملك، فتأمّل.

لكن الشأن كلّه في نهوض الدليل على صحة الإباحة المطلقة حتى بالنسبة إلى التصرفات المتوقفة على الملك، إذ مع فرض نهوضه عليها لا بدّ من الالتزام بالملك التحقيقي الآني ليقع التصرف المنوط بالملك في ملكه، فتأمّل.

و كيف كان فمرجع ما استدل به على صحتها وجوه ثلاثة:

أحدها: ما في المتن من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الناس مسلّطون على أموالهم» و قد عرفت عدم دلالته عليه.

ثانيها: ما في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه من السيرة، فإنّها قد ادّعيت على جواز جعل نثار العرس ثمنا في المعاوضات، و التصرف فيه بما يتوقف على الملك، غايته أنّه من الإباحة بلا عوض. كما أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام كانوا يتصرفون أنواع التصرفات فيما يهدى إليهم من غير فرق بين التصرفات المتوقفة على الملك و غيرها، هذا «1».

و فيه: أنّ نثار العرس أجنبي عن المقام، لأنّ الظاهر أنّه من باب الإعراض الرافع لمنع تملك الغير له، فإذا أخذ كان الأخذ كأخذ المباح الأصلي في التملّك.

و قد يقال: إن نثار العرس من باب الهبة. لكنه بعيد. و على كل حال هو أجنبي عن

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 196

ص: 143

______________________________

الإباحة المطلقة، هذا.

ثالثها: ما في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه أيضا من «أنه قد يستدل لجواز الإباحة المطلقة المزبورة بمسألة الأنفال، حيث إنّهم عليهم السّلام أباحوها لشيعتهم. «1». و من المعلوم أنّ المتصرف في شي ء منها يملكه، و إباحتهم مالكية، لأنّها من أملاكهم و حقوقهم كالمقام، إذ الإباحة المطلقة المعاطاتية مالكية أيضا، لأنّ المفروض قصد المتعاطيين للإباحة لا الملكية. و حكي أن المحقق الثاني أشار الى ذلك في شرح القواعد هذا «2».

و أجيب عن هذا الاستدلال تارة: بأنّ إباحة الأنفال تكون من باب الإعراض الرافع للملكية أو لموانع التملك، فيملكه المتصرف.

و أخرى: بالفرق بين المقام و بين الأنفال، حيث إنّ المطلوب هنا هو إباحة جميع التصرفات حتّى المتوقفة على الملك، مع بقاء المال على ملك المبيح. بخلاف الأنفال، فإنّهم عليهم السّلام رخّصوا في تملّك العين فيها.

و هذا الجواب هو الحق الذي ينبغي المصير إليه، إذ إباحتهم عليهم السّلام من باب العطية و جوائز السّلطان، فكلّ من حاز شيئا من الأنفال ملكه.

و أمّا الجواب الأوّل فيرد عليه: أنّ إباحتهم عليهم السّلام مختصة بالشيعة، و الإعراض على وجه التقييد غير معقول، لأنّ الإخراج عن الملك كالضرب الواقع على شخص لا يصلح للتقييد. فكما لا يعقل أن يقول الضارب:- اضرب هذا الشخص إن كان معاوية مثلا، و إلّا فلا أضربه- فإنّ من المشاهد وقوع الضرب على المضروب و إن تبيّن أنه طلحة مثلا لا معاوية. و كذا الحال في مسألة التقليد.

لكن إشكال عدم المعقولية المذكور في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه مبني على كون الإعراض بنفسه مخرجا عن الملك و موجبا لصيرورة المعرض عنه مباحا.

______________________________

(1): وسائل الشيعة ج 6 ص 378- الباب 4 من أبواب الأنفال و ما يختص بالإمام

(2) غاية الآمال، ص 197

ص: 144

______________________________

و أمّا بناء على كونه رافعا لموانع تملك الغير لمال المعرض فلا وجه لعدم المعقولية، إذ مرجع الإعراض حينئذ إلى الإذن في تمليك ماله، و لا مانع من تقييد الإذن لشخص أو طائفة خاصّة كما لا يخفى.

فتلخص مما ذكرنا: أنّ شيئا من هذه الوجوه لا يصلح لإثبات مشروعية الإباحة مع العوض.

نعم يمكن أن يستدل لها بآية التجارة عن تراض. و منع صدق التجارة عليها مكابرة بعد كون مناط التجارة هو الانتفاع بالمعاملة الموجود في الإباحة مع العوض.

نعم منع صدقها على الإباحة المجانية في محله.

و إن أبيت عن ذلك و ادّعيت أنّ مفهوم التجارة هو خصوص المعاملة المملّكة دون غيرها، فلا بأس بالتمسك بقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فإنّ عقديّة هذه الإباحة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. و الظاهر أن العقد يصدق على كلتا الاباحتين، و هما الإباحة بالعوض، و الإباحة في مقابل الإباحة.

ثم إنّه إذا ثبت إناطة بعض التصرفات بالملك كالعتق مثلا فلا بد من الجمع بين دليله و بين هذه الإباحة المطلقة بالملك التحقيقي الآني لا التقديري الفرضي، لأنّ الملكيّة المعتبرة في ذلك التصرف تحقيقية لا تقديرية، فالالتزام بالملك التقديري ليس جمعا بين الأدلة. بل مقتضى القاعدة إعمال قواعد تعارض العامّين من وجه. إلّا أن يقوم دليل على صحة التصرف المتوقف على الملك، حيث إنّه شاهد على هذا الجمع، و إلّا فهو من الجموع التبرعية التي لا سبيل إليها. و مقتضى القاعدة حينئذ التساقط في المجمع و الرجوع فيه إلى الأصول التي تقتضي الفساد، لكون أصالة الفساد محكّمة في المعاملات.

كما أن الجمع بالملك الرتبي أو الذاتي المتقدم في كلام صاحب الجواهر غير ظاهر الوجه. إذ لا اعتبار للملكية العقلائية في غير وعاء الزمان. مضافا إلى منافاته لظواهر

ص: 145

______________________________

الأدلة.

و ينبغي التنبيه على أمور:

الأوّل: أنّ الملكية التي يجمع بها بين الأدلة في بيع الواهب و ذي الخيار و شراء من ينعتق عليه حقيقيّة آنيّة لا فرضيّة، لأنّه ليس جمعا بين الدليلين، و عملا بما دلّ على توقف البيع و العتق على الملك، ضرورة أنّ الملك المنوط به البيع و العتق هو الملك التحقيقي لا التقديري. نعم يتجه الملك التقديري في الدية، لعدم قابلية الميت للملك الحقيقيّ.

الثاني: أنّه قد ظهر مما ذكرنا عدم ثبوت جواز تصرف متوقف على الملك- لما عرفت مفصلا- حتى يستشكل في اقتضاء الإباحة المبحوث عنها في المقام لجواز التصرفات المتوقفة على الملك.

الثالث: أنّ الإباحة سواء أ كانت مع العوض كما هو الوجه الثالث أم بدونه- كما إذا كانت الإباحة في مقابل الإباحة- صحيحة لازمة، لعموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا لدليل وجوب الوفاء بالشروط، لعدم إحراز شموله للشروط الابتدائية لو لم نقل بعدم شموله لها. و قد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في أدلة لزوم المعاطاة.

الرابع: أنّ ما ذكرناه في حكم صور المعاطاة يجري في سائر الصور التي لم يذكرها المصنف، لشمول العقد لها، فيجب الوفاء بها، فإنّ المناط في الجميع هو العقد.

ص: 146

[التنبيه الخامس: جريان المعاطاة في غير البيع]

الخامس (1): في حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود، و عدمه.

اعلم: أنّه ذكر المحقّق الثاني رحمه اللّه في جامع المقاصد «1» على ما حكي (2) عنه:

______________________________

التنبيه الخامس: جريان المعاطاة في غير البيع

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه- كما صرّح به في المتن- تحقيق أنّ المعاطاة هل تختص بالبيع، فلا تجري في سائر العقود كما لا تجري في الإيقاعات على ما قيل، أم لا تختص به فتجري في العقود الأخر أيضا؟ و قد نقل أوّلا كلام المحقق الكركي قدّس سرّه حيث نسب إلى بعض الأصحاب القول بالمعاطاة في الإجارة و الهبة، ثم ناقش المصنف فيه و تأمّل في النسبة، و سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

و عليه يقع البحث في هذا التنبيه في مقامين، أحدهما في تحقيق كلام المحقق الثاني قدّس سرّه، و الآخر في بيان مختار المصنف قدّس سرّه، و يقع الكلام فعلا في المقام الأوّل.

(2) الحاكي غير واحد من الأصحاب، منهم السيد الفقيه العاملي «2» و صاحب الجواهر و غيرهما قدّس سرّهم، و كذا حكاه الشهيد الثاني من دون التصريح باسم القائل، ففي المسالك: «ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة و الهبة، بأن يأمره بعمل معيّن و يعيّن له عوضا، فيستحق الأجر بالعمل. و لو كان إجارة فاسدة لم يستحق شيئا مع علمه بالفساد، بل لم يجز له العمل و التصرف في ملك المستأجر، مع إطباقهم

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 59

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158، جواهر الكلام، ج 22، ص 239

ص: 147

«أن في كلام بعضهم (1) ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة، و كذا في الهبة،

______________________________

على جواز ذلك، و استحقاق الأجر. إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة» «1».

و قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه: «قد يقال: بورود المعاطاة في الإجارة و سائر العقود عدا النكاح. بل عن بعض من تأخّر ورودها فيه أيضا. و عن تعليق الإرشاد: أنّ من المعاطاة الإجارة و نحوها، بخلاف النكاح و الطلاق و نحوهما، فلا تقع» «2».

(1) الظاهر أنّ هذا البعض هو العلّامة قدّس سرّه، إذ المستفاد من كلامه في التذكرة عدم توقف الملك في الهدية على الإيجاب و القبول اللّفظيّين، خلافا لمن تقدّم عليه كالشيخ و الحلّي حيث صرّحوا باعتبار الصيغة فيها، و أنّه لا يباح التصرف المنوط بالملك في الهدية الفاقدة للصيغة.

و كذا يمكن أن يستظهر من كلامه جريان المعاطاة في الإجارة.

و لما لم تكن عبارة العلّامة في المقامين- و هما الهبة و الإجارة- صريحة في تأثير معاطاتهما في الملك اقتصر المحقق الثاني قدّس سرّه على قوله: «ما يقتضي اعتبار المعاطاة ..» و لم يدّع صراحة كلام ذلك البعض في جريان المعاطاة في البابين المذكورين، و لم يتفرّد المحقق الثاني في هذا الاستظهار، بل وافقة الشهيد الثاني «3» و المحقق الأردبيلي قدّس سرّهما أيضا «4».

و الأولى نقل جملة من كلام العلّامة وقوفا على حقيقة النسبة.

قال في إجارة التذكرة: «مسألة: لو دفع ثوبا إلى قصّار ليقصّره، أو إلى خيّاط ليخيطه، أو جلس بين يدي حلّاق ليحلق رأسه، أو دلّاك ليدلكه، ففعل، و بالجملة:

كل من دفع إلى غيره سلعة ليعمل فيها عملا، و لم يجر بينهما ذكر أجرة و لا نفيها، فإن كان من عادته أن يستأجر لذلك العمل كالغسّال و القصّار فله أجرة مثل عمله،

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 151

(2) غاية الآمال، ص 201

(3) مسالك الأفهام، ج 5، ص 229

(4) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 83

ص: 148

..........

______________________________

و إن لم يكن له عادة و كان العمل ممّا له أجرة فله المطالبة، لأنّه أبصر بنيّته. و إن لم يكن ممّا له أجرة بالعادة لم يلتفت إلى مدّعيها. و للشافعية أوجه ..» «1» و نحوه عبارة القواعد «2» و الإرشاد «3»، إلّا أنه أطلق الأجرة في الأخير و لم يقيّده بالمثل.

و أمّا في الهبة فقد جزم العلّامة في القواعد «4» بعدم كفاية المعاطاة فيها، و لكنّه مال في التحرير «5» إلى عدم اشتراط القبول نطقا كما قيل. و يلوح من كلامه في هبة التذكرة كفاية المعاطاة، حيث إنّه نقل عن بعض العامة ترتب الملك على إرسال الهدية، و لم يناقش فيه، و ظاهره الركون إليه و إن لم يصرّح به.

قال فيها: «الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب و القبول باللفظ كالبيع و سائر التمليكات. و أمّا الهدية فذهب قوم من العامّة إلى أنّه لا حاجة فيها إلى الإيجاب و القبول اللفظيين، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب، و القبض من جهة المهدي إليه كالقبول، لأنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كسرى و قيصر و سائر الملوك فيقبلها، و لا لفظ هناك، و استمرّ الحال من عهده إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع، و لهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الّذين لا يعتدّ بعبارتهم. و منهم من اعتبرهما كما في الهبة و الوصية. و اعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلك كان إباحة لا تمليكا.

و أجيب بأنّه لو كان كذلك لما تصرّف الملّاك [لما تصرّفوا فيه تصرف الملّاك] و معلوم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتصرّف فيه و يملّكه غيره. و الصدقة كالهدية في ذلك بلا فصل.

و يمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال و الأخذ من غير لفظ الإيجاب و القبول جريا على المعتاد بين الناس. و التحقيق مساواة غير الأطعمة لها، فإنّ الهدية قد يكون

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 320

(2) قواعد الأحكام، ص 94 (الطبعة الحجرية)

(3) إرشاد الأذهان، ج 1، ص 425

(4) قواعد الأحكام، ص 110

(5) تحرير الأحكام، ص 281

ص: 149

و ذلك (1) لأنّه إذا أمره (2) بعمل على عوض معيّن (3) فعمله، استحق الأجرة.

و لو كانت (4) هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل

______________________________

غير طعام، فإنّه قد اشتهر هدايا الثياب و الدّواب من الملوك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّ مارية القبطية أمّ ولده كانت من الهدايا. و قال بعض الحنابلة: لا يفتقر الهبة إلى عقد، بل المعاطاة و الأفعال الدالة على الإيجاب و القبول كافية، و لا يحتاج الى لفظ، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يهدي و يهدي إليه، و يفرّق الصدقة، و يأمر بتفرقتها، و لم ينقل في ذلك لفظ إيجاب و لا قبول. و لو كان شرطا لأمر به ..» «1».

و استجوده المحقق و الشهيد الثانيان، ففي جامع المقاصد- بعد نقل المضمون-:

«و هذا قوي متين» «2».

و في المسالك بعد نقل نصّ عبارة التذكرة: «و هو حسن» ثم قوّى إفادة الملك لا الإباحة المحضة، فراجع «3».

هذا تقريب جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة.

(1) هذا بيان مستند جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة، و هو حكم العلّامة قدّس سرّه في التذكرة في كلا البابين، و قد تقدم مفصّلا.

(2) أي: أمر الآمر صانعا بعمل على عوض.

(3) لم يذكر العلّامة أجرة معيّنة، فالظاهر أنّ المحقق الثاني استظهرها من التعارف و العادة القاضيين بتملّك المأمور لأجرة المثل أو للأجرة المتعارفة.

(4) هذا استظهار المحقق الثاني من الفرع المذكور في التذكرة و غيرها، و حاصله:

أنّه يتعيّن توجيه استحقاق الأجرة بكفاية المعاطاة في باب الإجارة، إذ لولاها لم يجز للمأمور التصرف في ثوب الآمر بخياطة و قصارة، لكونه تصرفا في ملك الغير بلا إذن

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 415

(2) جامع المقاصد، ج 9، ص 142

(3) مسالك الافهام، ج 6، ص 12

ص: 150

و لم يستحق (1) أجرة مع علمه بالفساد. و ظاهرهم (2) الجواز بذلك. و كذا (3) لو وهب بغير عقد، فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف (4)، و لو كانت هبة فاسدة لم يجز (5)، بل منع من مطلق التصرف. و هو (6) ملحظ وجيه» انتهى [1].

______________________________

منه، و لم يستحق أجرة على عمله مع علمه بفساد الإجارة، لفقد شرطها و هو الإيجاب و القبول اللفظيان.

(1) أمّا عدم استحقاقه للأجرة المسمّاة فلفساد الإجارة. و أمّا عدم استحقاقه لأجرة المثل فلإقدامه على العمل بغير أجرة، و ذلك لعلمه بالفساد.

(2) أي: و الحال أنّ ظاهر الأصحاب جواز عمل المأمور استنادا إلى أمر الآمر، فلا بدّ من كشف هذا الجواز عن صحة الإجارة المعاطاتية.

(3) معطوف على «إذا أمره» و هذا الحكم في الهدية منشأ استظهار المحقق الثاني قدّس سرّه جريان المعاطاة فيها و عدم توقف الملك على الصيغة، و قد تقدم نقل عبارة التذكرة آنفا.

(4) و من المعلوم أنّ جواز الإتلاف- و سائر التصرفات المتوقفة على الملك- من آثار صحة الهبة المعاطاتية، إذ لو كانت فاسدة كانت العين الموهوبة باقية على ملك الواهب، و لم يكن تصرف المتهب فيها- مطلقا- جائزا.

(5) يعني: لم يجز الإتلاف، بل يمنع من جميع التصرفات.

(6) هذا نظر المحقق الثاني قدّس سرّه، يعني: أنّ ما يقتضيه كلام بعضهم- من جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة- متين و وجيه.

______________________________

[1] و قد استدلّ على جريانها في سائر العقود بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه:

الأوّل: السيرة المستمرة على إجرائها في غير البيع، على حدّ جريانها فيه.

الثاني: صدق اسم كل عنوان من عناوين العقود على المعاطاة التي تقوم مقام

ص: 151

و فيه (1): أنّ معنى جريان المعاطاة في الإجارة على مذهب المحقق الثاني

______________________________

(1) شرع المصنّف قدّس سرّه في مناقشة ما أفاده المحقق الثاني قدّس سرّه من تعميم المعاطاة للإجارة و الهبة، فأورد عليه في ما يتعلق بالإجارة بوجوه ثلاثة، كما أورد عليه بوجهين في الهبة سيأتي بيانهما تبعا للمتن.

الأوّل: أنّ المحقق الكركي قدّس سرّه التزم في معاطاة البيع بالملك المتزلزل، و نفى مقالة المشهور من ترتب إباحة التصرف عليها. و على هذا المبنى يكون معنى جريان المعاطاة في الإجارة صيرورة الأجير- و هو المأمور- مالكا للأجرة المعيّنة على عهدة المستأجر الآمر، و صيرورة الآمر مالكا للعمل المعيّن- المأمور به- على المأمور.

و لكن يرد عليه أنّا لم نجد من صرّح بتحقق الملكية المتزلزلة في هذه الإجارة، فكيف أسندها المحقق الثاني إليهم؟ على ما هو ظاهر قوله: «إن في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة» و لعلّ هذا البعض يقول بكون المعاطاة مبيحة مطلقا سواء في البيع و الإجارة. و من المعلوم أنّ إباحة المنفعة و الأجرة- من دون

______________________________

اللفظ، فتشملها أدلة تلك العقود.

الثالث: الهدايا التي أهديت الى المعصومين عليهم السّلام، فإنّهم كانوا يعاملون معها معاملة الملك، مع وضوح خلوّها عن اللفظ.

الرابع: إسناد المحقق الثاني إلى ظاهر الأصحاب جريان المعاطاة في الهبة و الإجارة.

الخامس: عدم القول بالفصل بين البيع و غيره. «1»

و الكلّ- ما عدا الثاني- مخدوش، و إن كان المدّعى حقّا.

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 202

ص: 152

الحكم بملك المأمور الأجر المعيّن على الآمر (1)، و ملك الآمر العمل المعيّن على المأمور، و لم نجد (2) من صرّح به (3) في المعاطاة.

______________________________

الملكية- أجنبية عن استحقاقهما المنوط بالملك، هذا.

الثاني: أنّ أصل استظهار المحقق الثاني جريان المعاطاة في الإجارة بقوله:

«و لو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» ممنوع، فلعلّ ذلك البعض قائل بالإجارة المعاطاتية المفيدة للإباحة لا للملك. وجه منع الاستظهار: عدم الملازمة بين فساد الإجارة و منع الأجير عن العمل، و ذلك لأنّ فسادها غير مانع عن عمل الأجير مطلقا و لو تبرّعا، لإمكان وجود إذن المالك في التصرف و عدم تقييده بصحّة الإجارة بناء على تعدد المطلوب. و إنما يستلزم المنع عن العمل إذا تقيّد إذن المالك بصحة الإجارة.

و الحاصل: أنّ مجرّد جواز التصرف في ملك الآمر لا يدلّ على صحّة الإجارة، حتى يستظهر من الملازمة بينهما صحة الإجارة المعاطاتية.

الثالث: أنّ مجرّد علم المأمور بفساد الإجارة- لخلوّها عن الصيغة المعتبرة فيها- لا يمنع عن استحقاق الأجرة، بل المانع منه هو قصد التبرّع، لأنّه رافع لحرمة عمله، فبدون هذا القصد يستحق الأجرة، لقاعدة احترام عمل المسلم. نعم العلم بفساد الإجارة يوجب علمه بعدم استحقاق الأجرة المسمّاة، و لا يستلزم بذل عمله مجّانا.

هذه مناقشات المصنف فيما يتعلق باستظهار جريان المعاطاة في الإجارة.

(1) أي: كون الآمر ضامنا للأجرة المعيّنة، و المأمور ضامنا للعمل المعيّن كخياطة الثوب و نحوها ممّا أمره به.

(2) هذا أوّل الوجوه الثلاثة، و مقصود المصنف منع قول المحقق الثاني: «ان في كلام بعضهم ما يقتضي ..». فإنّ عدم الظّفر بالمصرّح يجعل دعوى المحقق الثاني اجتهادا منه، لا حكاية و إخبارا عن رأي بعض الأصحاب.

(3) أي: بملك المأمور للأجرة، و ملك الآمر للعمل المعيّن.

ص: 153

و أمّا (1) قوله: «لو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل» فموضع نظر، لأنّ فساد المعاملة لا يوجب منعه عن العمل، سيّما (2) إذا لم يكن العمل تصرفا في عين من أموال المستأجر.

و قوله: «لم يستحق اجرة مع علمه بالفساد» ممنوع (3)، لأنّ الظاهر ثبوت أجرة المثل، لأنّه (4) لم يقصد التبرّع، و إنّما قصد عوضا لم يسلم له (5).

و أمّا مسألة الهبة (6) فالحكم فيها بجواز إتلاف الموهوب لا يدلّ على

______________________________

(1) هذا ثاني وجوه المناقشة، و هو منع الملازمة بين صحّة الإجارة و جواز التصرف في ملك الآمر.

(2) كما إذا أمر شخصا بأن يبني مسجدا أو قنطرة أو غيرهما- مما لا يكون ملكا للمستأجر- بعوض، حيث إنّ العمل حينئذ ليس تصرفا في عين أموال المستأجر، فلا وجه لعدم جوازه من ناحية التصرف في مال الغير. فوجه الخصوصية هو عدم استلزام العمل للتصرّف في مال الغير.

(3) هذا هو الإشكال الثالث على كلام المحقق الكركي قدّس سرّه، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «الثالث ان مجرد علم المأمور بفساد الإجارة .. إلخ».

(4) أي: لأنّ المأمور لم يقصد التبرّع، فهو يستحق أجرة المثل من الآمر، بمناط استيفاء عمله المحترم.

(5) أي: لم يسلم العوض المسمّى للمأمور من جهة علمه بفساد الإجارة، لخلوّها عن الصيغة المعتبرة- بنظرهم- في العقود اللازمة.

(6) أورد المصنف على جريان المعاطاة في الهبة بوجهين، أحدهما: ناظر إلى استظهار المحقق الثاني من كلام بعض الأصحاب. و ثانيهما: ناظر إلى منع أصل منشأ الاستظهار.

أمّا الأول فتوضيحه: أنّ استكشاف مملّكية الهبة المعاطاتية- من حكمهم بجواز إتلاف العين الموهوبة- ممنوع، لعدم كون جواز إتلافها لازما مساويا لصحّة الهبة

ص: 154

جريان المعاطاة فيها، إلّا (1) إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة، فإنّ (2) جماعة كالشيخ و الحلّي و العلّامة صرّحوا بأنّ إعطاء الهدية- من دون الصيغة- يفيد الإباحة دون الملك. لكن (3) المحقق الثاني رحمه اللّه ممّن لا يرى بكون المعاطاة عند القائلين بها

______________________________

الفاقدة للصيغة حتّى يدلّ على جريان المعاطاة فيها، بل هو أعم من صحتها، لكفاية الإذن المالكي في جواز الإتلاف مع بقاء الرقبة على ملك الواهب، كما هو الحال في إباحة الطعام للضيف مع كونه ملكا للمضيف.

و عليه فحكم بعض الأصحاب بجواز إتلاف العين الموهوبة غير كاشف عن التزامه بمملّكية الهبة المعاطاتية، لما عرفت من أنّ جواز التصرف المتوقف على الملك- كالإتلاف- لازم أعم لكلّ من الملك و الإباحة المالكية.

و أمّا الثاني فتوضيحه: أنّ ما نسبه المحقق الكركي إلى بعض الأصحاب- في الهبة- ممنوع، إذ لا أصل له، لأنّ توقف الملك في الهبة على الإيجاب و القبول اللفظيين كاد أن يكون متّفقا عليه بين الأصحاب، بل صرّح شيخ الطائفة و غيره بمنع التصرف المنوط بالملك في معاطاة الهدايا، و معه كيف نسب المحقق الثاني إلى بعض الأصحاب إفادة معاطاة الهبة للملك؟ فإنّه مخالف للمشهور بل المدّعى عليه الإجماع. و على هذا لا أساس للنسبة المزبورة أصلا.

(1) ظاهره الاستثناء من قوله: «بجواز الإتلاف» و غرضه قدّس سرّه منع أصل جواز إتلاف العين الموهوبة حتى لو فرضنا الملازمة بين جواز الإتلاف و الملك، و توضيحه:

أن إباحة التصرف في الهبة الفاقدة للصيغة تعبدية لا مالكية، و من المعلوم عدم اقتضاء مجرّد الإباحة لمشروعية التصرف المتوقف على الملك كالإتلاف و البيع و العتق و الوقف و نحوها، و الدليل عليه تصريح جماعة- منهم شيخ الطائفة- بحرمة المباشرة مع الجارية المهداة بالهدية الفاقدة للإيجاب و القبول اللفظيين.

(2) الظاهر أنّه تتمة للمستثنى و تعليل له، فكأنه قال: «إلّا إذا قلنا في المعاطاة بالإباحة كما ذهب إليه جماعة .. إلخ».

(3) استدراك على المستثنى و هو قوله: «إلّا إذا قلنا» و حاصله: أنّ المحقق الثاني قدّس سرّه

ص: 155

مفيدا للإباحة المجرّدة. و توقّف (1) الملك في الهبة على الإيجاب و القبول كاد أن يكون متّفقا عليه كما يظهر من المسالك (2).

و ممّا ذكرنا (3) يظهر المنع في قوله: «بل مطلق التصرف» هذا [1].

______________________________

ذهب إلى إفادة المعاطاة للملك، لا الإباحة المحضة، فعلى هذا يكون جواز الإتلاف- بنظره- من آثار الملك و دالّا عليه، لا من آثار الإباحة.

(1) هذا هو الإشكال الثاني على المحقق الكركي قدّس سرّه و محصّله: أنّ حصول الملك في الهبة المعاطاتية- كما ذهب إليه هذا المحقق- ممّا لا وجه له، لمخالفته لما يظهر من المسالك من أنّ اعتبار الصيغة في الهبة قريب من الإجماع، فكيف يترتّب الملك على معاطاة الهبة؟

(2) قال الشهيد الثاني في شرح كلام الشرائع: «و هو يفتقر إلى الإيجاب و القبول» ما لفظه: «و ظاهر الأصحاب الاتفاق على افتقار الهبة مطلقا إلى العقد القولي في الجملة. فعلى هذا: ما يقع بين الناس على وجه الهديّة من غير لفظ يدل على إيجابها و قبولها لا تفيد الملك، بل مجرّد الإباحة» «1».

لكنه قال في آخر كلامه: «يمكن أن يجعل ذلك كالمعاطاة يفيد الملك المتزلزل ..

إلخ» فمال أخيرا إلى جريان المعاطاة في الهدية، و إفادتها الملك المتزلزل.

(3) أي: من منع جواز الإتلاف- لو كانت الهبة فاسدة- يظهر المنع عمّا أفاده المحقق الثاني بقوله: «بل منع من مطلق التصرف» و ذلك لأنّ الفساد- بمعنى عدم ترتب الملك- لا يقتضي المنع عن سائر التصرفات، لجواز التصرف بدون الملك، كما هو مذهب القائلين بإفادة المعاطاة للإباحة.

______________________________

[1] ما أورده المصنف على المحقق الثاني غير ظاهر. أمّا أوّلا: فلأنّ هذا المحقق لم يدّع أزيد من اقتضاء كلام بعض الأصحاب جريان المعاطاة في الإجارة و الهبة،

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 6، ص 12

ص: 156

______________________________

و هذه النسبة في محلّها، لموافقة غير واحد له. خصوصا مع صراحة كلام العلّامة- الآتي نقله في المتن- من اتحاد الرهن و البيع في حكم المعاطاة منعا و جوازا، بعد عدم خصوصية في الرّهن في هذا الحكم، بل هو كسائر المعاملات، إلّا إذا قام دليل على اعتبار صيغة خاصة في بعضها كالنكاح و النذر و الطلاق.

و قد التزم الشهيد الثاني و المحقق الأردبيلي قدّس سرّهما بجريان المعاطاة في الإجارة، قال في المسالك: «لمّا كان الأمر بالعمل يقتضي استيفاء منفعة مملوكة للمأمور متقوّمة بالمال، وجب ثبوت عوضها على الآمر كالاستيجار معاطاة» «1».

و قال المحقق الأردبيلي: «هذا الحكم- أي استحقاق الأجرة بالأمر بالعمل- مشهور، و يحتمل أن يكون مجمعا عليه. و لعلّ سنده: اقتضاء العرف، فإنّه يقتضي أن يكون مثل هذا العمل بالأجرة، فالعرف مع الأمر بمنزلة قوله: اعمل هذا و لك عليّ الأجرة، فيكون جعالة أو إجارة بطريق المعاطاة، مع العلم بالأجرة، و لو كان مثل أجرة الحمّالين، و يبعد كونها إجارة باطلة» «2» و يظهر من أوّل كتاب الإجارة التزامه بالمعاطاة في الإجارة كالبيع، فراجع.

و قال السيد الفقيه العاملي في تصحيح هذه الإجارة- بعد المناقشة في السيرة بعدم استمرارها- ما لفظه: «فلعلّ الأصل في ذلك أنّه من باب المعاطاة في الإجارة، و هي كالمعاطاة في البيع، فيلزمه حينئذ الأجرة المسمّاة لمثل ذلك العمل» «3».

و الحاصل: أنّ استحقاق المأمور للأجرة إمّا أن يستند إلى جريان المعاطاة في الإجارة، لاجتماع شرائطها من معلوميّة المنفعة كخياطة الثوب و حلاقة الرأس و نحوهما من الأعمال المحترمة، و معلومية الأجرة لتعيينها من قبل الآمر، أو لأجل

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 5، ص 229

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 83

(3) مفتاح الكرامة، ج 7، ص 275

ص: 157

______________________________

التعارف و العادة اللّذين هما المرجع في تعيينها، و إمّا أن يستند إلى قاعدة استيفاء عمل محترم.

و عليه فما في الجواهر من قوله: «لا لأنّها من المعاطاة، فإن الشرائط فيها مفقودة، بل من باب الضمان لاحترام عمل المسلم ..» «1» غير ظاهر، بعد تصريح من عرفت بجريان المعاطاة في الإجارة، مع كفاية إطلاقات أدلة الإجارة.

إنّما الكلام في كون الضمان بأجرة المثل أو بالمسمّاة. ففي الشرائع و القواعد و غيرهما التصريح بأجرة المثل، و في الإرشاد و المسالك إطلاق الأجرة. و لو فرض تعيّن المثل في مورد الإطلاق لم يكشف عن فساد الإجارة، كي يتجه إنكار مالكية المأمور للأجر المعيّن، لكفاية التعارف في مقام التعيين، فينزّل إطلاق قول الآمر: «و عليّ الأجر»- و كذا إهماله رأسا- على ما هو المتعارف لمثله.

و يمكن توجيهه بما أفاده السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه: بقوله: «إلّا أن تقول: إنّ الغالب توافقهما- أي: أجرة المثل و المسمّى- فلا فرق بين العبارتين. أو تقول: إن المسمّى لا يعتبر في معاطاة الإجارة حيث يخالف المثل» «2».

و عليه فقول المصنف قدّس سرّه: «و لم نجد من صرّح به» ممنوع إن كان مقصوده نفي أصل استظهار المحقق الثاني من كلام البعض. و إن كان الغرض منه عدم نصوصية كلام البعض في جريان المعاطاة في الإجارة فهو و إن كان حقّا، إلّا أنّ المتبع في مقام الاستظهار و الاحتجاج ظهور الكلام- و لو بالملازمة العرفية- في نسبة المضمون إلى قائله، و لا تعتبر الصراحة أصلا.

و أمّا ثانيا: فلأنّ إنكار المعاطاة في الإجارة و الهبة هنا ينافي ما تقدّم من المصنف في أدلّة مملكية المعاطاة من الاستناد إلى الإجماع المركّب بين البيع و الإجارة و الهبة.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 27، ص 337

(2) مفتاح الكرامة، ج 7، ص 275

ص: 158

______________________________

إذ لو كان الأصحاب متّفقين على الإباحة في البابين لم يبق موضوع لعدم القول بالفصل، بل كان اتّفاقهم على منع المعاطاة في الإجارة و الهبة موهنا لاستفادة الملك من إطلاق أدلة البيع أيضا، و لازمه القول بالإباحة المحضة تعبدا في الجميع، و هو ضدّ مقصود المصنف من إثبات الملك في معاطاة البيع بالاستعانة من إطلاقات الإجارة و الهبة.

و بعبارة أخرى: الاستدلال بعدم القول بالفصل بين البيع و بينهما يتوقف على ذهاب جمع إلى مملّكية معاطاتهما، و جمع إلى الإباحة، حتى يتجه إلحاق معاطاة البيع بهما، فلو كان الملك فيهما منوطا بالإنشاء القولي- عند الكلّ- أشكل الأخذ بإطلاقاتهما، و لزم تقييدها بالعقد المملّك، و لا يبقى حينئذ مجال لاستفادة مملّكية البيع المعاطاتي، هذا.

و أمّا ثالثا: فلأنّ مقصود المحقق الثاني قدّس سرّه مجرّد استظهار تعميم المعاطاة لبابي الإجارة و الهبة- من كلام البعض، بلا نظر إلى كونها مفيدة للملك أو للإباحة، فغرضه قدّس سرّه كفاية إنشائهما بالفعل كما في البيع، و أمّا إمضاء الشارع لما قصداه أو ترتّب الإباحة عليه تعبدا فذاك مقام آخر لا يلازم أصل الجريان، هذا ما أفاده المحقق الإيرواني «1».

و هو و إن كان حقّا في نفسه، فإنّ الغرض كفاية إنشاء العناوين الاعتبارية بالفعل، لا ترتب خصوص الملك، و معنى كفايته ترتب الأثر المقصود من كلّ عنوان معاملي على إنشائه بالفعل، و عدم توقفه على الصيغة المعهودة، فقد يكون الأثر ملك العين كما في البيع و الهبة و الصلح على عين، و قد يكون ملك المنفعة كما في الإجارة و الصلح على المنفعة، و قد يكون فكّ الملك و تحريره كما في وقف المساجد، و قد يكون الوثيقة للدّين كما في الرّهن، و قد يكون غير ذلك كما في النكاح و الطلاق و العارية و الوديعة و الوكالة و العتق.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 86

ص: 159

و لكن الأظهر (1)- بناء على جريان المعاطاة في البيع- جريانها في غيره

______________________________

(1) هذا شروع في المقام الثاني ممّا تعرّض له المصنف قدّس سرّه في التنبيه الخامس، و غرضه إثبات كفاية الإنشاء الفعلي في مطلق العناوين الاعتبارية، و أنّ المعاطاة ليست مخالفة للقاعدة حتى تختص بباب البيع. و قد أفاد أوّلا جريانها في خصوص الإجارة و الهبة، ثم تمسّك ثانيا بالإجماع المركب بينه و بين غيره من المعاملات، فهنا وجهان:

أحدهما: أنّ المناط في صحة المعاطاة في البيع هو قابلية الفعل لإنشاء «تمليك عين بمال» به كإنشائه بالصيغة، و حيث كان «الإعطاء و الأخذ بقصد التمليك بالعوض» مصداقا لعنوان البيع العرفي كان المناسب التعدّي عنه إلى باب الإجارة و الهبة أيضا، إذ المقصود فيهما الملك أيضا، فإقباض العين في الإجارة- كالدار- تمليك لمنفعتها بعوض، و إقباض العين في الهبة تمليكها للمتّهب.

و عليه فلا وجه لحصر المعاطاة بالبيع، إذ المقصود فيه التمليك، فإن كان الفعل صالحا لإنشاء التمليك به لم يفرّق فيه بين البيع و الإجارة و الهبة، لاشتراك الكلّ في جامع التمليك. و إن لم يكن الفعل قابلا لإنشاء لزم منع البيع المعاطاتي أيضا، لفرض

______________________________

إلّا أنّه قد يشكل بما أورده المحقق الثاني قدّس سرّه- بما سيأتي في المتن- على العلّامة من الفرق بين معاطاة البيع و الرّهن بقيام الإجماع على جريانها في البيع، و عدم قيامه عليها في الرّهن. و ظاهره أنّ المعاطاة خلاف الأصل، فيقتصر فيها على المتيقن، و هو البيع، دون غيره من المعاملات.

لكن لو كان هذا مبنى العلّامة قدّس سرّه لم يتم استظهار المحقق الثاني منه جريانها في الإجارة و الهبة أيضا، وقوفا فيما خالف الأصل على مورد اليقين، فاستفادة التعميم منوطة بعدم كون المعاطاة خلاف الأصل، و عدم اعتبار الإجماع على خروج البيع عنه، لاحتمال مدركيته، و أنّ المناط في إفادة المعاطاة للملك إطلاق الأدلة الإمضائية، و هذا الإطلاق موجود في سائر العناوين أيضا، هذا.

ص: 160

من الإجارة و الهبة، لكون (1) الفعل مفيدا (2) للتمليك فيهما.

و ظاهر المحكي (3) عن التذكرة: عدم القول بالفصل بين البيع و غيره، حيث قال في باب الرّهن: «إنّ الخلاف في الإكتفاء فيه بالمعاطاة و الاستيجاب و الإيجاب عليه، المذكور (4) في البيع آت هنا» «1» انتهى.

______________________________

قصور الأفعال عن تأدية المراد. و لمّا كان هذا الشّقّ باطلا- لما تقدم من الأدلة على مملّكية المعاطاة- تعيّن القول بجريانها في الإجارة و الهبة أيضا.

ثانيهما: أن الدليل التعبديّ- و هو الإجماع المركّب- يقتضي جريان المعاطاة في سائر العناوين الاعتبارية كالوديعة و الوكالة و الوصيّة و الرهن و غيرها، لما يظهر من كلام العلّامة في رهن التذكرة من عدم القول بالفصل بينه و بين البيع، فإمّا أن يقال بفساد المعاطاة في الجميع، و إمّا بصحتها فيه، لقابلية الأفعال- و لو بمعونة القرائن الحالية أو المقالية- لإنشاء الأمور الاعتبارية بها. و حيث إنّ الصحة في البيع متسالم عليها فلا بد من صحتها في مطلق المعاملات، إلّا مع قيام دليل على اعتبار الصيغة الخاصة في بعض العقود و الإيقاعات كالنكاح و الطلاق و النذر، و إلّا فمقتضى القاعدة وقوعها بكلّ من القول و الفعل، هذا.

(1) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل، و هو التعدي عن البيع إلى خصوص الإجارة و الهبة، وفاقا لما استظهره المحقق الثاني قدّس سرّه من كلام بعض الأصحاب.

(2) يعني: بضمّ القرينة المقالية أو المقامية، و إلّا فالفعل- و هو الإعطاء- لا يفيد بنفسه شيئا من الإجارة و الهبة و غيرهما من العناوين الاعتبارية الإنشائية، فإذا صار الفعل مفيدا له شمله عموم دليل الصحة.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الثاني، و هو تعميم المعاطاة بالتعبد، لا بمناط كاشفية الفعل عن القصد.

(4) صفة ل «الخلاف» يعني: الخلاف- المذكور في البيع- آت في الرهن أيضا.

______________________________

(1): الحاكي هو السيد العاملي، مفتاح الكرامة، ج 5، ص 72، لاحظ تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 12

ص: 161

لكن (1) استشكله في محكي جامع المقاصد «بأنّ البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع، بخلاف ما هنا (2)» «1».

و لعلّ (3) وجه الإشكال عدم تأتّي المعاطاة بالإجماع في الرهن على النحو الّذي أجروها في البيع،

______________________________

(1) هذا إشكال على الإجماع الذي ربما يظهر من كلام العلّامة، و هو في الحقيقة إنكار للإجماع على اتحاد حكم البيع و الرهن، و محصّله: أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي فساد المعاملة المعاطاتية مطلقا، سواء في البيع و غيره، خرجنا عنه في خصوص البيع، إمّا لإفادتها الإباحة كما عليه المشهور، و إمّا الملك الجائز كما عليه المتأخرون. و أمّا الرهن فهو باق تحت عموم المنع، فلا وجه للتسوية بينه و بين البيع، هذا.

(2) أي: في الرهن.

(3) التعبير ب «لعلّ» من جهة تطرّق احتمالين في إشكال المحقق الثاني على العلامة قدّس سرّهما.

الأوّل: أنّ الأصل في مطلق المعاملات المعاطاتية هو الفساد، إلّا مّا خرج بالدليل كالبيع.

الثاني: أنّ المعاطاة ليست على خلاف الأصل، و إنّما لا تجري في عقد الرّهن لخصوصية فيه مانعة عن إنشائه بالفعل، و ذلك لأن المعاطاة إمّا تفيد الإباحة أو الملك الجائز. و الأوّل غير متصور، إذ ليس المطلوب في الرهن إباحة التصرف، بل الاستيثاق للدين. و الثاني ينافي حقيقة الرهن و هي الاستيثاق، إذ الجواز ينافي الوثوق بعد وضوح كون الراهن سلطانا على فسخ عقد الرّهن.

و لا يبعد ظهور كلام المحقق الثاني في الاحتمال الأوّل، و لذا حمله المصنف على الوجه الثاني احتمالا.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 5، ص 45

ص: 162

لأنّها (1) هناك إمّا مفيدة للإباحة أو الملكية الجائزة على الخلاف.

و الأوّل [1] غير متصوّر هنا (2). و أمّا الجواز فكذلك (3) لأنّه ينافي الوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن خصوصا (4) بملاحظة أنّه لا يتصور هنا (5) ما يوجب

______________________________

(1) أي: لأنّ المعاطاة في البيع.

(2) أي: في الرّهن، لأنّ مقتضى كونه وثيقة للدين عدم تصرّف الراهن فيه، و من المعلوم أنّ المبيح يجوز له استرداد ماله من المباح له.

(3) يعني: أنّ جواز الرهن غير متصور أيضا، لمنافاته للوثوق المقوّم لماهية الرّهن.

(4) وجه الخصوصية: أنّ الالتزام بالملك الجائز في معاطاة البيع أخفّ مئونة منه في الرهن، و ذلك لأول الجواز هناك الى اللزوم عند طروء الملزم كتلف إحدى العينين، و هذا بخلاف جواز الرهن، إذ لا يجري شي ء من الملزمات فيه، حيث إنه لو تلفت العين المرهونة لم يبق شي ء حتى يكون وثيقة للدّين.

مضافا إلى: أنّ المعتبر في الرهن هو الوثوق حدوثا و بقاء، و الجواز مناف لأصل الاستيثاق.

(5) أي: في الرهن، و ضمير «انه» للشأن.

______________________________

[1] الأولى بسلاسة العبارة أن يقال: «و كلاهما غير متصوّر هنا كما لا سبيل الى اللزوم» أمّا عدم تصور الإباحة فواضح، لعدم كون المطلوب إباحة التصرف- للمرتهن- في العين المرهونة، لأنّ الرهن وثيقة للدين، و يتعلق حق المرتهن بها من دون أن تدخل في ملكه أو يباح له التصرف فيها.

و أما عدم تصور الملكية الجائزة فلمنافاتها للوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن، خصوصا مع استمرار الجواز و عدم أوله إلى اللزوم أصلا. و أمّا عدم تصور اللزوم فلكونه مخالفا للإجماع المدّعى على إناطة لزوم العقد باللفظ.

ص: 163

رجوعها الى اللزوم ليحصل به الوثيقة في بعض الأحيان (1). و إن جعلناها (2) مفيدة للزوم كان مخالفا لما أطبقوا عليه من توقف العقود اللازمة (3) على اللفظ.

و كأنّ هذا (4) هو الذي دعا المحقق الثاني إلى الجزم بجريان المعاطاة في مثل الإجارة و الهبة و القرض، و الاستشكال في الرّهن [1].

______________________________

(1) أي: عند طروء الملزم.

(2) يعني: و إن جعلنا الرّهن المعاطاتي مفيدا للزوم من أوّل الأمر- بلا حاجة الى طروء الملزم- فإنّه و إن كان مناسبا للاستيثاق، لكنه مخالف للإجماع المنعقد على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

و عليه فملخص إشكال جريان المعاطاة في الرهن على هذا هو: أنّه بناء على الجواز لا يتحقق الرهن، لتقوم مفهومه بالوثوق الذي ينافيه الجواز. و بناء على اللزوم ينافيه الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود اللازمة، حيث إنّ الرهن لازم من طرف الراهن.

(3) يعني: سواء أ كان لزومها من طرفين أو من طرف واحد كما في الرّهن، فإن لزومه من طرف الرّاهن لا المرتهن.

(4) أي: و كأنّ إطباقهم على توقف العقود اللازمة على اللفظ دعا المحقق الثاني .. إلخ، و مقصود المصنف من هذه الجملة توجيه تفصيل المحقق الثاني بين الإجارة و الهبة و القرض و بين الرهن، بجريان المعاطاة في تلك الثلاثة دون الأخير، و ذلك لأن جواز الملك فيها ممكن، لصيرورته لازما بطروء الملزوم، بخلاف الرهن، لامتناع الجواز فيه، لمنافاته للاستيثاق.

______________________________

[1] ما نسبه المصنف الى المحقق الثاني من التزامه بجريان المعاطاة في الإجارة و الهبة و القرض و إفادتها فيها ملكا جائزا لا يخلو من شي ء.

أمّا في الإجارة فلم يظهر ممّا نقلناه عنه في أوّل هذا التنبيه التزامه بالملك الجائز،

ص: 164

نعم (1) من لا يبالي

______________________________

(1) استدراك على التوجيه المتقدّم بقوله: «و كأنّ هذا ..» و غرضه الإيراد على المحقق الثاني المفصّل بين معاطاة الرهن و بين معاطاة الإجارة و الهبة و القرض.

و حاصله: أنّه لا وجه للفرق بين العقود المزبورة، فلا بدّ من الالتزام بصحة الرّهن المعاطاتي و ترتب اللزوم عليه، و ذلك لوجود المقتضي و فقد المانع.

أمّا وجود المقتضي فهو إطلاق بعض أدلة الرهن، كمعتبرة عبد اللّه بن سنان، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السّلم في الحيوان و الطّعام، و يرتهن الرّجل بماله

______________________________

بل مقصوده إثبات أصل مشروعية معاطاة الإجارة. و لعلّ المصنف قدّس سرّه ظفر بكلام منه دالّ على إفادتها فيها للملك المتزلزل.

و أمّا في القرض فربما يكون المستفاد من جامع المقاصد ترتّب الإباحة المحضة على معاطاة القرض، و توقف الملك على الصيغة، فلاحظ قوله فيه: «ظاهر عباراتهم: أنّه لا بدّ من الإيجاب القولي، و عبارة التذكرة أدلّ على ذلك. و يرد عليه: أنّه قد سبق في البيع الاكتفاء بالمعاطاة التي هي عبارة عن الأخذ و الإعطاء. فإن اكتفى في العقد اللازم بالإيجاب و القبول الفعليين فحقّه أن يكتفي بها هنا بطريق أولى. و ليس ببعيد أن يقال:

إن انتقال الملك إلى المقترض بمجرّد القبض موقوف على هذا، لا إباحة التصرف إذا دلّت القرائن على إرادتها» «1».

و الجملة الأخيرة صريحة في توقف ملك المقترض- حتى المتزلزل منه- على اللفظ، و أنّ القبض لا يفيد أكثر من إباحة التصرف لو كان مقرونا بما يدلّ عليها، فالقبض المجرّد عن قرينة الإباحة لا يؤثّر أصلا في الإباحة فضلا عن الملك.

و لعلّ مقصود المصنف قدّس سرّه من الجواز أصل مشروعية القرض المعاطاتي، لا ترتب الملك الجائز عليه، أو لعلّه ظفر بكلام آخر لهذا المحقق، و اللّه تعالى العالم بحقائق الأمور.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 5، ص 20

ص: 165

مخالفة (1) ما هو المشهور- بل المتفق عليه بينهم- من توقف العقود اللازمة على اللفظ، أو حمل (2) تلك العقود على اللّازمة من الطرفين

______________________________

رهنا؟ قال: نعم، استوثق من مالك» «1». فإنّه عليه الصلاة و السلام جوّز أخذ الوثيقة على المبيع سلما، و إطلاقه شامل لكلّ من الرهن القولي و الفعلي، و لا مقيّد في البين مع كونه عليه السّلام في مقام البيان.

و أمّا انتفاء المانع، فلأنّ المانع عن الأخذ بالإطلاق المزبور هو الإجماع المدّعى على إناطة العقود اللازمة بالإنشاء القولي. و لكنّه غير مانع بنظر المحقق الكركي قدّس سرّه إمّا لأنّه لا يعتني بأصل هذا الإجماع، و لذا خالف المشهور في معاطاة البيع، و أوّل حكمهم بالإباحة بالملك المتزلزل. و أمّا لأنّه و إن اعتنى بهذا الإجماع. لكنّه يحمل معقده على خصوص العقود اللّازمة من الطرفين كالبيع و الإجارة و الصلح و نحوها من المعاوضات المبنية على اللزوم، لا مطلقا و لو كان اللزوم من طرف واحد كالرّهن الذي هو لازم من طرف الرّاهن فقط.

فإن قلت: إنّ إطلاق معقد الإجماع على إناطة العقود اللازمة باللفظ محكّم، و لا وجه لإخراج الرّهن منه. و عليه يتجه منع المحقق الكركي عن الرّهن المعاطاتي.

قلت: لا إطلاق في الإجماع المزبور حتى يشمل الرّهن، لاختصاصه بالعقود المعاوضية، و الرّهن خارج عنها موضوعا، إذ ليس فيه إعطاء شي ء و أخذ آخر، و إنّما هو مجرّد استيثاق للدّين.

و على هذا ينبغي أن يلتزم المحقق الكركي قدّس سرّه بصحة الرّهن المعاطاتي، و كونه كالقولي مفيدا للّزوم.

(1) الأولى اقترانه بالباء، بأن يقال: «لا يبالي بمخالفة ..» و هذا إشارة إلى عدم الاعتناء بالإجماع رأسا.

(2) معطوف على «مخالفة» يعني: لا يبالي المحقق الثاني بتوجيه الإجماع المزبور

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 121، الباب 1 من كتاب الرهن، الحديث: 1

ص: 166

فلا (1) يشمل الرهن، و لذا (2) جوّز بعضهم الإيجاب بلفظ الأمر، ك «خذه» و الجملة الخبرية، أمكن (3) أن يقول بإفادة المعاطاة في الرّهن اللّزوم، لإطلاق (4) بعض أدلّة الرّهن. و لم يقم (5) هنا إجماع على عدم اللزوم كما قام في المعاوضات (6).

______________________________

بحمله على خصوص العقود اللازمة من الطرفين، فيخرج الرّهن عنها موضوعا، لكونه لازما من قبل الراهن فقط.

(1) هذا متفرّع على قوله: «حمل تلك العقود .. إلخ».

(2) أي: و لأجل حمل تلك العقود على العقود اللّازمة من الطرفين جوّز بعض الفقهاء إنشاء الرّهن بلفظ الأمر و بالجملة الخبرية، قال الشهيد قدّس سرّه: «و إيجابه:

رهنت و وثقت، و هذا رهن عندك أو وثيقة .. و لو قال: خذه على مالك أو بمالك فهو رهن» «1».

و كلامه صريح في صحة إنشاء الرّهن بصيغة الأمر و بالجملة الخبرية. و لو كان من العقود اللازمة من الطرفين كالبيع و الإجارة تعيّن إنشاؤه بالفعل الماضي خاصة، لما سيأتي تفصيله في بحث ألفاظ العقود إنشاء اللّه تعالى.

(3) هذا جزاء قوله: «من لا يبالي» و المراد بالإمكان هنا ما يساوق التعيّن و اللّابديّة، لا الأعم منه و من الوقوع حتى يكون بمعنى الاحتمال الصّرف، إذ بعد وجود المقتضى للزوم و فقد المانع عنه لا بدّ من القول بلزوم الرهن المعاطاتي.

________________________________________

(4) هذا إشارة إلى وجود المقتضي للزوم الرّهن. و قد تقدمت معتبرة ابن سنان المتضمنة للإطلاق، و نحوها غيرها، فراجع جملة من أخبار الرهن.

(5) هذا إشارة إلى فقد المانع عن إطلاق النصوص الشامل لصحة الرهن الفعلي و القولي على حدّ سواء.

(6) كالبيع و الإجارة و الصلح و القرض، فإنّها عقود معاوضية يتوقف لزومها

______________________________

(1): الدروس الشرعية، ج 3، ص 383

ص: 167

و لأجل ما ذكرنا (1) في الرّهن يمنع من جريان المعاطاة في الوقف، بأن يكتفى فيه بالإقباض، لأنّ (2) القول فيه باللزوم مناف لما اشتهر بينهم من توقف اللّزوم على اللّفظ. و الجواز (3) غير معروف في الوقف من الشارع، فتأمّل (4).

______________________________

على إنشائها باللفظ.

هذا تمام ما أفاده المصنف في الإشكال على المحقق الثاني في ما يتعلّق بجريان المعاطاة في الرّهن، و قد اختار في المتن عدم جريانها فيه، لمنافاة الجواز لماهية الرّهن.

(1) أي: و لأجل ما ذكرنا- من توقف العقود اللّازمة على اللّفظ و عدم كفاية المعاطاة في لزومها، و منافاة حقيقة الرّهن للإباحة و التزلزل- يمنع من إنشاء الوقف بالفعل و هو الإقباض. و الدليل على المنع نحو ما تقدّم في الرّهن من أنّ جواز الوقف حتى يجوز للواقف إعادة الموقوف إلى ملكه غير معهود من الشارع، و لزومه منوط باللفظ للإجماع.

(2) تعليل لقوله: «يمنع».

(3) يعني: لو قيل بمشروعية المعاطاة في الوقف- و لم نقل ببطلانها رأسا- قلنا بمنافاة ماهية الوقف للجواز، فإنّه تحبيس للملك على الدوام أو تحريره. و هذا لا يجتمع مع الجواز المقتضي لصحة إعادته في الملك بالرجوع عن الوقف.

(4) لعلّه- كما قيل- إشارة إلى: أنّه لا مانع من الالتزام بجواز الوقف، إذ لو كان الجواز منافيا لماهيّته لما جاز اشتراط الرجوع فيه. و المفروض جواز هذا الشرط.

لكن فيه: أنّ الظاهر إرادة الجواز الذاتي من الجواز الذي نفى معروفيته، لا الجواز الناشئ عن أمر خارجي كالشرط، فالوقف بذاته لازم، و لا يصير جائزا إلّا بالشرط مثلا. فعلى هذا لا تجري المعاطاة في الوقف.

لكن سيأتي في التعليقة أنّ المرجع في الجواز و اللزوم هو دليل ذلك العنوان الاعتباري، سواء أ كان إنشاؤه بالقول أم بالمعاطاة.

ص: 168

نعم (1) احتمل الإكتفاء بغير اللفظ في باب وقف المساجد من الذكرى تبعا للشيخ رحمه اللّه «1».

______________________________

(1) استدراك على منع جريان المعاطاة في الوقف، و حاصله: أنّه يمكن جريان المعاطاة في وقف المساجد بأن يصلّي المالك في أرض بقصد المسجدية، أو يأذن لغيره في الصلاة فيها.

قال الشهيد قدّس سرّه: «إنّما تصير البقعة مسجدا بالوقف إمّا بصيغة: وقفت و شبهها، و إمّا بقوله: جعلته مسجدا، أو بإذن في الصلاة فيه بنيه المسجدية، ثم صلّوا أمكن صيرورته مسجدا، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة» «2».

لكن صاحب الجواهر قدّس سرّه قوّى اعتبار الصيغة فيه «للأصل و ظهور إطباقهم في باب الوقف على الافتقار فيه إلى اللفظ» و إن رجع في آخر كلامه بقوله: «إلّا أنّه مع ذلك فالإنصاف أنّ النصوص غير خالية عن الإيماء إلى الإكتفاء بالبناء و نحوه مع نيّة المسجدية من غير حاجة الى صيغة خاصة، خصوصا ما ورد منها في تسوية المساجد بالأحجار في البراري و الطرق» «3».

و قال في كتاب الوقف: «و لو صرف الناس في الصلاة في المسجد أو في الدفن و لم يتلفّظ بصيغة الوقف لم يخرج عن ملكه، بلا خلاف أجده فيه هنا» «4».

و سيأتي أنّ مقتضى القاعدة هو جريان المعاطاة في الوقف و غيره من الاعتباريات، سواء أ كانت عقدا أم إيقاعا، إلّا إذا لم يكن فعل مناسب لذلك الاعتبار النفساني، أو نهض دليل على اعتبار اللفظ فيه تعبّدا كالنذر و العهد و الضمان و غيرها على ما قيل.

______________________________

(1): النهاية لشيخ الطائفة، ص 595

(2) ذكري الشيعة، ص 158

(3) جواهر الكلام، ج 14، ص 70

(4) جواهر الكلام، ج 28، ص 89

ص: 169

ثمّ إنّ الملزم للمعاطاة (1) فيما تجري فيه من العقود الأخر [1] هو الملزم في باب البيع كما سننبّه به بعد هذا الأمر [2].

______________________________

(1) يعني: أنّ المعاطاة في البيع لمّا أفادت الإباحة المحضة أو الملك المتزلزل، و كان لزومها متوقفا على طروء الملزم- من تلف أحد العوضين أو التصرف فيه- فلا محيص عن الالتزام بتوقف اللزوم على حصول الملزم لو تعدّينا عن معاطاة البيع، و قلنا بجريانها في جملة من العقود المملّكة، و غيرها، لتوقف اللّزوم من أوّل الأمر على الإنشاء بالصيغ المعهودة، و الإنشاء الفعلي قاصر عن إفادته، فلذا يناط اللزوم بحصول الملزم. هذا تمام الكلام في هذا التنبيه.

______________________________

[1] ظاهر العبارة: أنّ المعاطاة في أي عقد تجري تكون جائزة و إن كان ذلك العقد بنفسه لازما. لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى في التعليقة خلافه.

مضافا إلى عدم تعقّل كون التلف ملزما للمعاطاة في بعض العقود كالرّهن، لأنّ التلف مبطل للاستيثاق، لا موجب للزومه، كما لا يخفى.

[2] الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من العقود و الإيقاعات، و قبل بيانه ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل: أنّ الأفعال تارة تدلّ على المعاني بلا حاجة إلى قرينة كالسجود، فإنّه بذاته يدلّ على الخضوع. و أخرى تدلّ عليها بمعونة قرينة مقامية أو مقاليّة. و هذا هو الغالب، فإذا دلّت على المعاني بالقرائن بحيث عدّت دلالتها من الظهورات العرفية كانت حجة عند العقلاء على حذو حجية ظهورات الألفاظ في معانيها.

الثاني: أنّ بناء العقلاء على إنشاء الأمور الاعتبارية بالأفعال المبرزة لها و إن كان إبرازها بالقرائن، فكلّ فعل مبرز لمعناه الإنشائي يصح جعله آلة للإنشاء عند العقلاء، إلّا إذا منعه الشارع و اعتبر اللفظ المطلق أو الخاص في إنشائه.

إذا عرفت ما ذكرناه تعرف أنّه لا مانع من التمسك بأدلة العقود و الإيقاعات لصحة

ص: 170

______________________________

المعاطاة فيها، إلّا إذا لم يكن الفعل و لو بالقرينة آلة لإنشاء ذلك العقد أو الإيقاع عند العقلاء. أو اعتبر الشارع في ذلك العقد أو الإيقاع لفظا كالنذر. و في غير هذين الموردين يكون مقتضى القاعدة جريان المعاطاة.

و بالجملة: كل فعل يكون عند العقلاء مبرزا للاعتبار النفساني يصح الإنشاء به، هذا.

و في تقريرات المحقق النائيني قدّس سرّه ما لفظه: «لا يخفى أنّ الاستدلال بأدلة المعاملات لصحّة المعاطاة فيها يتوقف على إثبات مقدّمتين:

الأولى: كون الفعل بنفسه مصداقا لهذه العناوين ليصح الاستدلال بأدلة العناوين على صحته أو كونه مصداقا لأمر ملازم لأحد العناوين، بحيث يترتب عليه بجريان العادة المألوفة و السيرة المستمرة ما يترتب على ملازمه، بأن كانت السيرة دليلا على ترتب ما يترتب على ملازم الفعل، لا أن تكون دليلا على أصل صحة المعاملة الفعلية. فبعد جريان العادة يدخل الفعل بالملازمة في أحد العناوين، و يصح الاستدلال له بما يستدل به للعناوين نظير القول، فإنّه قد ينشأ به أحد العناوين مطابقة، و قد ينشأ به أحدها التزاما.

و وجه اعتبار كون الفعل مصداقا لها أو مصداقا لملازمها ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مجرّد قصد عنوان و وقوع الفعل عقيبه لا يؤثر في تحقّق هذا العنوان إذا لم يكن الفعل آلة لإيجاده أو إيجاد ملازمه» «1».

و فيه: أنّ البيع المسبّبي- و هو مبادلة المالين- يكون من الأمور الاعتبارية التي لا موطن لها إلّا وعاء الاعتبار، و لا يحاذيها شي ء في الخارج حتى يكون ذلك مصداقا لها، فلا بدّ من أن يكون المراد البيع السببي، و هو ما يتسبّب به من قول أو فعل، إلى البيع المسببي. و من المعلوم أنّ البيع السببي عبارة أخرى عن آلة إيجاد البيع

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 79

ص: 171

______________________________

المسببي، و مقتضى عرفيّة البيع سببيا و مسببيا هو جواز إيجاد المسببي بكلّ ما يكون ظاهرا فيه عند العقلاء من قول أو فعل.

و بالجملة: يصح إنشاء الأمور الاعتبارية بكل لفظ أو فعل يكون مبرزا لها، لكون ذلك اللفظ أو الفعل مصداقا لما يتسبّب به إلى عنوان اعتباريّ من بيع أو صلح أو هبة أو غيرها، من غير فرق بين كون ذلك العنوان عقدا أو إيقاعا كالطلاق و العتق و غيرهما.

و وجه الصحة هو شمول دليل نفوذ ذلك العنوان له، إذ لا فرق في مصاديق البيع السببي بين القول و الفعل.

و اتّضح من هذا البيان: جريان المعاطاة في كل عقد و إيقاع، إلّا إذا قام دليل على اعتبار اللفظ في ذلك، أو لم يكن فعل مبرزا له، فالأصل يقتضي جريان المعاطاة في جميع العناوين الاعتبارية، هذا.

و لا بأس بالإشارة إلى جملة من الموارد التي يمكن أن يكون فيها فعل مبرز للعنوان الاعتباري:

منها: القرض، فإنّ إعطاء المقرض بهذا العنوان و أخذ المقترض كذلك مبرز للتمليك بالضمان الذي هو مفهوم القرض، لما مرّ آنفا من أنّه لا يعتبر في المبرز أن يكون إبرازه للاعتبار النفساني بالذات أو الوضع، بل المدار على كونه مبرزا عقلائيّا، سواء أ كان إبرازه ذاتيا أم وضعيّا أم للقرينة. فلا ينبغي الإشكال في صحة إنشاء القرض بالإعطاء.

و منها: الرّهن، فإنّ إمكان إبرازه بالإعطاء- المحفوف بقرينة تدلّ عليه- من الأمور العقلائية التي لا ينبغي الارتياب فيها، إذ الإعطاء بقصد الرهن مع إقامة القرينة عليه- بحيث يصير عند العقلاء كاللفظ آلة للإيجاد- يكون محقّقا فعليا للرّهن، فيشمله عموم أو إطلاق دليل صحته، فيكون لازما من طرف الرّاهن.

و دعوى «كونه جائزا، للإطباق على توقف العقود اللازمة على اللفظ» غير مسموعة، لعدم ثبوت ذلك الإجماع بمثابة يصلح لتخصيص العمومات.

ص: 172

______________________________

كعدم سماع دعوى اختصاص دليل صحة المعاطاة من الإجماع و السيرة بالبيع.

لما عرفت في كلام جامع المقاصد و المسالك من اقتضاء كلام بعضهم اعتبار المعاطاة في الإجارة و الهبة. و هذا يوهن دعوى اختصاص الإجماع و السيرة بالبيع، هذا.

و قد ظهر مما ذكرناه من شمول عمومات الرهن لمعاطاته: اندفاع ما أورد على الرهن المعاطاتي من أنّ الجواز ينافي حقيقة الرهن و هي الوثوق.

و ملخّص وجه الاندفاع هو: أنّ المرجع في كل معاملة معاطاتية دليل تلك المعاملة بعد عدم تحقق إجماع على توقف العقود اللازمة على اللفظ.

ثم إنّه قد استشكل في جريان المعاطاة في القرض و الرّهن و الصرف و الوقف و غيرها مما يكون القبض شرط صحتها بما حاصله: لزوم اتحاد الشرط و المشروط. قال المحقق الأصفهاني قدّس سرّه في توضيحه: «و ليعلم أوّلا أن المعاطاة في القرض إن كانت بنفس القبض- مع أنّ القبض شرط الصحة- يلزم اتحاد الشرط و المشروط، و هو محال، إذ الشي ء لا يعقل أن يكون نفسه مصحّحا لفاعليّة نفسه أو متمّما لقابلية نفسه، لعدم الاثنينية بين الشي ء و نفسه، ففرض عدم تمامية الفاعلية و القابلية في حدّ ذاته ينافي فرض تماميته بنفس ذاته» «1».

توضيحه: أنّه يلزم اجتماع الضدّين- و هما المقتضي و الشرط- و هما مغايران وجودا. مضافا إلى: أنه يلزم تقدم الشي ء الواحد و تأخره، لأنّه من حيث كونه مقتضيا متقدم رتبة، و من حيث كونه شرطا متأخر كذلك.

ثم أجاب المحقق المتقدم ذكره بما لفظه: «و الجواب العام: أن الفعل الخارجي الخاص له حيثيّتان من حيث الصدور من الراهن مثلا، و بهذا الاعتبار إقباض، و من حيث مساسه بالمرتهن القابض، و بهذا الاعتبار قبض، كالإعطاء و الأخذ في المعاطاة

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 47

ص: 173

______________________________

البيعي، حيث قلنا بأنّه يتسبّب إلى الملكية بإعطائه، و يطاوع الآخر بأخذه، فهناك فعلان حقيقة كلّ منهما قائم بطرف، فلا مانع من كون أحدهما بمنزلة المقتضي، و الآخر بمنزلة الشرط».

و أنت خبير ببقاء محذور اتحاد المقتضي و الشرط، و ذلك لأنّ مقتضى عقدية القرض و كفاية الإعطاء و الأخذ في المعاطاة هو كون الأخذ متمّما للمعاطاة التي هي المقتضي للملكيّة في القرض كالعقد اللفظي الذي يكون القبول جزءه، و مع كون الأخذ جزء العقد المقتضي للملكية كيف يصير شرطا لها؟ إذ لو كان شرطا أيضا لزم محذور اتحاد الشرط و المشروط.

و قد يقال في دفع الإشكال: إنّ المقتضي هو الأخذ بمعناه المصدري، و الشرط هو الأخذ بمعناه الاسمي أي كون العين في يد الطرف الآخر، من المقترض و المتهب، و المشتري في بيع الصرف، و من المعلوم تأخّر الأخذ بالمعنى الاسمي عنه بمعناه المصدري رتبة.

فللأخذ حيثيتان: إحداهما معناه المصدري، و هي متمّمة للمعاملة، و الأخرى معناه الاسمي، و هي شرط الصحّة، و لا مانع من كون إحدى الحيثيتين شرطا لتأثير الأخرى، و من المعلوم أنّ الشرط في القرض هو الحصول في اليد، و لذا لو كان المال المرهون أو الموهوب أو المقترض عند المرتهن و المتهب و المقترض و تحت أيديهم قبل إنشاء هذه العناوين لم يحتج إلى قبض جديد بعد العقد القولي، إذ لا يتحقق حينئذ العقد المعاطاتي مع فرض كون العين في يد المرتهن، هذا.

لكنّه لا يخلو من غموض، لوضوح تعدّد المقتضي و الشرط وجودا، و امتناع تصادقهما على موجود واحد، فالمقتضي هو ما يترشّح منه وجود المقتضى، و الشرط ما يتمّ به فاعلية الفاعل أو قابلية القابل، كالنار المقتضية للإحراق، و المماسة التي هي

ص: 174

______________________________

شرطه، و هما متعدّدتان وجودا حقيقة.

و هذا بخلاف باب المصدر و اسمه- كالإيجاد و الوجود- فإنّ تعددهما اعتباري محض، إذ الحدث موجود وحدانيّ، فإن أضيف إلى فاعله كان مصدرا، و إن أضيف إلى نفسه كان اسم المصدر. و من المعلوم أنّ القبض المجعول شرطا في العقود المذكورة هو إعطاء الموجب و أخذ القابل، و يتوقف صدق الشرط عليه على تحقق المقتضي للصحة قبله، و حيث لم يتحقق إنشاء قولي و لا غيره- كما هو المفروض- لزم اتحاد المقتضي و الشرط في إنشاء هذه العناوين بالمعاطاة، فيعود المحذور.

و أمّا الفرع المذكور- و هو كفاية كون العين في يد الطرف الآخر- فلا يمكن الاستشهاد به على كفاية القبض بمعناه الاسمي في الأبواب المزبورة كلّية، و إنّما يقتصر به على مورده، و هو ما إذا أنشئ العقد باللّفظ مطلقا أو بخصوص الصيغة المعتبرة في العقود اللازمة، فيقال بصحّته و عدم توقفه على ردّ العين إلى المالك كي يقبضها مرّة أخرى. و أمّا في إنشائه بالفعل، فلا موجب لرفع اليد عن ظهور أدلّة شرطية القبض بمعناه المصدري، و مقتضاه انسداد باب المعاطاة في مثل الرهن و الهبة و القرض.

و أمّا الاستدلال على كفاية الإنشاء الفعلي في الهدية بما ورد في الهدايا التي أرسلت إلى النبي و الأئمة الطاهرين عليهم الصلاة و السلام فليس بذلك الوضوح، فإنّهم عليهم السّلام أخذوها و تصرّفوا فيها تصرّف الملّاك في أملاكهم لكن هذا لا يدلّ على انحصار إنشائها بالإرسال و الإقباض حتى يكون الفعل الواحد مقتضيا للملك و شرطا فيه، لبقاء احتمال إنشائها بالكتابة أو بالصيغة الملحونة أو بتوكيل الرّسول في إجراء الصيغة. و لعلّه لذا جزم شيخ الطائفة و ابن إدريس قدّس سرّهما باعتبار الصيغة، و أنّ الهدية الفعلية لا تفيد إلّا إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

نعم يمكن أن يقال: إن حديث مغايرة المقتضي و الشرط وجودا مختص

ص: 175

______________________________

بالموجود العيني دون الاعتباري، فإنّ الملكية أمر اعتباري، و يمكن أن يكون منشأ اعتبارها فعلا خارجيا أو أمرا اعتباريا، و لا مانع من لحاظ حيثيتين في فعل واحد، فيكون القبض بلحاظ إعطاء الموجب مقتضيا، و بلحاظ أخذ القابل شرطا.

هذا بحسب مقام الثبوت. و أمّا بحسب مقام الإثبات فيكفي فيه- بعد إمكانه ثبوتا- إطلاق أدلة الإمضاء و التشريع، هذا.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ إشكال اعتبار القبض في الصحة في جملة من العقود و الإيقاعات لا يمنع جريان المعاطاة فيها، فتجري في الوقف، و يكون الوقف المعاطاتي كالقولي لازما، لشمول أدلّة تشريع الوقف و لزومه له، كشموله للقولي.

فما في المتن من قوله: «و الجواز غير معروف في الوقف من الشارع» أجنبي عمّا يدعيه القائل بجريان المعاطاة في الوقف، لأنّه يقول بلزوم الوقف المعاطاتي، لكونه مصداقا للوقف، فتشمله أدلّته المقتضية للزومه كما لا يخفى.

و منها: النكاح، فإنّ الظاهر جريان المعاطاة فيه بمعنى إنشاء علقة الزوجية بفعل مباح مبرز للقصد عند العقلاء كذهاب المرأة بجهيزتها إلى دار الرّجل بقصد إنشاء الاعتبار، و قبول ذلك بفتح باب الدار عليها و أخذ الجهيزة منها بالقصد المزبور، فالفعل الصادر منها مبرز عقلائي لعلقة الزوجية الاعتبارية و جائز شرعا في نفسه. فمقتضى القاعدة جريان المعاطاة في النكاح، و المانع منحصر في التسالم على اعتبار اللفظ في حصول العلقة، فعدم جريان الإنشاء الفعلي في باب النكاح مستند إلى وجود المانع، لا إلى عدم المقتضي.

نعم في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه المنع عن جريان المعاطاة في النكاح لوجه آخر، قال مقرر بحثه الشريف: «فإنّ الفعل فيه ملازم لضدّه و هو الزّنا و السّفاح، بل مصداق للضّد حقيقة، فإنّ مقابل النكاح ليس إلّا الفعل المجرّد عن الإنشاء

ص: 176

______________________________

القولي و عمّا جعله الشارع سببا للحلّيّة» «1».

و قريب منه ما في بعض الكلمات: من أنّ جواز الوطي مترتب على الزوجية ترتب المسبّب على سببه، و الحكم على موضوعه، كما هو ظاهر قوله تعالى إِلّٰا عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ فلو توقّفت الزوجية على الوطي لزم اتحاد المسبب و سببه، لتوقف حلية الوطي على الزوجية، و توقفها على حلّية الوطي، إذ لا يؤثر الوطي المحرّم في حدوث علقة الزوجية، هذا.

لكن يمكن منعه بما عرفت من عدم انحصار سبب الحلّ في ذلك الفعل الخاص حتى يمتنع إنشاء العلقة به.

مضافا إلى: أنّ التسبّب إلى العنوان الاعتباري- كالزوجية و الملكيّة- لا يتوقف على حلية السبب تكليفا. فلا مانع من تأثير السبب المنهي عنه في الأمر الوضعي، بشهادة حرمة البيع تكليفا وقت النداء و صحّته وضعا.

و على هذا ينحصر المانع من إنشاء النكاح- بما عدا الصيغة المقرّرة- في التعبد الشرعي، لا إلى قصور الفعل عن التسبب به إليه، هذا.

و قد يورد على الميرزا قدّس سرّه تارة: بأنّ كون الوطي مصداقا أو ملازما للمحرّم إنّما هو بملاحظة حكم الشارع بتوقف عقد النكاح على مبرز خاص، و ذلك أجنبي عمّا هو مبرز عرفا للتزويج الاعتباري.

و أخرى: بأنّ انحصار الإنشاء في الوطي المحرّم لا يمنع عن حصول علقة الزوجية به، و ذلك لإمكانه من باب الاجتماع، بتقريب: أنّ المحرّم هو المباشرة، و المؤثّر في تحقق الزوجية هو عنوان السبب، و من المعلوم أنّ السبب و المباشرة كالغصب

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 81

ص: 177

______________________________

و الصلاة في تعددهما عنوانا و حكما، حيث إنّ أحدهما جائز و الآخر منهي عنه، و لا ريب في أن النهي لا يتجاوز عن متعلقة- و هو الوطي- إلى عنوان آخر، و أمّا الزوجية فقد أنيطت بالسبب، فلا مانع من إنشاء النكاح بفعل محرّم، و لا يتم منع الميرزا عن جريان المعاطاة في النكاح، هذا.

لكن الظاهر عدم تمامية الإيرادين، أمّا الأوّل فلأنّه خروج عن مفروض كلام الميرزا، و بيانه: أن المصرّح به في عبارته المتقدمة ملاحظة القاعدة الشرعية التأسيسية أو الإمضائية في جواز التسبب بالوطي إلى علقة الزوجية، بناء على انحصار آلة الإنشاء فيه، و مع تحريم هذا السبب الخاص شرعا لا معنى للاكتفاء به بما هو سبب عرفي، إذ مقصوده قدّس سرّه بيان القاعدة الأولية الشرعية في كفاية الفعل في مقام الإنشاء و عدمها، فلا معنى للإيراد عليه بكفاية الفعل الخاص بنظر العرف.

و أمّا الثاني فلأنّ المقام أجنبي عن باب الاجتماع الذي موضوعه تركب موضوع الأمر و النهي بنحو الانضمام، أي استقلال متعلّق كل منهما عن الآخر وجودا. فلو كان التركيب بينهما اتحاديا كان أجنبيا عن مسألة الاجتماع. و السبيبة بهذا العنوان لم يتعلق بها حكم شرعي حتى يكون جواز السبب نظير وجوب الصلاة الواقعة في دار مغصوبة، بل تنتزع السببية من كل فعل أو قول ينشأ به العنوان الاعتباري، و لمّا لم يكن عنوان السبب موضوع حكم شرعي لم يندرج المقام في باب الاجتماع، لفرض كون التركيب اتحاديا لا انضماميا.

و منها: الطّلاق فإنّه يمكن إنشاؤه عند العقلاء بفعل مبرز له كغضّ بصره عنها أو إلقاء القناع عليها، و نحوهما مما يناسبه من الأفعال. لكن قام الدليل على انحصار مبرزه بلفظ خاص.

و أمّا الوصية و التدبير و الضمان فلا مانع أيضا من إنشائها بفعل مناسب لها

ص: 178

______________________________

و لو بالكتابة و الإشارة، إذ لا تنحصر المعاطاة بالإعطاء، لما مرّ من أنّ المعاطاة لم ترد في آية و لا رواية و لا معقد إجماع حتى يؤخذ بظاهرها، بل المراد بها ما يقابل اللفظ.

فما في تقريرات المحقق النائيني قدّس سرّه من «أن الوصية تمليكية كانت أو عهدية، و التدبير و الضمان، فإنّها لا تنشأ إلّا بالقول، لعدم وجود فعل كان مصداقا لهذه العناوين، فإنّ انتقال الدّين من ذمّة إلى أخرى لا يمكن أن يتحقق بالفعل، و لا العتق، أو الملكية أو القيمومة بعد موت الموصى» «1» غير ظاهر.

فعلى ما ذكرنا تجري المعاطاة في كل اعتبار نفساني سواء أ كان عقدا أم إيقاعا بعد إرادة كل فعل مناسب مبرز لذلك الاعتبار، إلّا ما قام الدليل فيه على اعتبار لفظ خاص كالنكاح و الطلاق أو مطلق اللفظ فيه تعبدا، و اللّه العالم.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 81

ص: 179

[التنبيه السادس: ملزمات المعاطاة]
اشارة

الأمر السادس (1): في ملزمات المعاطاة على كلّ من القول بالملك و القول بالإباحة.

اعلم: أنّ الأصل (2) على القول بالملك

______________________________

التنبيه السادس: ملزمات المعاطاة

(1) الغرض من عقد هذا الأمر- كما صرّح به في المتن- البحث عن ملزمات المعاطاة سواء قلنا بمقالة المشهور من ترتب الإباحة عليها تعبدا، أم بمقالة المحقق الكركي و من تبعه من ترتب الملك المتزلزل عليها. و على هذا لا مجال لهذا التنبيه السادس بناء على مختار المصنف من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع بالصيغة. أمّا أصل إفادتها للملك فلقوله: بعد الفراغ من بيان الأدلّة على الملك: «فالقول الثاني لا يخلو عن قوة» و أمّا إفادتها لخصوص الملك اللازم فلما أفاده في أصالة اللزوم بقوله: «أوفقها بالقواعد هو الأوّل، بناء على أصالة اللزوم في الملك». و عليه يسقط البحث عن الملزمات. إلّا أن يكون المراد هو اللّزوم مع الغضّ عن الإجماع المدّعى على جواز الملك الحاصل بالمعاطاة.

ثم إنّ المصنف قدّس سرّه تعرّض لجملة من الملزمات كتلف كلا العوضين، أو أحدهما و التصرف الاعتباري، و التصرف الخارجي كطحن الحنطة و غير ذلك. و قد تعرّض الشهيد الثاني لأكثر هذه الملزمات في المسالك.

و قبل الشروع في تحقيق الملزمات أسّس المصنف قدّس سرّه الأصل على كلّ من الملك و الإباحة ليكون هو المعوّل عند الشّك في ملزميّة أمر خاص، كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.

(2) محصّل كلامه في الأصل هو: أنّ مفاده على القول بالملك يختلف عن مفاده على القول بالإباحة، و بيانه: أنّه بناء على تأثير المعاطاة في الملك يتعيّن القول باللزوم،

ص: 180

اللّزوم (1)، لما عرفت من الوجوه الثمانية (2) المتقدمة.

و أمّا على القول بالإباحة فالأصل (3) [1] عدم اللزوم، لقاعدة تسلّط

______________________________

إلّا إذا دلّ دليل خاص على جواز الملك، فلولاه يبنى على اللزوم الذي اقتضته الأدلة الاجتهادية و الأصل العملي.

و بناء على تأثير المعاطاة في الإباحة ينعكس الأمر، لأنّ الدليل على مشروعيتها قاعدة السلطنة، و من المعلوم اقتضاؤها تسلط المالك المبيح على الرجوع عن إباحته، فله استرداد ماله من المباح له. و لو فرض الشك في إطلاق سلطنة المالك أمكن التمسك باستصحاب سلطنته الثابتة له قبل أن يبيح ماله للمتعاطي الآخر، و من المعلوم حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب بقاء الإباحة لو تمسّك به المباح له:

وجه الحكومة تسبّب الشك شرعا- في بقاء الإباحة للمباح له- عن الشك في انقطاع سلطنة المالك المبيح و بقائها، فلو فرض بقاء سلطنته كان له استرداد ماله قطعا، و يرتفع الشك تعبّدا في بقاء الإباحة، هذا.

(1) المراد بأصالة اللّزوم هنا ما يعمّ الأصل اللفظيّ و العمليّ، بقرينة مستنده الشامل لكلّ من الدليل و الأصل كالاستصحاب.

(2) و هي الاستصحاب، و «الناس مسلّطون على أموالهم»، و «لا يحلّ مال امرء إلّا عن طيب نفسه»، و الاستثناء في قوله تعالى لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و الجملة المستثنى منها في هذه الآية، و ما دلّ على لزوم خصوص البيع مثل قوله عليه السّلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»، و قوله تعالى:

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمنون عند شروطهم» و قد تقدم سابقا أنّ الأقوى كون المعاطاة مفيدة للملك فيما إذا كان المتعاطيان قاصدين له.

(3) أي: قاعدة السلطنة تقتضي جواز الرجوع عن الإباحة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد ادّعى بعض كالمحقق النائيني قدّس سرّه التنافي بين أصالة عدم اللزوم هنا و بين ما اختاره المصنف قدّس سرّه. في الأمر الرابع من «أنّ الأقوى في الإباحة مع العوض هو اللزوم» تقريب المنافاة: أن الوجه في اللزوم مشترك بينهما، فلا بدّ من كون

ص: 181

الناس على أموالهم، و أصالة (1) سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة، و هي

______________________________

(1) هذا وجه آخر لعدم اللزوم، و حاصله: «أنّ الأصل العملي- فضلا عن الدليل الاجتهادي- يقتضي الجواز أيضا، إذ لا مانع من استصحاب سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة، حيث إنّه من موارد الشك في رافعية الموجود الذي يكون الاستصحاب فيه حجة قطعا.

______________________________

الأصل اللزوم في الإباحة مطلقا.

قال المقرر قدّس سرّه: «و وجه اللزوم مطلقا كفاية عموم- المؤمنون عند شروطهم- لإثبات اللزوم، فإنّ العقود التسليطية لو خلّيت و طبعها دائرة مدار بقاء التسليط، إلّا فيما إذا اشترط اللزوم في ضمن عقد لازم أو التزم و تعهّد به ابتداء» «1».

لكنك خبير بعدم المنافاة، ضرورة أنّ الإباحة- في التنبيه الرابع- مقصودة لأحد المتعاطيين أو لكليهما. بخلاف المقام، فإنّهما قاصدان للملك و إن لم يمض الشارع ما قصداه و حكم فيها بالإباحة، فيجري هناك دليل الشرط و وجوب الوفاء بالعقود، دون دليل السلطنة، فضلا عن استصحابها، لحكومة دليلي الشرط و الوفاء عليه. بخلاف المقام، فإنّ دليلي الشرط و الوفاء بالعقد لا يجريان هنا، لأنّ ما التزما به من الملك لم يتحقق و لم يمضه الشارع، و ما تحقّق- و هو الإباحة- ممّا لم يلتزما به. فلا منافاة بين ما أفاده في الأمر الرابع من اللزوم و ما أفاده هنا.

لا يقال: إنّه لا مانع من كون الإباحة لازمة و إن كانت شرعية، لإطلاق دليل الإباحة.

فإنّه يقال: إنّ الدليل على الإباحة الشرعية- و هو الإجماع- لا إطلاق له، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه، و هو صورة عدم رجوع المالك عن الإباحة، بل قد تقدّم سابقا عدم إجماع تعبّدي على الإباحة، فلاحظ.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 82

ص: 182

حاكمة (1) على أصالة بقاء الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك لو سلّم (2) جريانها.

[الملزم الأوّل هو التلف]

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ (3) تلف العوضين ملزم إجماعا على الظاهر المصرّح به (4) في بعض العبائر (5).

______________________________

(1) حاصله: أنّ استصحاب سلطنة المالك قبل المعاطاة- المقتضية لارتفاع الإباحة- حاكم على استصحاب الإباحة قبل رجوع المالك.

تقريب الحكومة: أنّ الشك في بقاء الإباحة و ارتفاعها ناش عن الشك في بقاء سلطنة المالك على ماله المباح و ارتفاعها، و من المقرّر في محله حكومة الأصل الجاري في الشك السببي على الأصل الجاري في المسببي، فتجري أصالة بقاء السلطنة دون أصالة بقاء الإباحة.

(2) لعلّ وجه توقفه في جريانها هو تقوّم الإباحة بالإذن، و من المعلوم ارتفاع الإباحة بانتفاء الإذن، هذا.

لكن فيه: أنّه متين بناء على كون الإباحة مالكية لا شرعية كما هو المفروض، إذ المالكان يقصدان التمليك، لكن الشارع لم يمضه و حكم بالإباحة.

(3) بعد أن فرغ المصنف من تأسيس الأصل- و بيان مقتضاه على كلّ من الملك و الإباحة- شرع في عدّ الملزمات، من التلف و التصرف الناقل و التصرف الخارجي و غير ذلك، و لكل منها صور سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء اللّه تعالى، فالملزم الأوّل هو التلف، و المذكور منه في المتن صور ثلاث، و هي تلف العوضين معا و تلف أحدهما و تلف بعض أحدهما.

(4) يعني: أنّ الإجماع ظاهر بعض العبارات و صريح بعضها الآخر، فضمير «به» راجع الى الإجماع.

(5) قال في الحدائق: «لا إشكال و لا خلاف عندهم في أنّه لو تلفت العينان في

______________________________

و عليه فمقتضى دليلي السلطنة و عدم جواز التصرف في مال الغير بدون إذنه هو عدم جواز تصرف كلّ من المتعاطيين في مال صاحبه بعد الرجوع الدال على عدم رضائه

ص: 183

أمّا على القول بالإباحة فواضح، لأن (1) تلفه من مال مالكه، و لم يحصل ما يوجب ضمان كلّ منهما مال صاحبه [1].

______________________________

بيع المعاطاة فإنّه يصير لازما» «1». و قال السيد الفقيه العاملي: «لا إشكال و لا خلاف عندهم في أنه لو تلفت العين من الجانبين صار لازما» «2». و قال في الجواهر: «بقي الكلام فيما ذكره غير واحد من الأصحاب- بل قيل: انه لا خلاف فيه و لا إشكال- من لزوم المعاطاة بتلف العين من الجانبين. بل قال الأستاد في شرحه: لا ريب و لا خلاف في أنّ المعاطاة تنتهي إلى اللزوم، و أنّ التلف الحقيقي أو الشرعي بالنقل بالوجه اللازم للعوضين معا باعث على اللزوم، و كذا للواحد منهما» «3».

(1) توضيحه: أنّه- بناء على ترتب الإباحة على المعاطاة- يجوز لكلّ من

______________________________

بتصرف صاحبه في ماله، و المفروض عدم كون الإباحة الشرعية عقدا حتى تكون لازمة و يجب الوفاء بها.

[1] هذا متين لو كانت الإباحة مالكيّة. لكنّه ليس كذلك ضرورة أنّ الإباحة المترتبة على المعاطاة المقصود بها التمليك شرعيّة، فلا بد حينئذ من الالتزام بحصول الملكية آنا ما قبل التلف لمن تلف في يده، جمعا بين الأدلة و هي الإجماع المقتضي لعدم ثبوت الضمان بالمثل أو القيمة، حيث إنّ المعاطاة لم تفد إلّا الإباحة، و قاعدة ضمان اليد المقتضية لكون التلف من ذي اليد، و أصالة بقاء المال على ملك مالكه الأوّل، فإنّ الجمع بين هذه الأدلة يقتضي حصول الملكية آنا ما قبل التلف، و بعد حصولها لا بدّ من الحكم بضمان المسمّى، فيكون كل من المالين مضمونا بالآخر، هذا محصّل ما يستفاد من تقريرات سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّه «4».

______________________________

(1): الحدائق الناضرة، ج 18، ص 362

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 157

(3) جواهر الكلام، ج 22، ص 230

(4) مصباح الفقاهة، ج 2، ص 199

ص: 184

و توهّم جريان قاعدة الضمان باليد هنا

______________________________

المتعاطيين استرداد ماله من الآخر، لفرض بقاء المال على ملك المعطي لا الآخذ. هذا مع بقاء العينين.

و أمّا إذا تلفتا لزمت المعاطاة، لامتناع الرجوع إلى العينين.

______________________________

لكنه لا يخلو من غموض، حيث إنّ الجمع بين الأدلة لا يقتضي الملكية الآنيّة، بل يقتضي كون التلف من مالكه الأوّل، إذ لا دليل غير الإجماع المقتضي لعدم ضمان المثل أو القيمة، و أصالة بقاء المال على ملك مالكه. و مقتضى هذين الدليلين هو كون التلف من مال مالكه الأوّل.

و لا يجري عموم «على اليد» هنا حتى يكون الضمان على ذي اليد و نلتزم بالملكية الآنية له، إذ المفروض كون اليد- لأجل الإباحة الشرعية- أمانية غير موجبة للضمان.

نعم يكون التلف موجبا للزوم الإباحة، و عدم جواز رجوع المتعاطي الآخر- و هو المالك- الى المتعاطي الذي تلف عنده المال.

فما أفاده المصنف قدّس سرّه من كون التلف من مال المالك الأوّل في غاية المتانة، فتدبر جيّدا.

نعم كلامه هنا- من عدم جريان قاعدة اليد- مناف لما تقدّم منه في مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدّس سرّه من الالتزام بجريانها بناء على مسلك المشهور من الإباحة، و اقتضاء الجمع بين اليد و الإجماع و الاستصحاب للقول بدخول المأخوذ بالمعاطاة في ملك المباح له آنا ما قبل التلف ليقع التلف في ملكه، فلاحظ قوله هناك: «و أما كون التلف مملّكا للجانبين، فإن ثبت بإجماع أو سيرة- كما هو الظاهر- كان كل من المالين مضمونا بعوضه، فيكون تلفه في يد كلّ منهما من ماله مضمونا بعوضه .. لأن هذا هو مقتضى لجمع بين هذا الإجماع و بين عموم على اليد ما أخذت و بين أصالة عدم الملك إلّا في لزمان المتيقن وقوعه فيه .. إلخ».

ص: 185

مندفع (1) بما سيجي ء (2).

و أمّا على القول بالملك فلما عرفت من أصالة اللزوم، و المتيقّن من مخالفتها جواز (3)

______________________________

فان قلت: لا موجب للزومها بمجرّد تلف العينين، بل تبقى الإباحة على حالها، و يرجع كل منهما على الآخر ببدل ماله. و الدليل على بقاء الإباحة هو قاعدة اليد، بتقريب: أنّ كلّا من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر- لكونه مباحا عنده لا ملكا له- و من المعلوم أنّ للمالك استرداد ماله من المباح له ما دام موجودا، و لو تلف استقرّ بدله عليه، فكلّ منهما ضامن لمال الآخر بمقتضى «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» فإذا جاز الرجوع إلى بدل العينين فقد ثبت استمرار الإباحة، و عدم لزوم المعاطاة بمجرّد تلف العينين، فإنّ التلف غير مانع من الرجوع إلى البدل.

قلت: نعم، لو جرت قاعدة اليد هنا لم يكن التلف ملزما. لكنّها لا تجري في ما نحن فيه من جهة انتفاء الموضوع، و ذلك لاختصاص اليد المضمّنة باليد العدوانية، و هي منتفية في المقام، إذ المفروض حكم الشارع بإباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة، فاليد السابقة على التلف لم تكن مضمّنة قطعا، لاستنادها إلى إذن الشارع.

و إذا تلفت العين امتنع انقلاب اليد الأمانية إلى العدوانية، لاستحالة انقلاب الواقع عمّا هو عليه. و لمّا لم تكن اليد مقتضية للضمان- حتى يجوز الرجوع إلى البدل- فلا بدّ من استناد الضمان إلى موجب آخر، و المفروض عدمه.

(1) خبر «و توهم» و دفعه، و قد تقدم توضيحهما آنفا بقولنا: «فان قلت:

قلت ..».

(2) بعد أسطر بقوله: «و التمسك بعموم اليد هنا في غير محله بعد القطع بأن هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان .. إلخ».

(3) يعني: إمكان التراد. و يدل على كون المتيقن ذلك ما تقدّم عن الحدائق و مفتاح الكرامة و الجواهر من «الإجماع على كون تلف العينين ملزما» لدلالته على

ص: 186

ترادّ العينين (1)،

______________________________

كون امتناع التراد- لتلف العينين- موجبا للزوم.

(1) محصّل ما أفاده من لزوم المعاطاة بتلف العينين بناء على الملك الجائز هو: أنّ أصالة اللزوم تقتضي لزوم المعاطاة، و المتيقن من مخالفة عموم دليل اللزوم و تخصيصه في المعاطاة- بسبب الإجماع- هو صورة إمكان ترادّ العوضين، فمع امتناعه يرتفع الجواز.

توضيحه: أنّهم قسّموا الجواز في العقود غير اللّازمة إلى حقّي و حكمي، و مثّلوا للأوّل بالخيار، لما يظهر من تعريفه بأنّه «ملك فسخ العقد» فالخيار هو السلطنة على إقرار العقد و إزالته، لقابلية نفس العقد للبقاء في وعاء الاعتبار، فيثبت حقّ الخيار مطلقا سواء بقي العوضان أم لا. و المرجع في تشخيص موضوعية العقد لهذا الجواز هو أدلّة الخيارات، كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» «1» الظاهر في سلطنة المتبايعين على حلّ العقد قبل الافتراق، سواء بقي العوضان أم تلفا، فان كانا باقيين ردّ كلّ منهما إلى من انتقل عنه، و إن تلفا ردّ البدل.

و مثّلوا للثاني بجواز رجوع الواهب في العين الموهوبة ما دامت باقية، و أنّه يجوز له استردادها من المتّهب و إن لم يفسخ العقد قبل الرجوع، فلو استردّها انحلّ العقد من باب انتفاء الموضوع، لعودها به إلى ملك الواهب. و لأجل تعلق الجواز باسترداد العين لا بنفس العقد دار الحكم مدار بقائها، فلو تلفت لزمت الهبة، و لا يصح للواهب الرجوع إلى بدلها.

و لا فرق في تعلق الجواز بالرجوع و الاسترداد بين كون الهبة معوّضة و غير معوّضة. أمّا الثاني فواضح. و أمّا الأوّل فكذلك، فإنّ المناط في جواز الهبة بقاء العين الموهوبة، سواء أ كان عوضها باقيا أم تالفا. و الدليل على موضوعية الرجوع للجواز هو مثل معتبرة جميل و الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله

______________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 12، ص 346، الباب 1، من أبواب الخيار، الحديث: 3.

ص: 187

..........

______________________________

أن يرجع، و إلّا فليس له» «1».

و للجواز الحكمي فرد آخر و هو ما يكون متعلّقه أضيق دائرة من جواز الهبة كما يكون أضيق من الجواز الحقي، و هو ما ذكروه في باب المعاطاة- بناء على عدم القول بالملك اللازم- من تعلق الجواز بتراد العينين، فما دامتا باقيتين بحالهما جاز لكلّ من المتعاطيين استرداد ماله، و لو امتنع التراد بتلف إحداهما أو بغير التلف ارتفع جواز المعاطاة و صارت لازمة.

و الدليل على موضوعية «التّراد» للجواز- و عدم تعلقه بالعقد كما في الخيار و لا بالرجوع في عين واحدة كما في الهبة- هو: أنّه لا دليل لفظيّ في المقام حتى يؤخذ بإطلاقه، لانحصار الدليل في الإجماع على جواز المعاطاة، و حيث إنّه دليل لبيّ يلزم الاقتصار على القدر المتيقن منه في الخروج من عموم أدلة لزوم الملك.

توضيحه: أنّ المقام يكون من موارد تخصيص العام بمخصّص منفصل مجمل مردّد بين الأقلّ و الأكثر، فالعام هو أدلة لزوم كل ملك، و المخصّص هو الإجماع المدّعى على جواز المعاطاة. فإن تعلّق الجواز بالعقد- كما في باب الخيار- كان الجواز باقيا بعد تلف العوضين، و إن تعلّق بردّ عين واحدة كما في الهبة جاز الرجوع بعد تلف إحدى العينين. و إن تعلّق بالتّراد توقّف على بقائهما معا، فلو تلفت إحداهما أو بعض إحداهما انتفى الجواز و صار الملك لازما. و لمّا لم يحرز قيام الإجماع على جواز فسخ العقد المعاطاتي و لا على جواز استرداد إحدى العينين تعيّن الاقتصار على المتيقن منه لكونه لبيا- بحيث لو لا الاقتصار على المتيقن يلزم طرح الإجماع بالكلّية- و هو تعلّقه بالتّراد، و الرجوع إلى أصالة اللزوم عند تعذّره بتلف و شبهه.

فإن قلت: إذا ثبت بالإجماع جواز الملك في المعاطاة قبل التلف، و شكّ في انتفائه به أمكن إحراز عدم لزوم الملك باستصحاب الجواز، و هو يمنع عن شمول

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 141، الباب 8 من أحكام الهبات، الحديث: 8

ص: 188

و حيث ارتفع مورد التّراد امتنع (1). و لم يثبت (2) قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف (3)، لأنّ ذلك (4) الجواز من عوارض العقد، لا العوضين، فلا مانع من بقائه،

______________________________

أدلة اللزوم بعد تلف إحدى العينين أو كلتيهما استصحابا لحكم المخصّص.

قلت: لا مجال هنا للاستصحاب، لوجهين: أحدهما: ما تقدّم آنفا من الفرق بين جواز المعاطاة و بين جواز العقد الخياري، فإنّه بمعنى الانحلال بالفسخ و هو قائم بالعقد، و لكن جواز المعاطاة بمعنى التملك بالرجوع في العين، لا بعنوان الفسخ، و من المعلوم أنّ التملك بالأخذ قائم بنفس العوضين لا بفسخ العقد. و على هذا يقطع بانتفاء ذلك الجواز بمجرّد التلف، فلا شك حتى يستصحب الجواز.

و منشأ هذا الفرق ما تقدم من عدم إحراز تعلّق الجواز- في باب المعاطاة- بحلّ العقد حتى يستصحب بقاؤه لو شكّ في ارتفاعه بتلف العينين، فالمتيقن من الدليل تعلّقه بالتّراد، و ينتفي معروض المستصحب بمجرد التلف، و لا يبقى شك حتى يجري فيه الأصل.

ثانيهما: أنّه لا مجال لهذا الاستصحاب حتّى إذا تردّد جواز المعاطاة بين تعلّقه بالعقد و بين تعلّقه بالتراد، إذ مع الشّك في الموضوع لا يحرز اتّحاد القضيتين المتيقنة و المشكوكة، فيدور الأمر بين النقض و الانتقاض، و مثله ليس مجرى للأصل.

(1) يعني: يمتنع التراد بسبب التلف.

(2) هذا إشارة إلى توهم، و قد تقدّم آنفا بقولنا: «فان قلت ..» و حاصل التوهم قياس جواز المعاطاة بجواز العقد الخياري في بقائه بعد تلف العوضين.

(3) أي: و لو كان التالف كلا العوضين، فإذا فسخ ذو الخيار رجع إلى البدل.

(4) أي: لأنّ جواز البيع الخياري يكون قائما بالعقد لا بالعوضين، و هذا تعليل لقوله: «لم يثبت» و دفع التوهم، و قد تقدم بقولنا: «قلت: لا مجال هنا للاستصحاب، لوجهين ..».

ص: 189

بل (1) لا دليل على ارتفاعه بعد تلفهما. بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الجواز فيه (2) هنا بمعنى جواز الرجوع في العين، نظير (3) جواز الرجوع في العين الموهوبة، فلا يبقى (4) بعد التلف متعلّق الجواز (5). بل الجواز هنا يتعلّق بموضوع (6) التراد، لا مطلق الرجوع (7)

______________________________

(1) الوجه في الإضراب واضح، لأنّ مجرّد عدم المانع عن بقاء جواز العقد غير كاف في بقائه بعد تلف العوضين إلّا باستصحاب جواز العقد. و لكنّه قدّس سرّه يدّعى كفاية إطلاق دليل التشريع في بقاء حق الخيار حتّى بعد تلفهما، فلا موضوع للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي و إن كانا متوافقين مفادا.

(2) أي: فإنّ الجواز فيما نحن فيه و هو المعاطاة. و على هذا فكلمة «هنا» مستدركة، كما لا يخفى على المتأمّل.

(3) خبر قوله: «فان الجواز» و الوجه في تنظير المعاطاة بالهبة- مع ما سيأتي من بيان الفارق بينهما- هو كون معروض الجواز استرداد العين و الرجوع فيها، و ليس معروضه العقد، و إنّما ينحل العقد بالتبع من باب انتفاء الموضوع.

(4) يعني: سواء في الهبة و المعاطاة.

(5) يعني: بل دائرة موضوع الجواز في المعاطاة أضيق من جواز الرجوع في الهبة، لأنّ موضوع الجواز هنا هو خصوص التّراد المتوقف على بقاء العينين معا.

بخلاف الجواز في الهبة، فإنّه متقوّم ببقاء عين واحدة، فلو كانت الهبة معوّضة- بأن وهب زيد كتابا لعمرو على أن يهبه عمرو دينارا- كان جوازها منوطا ببقاء الكتاب سواء بقي الدينار أم تلف. و لو تلف الكتاب لزمت الهبة بلا فرق أيضا بين بقاء الدينار و تلفه.

(6) فالإضافة بيانية، فإنّ الجواز متعلق بنفس التراد، لا بموضوعه و هو العوضان، لتعلق الحكم بفعل المكلف لا بالأعيان.

(7) كما في باب الهبة، و المراد بمطلق الرجوع أنّ العين الموهوبة ما دامت باقية

ص: 190

الثابت (1) في الهبة، هذا.

مع (2) أنّ الشّك في أنّ متعلّق الجواز هل هو أصل المعاملة (3) أو الرجوع (4)

______________________________

كان الرجوع جائزا، سواء أ كان العوض باقيا أم تالفا، فموضوع جواز الرجوع نفس العين الموهوبة بالهبة الأولى، بلا نظر إلى العين الموهوبة بعنوان العوض.

(1) صفة ل «مطلق الرجوع» فجواز الرجوع في المعاطاة مقيّد ببقاء العوضين، و لكن جواز الرجوع في العين الموهوبة غير مقيّد ببقاء العين الموهوبة بعنوان العوض.

(2) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من دفع التوهم، و قد تقدم بقولنا: «ثانيهما: أنه لا مجال للاستصحاب حتى إذا تردّد .. إلخ». و حاصله: أنّه لو لم يكن المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم هو صورة إمكان التراد، و شكّ في تعلق الجواز به أو بالعقد امتنع استصحاب جواز المعاطاة بعد التلف، لعدم إحراز الموضوع الذي لا بدّ منه في الاستصحاب [1].

(3) كما في العقد الخياري.

(4) كما في الهبة.

______________________________

[1] و من هنا يعلم فساد توهم كون المقام من قبيل القسم الثاني من استصحاب الكلي، بتقريب: أنّ كلّي جواز الرفع- الجامع بين فسخ العقد و تراد العينين- معلوم، إذ لا شكّ في وجود جواز رفع الأمر الموجود من الملك و العقد، و بعد التلف يشك في بقاء كلّيّ الجواز، فيستصحب. نظير القطع بوجود فرد من حيوان مردّد بين ما هو باق قطعا و بين ما هو زائل كذلك.

وجه الفساد هو: أنّه منشأ الشك في بقاء كلّيّ الجواز الجامع بين الفسخ و التراد هو الشك في بقاء موضوعه، لأنّ موضوع الجواز إن كان هو التّراد فهو غير باق قطعا، لتلف العينين. و إن كان نفس العقد فهو باق، و مع الشك في بقاء الموضوع لا مجال للاستصحاب.

ص: 191

في العين أو تراد العينين (1) يمنع (2) من استصحابه، فإن (3) المتيقن تعلّقه بالتّراد، إذ لا دليل في مقابلة أصالة اللّزوم على ثبوت أزيد من جواز ترادّ العينين الّذي لا يتحقق إلّا مع بقائهما.

______________________________

(1) كما في المعاطاة.

(2) خبر «أن الشك» و قد تقدم توضيح المنع.

(3) هذا تعليل لأصل منع جريان الاستصحاب بالنظر إلى الوجه الأوّل، لصراحة قوله: «فانّ المتيقّن تعلقه بالتراد» في أنّه قد أحرز- ببركة عموم أصالة اللزوم- تعلق جواز المعاطاة بالتراد، و أنّه لا يبقى شك في الموضوع، بل نقطع بانتفاء الموضوع. و لهذا كان الأولى ذكر هذه الجملة قبل قوله: «مع أن الشك». هذا تمام الكلام في الصورة الاولى و هي تلف كلا العوضين.

______________________________

فالإشكال في جريان الاستصحاب إنّما هو من ناحية الشك في بقاء الموضوع، نظير العلم بعدالة زيد أو عمرو إجمالا، ثم مات زيد، فإنّه لا يجري استصحاب العدالة الجامعة بينهما، للشك في بقاء موضوعها، فإن كانت العدالة ثابتة لزيد فقد ارتفعت قطعا بموته، و إن كانت قائمة بعمرو فهي باقية قطعا.

فالقسم الثاني من استصحاب الكلي و إن كان جاريا في حدّ ذاته، لكنّه لا يجري هنا، للشّك في بقاء الموضوع. فيفترق المقام عن المثال المزبور، لعدم الشك في بقاء الموضوع هناك، لأنّ المستصحب- أعني به كلّي الحيوان- يكون موضوعه و هو الماهية المعروضة للوجود و العدم باقيا كما لا يخفى.

بخلاف المقام، لتباين الفردين اللّذين يترتب عليهما الأثر، و لا معنى للجواز الجامع بينهما بعد كون الأثر مترتبا على كل واحد منهما بالخصوص.

و أمّا استصحاب الفرد المردّد فلا مجال له، لأنّه بما هو مردّد لا ماهية و لا وجود له، فليس موضوعا لأثر حتى يصح استصحابه.

و بالجملة: فالمقام من صغريات التمسّك بالعام، لكون الشك فيه في التخصيص الزائد الذي يرجع فيه إلى عموم العام الدال على اللزوم في كل زمان و حال.

ص: 192

و منه (1) يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول بالملك.

و أمّا على القول بالإباحة (2) فقد استوجه بعض مشايخنا (3) وفاقا

______________________________

(1) أي: و ممّا تقدّم- من كون المتيقن من مخالفة أصالة اللزوم في الملك صورة إمكان ترادّ العوضين- يعلم حكم تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما، و هذا إشارة إلى الصورة الثانية و الثالثة. و قد بيّن المصنف قدّس سرّه حكمهما بناء على كلّ من الملك و الإباحة.

و محصل ما أفاده فيهما هو: أنّه بناء على ترتب الملك الجائز على المعاطاة لا إشكال في لزومه بتلف أحد العوضين أو بتلف بعض أحدهما، لما عرفت مفصّلا من أنّ موضوع الجواز ترادّ العوضين، فينتفي بتلف أحدهما أو بعض أحدهما، كما إذا تعاطيا كتابا بدرهمين فاحترق الكتاب أو ضاع أحد الدرهمين، فتقتضي أصالة اللزوم لزوم الملك.

و بناء على ترتب الإباحة تعبّدا على المعاطاة ففي لزومها بتلف أحد العوضين أو بعض أحدهما بحث، فنقل شيخنا الأعظم عن بعض مشايخه المعاصرين ترجيح أصالة عدم اللزوم، لاستصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة، ثم اعترض المصنف عليه بمعارضته بأصالة براءة ذمته عن بدل التالف، ثم استدرك على هذه المعارضة بأنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالبدل، فهذه مطالب ثلاثة، سيأتي توضيح كلّ منها إن شاء اللّه تعالى.

(2) يعني: في الصورتين الثانية و هي تلف تمام إحدى العينين، و الثالثة و هي تلف بعض إحدى العينين.

(3) لا يبعد أن يكون مراده من بعض المشايخ هو السيد المجاهد، و من بعض معاصريه الفاضل النراقي قدّس سرّهما.

أمّا السيد فقد قال: «منهل: قد بيّنا أنّ المعاطاة لا تفيد اللزوم، فيجوز لكلّ من المتعاطيين الفسخ و الاسترداد و إن لم يرض الآخر به، إلّا في مواضع: و منها: ما إذا

ص: 193

..........

______________________________

تلف أحد العوضين .. و لكن في المسالك احتمل عدم تحقق اللزوم التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه، و عموم الناس مسلّطون على أموالهم. و فيه نظر، لأنّ الوجهين المذكورين إنّما يتجهان إن قلنا إنّ المعاطاة لا تفيد نقل الملك. و أمّا على تقدير إفادتها الملك كما هو المختار فلا» «1».

و المستفاد من الجملة الأخيرة بقاء الإباحة على حالها، و عدم لزومها بتلف إحدى العينين، لاقتضاء قاعدتي السلطنة و اليد بقاء جواز الاسترداد، هذا.

و أمّا الفاضل النراقي فقد قال في المستند في المسألة السادسة من مسائل الفصل الأوّل من كتاب البيع: «على القول بتوقف اللزوم على الصيغة فيجوز لكل منهما الرجوع في المعاطاة مع بقاء العينين .. و لو تلفت إحداهما خاصة فلا يجوز الرجوع لصاحب التالفة، و هل له ردّ الموجودة بلا مطالبة شي ء لو أراده لمصلحة و امتنع صاحبها؟ الظاهر نعم، لأصالة عدم اللّزوم. و لصاحب الموجودة الرجوع إليها لذلك أيضا على الأقوى، ثمّ الآخر يرجع إلى قيمة التالفة أو مثلها. كذا قالوا. و هو بإطلاقه مشكل. بل الموافق للقواعد أن يقال: لو كان التلف لا من جهة صاحب الموجودة فلا يرجع إليه بشي ء، لأصل البراءة، و عدم دليل على الاشتغال. و إن كان معه فإن قصد الرجوع قبل الإتلاف فعليه المثل أو القيمة .. و إن لم يقصده قبله فمقتضى الأصول و إن كان براءة ذمته عن المثل أو القيمة، لعدم كونه غاصبا و جواز رجوعه إلى عينه للأصل. إلّا أنّ الإجماع و نفي الضّرر يمنعان عن الأمرين معا، فلا بد من أحدهما- أي البراءة و عدم الرجوع، أو الرجوع مع ضمان البدل- و لكن تعيين أحدهما مشكل، و تعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة لقاعدة الغصب، كعدم الرجوع على كونها تمليكا لئلّا يلزم الجمع بين المالين باطل، لمنع صدق الغصب، و تسليم جواز جمع المالين إذا اشتغلت ذمته بمثل أحدهما أو قيمته. إلّا أن تعيّن الاشتغال

______________________________

(1): المناهل، ص 269

ص: 194

..........

______________________________

بإثبات جواز الرجوع بمثل: الناس مسلّطون على أموالهم، و على اليد ما أخذت» «1».

و الغرض من نقل هذه العبارة أمور:

الأوّل: أنّ الفاضل النراقي قدّس سرّه فصّل في عدم لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين- و جواز رجوع مالك العين الموجودة- بين أن يكون من تلف عنده العين قاصدا للرجوع إلى ماله الموجود عند الطرف الآخر، فيجوز الرجوع مع ضمانه لبدل العين التالفة، و بين أن لا يكون قاصدا للرجوع فلا، حيث إنّ في جواز استرداد ماله احتمالين:

أحدهما: عدم الجواز مع براءة ذمته عن بدل التالفة.

و ثانيهما: جواز الرجوع مع ضمان البدل. و رجّح في آخر كلامه هذا الاحتمال بقوله: «إلّا أن تعيّن الاشتغال بإثبات جواز الرجوع» و استدل عليه بوجهين: أحدهما قاعدة السلطنة، و الآخر قاعدة اليد.

و هذه الجملة الأخيرة هي محطّ نظر شيخنا الأعظم من نسبة القول ببقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين إليه، مستدلّا عليه باستصحاب سلطنة مالك العين الموجودة. و قد عرفت أنّ الفاضل النراقي قدّس سرّه استدل بقاعدة السلطنة لا باستصحابها.

الأمر الثاني: أنّ ما نقلناه من تفصيل الفاضل النراقي قدّس سرّه بين قصد الرجوع و عدمه و إن كان بظاهره أجنبيا عمّا نسبه المصنف إليه من القول ببقاء الإباحة استصحابا للسلطنة. إلّا أنّ المقصود من نقله الوقوف على ما سيأتي في المتن من إيراد المصنف على التفصيل بين قصد الرجوع و عدمه، و لمّا كان دأبنا في هذا الشرح الوقوف على أرباب الأقوال المنقولة في المكاسب- مهما أمكن- فلذا نقلنا عبارة المستند ليعلم أنّ قول المصنف قدّس سرّه: «إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة و لم يرد الرجوع ..» تعريض به.

______________________________

(1): مستند الشيعة، ج 1، ص 363

ص: 195

لبعض معاصريه تبعا للمسالك (1) أصالة عدم اللّزوم،

______________________________

الأمر الثالث: أنّ كلام الفاضل قدّس سرّه من تجويز الرجوع إلى العين الموجودة ليس فيه تصريح بابتنائه على إفادة المعاطاة للإباحة، بل نفى هذا الابتناء بقوله: «و تعيين الاشتغال مطلقا أو على كون المعاطاة إباحة محضة .. باطل» و عليه فما نسبه المصنف إلى الفاضل من القول بأصالة عدم اللزوم- بناء على الإباحة- مستفاد من إطلاق حكم الفاضل بجواز رجوع مالك العين الموجودة سواء قلنا بالملك الجائز أم بالإباحة المحضة. و لا مانع من هذه الاستفادة، لأنّ المصنف قدّس سرّه بصدد بيان حكم تلف إحدى العينين بناء على الإباحة. و هو لا ينافي اتّحاد حكمه بناء على الملك. و يساعد استفادة المصنف استدلال الفاضل بقاعدتي السلطنة و اليد، لماسبتهما للإباحة.

(1) ظاهر العبارة أنّ الشهيد الثاني استوجه عدم لزوم الإباحة في صورة تلف إحدى العينين أو بعضها، فتبعه صاحبا المناهل و المستند. لكن في النسبة تأمّل.

و بيانه: أنّه قدّس سرّه فصّل في المسالك بين تلف إحدى العينين و بين تلف بعض إحداهما، و ذكر في كلّ منهما وجهين، و اختار اللزوم بتلف إحداهما، و الإباحة في تلف بعض إحداهما. و على هذا فالمسألتان بنظر الشهيد ليستا متحدتين حكما.

و الأولى نقل كلامه وقوفا على حقيقة الحال، فقال في ثاني مباحث المعاطاة:

«لو تلفت العينان معا تحقق الملك فيهما. و لو تلفت إحداهما خاصة فقد صرّح جماعة بالاكتفاء به في تحقق ملك الأخرى، نظرا إلى ما قدّمناه من جعل الباقي عوضا عن التالف، لتراضيهما على ذلك. و يحتمل هنا العدم، التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه، و عموم: الناس مسلّطون على أموالهم. و الأوّل أقوى، فإنّ من بيده المال مستحق قد ظفر بمثل حقّه بإذن مستحقه فيملكه، و إن كان مغايرا له في الجنس و الوصف، لتراضيهما على ذلك» و هذا الكلام كما ترى صريح في ترجيح القول باللزوم في تلف عين واحدة، و أنّ عدم اللزوم مجرّد احتمال لا ينبغي المصير إليه.

و قال في المبحث الثالث: «لو تلف بعض إحداهما احتمل كونه كتلف الجميع

ص: 196

لأصالة (1) [1] بقاء سلطنة مالك العين الموجودة و ملكه لها.

______________________________

- يعني في تحقق اللزوم- و به صرّح بعض الأصحاب محتجّا بامتناع التراد في الباقي، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة، و بالضرر، لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى. و فيه نظر .. إلى أن قال: و يحتمل حينئذ أن يلزم من العين الأخرى في مقابلة التالف، و يبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه» «1».

و ظاهر هذه الجملة الأخيرة- بعد إبطال مستند المحقق الكركي من التمسك بتبعّض الصفقة و بالضرر- هو الميل إلى أصالة عدم اللزوم، و بقاء الإباحة بالنسبة إلى المقدار الباقي من إحدى العينين.

و بما نقلناه عن المسالك ظهر: أنّ الشهيد قدّس سرّه مفصّل بين تلف تمام إحدى العينين بترجيح أصالة اللزوم، و بين تلف بعض إحداهما بترجيح الإباحة. و كان المناسب أن ينبّه المصنف قدّس سرّه على هذا التفصيل، و لا ينسب إلى الشهيد القول بأصالة عدم اللزوم في كلتا المسألتين، و لعلّه قدّس سرّه اعتمد في هذه النسبة على نقل الغير، و الأمر سهل بعد وضوح حقيقة الحال.

(1) هذا إشارة إلى المطلب الأوّل، أعني به دليل القول ببقاء الإباحة، و هو استصحاب بقاء سلطنة مالك العين الموجودة- أو مالك بعض العين الموجودة- على ماله، و مقتضى هذا الاستصحاب جواز رجوعه إلى ماله الموجود عند صاحبه، و من المعلوم أن المعاطاة لو كانت لازمة لم يكن له الرجوع إلى ماله الموجود.

______________________________

[1] لم يظهر وجه عدوله عن قاعدة السلطنة إلى استصحابها، مع عدم مانع عن جريانها.

إلّا أن يقال: إنّ احتمال بدليّة الباقي عن التالف أوجب الشك في بقاء العين الموجودة على ملك مالكها، و القاعدة لا تثبت موضوعها، فلا محيص في إثبات

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 149

ص: 197

______________________________

الموضوع من التمسك باستصحاب بقاء المال على ملك مالكه.

نعم لا حاجة الى إجراء الاستصحاب في بقاء السلطنة بعد إجرائه في الموضوع أعني به بقاء الملكية، لأنّ الأصل الموضوعي حاكم على الحكمي.

و لنعم ما عبّر به الشهيد الثاني قدّس سرّه من قوله: «التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه» إذ استصحاب بقاء الملك على ملك مالكه يغني عن استصحاب بقاء السلطنة التي هي حكم شرعي. و غرض الشهيد الثاني من قوله: «أصالة بقاء الملك لمالكه» إثبات الصغرى، و هي إضافة الملكية التي هي موضوع قاعدة السلطنة، و من قوله: «و عموم:

الناس مسلّطون على أموالهم» إثبات الكبرى.

و يظهر مما ذكرنا عدم ورود ما أورده بعض المحشّين على المصنف من «أن عموم دليل السلطنة حاكم على استصحابها، فلا مجال للاستصحاب مع العموم الذي هو دليل اجتهادي» «1».

وجه عدم الورود: قصور دليل السلطنة عن شموله للشك في الموضوع و هو بقاء الملكية، لكون التمسّك به حينئذ تشبّثا بالدليل في الشبهة المصداقية.

و في المقام احتمال آخر و هو: أن يكون المستصحب- أعني به السلطنة- بمعنى الملك كما ورد تفسيره بها في بعض كلمات المصنف قدّس سرّه. و على هذا فيكون قوله بعده:

«و ملكه لها» عطف تفسير للسلطنة، فالمستصحب هو الموضوع، لا الحكم الشرعي المدلول عليه بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الناس مسلّطون على أموالهم» و معه لا يبقى مجال للإيراد المتقدم، و هو: أنّه مع الشك في الموضوع- أي الملكية- كيف أجرى الأصل في الحكم و هو السلطنة؟ وجه عدم المجال: أنّه بناء على ما احتملناه تكون السلطنة موضوعا، لكونها بمعنى الملكية، لا حكما حتى يشكل استصحابه عند الشك في الموضوع.

______________________________

(1): لاحظ حاشية السيد الطباطبائي، ص 82، و حاشية المحقق الايرواني، ج 1، ص 87

ص: 198

و فيه (1): أنّها معارضة بأصالة براءة

______________________________

(1) هذا هو المطلب الثاني، أعني به مناقشة المصنف في دليل القائل ببقاء الإباحة عند تلف إحدى العينين. توضيحه: أنّ أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة التي هي سند أصالة عدم اللزوم- المقتضية لجواز الرجوع إلى العين الموجودة- معارضة بأصالة براءة ذمة من تلف عنده مال صاحبه عن مثله أو قيمته، و بسقوطها بالمعارضة لا يبقى دليل على بقاء الإباحة. مثلا إذا كانت المعاوضة بين كتاب زيد و دينار عمرو، و تلف الكتاب عند عمرو و بقي الدينار عند زيد، فصاحب العين الموجودة- و هو الدينار- مسلّط على أخذها من زيد مع عدم ضمانه لبدل الكتاب لزيد.

فإن قلت: لا معارضة بين أصالة براءة ذمة مالك الدينار عن بدل الكتاب، و بين أصالة بقاء سلطنته على أخذ الدينار من زيد، لعدم التنافي بينهما، و عليه يمكن الجمع بين جواز استرداد الدينار و بين عدم ضمانه لبدل الكتاب، و لا يسقط استصحاب السلطنة بالمعارضة.

قلت: المعارضة بين الحجتين تكون تارة بالذات كما في المتباينين و العامّين من وجه. و أخرى بالعرض أي بواسطة دليل ثالث، و مثّلوا له بالخبرين الدال أحدهما على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة، و الآخر على وجوب صلاة الجمعة، إذ لا منافاة بين الدليلين بلحاظ المدلول المطابقي و التضمني، إلّا أنّ الإجماع على عدم وجوب فريضتين قبل صلاة العصر يوجب التنافي بين الخبرين، فيعلم إجمالا بكذب أحدهما.

و المقام من هذا القبيل، فإنّ أصالة بقاء سلطنة المالك تقتضي جواز استرداد الدينار شرعا، و الرجوع ملازم لضمان بدل التالف من المثل أو القيمة، فالمعارضة بين أصالة بقاء السلطنة و بين أصالة براءة الذمة تكون بملاحظة الملازمة بين جواز الرجوع و استلزامه لضمان التالف.

و الوجه في الملازمة أمّا القطع بعدم مجانية التالف، و إمّا لما حكي عن بعض تلامذة المصنف من الإجماع المركب على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية و جواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها.

ص: 199

ذمّته (1) عن مثل التالف عنده أو قيمته (2).

و التمسّك (3) بعموم «على اليد» هنا

______________________________

هذا توضيح إشكال شيخنا الأعظم على كلام بعض مشايخه من الحكم ببقاء الإباحة بتلف إحدى العينين أو بعض إحداهما.

(1) هذا الضمير و ضمير «عنده» راجعان الى مالك العين الموجودة.

(2) أي: قيمة التالف، إن كان قيميّا.

(3) إشارة إلى توهّم و جوابه، و مقصود المتوهم إبطال المعارضة التي أوقعها المصنف بين أصالتي بقاء السلطنة و براءة الذمة. توضيح التوهم: أنّه لا تصل النوبة إلى المعارضة المزبورة، و ذلك لوجود الدليل الاجتهادي- الحاكم على أصالة البراءة- و هو قاعدة اليد، حيث إنّ كلّ واحد من المتعاطيين وضع يده على مال الآخر، إذ بناء على الإباحة- كما هو مفروض البحث- يكون المال باقيا على ملك الدافع، إذ لم يدخل في ملك الآخذ، فتكون يد الآخذ مضمّنة، فإذا تلف وجب عليه أداء المثل أو القيمة.

و مع هذه القاعدة الاجتهادية لا موضوع لأصالة براءة ذمة من تلف عنده المال عن البدل، حتى تكون معارضة لأصالة بقاء السلطنة.

و عليه تكون نتيجة الجمع بين قاعدة اليد و استصحاب سلطنة مالك العين الموجودة هي عدم لزوم الإباحة بتلف إحدى العينين، فيجوز له استرداد عينه و دفع بدل العين التالفة إلى مالكها، هذا.

و قد دفع المصنف قدّس سرّه هذا التوهم بما حاصله: أنّ الضمان- بناء على تسليمه- ليس مستندا إلى اليد قطعا، لأنّها معدومة عند الحكم بالضمان و هو حال التلف. و اليد السابقة على التلف لم تكن يد ضمان، لكونها بإذن الشارع أو المالك، إذ لو كانت يد ضمان لكانت موجبة للضمان في الصورة السابقة، و هي تلف العينين.

و لا فرق في عدم اقتضاء «على اليد» لضمان بدل التالف بين أن يكون قاصدا لإمضاء المعاطاة و عدم استرداد ماله الموجود من المتعاطي الآخر، و بين أن يكون

ص: 200

في غير محلّه (1)، بعد القطع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن (2)

______________________________

قاصدا للرجوع إليه و أخذ ماله منه.

و الوجه في عدم الفرق بين الصورتين واضح. أمّا إذا كان بانيا على إمضاء المعاطاة فلأنّ المال الموجود يصير عوضا مسمّى عن التالف. و لم تنقلب تلك اليد الأمانية قبل تلف العين إلى يد عدوانية حتى توجب الضمان. و أمّا إذا كان بانيا على استرداد العين الموجودة من المتعاطي الآخر فكذلك لا موجب لصيرورة من تلف عنده المال ضامنا للبدل، لأنّ الدليل على الضمان منحصر في المقام في اليد، لانتفاء سائر موجباته، و قد عرفت أنّ اليد- قبل التلف- كانت بإباحة الشارع، و لا تنقلب الى يد عدوانية بمجرّد قصد الرجوع إلى العين الموجودة.

نعم إن أمكن جعل إرادة الرجوع من موجبات الضمان استند إليها لا إلى اليد.

لكن ليس رجوع من تلف عنده المال و لا إرادة رجوعه من موجبات الضمان، سواء أ كانا منضمّين إلى اليد أم لا. فالموجب لاشتغال العهدة بمال الغير هو الاستيلاء عليه بغير إذن من مالكه أو من الشارع، و المفروض في المقام كون يد كلّ واحد من المتعاطيين أمانية خارجة موضوعا عن حديث «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».

و بهذا ظهر إشكال المصنف قدّس سرّه على صاحب المستند، حيث فصّل بين إرادة الرجوع و عدمها، كما أنّه حكم في آخر كلامه باشتغال ذمة من تلف عنده المال، و جواز رجوعه لاسترداد ماله، مستدلّا عليه بقاعدتي السلطنة و اليد.

و بعد بطلان هذا التوهم يظهر استقرار المعارضة بين استصحاب السلطنة و أصالة البراءة عن بدل التالف، و لا يبقى وجه لبقاء الإباحة بعد تلف إحدى العينين كما زعمه بعض المشايخ.

(1) خبر «و التمسك» و دفع للتوهم، و قد تقدم توضيح التوهّم و الدفع آنفا.

(2) لكونها مقرونة بإذن الشارع، فلا موجب للضمان.

ص: 201

يد ضمان [1]، بل و لا بعده إذا بنى (1) مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة، و لم يرد الرّجوع. إنّما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع، و ليس (2) هذا من مقتضى اليد قطعا [2]، هذا.

______________________________

(1) يعني: و كذا لا تكون يد من تلف عنده المال مضمّنة إذا قصد استرداد عينه الموجودة عند الطرف الآخر. و الوجه فيه واضح، فإنّ اليد الأمانية لا تختلف حالها بين بقاء العين و تلفها.

و الإتيان ب «بل» الإضرابية لأجل كون عدم الضمان- عند بناء مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة و إلزامها- أوضح وجها مما إذا كان قاصدا للرجوع إلى عينه الموجودة.

(2) يعني: و ليس الضمان- عند قصد الرجوع إلى العين الموجودة- مسبّبا عن اليد، لأنّها قبل التلف أمانية، و بعد التلف لا يد حتى يحكم بالضمان. و مجرّد إرادة الرجوع لا تؤثّر في انقلاب تلك اليد- قبل التلف- من الأمانية إلى العدوانية.

هذا تمام الكلام في المطلب الثاني و هو إشكال المصنف على بعض مشايخه.

______________________________

[1] لا يقال: إنّ نفي الضمان هنا ينافي قوله بعد أسطر: «مع أن ضمان التالف ببدله معلوم» كما ينافي فرض الشك في اشتغال الذمة بالبدل، حيث جعله مجرى أصالة البراءة. و من المعلوم أنّ نفي الضمان و العلم به و الشك فيه أمور متهافتة.

فإنّه يقال: إنّ المنفي هنا هو الضمان اليدي، و لا ينافيه اشتغال الذمة لموجب آخر كإقدام كل واحد من المتعاطيين على تسليط الآخر مضمونا بعوضه لا مجّانا، و من المعلوم أنّ نفي الضمان من جهة لا ينافي إثباته من جهة أخرى، فتأمّل.

[2] إلّا أن يقال: إنّ الضمان مقتضى اليد، لكن بشرط الرجوع، جمعا بين عموم «على اليد» و الإجماع على عدم جواز رجوع صاحب العين الموجودة إلى ماله بلا بدل.

ص: 202

و لكن (1) يمكن أن يقال: إنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة (2) [1] على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة.

______________________________

(1) استدراك على معارضة أصالتي السلطنة و البراءة. و هذا شروع في المطلب الثالث ممّا أفاده في الصورة الثانية و الثالثة بناء على الإباحة. فغرضه قدّس سرّه من قوله:

«و لكن يمكن أن يقال» تأييد ما استوجهه بعض المشايخ من بقاء الإباحة و ضمان صاحب العين الباقية- لبدل التالفة- بوجوه ثلاثة، سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

(2) هذا هو الوجه الأوّل، و محصله: منع المعارضة بين أصالة البراءة عن الضمان، و سلطنة مالك العين الموجودة على إرجاع ماله إلى نفسه، الموجبة لسقوط أصالة السلطنة المقتضية لجواز المعاطاة.

وجه عدم المعارضة هو حكومة أصالة بقاء السلطنة على أصالة البراءة عن الضمان، تقريبه: أنّ الشك في ضمان المثل و عدمه مسبّب عن الشك في بقاء سلطنة مالك العين الموجودة و عدم بقائها، و من المعلوم حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي، فلا تجري أصالة عدم الضمان مع جريان أصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة حتى تتعارضا.

______________________________

[1] في الحكومة منع، لعدم التسبب شرعا، ضرورة أنّ الضمان ليس من آثار السلطنة شرعا حتى تكون قاعدة السلطنة مثبتة له، بل أثر السلطنة هو مجرّد جواز الرجوع إلى العين. و أمّا الضمان فليس أثرا شرعيا للسلطنة، بل هما متلازمان، و لا معنى لتقدم الأصل الجاري في أحد المتلازمين على أصل الآخر.

و قد يقرّب الحكومة بوجه آخر، و هو: أنّ الاستصحاب حاكم على البراءة، لكونه أصلا تنزيليّا دونها، فإذا جرى في طرف لا تجري البراءة في الطرف الآخر. و قد نسب ذلك إلى جمع من المحققين، فيجري استصحاب السلطنة، دون أصالة البراءة، هذا.

لكن فيه منع ظاهر، لأنّ حديث الحكومة إنّما هو فيما إذا اتّحد المجرى حتى

ص: 203

مع (1) أنّ ضمان التالف ببدله معلوم، إلّا أنّ الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي- أعني المثل أو القيمة- أو البدل الجعلي أعني العين الموجودة،

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثاني لعدم جريان أصالة البراءة عن الضمان، و سلامة أصالة السلطنة من المعارض. و حاصل هذا الوجه: أنّ العلم الإجمالي بالضمان- على أحد النحوين من الضمان الواقعي و الجعلي- يمنع عن جريان أصالة البراءة، فتبقى أصالة بقاء السلطنة بلا معارض.

______________________________

يكون إحراز الواقع بالأصل المحرز مغنيا عن إجراء الأصل غير المحرز فيه، كما إذا كان ماء مشكوك الطهارة و النجاسة مع العلم بطهارته سابقا، فإنّ الجاري فيه هو استصحاب الطهارة لا قاعدتها، لحكومة الأوّل عليها.

و أمّا إذا تعدّد المجرى كما إذا علم إجمالا بملاقاة نجاسة لماء أو بوليّة مائع آخر، فإنّه لا يقال بحكومة أصالة عدم وقوع النجاسة في الماء على قاعدة الطهارة في ذلك المائع، بل استصحاب عدم وقوع النجاسة يعارض قاعدة الطهارة، فيتساقطان، و يرجع إلى ما يقتضيه قاعدة تنجيز العلم الإجمالي من وجوب الاجتناب عن كليهما. ففي المقام يقع التعارض بين قاعدة السلطنة و بين أصالة البراءة عن الضمان.

كما ظهر بما ذكرنا: أنّه لا يلزم حمل أصالة البراءة على استصحاب عدم الضمان حتى تقع المعارضة بين الاستصحابين كما في حاشية المحقق الايرواني و غيره، بدعوى: «أنّ أصل البراءة بمعناها المعروف أصل حكمي محكوم بالاستصحاب، فلا يتوقّع من المصنف فرض المعارضة بينهما، فلا بدّ من حملها على استصحاب براءة الذمة» «1»، هذا.

وجه عدم اللزوم ما عرفت من أن حديث الحكومة منوط بوحدة المورد، فلا مجال له مع تعدّده كما في المقام، فلاحظ.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 87

ص: 204

فلا أصل (1) [1] هذا.

______________________________

(1) يعني: فلا أصل في المقام يعارض أصالة بقاء السلطنة، إذ مع العلم الإجمالي بالضمان المردّد بين المسمّى و الواقعي لا يجري أصل عدم الضمان. فأصالة البراءة منقطعة بالعلم بالضمان في الجملة، و الشك إنّما هو في تعيين البدل من الجعلي و الواقعي، و لا أصل يعيّن أحدهما.

______________________________

[1] عدم جريان أصالة البراءة عن ضمان البدل إمّا لقصور المقتضي و إمّا لوجود المانع.

و تقريب الأوّل: أنّ الأصل العملي متقوّم بالشك، فمع العلم بأصل الضمان لم يبق احتمال البراءة عنه حتى يتحقق موضوع أصل البراءة.

و تقريب الثاني: أنّ العلم الإجمالي بضمان المسمّى أو الواقعي موجود. و حيث إنّ كلّا من الخصوصيتين مشكوكة كان موضوع الأصل النافي للتكليف محقّقا، و تصل النوبة إلى معارضة أصالة البراءة عن ضمان البدل الواقعي بأصالة البراءة عن ضمان المسمّى، و بسقوطهما بالمعارضة يبقى استصحاب سلطنة المالك سليما عن معارضته بأصالة البراءة عن ضمان البدل.

و يمكن استظهار التقريب الأوّل من قوله: «مع ان ضمان التالف ببدله معلوم» يعني: فلا مقتضي لأصل البراءة.

و يمكن استفادة الثاني من قوله: «إلّا أن الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي أو البدل الجعلي ..» لظهوره في معارضة الأصل الجاري في كلّ من خصوصيتي المسمّى و الواقعي. و لعلّ هذا أوفق بمبنى المصنف في اقتضاء العلم الإجمالي للتنجيز و عدم علّيته له، و توقف منجزيته على تعارض الأصول في الأطراف، كما استفاده بعض المحققين من الرسائل.

ص: 205

مضافا إلى ما قد يقال (1) من: أن عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه، و على المال التالف بأخذ بدله الحقيقي، و هو المثل أو القيمة، فتدبّر (2) [1].

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثالث للحكم ببقاء الإباحة إذا تلفت إحدى العينين، و محصّله: أنّه نتمسك بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» الدال على سلطنة المالك على ماله، فإن كان موجودا فهو مسلّط على أخذه، و إن كان تالفا فهو مسلّط على بدله الحقيقي- من المثل أو القيمة- فيثبت به جواز الرجوع. و من المعلوم أنّه مع وجود الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى التمسّك بأصالة بقاء السلطنة حتى يناقش فيها بالمعارضة، و لا بأصالة براءة الذمة، هذا.

و قد أورد على المصنف قدّس سرّه بوجوه مذكورة في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه، فراجع «1».

و كيف كان فالمصنف عدل إلى ما استوجهه بعض مشايخه من عدم لزوم المعاطاة في صورة تلف إحدى العينين أو بعض إحداهما بناء على الإباحة.

(2) لعلّه إشارة إلى: أنّ شمول قاعدة السلطنة للمال التالف ممنوع، و لذا لم يستدلّ بها أحد على الضمان في الموارد التي تمسّك فيها على الضمان بقاعدتي اليد و الإتلاف.

هذا تمام الكلام في الملزم الأوّل و هو التلف، و قد ذكر له صورا ثلاثا، و لم يذكر الصورة الرابعة، و هي تلف بعض كلا العوضين، و يظهر حكمها من الصورة الثانية و الثالثة.

______________________________

[1] اعلم أنّ التلف الذي جعلوه ملزما للمعاطاة يتصوّر على وجوه، لأنّ التالف تارة يكون تمام العوضين كما هو مفروض المتن، و أخرى يكون بعضهما، و ثالثة يكون تمام أحدهما، و رابعة يكون بعض أحدهما، فالصور أربع. و على التقادير تارة يتكلم بناء على إفادة المعاطاة الإباحة، و أخرى بناء على إفادتها الملك.

أمّا الصورة الأولى:- و هي كون التالف تمام العوضين- مع إفادة المعاطاة للإباحة

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 207

ص: 206

______________________________

فملخص الكلام فيها هو: أنّه بناء على إفادة المعاطاة المقصود بها التمليك للإباحة أو الملك- على الخلاف- يكون التلف ملزما، لما عرفت من تسالمهم عليه.

أمّا على الأوّل فلعدم ما يوجب الضمان الذي هو سبب جواز الرجوع، و ذلك لأنّ موجب الضمان لا يتصور هنا إلّا اليد، و هي لا توجبه، لأنّ اليد هنا أمانيّة، لإذن الشارع في التصرفات، فلا تشملها قاعدة اليد تخصيصا أو تخصّصا، فكل واحد من المالين قد تلف من مال مالكه. و على فرض الشك في الضمان فمقتضى أصالة البراءة عدمه، هذا.

ثم إنّه قيل بكون لزوم المعاطاة عندهم بالتلف على القول بالإباحة راجعا إلى صيرورتها معاوضة بين العينين، و لمّا لم يكن التالف قابلا للمعاوضة عليه فلا بد من حمل كلامهم على إرادة المعاوضة قبل التلف آنا ما ليقع تلف كل واحد من المالين في ملك من انتقل إليه، لا من انتقل عنه هذا.

لكنه لا وجه للالتزام بذلك، فإنّ ظواهر كلماتهم هي لزوم الإباحة، لا صيرورة المعاطاة موجبة للملك اللازم بسبب التلف، و لا يقتضي الجمع بين الأدلة الالتزام بمملّكيتها بالتلف، إذ لا دليل إلّا أصالة بقاء المالين على ملك مالكيهما، و الإجماع على إباحة التصرف، و هما لا يقتضيان الملك آنا ما. و أمّا دليل اليد فلا يجري هنا، لكون اليد أمانيّة، فتدبّر.

و أمّا على الثاني- و هو كون المعاطاة المقصود بها التمليك مفيدة للملك- فلأنّ أصالة اللزوم المستفادة من عمومات اللزوم تقتضي اللزوم، إذ المخصص لبّي، و المتيقن منه هو الجواز المتعلّق بترادّ العينين المتوقف على بقائهما، فبتلفهما ينتفي موضوع الجواز. و قد قرر في محله أنّ المرجع عند الشك في المخصّص المجمل هو أصالة العموم فيما عدا المتيقن من الخاص، لكون الشك حينئذ في التخصيص الزائد.

و لا مجال لاستصحاب حكم الخاص بعد دلالة العام على اللزوم في كل زمان، و كون المتيقّن خروجه هو خصوص الزمان الأوّل.

ص: 207

______________________________

و بالجملة: مع وجود العموم لا تصل النوبة إلى الاستصحاب.

إنّما الكلام كله في كون الجواز بالمعنى الّذي ذكره المصنف قدّس سرّه من أنّه بمعنى التملّك بالأخذ لا بعنوان الفسخ، حيث إنّ الجواز بالمعنى المزبور قائم بالعينين دون العقد، مع أنّ اللزوم و الجواز قائمان بالعقد. فكما يكون اللزوم قائما بالعقد على ما هو ظاهر مثل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فكذلك الجواز الذي ينافيه، إذ الجواز- بمعنى الأخذ الموجب للتملّك- ينافي قاعدة سلطنة المالك على ماله، لا أصالة لزوم العقد، فلا وجه للتمسك لنفيه بأصالة اللزوم، هذا.

مضافا إلى: أنّ إرادة الجواز بمعنى التملك بالأخذ- لا بعنوان الفسخ- غير ظاهر، بل خلاف المقطوع به في كلماتهم، حيث إنّهم عبّروا بفسخ المعاوضة فلاحظ التحرير، إذ لا ينبغي الارتياب في أنّ مرادهم بالجواز ما يقابل اللزوم، و مرادهم بالرجوع الرجوع الاعتباري الإنشائي و هو الفسخ، لا الرجوع و التراد الخارجي، و لم يعرف القول بالجواز بالمعنى المذكور لأحد من أصحابنا لا فيما نحن فيه و لا في الهبة، و إنّما نسب ذلك إلى بعض الشافعية في الهبة. لكنه لا تنهض عليه أدلّته و إن احتمله في الجواهر.

و إن شكّ في معنى الجواز و أنّه في المقام بمعنى انحلال العقد بالفسخ أو بمعنى التملّك بالأخذ و الرجوع، فلا دليل على تعيّن أحدهما، لاستلزام حمله على كلّ من المعنيين تخصيص أحد العامّين أعني عموم قاعدة السلطنة، و قاعدة لزوم العقد. و مع العلم الإجمالي بتخصيص إحداهما يسقط العامّان معا عن الحجية، فالمرجع حينئذ أصالة عدم ترتب الأثر على كل من الفسخ و التملك بالأخذ إلّا إذا وقعا معا، إذ يعلم حينئذ بترتب الأثر، هذا.

لكن قد عرفت أنّه لا تصل النوبة إلى الشك، إذ المراد بالجواز الذي يكون مورد الإجماع هو المعنى الأوّل أعني به انحلال العقد بالفسخ، لأنّه المقابل لأصالة لزوم العقد

ص: 208

______________________________

دون التملّك بالأخذ الذي هو مقابل قاعدة سلطنة المالك على ماله، هذا.

ثم إنّ الظاهر كون الجواز في المعاطاة حكما لا حقّا، لأنّه مقتضى حصر الملزمات في التلف و غيره مما سيأتي إن شاء اللّه تعالى، إذ لو كان إسقاط المتعاطيين أو أحدهما للجواز مسقطا و ملزما لعدّوه من الملزمات كما لا يخفى.

مضافا إلى: أنّ مقابلته للزوم العقد تقتضي كون الجواز حكما كاللزوم، ضرورة أنّه من أحكام العقود التي جعلها الشارع، فكأنّه قيل: «العقد لازم أو جائز» بعد ضمّ المخصّص إلى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هذا.

و أمّا الصورة الثانية:- و هي تلف إحدى العينين مع إفادة المعاطاة للملك- فقد تقدم حكمها في الصورة الاولى من أنّ مقتضى أصالة اللزوم هو لزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين، لامتناع التّراد معه، و المفروض أنّ معقد الإجماع على الجواز هو إمكان التّراد، فمع امتناعه يتمسّك بعموم دليل اللزوم، هذا.

و أمّا مع إفادة المعاطاة للإباحة، فيمكن أن يقال بعدم اللزوم، لعدم كون المعاطاة المفيدة للإباحة عقدا حتى يشمله أَوْفُوا و يقال: إنّ الأصل في كل عقد هو اللزوم إلّا ما خرج و هو المعاطاة قبل تلف إحدى العينين دون ما بعده، للزومها حينئذ بمقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود. بل لا بدّ من التشبث بقاعدة سلطنة الناس على أموالهم، إذ المفروض مجرّد إباحة تصرّف كلّ من المتعاطيين في مال الآخر. و من المعلوم أنّ قضية إطلاق قاعدة السلطنة جواز رجوع مالك العين الموجودة إلى ماله بلا شرط، فقاعدة السلطنة توجب جواز المعاطاة و عدم لزومها بتلف إحدى العينين، فيجوز لصاحب العين الموجودة الرجوع إلى ماله بلا بدل للتالف، هذا.

لكن الإجماع المدّعى على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية و جواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها يقيّد إطلاق السلطنة، فيجوز لمالك العين الباقية الرجوع إليها بشرط أداء بدل التالف كما لا يخفى.

ص: 209

______________________________

و تحرير البحث: أنّ الإباحة إذا كانت مالكيّة- بأن أباح كلّ منهما ماله لصاحبه، و تلفت إحدى العينين- أمكن إجراء قاعدة السلطنة، لجواز أخذ العين الموجودة لمالكها مع الضمان. أمّا جواز الرجوع فلأنّ المفروض بقاء العين الموجودة على ملك مالكها، و مقتضى سلطنة المالك على ماله جواز رجوعه إليه. و أمّا ضمان مالك العين الموجودة لبدل التالف فلأنّ مالكه لم يبح التصرف لصاحب العين الموجودة مجّانا بل بالعوض.

و أمّا كون الضمان بالعوض الجعلي و إن كان مغايرا للبدل الواقعي جنسا أو وصفا فلتراضيهما على ذلك كتراضي الدائن و المديون على الوفاء بغير الجنس.

و بالجملة: فلا بأس بالتمسك بقاعدة السلطنة في الإباحة المالكية.

و أمّا إذا كانت الإباحة شرعية كما إذا قصد المتعاطيان التمليك و لم يمضه الشارع لكن حكم بالإباحة، فإنّ الإباحة حينئذ شرعية لا مالكيّة، إذ المفروض عدم قصدهما للإباحة، و إنّما الحاكم بها هو الشارع، فيشكل التمسّك حينئذ بقاعدة السلطنة، لأنّ لازمها تغيير الحكم الشرعيّ، و هي لا تصلح لذلك، فإنّ الإباحة الشرعية ثبتت على خلاف سلطنة المالك، فلا ينهض دليل السلطنة على تغيير هذا الحكم الشرعي، بل هذه الإباحة ثبتت في موضوع عدم رضا المالك بالتصرف، لأنّه قصد الملك و لم يحصل، و المفروض عدم جواز التصرف في العقود الفاسدة.

فالمتحصل: عدم جواز التمسك بقاعدة السلطنة لرفع الإباحة الشرعية.

نعم لا بأس بالتشبث بها لإثبات جواز التصرف في العين بنقل و نحوه من التصرفات غير المنافية لبقاء الإباحة التعبدية ما دامت العين باقية، نظير بيع العين المستأجرة غير المنافي لبقاء حق المستأجر في المنفعة. و عليه فإذا شكّ في ارتفاع الإباحة الشرعية بتلف إحدى العينين أو برجوع المالك فيرجع إلى أصالة بقاء العقد، بل مقتضى عموم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ذلك. إلّا أن يخدش في صدق العقد العرفي على هذه المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للإباحة شرعا، فيرجع حينئذ إلى استصحاب الإباحة الشرعية، و لازم ذلك بقاء حكم الشارع بالإباحة.

ص: 210

______________________________

هذا بناء على بقاء المعاطاة على الإباحة و عدم صيرورتها مملّكة بعد تلف إحدى العينين كما عليه جماعة منهم سيدنا الخويي قدّس سرّه.

و أمّا بناء على صيرورتها بعد التلف بيعا فلا إشكال في اللزوم، لعموم وجوب الوفاء بالعقود، هذا.

و أمّا الصورة الثالثة:- و هي تلف بعض إحدى العينين- فعن المحقق الثاني لزومها، قال في جامع المقاصد: «فيجوز التراد ما دام ممكنا، فمع تلف إحدى العينين يمتنع التراد، فيتحقق اللزوم، لأنّ إحداهما في مقابل الأخرى. و يكفي تلف بعض إحدى العينين، لامتناع الترادّ في الباقي، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة، و للضرر، و لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الأخرى» «1».

و حكي مثله عن صيغ العقود و تعليق الإرشاد «2».

و في الروضة في شرح قول الشهيد قدّس سرّه: «و يجوز الرجوع فيها مع بقاء العين» ما نصّه: «و يفهم من جواز الرجوع مع بقاء العين عدمه مع ذهابها. و هو كذلك، و يصدق بتلف العينين و إحداهما و بعض كل واحدة منهما .. إلخ» «3».

و قطع بذلك بعض الأساطين رحمه اللّه في شرح القواعد.

و قد عرفت من عبارة جامع المقاصد المتقدمة أنّ مناط اللزوم هو امتناع التراد المتحقق بتلف كلتا العينين أو إحداهما أو بعضهما.

و قد جعل كاشف الغطاء في شرح القواعد الجواز مشروطا بإمكان الرّد، و بالخلوّ عن الضرر المنفي، و استند في ذلك إلى السيرة القطعية. قال رحمه اللّه: «إنّا نعلم من تتبع كلمات القوم و النظر إلى السيرة القاطعة أنّ الجواز مشروط بإمكان الرد، و بالخلوّ عن

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 58

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 157

(3) الروضة البهية، ج 3، ص 223

ص: 211

______________________________

الضرر المنفي بحديث الضرر، فلو تلف كل أو بعض منه أو من فوائده بتصرف العين أو منفعة أو ركوب أو سكنى أو حرث أو دخول في عمل و نحوها أو بيع أو إجارة أو زراعة أو مساقاة و نحوها على وجه لا يمكن فسخها شرعا أو بإتلاف أو تلف سماوي تعذّر الرّد و لم يتحقق مصداقه، و لو صدق في البعض امتنع أيضا. و مع حصول الضرر بالتبعيض و تغيير الصورة بطحن أو تفصيل أو خياطة أو صبغ و نحوها، أو دخل تحت الرد جاء به ثبوت الضرر غالبا بتبديل الأوصاف و اختلاف الرّغبات. نعم لو بقي الشي ء على حاله أو زاده حسنا بصيقل أو إخراج غبار أو إزالة وسخ و نحوها لم يكن فيه ذلك».

و أنت خبير بأنّ إناطة الجواز بالضرر لا تخلو من النظر، لأنّ الضرر يوجب الخيار، و لا يكون سببا للّزوم، و كذا تبعض الصفقة، فإنّه يقتضي الخيار دون اللزوم.

و كيف كان فعلى القول بإفادة المعاطاة للملك تجري أصالة اللزوم، لعين ما تقدم في تلف العينين و إحداهما من عدم إمكان التراد.

و على القول بالإباحة المالكية تجري قاعدة السلطنة المقتضية لبقاء الجواز إلى زمان تلف بعض إحدى العينين. و على القول بالإباحة الشرعية لا تجري قاعدة السلطنة، لما تقدم آنفا، بل يجري استصحاب الإباحة.

و أمّا الصورة الرابعة- و هي تلف بعض العينين- فحكمها بناء على الملك هو اللزوم و ارتفاع موضوع الجواز و هو إمكان ترادّ العينين. و بناء على الإباحة الشرعية كذلك أيضا، لعدم جريان قاعدة السلطنة فيها المقتضية للجواز، بل مقتضى استصحاب الإباحة هو لزومها.

و بناء على الإباحة المالكية هو الجواز، لقاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» المقتضية للجواز، فلا مانع من التراد بالنسبة إلى ما بقي من العينين.

و توهّم جريان قاعدة السلطنة في الإباحة الشرعية أيضا فاسد، لما مرّ آنفا من محكومية القاعدة بدليل الإباحة كما لا يخفى.

ص: 212

[الملزم الثاني: كون أحد العوضين دينا]

و لو كان (1) أحد العوضين دينا في ذمّة أحد المتعاطيين، فعلى القول بالملك

______________________________

الملزم الثاني: كون أحد العوضين دينا

(1) بعد أن فرغ المصنف قدّس سرّه من بيان صور أوّل ملزمات المعاطاة و هو التلف- بناء على كلّ من الملك و الإباحة- تعرّض لملزم آخر ملحق بتلف إحدى العينين، و هو كون أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين.

و قبل توضيحه نقول: لا ريب- بمقتضى الإجماع- في صحة بيع الدين ممّن هو عليه حتى بناء على إناطة البيع بتمليك كل واحد منهما ماله للآخر على ما صرّح به المصنف في أوّل البيع بقوله: «لأن البيع تمليك الغير» يعني أنّه تمليك من الطرفين كما أوضحناه هناك، مثلا لو كان زيد مديونا لعمرو منّا من الحنطة، صحّ بيعها من زيد بدينار، فيتملّك عمرو الدينار، و يتملك زيد تلك الحنطة الذمية الكلية آنا ما، و يترتب على هذا التملّك فراغ ذمّته عن ذلك الدّين، و قد عبّر المصنف عنه هناك بقوله: «لا مانع من كونه تمليكا فيسقط».

أمّا أنّه يتملك المديون لما في ذمة نفسه آنا ما فلأجل رعاية ماهية البيع المنوطة بحصول المبادلة في الملكية. و أمّا أنّه يسقط الدين عن ذمة المديون بمجرّد البيع، فلأنّ الملكية الاعتبارية تدور مدار مصحّح الاعتبار عرفا، و من المعلوم أنّ العرف لا يعتبر تملّك الإنسان لما في عهدته إلى الأبد، فالجمع بين الأمرين المتقدمين يقتضي الالتزام بكفاية التملك حدوثا، و سقوطه بقاء، هذا ما أفاده هناك.

و عليه نقول في توضيح المتن: أنّه إذا كان زيد مديونا لعمرو دينارا، ثم اشترى عمرو منه كتابا بذلك الدينار الذي يستحقّه في ذمة زيد، انتقل الدينار إلى ملك زيد آنا ما، و يترتب عليه فراغ ذمته عمّا اشتغلت به لعمرو. و تصير المعاطاة لازمة من أوّل تحققها، لعدم بقاء العوضين على حالهما كما كانا حتى يتحقق التّرادّ الذي هو موضوع الجواز، لأنّ الدينار الكلّي قد سقط عن ذمة زيد، و السقوط و إن لم يكن تلفا

ص: 213

يملكه من في ذمّته، فيسقط عنه (1).

______________________________

حقيقة، لاختصاص التلف بالموجود الخارجي الذي يعرضه البوار و الفناء، إلّا أنّه بحكم التلف، من جهة امتناع عود الساقط إلى الملك، و ذلك لأمرين مسلّمين:

أحدهما: أنّ الذمة لا وجود لها بنفسها، بل تتشخّص بأطرافها من المالك و المملوك و المملوك عليه، فيقال: إنّ ذمّة زيد مشغولة بمنّ من الحنطة لعمرو، و لو لا فرض المالك و المملوك لا وجود في وعاء الاعتبار لذمة زيد. و عليه فإذا سقط شخص ما في الذمة- كما هو المفروض في بيع الدين ممن هو عليه- استحال عود شخص الساقط، لاستلزام عوده تخلّل العدم في شخص واحد، و هو محال، كاستحالة إعادة المعدوم.

ثانيهما: أنّه إذا سقط شخص ما في الذمة استحال فرض بقاء ما في الذمة اعتبارا حتى يمكن اشتغال العهدة بمثل ذلك الساقط. وجه الاستحالة: أنّ الإنسان كما لا يملك شخص ما في ذمته- كما هو مبنى المصنف من السقوط بمجرد التملّك- فكذلك لا يملك مثل ما في ذمته، فلو قلنا بعود الساقط و بقاء ما في الذمة لزم اجتماع اعتبارين متنافيين، أحدهما: اعتبار سقوط ما في الذمة، و الآخر: اعتبار بقاء ما في الذمة أي عدم السقوط، و من المعلوم استحالة اجتماع هذين الاعتبارين، هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه تعليلا لاستحالة عود الساقط بتوضيح منّا «1».

و عليه نقول: بأنّه لا وجه للرجوع إلى العوض الموجود و هو الكتاب، و دفع بدله إلى عمرو. بل المعاطاة لازمة من أوّل الأمر، إذ لو جاز لزم عود الدينار الساقط عن ذمة زيد إلى ذمّته مرّة أخرى، و قد عرفت استحالته.

(1) هذا الضمير و ضمير «ذمته» راجعان إلى «من» الموصولة المراد به المديون.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 55

ص: 214

و الظاهر أنّه في حكم التلف (1)، لأنّ (2) الساقط لا يعود [1]. و يحتمل (3) العود، و هو ضعيف (4).

______________________________

(1) يعني: فتكون المعاطاة لازمة حينئذ من أوّل الأمر، لأنّ التلف- و ما بحكمه- كما يكون ملزما للمعاطاة بقاء كذلك يكون ملزما لها حدوثا.

(2) يعني: بعد أن كان سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف فلا وجه لجواز الرجوع، لأنّ أحد العوضين قد صار بمنزلة التلف الذي لا يعود، فلا وجه للرجوع الذي موضوعه تراد العينين المفقود هنا بعد كون سقوط ما في الذمة بمنزلة التلف.

(3) لعل منشأ احتماله- كما قيل- هو عدم كونه من إعادة المعدوم حتى يستحيل العود، و ذلك لأنّ الذمة أمر باق، و لذا ينسب إليها الفراغ و الخلوّ و الاشتغال.

و طبيعيّ المنّ من الحنطة مثلا كغيرها من الطبائع لا تلف لها و لا سقوط إلّا بالإضافة إلى دخولها في الذمة و خروجها عنها، فدخولها فيها و خروجها عنها لا يغيّر الذمة و لا فيما فيها، فلا يندرج ما في الذمة تحت عنوان إعادة المعدوم حتى يستحيل العود، هذا.

(4) وجه الضعف هو: أنّ المقام مندرج في إعادة المعدوم، و ذلك لأنّه لا معنى للذّمة المطلقة، حيث إنّها ليست من الظروف و الأوعية، بل هي نحو ثبوت الشي ء اعتبارا، فالذمة تتشخّص بأطرافها، و هي من له و من عليه و ما فيها، فعودها يكون من إعادة المعدوم. و مع الشك يستصحب عدم العود، لأنّه قبل الرجوع كان ملكا لمن انتقل إليه، و الأصل عدم عوده بالرجوع.

______________________________

[1] هذا التعليل عليل، لأنّ الموجب لذهاب الحق هو تلف موضوعه المفروض تحققه بسقوط ما في الذمة، فلا معنى لجواز الرجوع بعد ارتفاع موضوعه و إن فرض عوده، لأنّ سقوط الحق قد حصل بذهاب الموضوع، و المعاد وجود آخر غير الوجود الذي كان موضوعا للحق، فجواز الرجوع حينئذ حق جديد لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، إذ الوجود الثاني غير مورد المعاطاة المتحققة سابقا.

ص: 215

______________________________

لا يقال: إنّ الخيار بعد تلف إحدى العينين في العقد الذي ثبت فيه الخيار باق على حاله، فليكن الأمر في المقام كذلك.

فإنّه يقال: إنّ الخيار يتعلق بالعقد الذي هو باق بعد تلف العينين فضلا عن تلف إحداهما. بخلاف الجواز في المعاطاة، فإنّ متعلّقه و إن كان هو العقد أيضا، إلّا أنّه مقيّد بإمكان تراد العينين الذي هو مفقود هنا، لما عرفت آنفا من أنّ السقوط بمنزلة التلف.

هذا بناء على السقوط كما أفاده المصنف قدّس سرّه. و أمّا بناء على عدم السقوط و كون انتقال ما في الذمة إلى نفس من عليه المال موجبا لتبدل الملكية الاعتبارية بالتكوينية كما التزم به سيدنا الخويي قدّس سرّه «1» فالجواز باق على حاله و إن قلنا بكون متعلّق الجواز تراد العينين، لوضوح بقاء ما في الذمة على حاله و تبدّل ملكيّاته الاعتبارية بالذاتية التكوينية.

إلّا أن يقال: إنّ الموضوع للجواز هو الملكية الاعتبارية المفروض زوالها، و قيام الملكية الذاتية مقامها، فيكون ما في الذمة كالتالف في لزوم المعاطاة و إن لم يكن من التالف حقيقة، فعدم جواز الرجوع مستند إلى تبدل الموضوع، لأنّ الموجود التكويني غير الاعتباري، و من المعلوم أنّ موضوع الجواز هو الثاني الزائل قطعا، دون الأوّل الموجود فعلا.

لكن أصل تصوير تبدّل الملكية الاعتبارية في بيع الدين بالذاتية لا يخلو من خفاء، لاستحالة انقلاب المنشأ الاعتباري إلى التكويني، و أمّا الملكية الذاتية فهي غير قابلة للإنشاء، و ليست مورد البحث في باب البيع الذي هو تبديل ملكية اعتبارية بمثلها، و قد سبق الإشارة إلى هذا البحث في الجزء الأوّل من هذا الشرح، فراجع «2».

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 207

(2) هدى الطالب، ج 1، ص 106 و 107

ص: 216

و الظاهر أنّ الحكم كذلك (1) على القول بالإباحة، فافهم (2).

[الملزم الثالث: نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم أو جائز]

و لو نقل (3) العينين [و لو نقلت العينان] أو إحداهما

______________________________

(1) أي: كون السقوط في حكم التلف في صيرورة المعاطاة لازمة بناء على الإباحة، فإنّ ظاهره لزوم المعاطاة على القول بالإباحة. لكنّه ليس كذلك، لأنّ إفادة الإباحة للسقوط لا توجب صيرورة السقوط أعظم من التلف الحقيقي. مع أنّه لا لزوم عنده قدّس سرّه على القول بالإباحة في صورة التلف الحقيقي، لكون أصالة السلطنة جارية في طرف العين الباقية، و الرجوع بالبدل الواقعي في طرف العين التالفة، فكيف بما هو في حكم التلف؟

بل غرضه أنّه لا معنى لإباحة الدين إلّا سقوطه، إذ مرجع الإباحة إلى الإبراء و الإسقاط، نظير قوله: «أنت في حلّ ممّا لي عليك» فتأمّل.

(2) لعلّه إشارة إلى عدم صحة إباحة الدّين، إذ لا ينتفع به إلّا ببيعه أو جعله ثمنا و عوضا في المعاوضات، أو احتسابه زكاة و نحوها. و هذه التصرفات يشكل صحة إباحتها مع عدم دليل خاص على صحّتها كما في المقام، فجريان المعاطاة في الدّين على القول بالإباحة ممنوع، فلا مسرح للبحث عن لزوم المعاطاة و جوازها في الدّين على القول بالإباحة.

الملزم الثالث: نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم أو جائز

(3) هذا شروع في بيان ثالث ملزمات المعاطاة، و هو التصرف الاعتباري في كلا العوضين أو في أحدهما. و قد بسط المصنف قدّس سرّه الكلام هنا بذكر شقوق عديدة و صور مختلفة ربما تنتهي إلى ثمانية كما سيأتي التنبيه على كلّ منها بتبع المتن إن شاء اللّه تعالى.

الصورة الأولى: أن ينتقل كلا العوضين عن المتعاطيين- أو ينتقل أحد

ص: 217

..........

______________________________

العوضين عن أحدهما- بعقد لازم كالبيع و الصلح من دون أن يتعقبه خيار، أو يتعقّبه لكن لم يفسخ ذو الخيار. كما إذا تعاطى زيد و عمرو كتابا بدينار، فاشترى زيد بالدينار شيئا من بكر، و باع عمرو كتابه من خالد بإنشاء قولي حتى ينعقد لازما، فيقع الكلام في أنّ هذا النقل اللازم ملزم لتلك المعاطاة بين زيد و عمرو أم لا؟ مع النظر إلى كلّ من القول بالملك المتزلزل و الإباحة التعبدية.

و ينبغي تقديم أمرين قبل توضيح كلام المصنف قدّس سرّه.

الأوّل: أنّ جواز التراد في المعاطاة حكم كجواز الرجوع في العين الموهوبة، و ليس حقّا في العوضين حتى يمنع عن نقلهما إلى الغير، و لا حقّا في حلّ العقد الواقع عليهما حتى يمنع عن لزومه. و عليه لا مانع شرعا من نقل العينين إلى غيرهما بالنواقل الشرعية.

الثاني: أنّ المراد بالنقل اللازم هنا هو اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار، و القرينة على إرادة هذا المعنى هو جعل العقد الجائز- الشامل للجواز الحكمي و الحقّي- عنوانا مستقلا كما سيأتي في المتن إن شاء اللّه تعالى. و عليه فالعقد اللازم هنا كالبيع بالصيغة مع إسقاط خيار المجلس فيه حتى ينعقد لازما، و الهبة إلى ذي رحم مع القبض، و نحوهما.

و لا ينافي كون النقل لازما ثبوت جواز فسخه بعده، كما هو الحال في الصورة الثانية. وجه عدم المنافاة: أنّ البيع اللازم يمكن فسخه بأمور:

منها: حدوث حقّ الخيار بعده، كما إذا ظهر الغبن بعد المعاملة بزمان، و قلنا بأنّه موجب لتزلزلها من حين ظهوره، لا من حين العقد.

و منها: الإقالة، فإنّها توجب فسخ المعاملة اللازمة.

و منها: غير ذلك.

ص: 218

..........

______________________________

إذا اتضح هذان الأمران قلنا في بيان الصورة الأولى: إنّ نقل العينين أو إحداهما بعقد لازم موجب للزوم المعاطاة، لامتناع التراد سواء قلنا بالملك أم بالإباحة.

أمّا على الأوّل فلأنّ العينين و إن كانتا باقيتين بحالهما و لم تتلفا حتى تلزم المعاطاة من جهة التلف، إلّا أنّ متعلّق جواز التراد هو العينان بوصف كونهما مملوكتين للمتعاطيين، و لم يتعلّق بهما مطلقا حتى إذا خرجتا عن ملكهما، فيكون تلف وصف العين- و هو المملوكية- كتلف نفسها. و على هذا فلكلا المتعاطيين السلطنة على إخراج المأخوذ بالمعاطاة عن ملكهما. و لا يمنع حكم الشارع بجواز التّراد عن هذه السلطنة، لما تقدم من أنّ موضوع جواز التّراد هو العينان، و ليس من شأن الحكم حفظ موضوعه. فمقتضى إطلاق «الناس مسلّطون على أموالهم» سلطنة المتعاطيين على نقل العوضين إلى غيرهما.

و أمّا على الثاني- و هو الإباحة- فكذلك يجوز نقل المالين، بناء على حكم الشارع بإباحة جميع التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة، سواء أ كان التصرّف منوطا بالملك كالبيع و الوقف و الإيصاء، أم غير منوط به كلبس الثوب و استخدام المملوك.

و عليه يصح النقل اللازم، لدخول كلّ من العينين في ملك المباح له آنا ما قبل ذلك التصرف الناقل، فتخرج العين عن ملك الآخذ، لا عن ملك الدافع- أي المبيح- و بالخروج عن الملك ينتفي موضوع جواز التراد، لعدم بقائهما على ملكهما حتى يتسلّطا على الرجوع.

نعم بناء على اختصاص إباحة التصرف بما لا يتوقف على الملك يبقى جواز التّراد بحاله، لعدم مشروعية التصرف الناقل للملك حتى ينتفي موضوع جواز الرجوع.

هذا توضيح الصورة الاولى، و هي نقل إحدى العينين أو كلتيهما بالنقل اللّازم.

ص: 219

بعقد لازم (1) فهو كالتلف (2) على القول بالملك، لامتناع التراد.

و كذا على القول بالإباحة إذا قلنا بإباحة التصرفات الناقلة (3).

و لو عادت (4)

______________________________

(1) قد عرفت أنّ المراد به اللزوم مطلقا حتى من جهة الخيار.

(2) كما حكي التصريح به عن كثير، بل ربما استظهر من بعضهم الإجماع عليه.

قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «لو نقل أحدهما العين عن ملكه، فإن كان لازما كالبيع و الهبة بعد القبض، و الوقف و العتق فكالتالف» «1». و كأنّه من المسلّمات.

(3) و أمّا إذا قلنا بما حكي عن حواشي الشهيد قدّس سرّه على القواعد من اختصاص الإباحة بما لا يتوقف على الملك- بشهادة منعه من إخراج المأخوذ بالمعاطاة في مثل الهدي- كان جواز التّراد باقيا بحاله، و تتوقف لزوم الإباحة على طروء ملزم آخر كالتلف، لأنّ النقل اللازم وقع على مال المبيح، فله استرداد ماله، لكون تصرف المباح له بالنقل اللازم تصرّفا في مال الغير، فيندرج في الفضولي.

(4) هذا إشارة إلى الصورة الثانية- من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة بالناقل اللازم- كما إذا باع عمرو الكتاب من بكر، ثم ظهر غبن أو عيب فيه، ففسخ المشتري، و عادت العين إلى عمرو. و قد تعرض المصنف قدّس سرّه لحكم هذه الصورة، بناء على كلّ من الملك و الإباحة. فبناء على الملك احتمل أوّلا بقاء جواز التراد، للاستصحاب. و احتمل ثانيا انقطاع الجواز بتخلّل ذلك العقد اللازم، ثم قوّى هذا الوجه.

و بناء على الإباحة رجّح لزوم المعاطاة، ثم ذكر وجهين لبقاء جواز التراد ثم ضعّفهما. هذا إجمال ما أفاده في هذه الصورة، و سيأتي توضيحه إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 150

ص: 220

العين بفسخ (1) [1] ففي جواز التّراد على القول بالملك،

______________________________

(1) يعني: كان العقد لازما، ثم حدث حقّ الخيار- كما في ظهور الغبن- ففسخ المغبون، أو فسخاه بالإقالة. و كلاهما يوجب سقوط ذلك العقد اللّازم، فتعود العين إلى ملك المتعاطي كما كانت قبل الناقل اللازم، فكأنّ الملكية الحاصلة بالمعاطاة باقية لم يطرأ عليها ما يزيلها.

ثم إنّ في تعقيب عود الملك بالفسخ احتمالين:

أحدهما: أن يكون من باب المثال، و أنّه لا خصوصية في سببية الفسخ لعود الملك، بل تمام المناط هو عود العين إلى ملك المتعاطي، فلو عادت بسبب آخر كأن ورثها المتعاطي أو اتّهبها أو أخذها مقاصّة كان كعودها بالفسخ، قال الفقيه

______________________________

[1] قد يقال بالفرق بين الفسخ و بين غيره- من العقد المستقل و نحوه من موجبات الملك- بما حاصله: أنّ الفسخ اعتبار عود الملك السابق إليه، و لذا اشتهر أنّه ليس معاملة جديدة، حيث إنّ الفسخ اعتبار حلّ العقد الموجب لرجوع الملك السابق إلى المالك الأصلي. بخلاف العقد المستقل و الإرث و نحوهما، فإنّها سبب مستقل لملك جديد، و ليس عين الملكية السابقة الحاصلة بالمعاطاة حتى يجوز التّراد، حيث إنّ جوازه مختص بالملكية الحاصلة بالمعاطاة، هذا.

لكن الحق وفاقا للمحقق الخراساني «1» عدم الفرق بين الفسخ و غيره، لأنّ موضوع الجواز- و هو الملكية المتحققة بالمعاطاة- قد انتفى بخروج العينين عن ملك المتعاطيين، و دخولهما في ملكهما بالفسخ ملك حادث و إن كان في اعتبار العرف حلّ العقد السابق، لكنه ليس عين إضافة الملكية الشخصية الحاصلة بالمعاطاة حقيقة، بل يكون عينها اعتبارا. و قد عرفت أنّ تلف العين الموجب للزوم المعاطاة أعم من تلف ذاتها و وصفها و هو ملكية العينين للمتعاطيين، و المفروض انتفاء هذا الوصف بانتقال إضافة الملكية إلى غيرهما، و الملكية الحادثة ليست شخص الملكية المتحققة بالمعاطاة.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 25

ص: 221

لإمكانه (1)، فيستصحب (2) [1]،

______________________________

المامقاني قدّس سرّه: «ذكر الفسخ من باب المثال، لأنّ عودها بالإرث أو بعقد جديد كالفسخ» «1».

ثانيهما: أن يكون ذكر الفسخ من جهة تقييد العود به، و الاحتراز عن عودها بموجبات أخرى من الإرث و نحوه.

و الاحتمال الأوّل أقرب إلى مراد المصنف قدّس سرّه، لارتفاع جواز التراد بالنّقل اللّازم سواء عادت العين إلى المتعاطي بفسخ ذلك النقل اللازم أم بسائر أسباب العود إليه، فتملّك المتعاطي للعين مرّة أخرى أجنبي عن تملكه بالمعاطاة التي حكمها جواز التّراد.

(1) لأنّ تراد العينين خارجا- بعد عود ملكيّتهما إلى المتعاطيين- ممكن، فتصير المعاطاة جائزة.

(2) أي: يستصحب الجواز، توضيحه: أن جواز التّراد كان ثابتا قبل النقل، فبعد العود يشكّ في بقاء ذلك الجواز، فيستصحب. و منشأ الشك هو النقل المتخلّل بين المعاطاة و بين الفسخ، فإنّه يشك في كون هذا النقل رافعا للجواز الثابت للمعاطاة.

و بعبارة أخرى: ثبت بالإجماع جواز التراد في المعاطاة، و قد حصل مانع عنه و هو انتقال العين إلى غيره، فإذا زال المانع و عاد المال إلى المتعاطي يشكّ في ارتفاع الجواز، للشك في رافعية الموجود أي النقل اللازم، فيستصحب.

______________________________

[1] هذا استصحاب تعليقي، بتقريب: أنّه كان الجواز ثابتا على تقدير الرجوع قبل النقل و الفسخ، و الآن كما كان. و هذا الاستصحاب التعليقي معارض بالتنجيزي، و هو عدم جواز التراد قبل الفسخ، إذ المفروض عدم بقاء العينين على صفة الملكية للمتعاطيين. و دعوى حكومة التعليقي على التنجيزي غير ظاهرة كما قرّر في محله، هذا.

و قد يوجّه هذا الاستصحاب «بأنّ موضوع جواز التراد ما يملكه المتعاطيان،

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 209

ص: 222

______________________________

و هذا الموضوع محفوظ قبل النقل و بعد الفسخ، و إنّما الشك في أنّ تخلل النقل رافع للحكم عن موضوعه عند ثبوته، فلا ينافي ثبوت الحكم لموضوعه- عند ثبوته- عدمه عند عدمه كما في حال النقل و عدم العود، كما إذا أمر بإكرام زيد القائم، و شكّ في أنّ تخلل القعود يرفع الحكم عن موضوعه عند ثبوته. و لا مجال لاستصحاب عدم الجواز الثابت حال النقل، لأنّ الشك في بقائه مسبب عن الشك في رافعية النقل المتخلل، لجواز التراد عن موضوعه عند ثبوته، فاستصحاب بقاء الحكم في ظرف ثبوت موضوعه مقدّم على استصحاب عدم الجواز حال النقل، فتدبّر جيدا» «1».

و أنت خبير بما فيه من: أنّ موضوع جواز التراد هو ما يملكه المتعاطيان ملكيّة مستمرة غير منقطعة بنقل إلى غيرهما، على ما هو قضيّة القدر المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة المقتصر عليه في تخصيص عمومات اللزوم، فليس موضوع التّراد مطلق ما يملكه المتعاطيان حتى يكون محفوظا قبل النقل و بعد الفسخ. فبعد ارتفاع استمرار الملكيّة بالنقل إلى الغير لا مجال للاستصحاب، للشك في بقاء الموضوع.

و منه يظهر عدم الوجه في حكومة استصحاب جواز التراد على استصحاب عدم جوازه، و ذلك لعدم جريان استصحاب الجواز، للشّكّ في بقاء موضوعه، فيبقى استصحاب عدم الجواز بلا مانع كما في حاشية السيّد «2» قدّس سرّه.

بل لا مجال لاستصحاب عدم الجواز أيضا، لكون المقام من التمسك بالعام، لا استصحاب حكم الخاص.

و كذا الحال في المثال المزبور، فإنّه لو لم يحرز كون القيام موضوعا كما هو ظاهر كلّ عنوان يؤخذ في حيّز الخطابات كان الشك في بقاء وجوب الإكرام عند ارتفاع القيام من الشك في بقاء الموضوع.

فالمتحصل: أنه بعد انتقال المالين إلى غير المتعاطيين و تحقّق الفسخ و عودهما إلى المتعاطيين لا وجه لجواز التراد.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، للمحقق الأصفهاني قدّس سرّه، ج 1، ص 57.

(2) حاشية المكاسب، ص 82

ص: 223

و عدمه (1)، لأنّ (2) المتيقّن من التّراد هو المحقّق قبل خروج العين عن ملك مالكه، وجهان (3) أجودهما ذلك (4)، إذ لم يثبت في مقابلة أصالة اللزوم جواز التّراد بقول مطلق (5)، بل المتيقن منه (6) غير ذلك،

______________________________

(1) معطوف على قوله: «جواز» و هذا هو الاحتمال الثاني بناء على الملك.

(2) هذا تعليل عدم جواز التراد، و حاصله: عدم جريان الاستصحاب هنا لعدم إحراز الموضوع، و يتعيّن الرجوع إلى عموم أصالة اللزوم.

و بيانه: أنّ المتيقّن من التّراد هو الثابت قبل خروج العين عن ملك مالكه، لما تقدم من أنّ دليل جواز التراد- و هو الإجماع- لبّي، فلا بد من الأخذ بالمتيقن منه و هو بقاء العينين بوصف مملوكيتهما للمتعاطيين، و في غير هذه الصورة يتمسك بأصالة اللزوم.

(3) من استصحاب جواز التراد، و من التمسك بأصالة اللزوم، لعدم إحراز موضوع الاستصحاب.

(4) أي: عدم الإمكان، توضيح وجه الأجودية ما أفاده في المتن من كون موضوع جواز التراد غير محرز، إذ المتيقن من الإجماع على جواز المعاطاة هو صورة عدم انقطاع استمرار ملك المتعاطيين بالنقل إلى غيرهما، و ذلك لأنّ الثابت من التّراد هو استرجاع العين بإزالة ما أحدثاه من الملك، لا بإزالة كلّ ملك حصل للمتعاطي الآخر في تلك العين، إذ ليس التسلط إلّا على فعله و هو تمليكه لا تمليك غيره، فليس إمكان التّراد بقول مطلق- و لو مع الانتقال إلى الغير- موضوعا للجواز. فإذا كان الموضوع بحسب القدر المتيقن خصوص استمرار ملكية المتعاطيين فلا مجال لاستصحاب الجواز بعد النقل و الفسخ، لعدم إحراز الموضوع بنحو يمكن إبقاء حكمه.

(5) يعني: حتى مع انقطاع استمرار ملكيّة المتعاطيين.

(6) يعني: بل المتيقن من الثابت- في مقابل عموم أصالة اللزوم- هو غير جواز التراد بقول مطلق، و هذا الغير هو جواز ترادّ العينين بوصف بقائهما على ملك

ص: 224

فالموضوع غير محرز (1) في الاستصحاب.

و كذا (2) على القول بالإباحة، لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف (3)، فيرجع بالفسخ إلى ملك الثاني (4)، فلا دليل على زواله (5).

بل الحكم (6) هنا أولى منه على القول بالملك، لعدم تحقق جواز التّراد في السابق هنا حتى يستصحب.

______________________________

المتعاطيين، و عدم تخلّل خروجهما عن ملكهما.

(1) لاحتمال كونه استمرار ملكية المتعاطيين، و كونه أعمّ منه و من انقطاعها بالنقل إلى غيرهما، فلا مجال للاستصحاب.

(2) يعني: أنّ الحكم باللزوم و عدم جواز التّراد كان على القول بالملك، و هذا الحكم أيضا جار على القول بالإباحة، لأنّ تصرف المباح له في المال الذي أبيح له- بالنقل إلى غيره- يكشف عن سبق الملك له آنا ما على التصرف، إذ لو لم يكن مالكا لم يجز له التصرف الناقل، فإذا فسخ المباح له رجع الملك إليه لا إلى المبيح، لأنّ المال يرجع بالفسخ الى الناقل و هو المباح له، دون غيره و هو المبيح.

(3) فلا مجال حينئذ لاستصحاب سلطنة المالك الأوّل على ماله، للقطع بزوالها بانتقال المال الى المباح له آنا ما. و دعوى كون زوال سلطنة المالك الأوّل مراعى بعدم فسخ النقل الى الثالث غير مسموعة، لعدم بيّنة عليها.

(4) و هو المباح له، لأنّه الثاني بالإضافة إلى المبيح.

(5) أي: على زوال ملك الثاني.

(6) أي: الحكم بعدم جواز التراد على القول بالإباحة أولى من هذا الحكم على القول بالملك. وجه الأولوية ما أفاده بقوله: «لعدم تحقق .. إلخ» و حاصله: ثبوت جواز التّراد بناء على الملك، فبعد العود بالفسخ يستصحب ذلك الجواز. بخلاف القول بالإباحة، فإنّ جواز التراد غير ثابت فيه حتى يستصحب بعد العود إلى المباح له بالفسخ.

ص: 225

بل المحقّق أصالة بقاء سلطنة المالك الأوّل (1) المقطوع بانتفائها (2).

نعم (3) لو قلنا

______________________________

توضيحه: أنّ التراد الملكي عبارة عن سلطنة المالك الأوّل على إخراج ما كان ملكا له عن حيطة ملكيّة المالك الثاني الذي صار مالكا له بالمعاطاة، فبعد فسخ التصرف الناقل يعود ملكا لمن تملّكه بالمعاطاة. فيتحقق حينئذ أركان الاستصحاب من اليقين بتحقق سلطنة المالك الأوّل على إزالة ملك المالك الثاني و هو المباح له، و من الشك في ارتفاعها بالتصرف الناقل، لاحتمال دخل عدم هذا التصرف في بقاء تلك السلطنة، مع الغضّ عن إشكال الشّك في الموضوع المردّد بين كونه مطلق إمكان التراد أو خصوص التراد غير الملحق بالتصرف الناقل.

و هذا بخلافه على القول بالإباحة، لأنّ منشأ جواز التّراد الثابت قبل التصرف الناقل هو السلطنة الأوّليّة الثابتة للمالك في ماله قبل المعاطاة. فالمراد بالتّراد حينئذ هو استرجاع المالك ماله من المباح له، لا السلطنة الجديدة الحادثة بعد ارتفاع السلطنة الأوّليّة بارتفاع موضوعها و هو كونه مالا للمالك الأوّل بالتصرف الناقل، لصيرورته ملكا آنا ما للمباح له قبل التصرّف الناقل فيه.

فمراد المصنف قدّس سرّه بقوله: «لعدم تحقق جواز التراد في السابق هنا» هو التّراد الملكي الذي قد عرفته. و من المعلوم فقدان الترادّ بهذا المعنى في المعاطاة على القول بالإباحة، إذ المفروض بقاء كلّ من المالين على ملك صاحبه، و التّراد على القول بالإباحة هو الرجوع عن إباحة التصرفات لا إعادة الملكية.

(1) أي: المالك المبيح، و المالك الثاني هو المباح له الذي صار مالكا آنا ما قبل النقل اللازم.

(2) حيث إنّ سلطنته ارتفعت بالنقل الرافع لملكية المالك الأوّل.

(3) استدراك على ما أفاده بقوله: «و كذا على القول بالإباحة» من انتفاء جواز التّراد في مفروض الكلام، و هو انتقال العين بالعقد اللازم، ثم عودها إلى المباح له

ص: 226

..........

______________________________

بالفسخ. و غرضه تصحيح جواز رجوع المالك المبيح بوجهين. و قوله: «لو قلنا بأن الكاشف» هو الوجه الأوّل، و لتوضيحه ينبغي تقديم أمرين:

الأوّل: أن «الكاشف» يطلق تارة و يراد به كون شي ء طريقا محضا إلى شي ء آخر، من دون أن يكون مؤثّرا في وجود الآخر واقعا، فيمكن بقاء المنكشف إذا ارتفع الكاشف، كما هو الحال في الأمارة بناء على حجيتها بنحو الطريقية، و لهذا يحسن الاحتياط رعاية لهذا الاحتمال.

و الحاصل: أن ارتفاع الكاشف لا يستلزم ارتفاع المنكشف.

و يطلق تارة أخرى و يراد به كون شي ء علّة لشي ء آخر ثبوتا، فالعلّة كاشفة لمّا عن معلولها، و ليست هذه الكاشفية في مقام الدلالة و الإثبات فقط، بل السبب علّة لوجود مسبّبه، هذا.

الأمر الثاني: أنّ فسخ العقد الخياري يكون تارة بإنشاء الفسخ قولا بمثل «فسخت» و لا كلام فيه. و أخرى بالتصرف المنوط بالملك فيما انتقل عنه، كما إذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار، و شرط لنفسه الخيار لمدة معيّنة، ثم باع هذا الكتاب من بكر أو وهبه إيّاه أو أوقفه، و نحوها من التصرفات المنافية لمالكيّة عمرو للكتاب، فإنّهم جعلوا هذا التصرف أخذا بالخيار و فسخا للعقد الواقع بين زيد و عمرو. لكن وقع البحث فيما به يتحقق الفسخ على وجوه أربعة، نقتصر على اثنين منها تبعا لما في المتن.

أحدهما: أن تكون إرادة تصرف ذي الخيار فسخا فعليا موجبا لعود المال إليه، فيقع تصرّفه- بالبيع و الهبة و نحوهما- في ملكه. و هذا مختار جماعة منهم المصنف على ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّهما «1».

ثانيهما: أن يكون الفسخ حاصلا بنفس التصرف البيعي لا بإرادته، فإذا باع

______________________________

(1): المكاسب و البيع، ج 1، ص 248

ص: 227

..........

______________________________

زيد كتابه- في مدة الخيار- من بكر كان نفس البيع فسخا للعقد الواقع بينه و بين عمرو.

و يترتّب على هذا التصرّف أمران إنشائيّان طوليّان، أوّلهما: انتقال الكتاب من عمرو إلى زيد و هو ذو الخيار. و الآخر: انتقال الكتاب من زيد إلى بكر.

و الفسخ في كلا الوجهين كاشف عن عود المال ممّن عليه الخيار إلى من له الخيار، لكنّه كاشف محض عن تحقق إرادة التصرف في الوجه الأوّل. بخلافه في الوجه الثاني، فإنّه سبب لتحقق الفسخ. فلو تبيّن بطلان بيع الكتاب من بكر لم يتحقق فسخ البيع الأوّل بين زيد و عمرو بناء على الاحتمال الثاني، و هو حصول الفسخ بنفس التصرف لا بإرادته.

إذا اتّضح ما ذكرناه من الأمرين فنقول: في توضيح الوجه الأوّل: إذا تعاطى زيد و عمرو كتابا بدينار، فبناء على الإباحة يكون الكتاب باقيا على ملك زيد و إن كان بيد المباح له، و الدينار باق على ملك عمرو، فإذا باع المباح له- و هو عمرو- الكتاب من بكر كان نفس هذا العقد الناقل سببا لتملكه له، و تملّك المشتري و هو بكر.

فإذا فرض عود الكتاب إلى عمرو بفسخ هذا البيع الناقل عاد الكتاب إلى ملك مالكه الأوّل- و هو زيد الذي أباح كتابه لعمرو- و يبقى مباحا بيد عمرو كما يبقى الدينار مباحا بيد زيد، إذ المفروض أنّ العلّة في انقطاع علقة مالكية زيد الكتاب كانت هي العقد الناقل بين عمرو و بكر، فإذا انحلّ هذا العقد بالفسخ فكأنّه لم يتملك عمرو الكتاب أصلا.

فإن قلت: إذا انفسخ العقد اللّازم بين عمرو و بكر لم يكن وجه لعود الكتاب الى ملك المبيح، بل يبقى ملكا للمباح له، لأنّ ذلك العقد يكشف عن دخول الكتاب في ملك المتصرّف المباح له آنا ما قبل البيع، فإذا انحلّ البيع عاد إلى ملك عمرو، لا إلى ملك زيد المبيح.

قلت: ليس كذلك، إذ المناط في هذا الوجه- لإبقاء جواز التراد- هو كون نفس العقد اللازم سببا لأمرين طوليّين، أحدهما: دخول المال في ملك المباح له،

ص: 228

بأنّ الكاشف (1) عن الملك هو العقد الناقل، فإذا فرضنا ارتفاعه بالفسخ عاد الملك إلى المالك الأوّل (2) و إن كان مباحا لغيره (3)، ما لم يستردّ (4) عوضه،

______________________________

ثانيهما: تمليكه من بكر. و ليس المناط مملّكية إرادة التصرف حتى يجمع بالملكية الآنامّائية.

و إذا تقرّر عود المال إلى المبيح كان مقتضى قاعدة «سلطنة الناس على أموالهم» جواز الرجوع و استرداد الكتاب من عمرو، و ردّ الدينار إليه إن كان باقيا لم يتلف، و إلّا صارت المعاطاة لازمة من جهة تلف إحدى العينين.

و لا يخفى أنّ جواز التراد مستند إلى سلطنة المالك على ماله، لا إلى الإجماع على جواز تراد العينين في المعاطاة حتى يشكل فيه بأنّ الإجماع على الجواز دليل لبّى يقتصر على المتيقن منه، و هو عدم وقوع عقد على أحد العوضين، و فيما عداه يرجع إلى أصالة اللزوم. هذا توضيح المتن، و به يظهر قصور العبارة عن أدائه.

(1) قد عرفت أنّ الكاشف هنا بمعنى السبب، لا بمعنى الطريق إلى تحقق الملك.

و القرينة عليه قوله: «فإذا فرضنا ارتفاعه» لوضوح أنّ الفسخ رافع للعقد، و لا يرفع إرادة التصرف لو كانت هي الموجبة لدخول المال في ملك المباح له.

و هذا بخلاف ما أفاده قبل أسطر بقوله: «لأنّ التصرف الناقل يكشف عن سبق الملك للمتصرّف» فإنّه مبني على مختار المصنف- على ما حكي- من مملّكية إرادة التصرف، و كون التصرّف كاشفا عن تحقق سبب التمليك، و عدم كون العقد اللّازم مقتضيا للتملّك.

(2) أي: المبيح، و هو زيد في المثال المتقدم.

(3) و هو المباح له، أعني به عمروا.

(4) يعني: ما لم يستردّ هذا الغير- و هو المباح له- عوضه، أي الدينار الذي هو عوض الكتاب، فإذا استردّ عمرو الدينار من زيد لم يكن الكتاب مباحا له، بل وجب عليه إيصاله إلى زيد. و لا أمانة في المقام، إذ الإباحة تعبدية لا مالكية.

ص: 229

كان (1) مقتضى قاعدة السلطنة جواز التراد لو فرض كون العوض الآخر باقيا على ملك مالكه الأوّل، أو عائدا (2) إليه بفسخ [1].

______________________________

(1) جواب «لو قلنا» و هذا حكم الوجه الأوّل، و هو بقاء جواز الرجوع للمبيح.

(2) كما إذا اشترى زيد بالدينار شيئا، ثم عاد الدينار إليه بفسخ العقد، فإنّه يجب ردّ الدينار إلى مالكه و هو عمرو حتى يتسلّط على استرداد كتابه منه.

______________________________

[1] و يمكن الفرق بين هذا الوجه و سابقه بأنّ الوجه الأوّل- و هو كشف التصرف الناقل عن الملك- نشأ من الجمع بين الأدلّة المقتضي للملك آنا ما قبل النقل للمتصرف، من دون أن يكون نفس التصرف علّة أو شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملك. و من المعلوم أنّ مقتضى الفسخ رجوع المال الى المالك الثاني، لأنّ التصرف الناقل وقع في ملكه، فالفسخ يوجب العود إليه، فلا دليل على جواز التراد للمالك الأوّل.

و أمّا الوجه الثاني- و هو سببية العقد الناقل- فهو مبني على حدوث الملك للنّاقل بنفس العقد، بأن يكون شرطا متأخرا لتأثير المعاطاة في الملكية.

ففي الوجه الأوّل يكون التصرف الناقل كاشفا محضا عن مالكية المتصرف، و في الوجه الثاني يكون التصرف الناقل موجبا لحدوث الملكية للمتصرف و لغيره، فيترتّب عليه أمران: أحدهما مالكيّة المباح له، و الآخر مالكية غيره و هو المشتري. نظير ما قيل في التصرف الناقل لذي الخيار، فإنّ بيعه لما انتقل عنه سبب لتملّكه و تمليكه معا، فبالشروع في الصيغة يحصل الفسخ الموجب لتملّكه و بتمامها يحصل تمليكه للمشتري.

و على هذا يكون الفسخ موجبا لعود العين إلى المالك المبيح.

و كذا الحال على الوجه الثالث الآتي بقوله: «و كذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف على سبق الملك .. إلخ» ضرورة أنّ المال حينئذ باق على ملك المبيح، و لا ينتقل إلى المباح له، بل ينتقل بالتصرف الناقل إلى المشتري، فبالفسخ يعود إلى ملك المبيح لا إلى ملك المباح له.

________________________________________

ص: 230

و كذا (1) لو قلنا بأنّ البيع لا يتوقف على سبق الملك (2)، بل يكفي فيه إباحة التصرف و الإتلاف، و يملك (3) الثمن بالبيع كما تقدّم (4) استظهاره عن جماعة في الأمر الرّابع.

لكن الوجهين (5) ضعيفان (6).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثاني لتصحيح جواز التراد و بقاء الإباحة الحاصلة بالمعاطاة. و محصله: أنّه لو قيل بعدم توقف البيع على الملك- بل يكفي في صحته إذن المالك في التصرف الناقل- صحّ للمباح له بيع الكتاب مع بقائه على ملك المبيح، و يتملّك المباح له الثمن، فإذا انفسخ هذا البيع عاد الكتاب إلى ملك زيد المبيح، فيجوز له استرداده من عمرو، بمقتضى إطلاق سلطنة الناس على أموالهم.

و لا يخفى ابتناء هذا الوجه على أنّه لا يعتبر- في صدق المعاوضة- دخول كلّ من العوضين في ملك من خرج عنه، فيمكن خروج الكتاب عن ملك زيد و دخول عوضه- و هو الثمن الذي يأخذه المباح له من بكر- في كيس المباح له دون المالك.

(2) حتى يحلّ كل واحد من العوضين محلّ الآخر في إضافة الملكية.

(3) أي: و يتملّك المباح له الثمن، و لا يتملّكه المالك المبيح.

(4) حيث قال هناك: «و لكن الذي يظهر من جماعة، منهم قطب الدين و الشهيد قدّس سرّهما في باب بيع الغاصب: أن تسليط المشتري البائع الغاصب على الثمن و الإذن في إتلافه يوجب جواز شراء الغاصب به شيئا، و أنه يملك المثمن بدفعه إليه».

(5) و هما الوجهان المذكوران بقوله قدّس سرّه: «نعم لو قلنا بأنّ الكاشف عن الملك هو العقد الناقل .. إلخ» و قوله: «و كذا لو قلنا بأن البيع لا يتوقف .. إلخ».

(6) أمّا تقريب ضعف الوجه الأوّل فلأنّه مبني على الشرط المتأخر المستحيل.

و أمّا ضعف الوجه الثاني فلأنّه خلاف مفهوم المعاوضة التي حقيقتها دخول

ص: 231

بل الأقوى (1) رجوعه بالفسخ إلى البائع (2).

و لو كان الناقل عقدا جائزا (3) [2]

______________________________

كل واحد من العوضين في كيس من خرج عنه العوض الآخر [1].

(1) لأنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة هو الالتزام بالملك آنا ما للمباح له، ثم الانتقال عنه إلى المشتري الذي هو الثالث، كما تقدم عن المصنف في الجواب عن الاستبعادات التي ذكرها كاشف الغطاء قدّس سرّه.

ثم إنّ هذا أوّل الوجوه الثلاثة المذكورة في المتن. و لازمه عدم جريان قاعدة السلطنة بعد الفسخ، إذ المفروض رجوع المال بالفسخ إلى المباح له الذي هو البائع لا إلى المبيح، فتصير المعاطاة لازمة بوقوع عقد لازم على إحدى العينين و إن عادت إلى المباح له بفسخ.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صور نقل المأخوذ بالمعاطاة، و سيأتي الكلام في النقل بالعقد الجائز.

(2) و هو المباح له، لأنّه المالك قبل العقد، بالفسخ يرجع الملك إليه.

(3) أي: عقدا معاوضيا جائزا، و لو كان الجواز من جهة الخيار الموجود حين

______________________________

[1] يمكن منع ذلك بأن يقال: إنّ كون حقيقة المعاوضة ذلك غير ظاهر و إن نسب إلى العلامة قدّس سرّه. نعم ذلك مقتضى إطلاق المعاوضة لا حقيقتها.

[2] قد يتوهم التنافي بين ما ذكره في فروع النقل بالعقد اللازم من قوله: «و لو عادت العين بفسخ» و بين ما عنونه هنا من العقد الجائز. وجه المنافاة: أن الفسخ هناك يدلّ على جواز العقد، مع أنّه جعله لازما في قبال ما جعله هنا من العقد الجائز.

لكن المنافاة مندفعة بما تقدّم هناك من أنّ فسخ العقد اللازم بحدوث سببه بعد العقد لا يمنع من انعقاده لازما، بخلاف المقام، فإنّ العقد جائز امّا بالجواز الحقّي لكونه خياريا، و إمّا بالحكمي لكونه هبة، فلا منافاة أصلا.

ص: 232

لم يكن (1) لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع فيه (2) [1]

______________________________

العقد كخياري المجلس و الحيوان في باب البيع، فإنّه ينعقد جائزا إلى انقضاء المجلس و ثلاثة أيّام.

ثم إنّ للنقل الجائز صورتين: إحداهما العقد المعاوضي و الأخرى غير المعاوضي كالهبة، و سيأتي بيانهما.

(1) هذا حكم الصورة الأولى- و هي نقل إحدى العينين بعقد جائز معاوضي كالبيع الخياري- بناء على الملك، و حاصله: لزوم المعاطاة، و عدم جواز التراد، و ذلك لانتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة من الملكية المتحققة بها، إذ الملكية المنشئة قد ارتفعت بالنقل إلى الأجنبي، فليس لمالك العين الموجودة إلزام الناقل بالرجوع فيه، و لا رجوعه بنفسه إلى عينه. و عليه فالتّراد غير متحقّق هنا، لصدق «انتقال الملك» فهو كالتلف.

قال في المسالك: «لو نقل أحدهما العين عن ملكه فإن كان لازما كالبيع و الهبة بعد القبض و الوقف و العتق فكالتلف. و إن كان جائزا كالبيع في زمن الخيار فالظاهر أنّه كذلك، لصدق انتقال الملك عنه، فيكون كالتلف. و عودها بالفسخ إحداث ملك آخر بناء على أنّ المبيع يملك بالعقد و إن كان هناك خيار. و أمّا الهبة قبل القبض فالظاهر أنّها غير مؤثرة، لأنّها جزء السبب المملّك، مع احتماله، لصدق التصرف. و قد أطلق جماعة كونها تملك بالتصرف» «1».

(2) أي: في العين التي باعها المتعاطي من شخص ثالث.

______________________________

[1] فلو ألزمه بالرجوع لا يجدي أيضا، لأنّه بالخروج عن الملك انتفى موضوع الجواز الذي هو إباحة العينين بالمعاطاة، فإنّ الخروج عن الملك بعد دخوله فيه آنا ما مفوّت له، و العود إلى الملك بعد الرجوع ملك جديد غير الملك المتحقق بالمعاطاة،

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 150

ص: 233

و لا رجوعه (1) بنفسه إلى عينه، فالتّراد غير متحقق، و تحصيله غير واجب (2).

و كذا (3) على القول بالإباحة، لكون المعاوضة (4) كاشفة عن سبق الملك.

نعم (5) لو كان غير معاوضة كالهبة و قلنا بأنّ التصرف

______________________________

(1) يعني: و لا يجوز لمالك العين الباقية الرّجوع بنفسه إلى المشتري حتى يستردّ عينه منه. و وجه عدم الجواز ما عرفت من انتفاء وصف المأخوذ بالمعاطاة و هو كونه ملكا للمتعاطي.

(2) لأنّه من تحصيل الموضوع الذي لا يجب قطعا، لأنّ الحكم مترتب على موضوعه المفروض الوجود اتفاقا، لا واجب التحصيل، إذ لا يصلح الدليل لإيجاب تحصيل الموضوع.

(3) يعني: و كذا الحال في عدم تحقّق التراد بناء على القول بالإباحة، و ذلك لكشف المعاوضة عن سبق الملك للناقل المباح له- آنا ما- قبل النقل، لما تقدم من أنّه مقتضى الجمع بين الأدلة.

(4) أي: العقد المعاوضي الجائز.

(5) استدراك على قوله: «و كذا على القول بالإباحة» لا على كلا القولين من الإباحة و الملك. و هذا إشارة إلى صورة ثانية من النقل بالعقد الجائز، و هو العقد غير المعاوضي.

و محصّل وجه الاستدراك هو: أنّ ما ذكرناه على القول بالإباحة- من لزوم المعاطاة بنقل إحدى العينين بالعقد الجائز- إنّما هو فيما إذا كان الناقل الجائز من المعاوضات كالبيع الخياري. و أمّا إذا كان من غيرها كالهبة الجائزة أمكن ثبوت جواز

______________________________

و ليس هذا موضوعا لجواز التراد.

و من هنا يظهر عدم الوجه في جريان الاستصحاب، للقطع بارتفاع الموضوع- و هو إباحة العينين بالمعاطاة- فإنّ الخروج عن الملك رافع للإباحة المزبورة، كما لا يخفى.

ص: 234

في مثله (1) لا يكشف عن سبق الملك، إذ لا عوض فيه حتى لا يعقل كون العوض مالا لواحد، و انتقال المعوّض إلى الآخر (2)، بل الهبة ناقلة للملك عن ملك

______________________________

الرّد للمالك المبيح، بناء على أنّ مطلق تصرّف المباح له في مال المبيح لا يوجب ملكية المتصرّف- و إن أطلقه جماعة- بل الموجب لها هو التصرف المتوقف جوازه شرعا أو عقلا على مالكية المتصرف كالبيع و العتق و نحوهما.

و أمّا الهبة فليست كذلك، فلو وهب المباح له مال المبيح لم يقتض دخوله في ملك الواهب آنا ما قبل هبته حتى تقع في ملكه لا في ملك المبيح، و ذلك لصحة الهبة من المباح له كصحتها من المالك، إذ لم يرد دليل شرعي على اعتبار مالكية الواهب مثل «لا هبة إلّا في ملك» كما ورد في البيع و العتق و الوطي.

و كذا لم يدلّ دليل عقليّ على المنع من هبة غير المالك كما دلّ في البيع تحقيقا لمفهوم المعاوضة، إذ لا عوض هنا حتى يقال بعدم معقولية خروج العوض عن ملك شخص و انتقال المعوّض إلى آخر، بل الهبة تنقل المال عن ملك المالك إلى المتّهب.

و بناء على هذا يثبت جواز الرجوع للمالك المبيح، لا للواهب المباح له، فيجوز التّراد في صورتين:

إحداهما: بقاء العين الأخرى، و لو تلفت لزمت المعاطاة من جهة ملزميّة تلف إحدى العينين.

ثانيتهما: عود العين الأخرى إلى مالكها بالهبة أيضا، إذ لو كان عودها بنحو آخر كالفسخ كان بمنزلة التلف.

فالمتحصّل: أنّ المالك هو المبيح دون المباح له، فالواهب حقيقة هو المبيح، فيجوز له الرجوع إن كانت العين الأخرى باقية.

(1) أي: في مثل الهبة، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «بناء على أن مطلق تصرف المباح له .. إلخ».

(2) يعني: أنّ الالتزام بسبق الملك آنا ما- قبل التصرف المتوقف على الملك- إنّما هو لاقتضاء ماهيّة المعاوضة. و لمّا لم تكن الهبة معاوضة لم يكن موجب للالتزام بسبق

ص: 235

المالك (1) إلى المتّهب، فيتحقق حكم جواز الرجوع بالنسبة إلى المالك، لا الواهب [1] اتّجه (2) الحكم بجواز التّراد مع بقاء العين الأخرى، أو (3) عودها إلى مالكها بهذا النحو من العود (4)، إذ لو عادت

______________________________

مالكية المباح له الذي وهب مال المبيح لشخص ثالث.

(1) فالواهب- ظاهرا- هو المباح له، و حقيقة هو المبيح، كما إذا تعاطى زيد و عمرو كتابا بدينار، و وهب عمرو الكتاب لبكر، فبناء على الإباحة يكون الواهب زيدا المبيح للكتاب، لا عمروا المباح له. و بما أنّ الهبة جائزة حسب الفرض جاز لزيد استرداد الكتاب من بكر إذا كان الدينار باقيا بحاله ليردّه إلى عمرو.

(2) جواب الشرط في قوله: «لو كان غير معاوضة ..».

(3) يعني: إذا تصرّف زيد في الدينار فتارة يكون بشراء شي ء به، ثم يفسخ أو يتقايل مع البائع، و أخرى بأن يهب الدينار لخالد، ثم يرجع عن هبته و يعود الدينار إلى زيد.

ففي الصورة الأولى تصير المعاطاة لازمة من جهة تخلّل العقد اللازم، و هو بحكم التلف.

و في الصورة الثانية يبقى جواز المعاطاة بحالة، فيجوز لزيد استرداد كتابه من بكر، و ردّ الدينار إلى عمرو.

(4) أي: بنحو الرجوع في الهبة.

______________________________

[1] لا يخفى أنّه- بعد عدم توقف الهبة على مالكية الواهب للعين الموهوبة لا عقلا و لا شرعا كتمليك الحرّ عمل نفسه و تمليك الكلّي في المعاملات الذمية- يمكن أن يقال: إنّ أدلّة جواز الرجوع ناظرة إلى الواهب، و من المعلوم أنّه في المقام هو المباح له، دون المالك، إذ المفروض عدم قصد الوكالة عن المالك، فالواهب حقيقة هو المباح له، لأنّه العاقد، فجواز الرجوع ثابت له دون المالك، فتدبّر.

ص: 236

بوجه آخر (1) كان حكمه حكم التلف.

و لو باع العين ثالث فضولا (2) فأجاز المالك الأوّل (3)- على القول بالملك-

______________________________

(1) يعني غير الهبة. هذا تمام الكلام في الصورة الثانية من صورتي النقل بالعقد الجائز. و قد تمّت إلى هنا صور أربع من الملزم الثالث، و هو نقل إحدى العينين أو كلتيهما.

(2) هذا شروع في صورة خامسة من صور التصرف الاعتباري بنقل إحدى العينين أو كلتيهما. و الفرق بينها و بين الصور الأربع المتقدمة هو: أنّ الناقل فيها كان أحد المتعاطيين أو كليهما بالأصالة، مباشرة أو تسبيبا بالتوكيل. بخلاف هذه الصورة، إذ الناقل فيها أجنبي عن المتعاطيين. و يتجه البحث حينئذ في أن تصرف الفضول- بإنشاء المعاملة على إحدى العينين- هل يكون ملزما كتصرف نفس المتعاطيين، أم هو بحكم العدم و يبقى جواز التراد على حاله؟

فصّل المصنف قدّس سرّه بين فروع، فتارة يجاز عقد الفضول، و المجيز إمّا من انتقل عنه المال أو من انتقل إليه، و أخرى يردّ. و ثالثة يرجع أحدهما عن المعاطاة ثم يجيز الآخر عقد الفضول. و في هذا الفرض إمّا يبنى على كاشفيّة الإجازة عن تحقق النقل من حين إنشاء الفضول، و إمّا على ناقليّتها. هذه فروع المسألة إجمالا، و سيأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

(3) أي: من انتقلت عنه العين بالمعاطاة، كما إذا تعاطى زيد و عمرو كتابا بدينار، فباع بكر- فضولا- الكتاب لأجنبي، فأجازه زيد.

و حكم هذا الفرع: أنّ رجوع زيد عن المعاطاة لمّا كان جائزا- سواء على الملك و الإباحة- لم يبعد أن تكون إجازته رجوعا عن معاطاته مع عمرو، يعني: أنّه أرجع الكتاب- بهذه الإجازة- إلى ملك نفسه، و باعه إلى من اشتراه من الفضول.

فالرجوع بهذه الإجازة يكون نظير ما إذا تصدّى زيد بنفسه لبيع الكتاب أو صلحه أو هبته، فإنّ هذه التصرفات الناقلة تكشف عن رجوعه عن المعاملة المعاطاتية، نظير

ص: 237

لم يبعد (1) [1] كون إجازته رجوعا، كبيعه و سائر تصرّفاته الناقلة.

و لو أجاز المالك الثاني (2)

______________________________

تصرف ذي الخيار فيما انتقل عنه بعقد خياري- بالتصرف المنافي لذلك العقد، فإنّه يكشف عن الفسخ و عود المال إليه حتّى يقع التصرف الناقل في ملكه.

(1) لأنّ الإجازة هنا نظير تصرّف ذي الخيار موجبة لعود العين إلى ملك المجيز و المتصرّف.

(2) أي: من انتقلت إليه العين بالمعاطاة، و هو عمرو في المثال المتقدم، و هذا فرع ثان من فروع عقد الفضول، يعني: لو أجاز عمرو عقد الفضول صحّ بلا إشكال بناء على ترتب الملك المتزلزل على المعاطاة. وجه الصحة: أنّ عمروا مالك بالفعل للكتاب، و مقتضى سلطنة المالك على ماله نفوذ جميع تصرفاته، التي منها إجازة عقد الفضول على ماله، فتكون نافذة، و بها تصير المعاطاة المتزلزلة لازمة، كما يصحّ عقد الفضول، لأنّ من بيده أمر العقد قد نفّذه، هذا.

______________________________

[1] وجه بعده عدم الدليل على كون هذه التصرفات رجوعا و فسخا. قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه في حاشيته: «قال بعض من تأخّر: قد ثبت في الخيار أن التصرفات الناقلة من ذي الخيار رجوع، فلو باع ما كان له الخيار في استرداده من المشتري كان ذلك رجوعا بالخيار إجماعا. و لكن لم يثبت مثله هنا، فلا يصح أن يكون مجرّد إجازته رجوعا و فسخا هنا، فلا بد من سبق ما يدلّ على الفسخ حتى يصح للأوّل نقله إلى الثالث، إذ لا يصح النقل إلّا من المالك، و الفرض خروج الملك عنه، فلا يكون صيرورته مالكا سابقه على نقله إلى المشتري الثاني، فلا وجه حينئذ لجواز الإجازة منه حتى تكون رجوعا.

إلّا أن يلتزم بأحد الأمرين من كون مجرّد الرّضا الباطني إجازة، و كون الكراهة الباطنية في مقابله ردّا، و من كون الفسخ و الرجوع يحصل بأوّل حرف من قوله: أجزت البيع

ص: 238

نفذ بغير إشكال (1).

______________________________

(1) لوجود المقتضي لنفوذ إجازته، و فقد المانع عنه. أمّا وجود المقتضي فلأنّ المالك الثاني- أي من انتقل إليه المال بالمعاطاة- مالك للمال حين وقوع عقد الفضول عليه، فينفذ إجازته و ردّه.

و أمّا فقد المانع فواضح، لعدم وجود شي ء من أسباب سلب سلطنة المالك عن التصرف في ماله.

و هذا بخلاف إجازة المالك الأوّل- أي من انتقل عنه المال- لما عرفت من عدم

______________________________

الثاني، فيصير المال ملكه، و التمليك للمشتري الثاني يحصل بآخر حرف من قوله المذكور. و هو رحمه اللّه و إن التزم بالأوّل فيما سيأتي من كلامه، إلّا أنّ التزامه بذلك مخصوص بالقول بالإباحة، فلا يجري على القول بالملك كما هو مفروض المقام، فإنّه قال هناك: بل هو على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة، و على القول بالإباحة نظير الرجوع في إباحة الطعام، بحيث يناط الحكم فيه بالرضا الباطني، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف» «1».

لكن على المبنى المختار من كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع اللفظي ليس لغير من انتقل إليه المال إجازة بيع الفضولي، فإذا أجاز نفذ، و إن ردّ فالمال باق على ملكه.

و أمّا على القول بالملك الجائز فيمكن أن يقال: إنّ التصرفات المنافية رجوع عرفا و فسخ عندهم، من غير فرق في ذلك بين الرجوع في المعاطاة و بين الخيار.

و توهم اختصاص كون التصرفات المزبورة رجوعا بالخيار و عدم كونها رجوعا في المعاطاة، فاسد، لعدم الوجه في الاختصاص المزبور، بعد كون الرجوع من المفاهيم العرفيّة، و عدّ العرف لتلك التصرفات من مصاديق الرجوع، فكونها رجوعا فعليّا على طبق القاعدة، لا للتعبد حتى يدّعى الاختصاص المزبور بالإجماع، فلاحظ و تأمّل.

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 209

ص: 239

و ينعكس الحكم (1) إشكالا و وضوحا على القول بالإباحة.

______________________________

كونه مالكا أصلا، لا حين وقوع عقد الفضول عليه و لا حين إجازته، فهو أجنبي عن المال، و من المعلوم أنّ المصحّح لعقد الفضول هو إجازة المالك لا إجازة الأجنبي.

و يتوقف نفوذ إجازته على إحراز كون إجازته رجوعا عن المعاطاة، نظير تصرّف ذي الخيار بالبيع و الهبة و الوقف و غيرها ممّا يتوقف على الملك.

و لكن إلحاق الإجازة بتصرّف ذي الخيار ليس بذلك الوضوح، لقصور مقام الإثبات، لأنّ الجمع بين الأدلة المقتضي لتملّك ذي الخيار لماله آنا ما- حتى يقع تصرفه في ملكه- لا دليل على جريانه في المقام.

و لأجل هذا اختلف تعبير المصنف قدّس سرّه في كون إجازة المالك الأوّل رجوعا عن المعاطاة، و كون إجازة المالك الثاني إمضاء للمعاطاة، فقال في الأوّل: «لا يبعد» و في الثاني: «نفذ بغير إشكال».

(1) أي: و ينعكس حكم الإجازة في هذا الفرض وضوحا و إشكالا على القول بإفادة المعاطاة للإباحة، و هذا حكم نفس الفرضين المتقدمين- أي إجازة المالك الأوّل و الثاني- بناء على إفادة المعاطاة للإباحة.

و غرضه: أنّ أصل الحكم- و هو نفوذ إجازة المالك الأوّل- لا ينعكس، بل ينعكس من حيث الوضوح و الإشكال. و ذلك لأنّ كون إجازة المالك الأوّل رجوعا على القول بالإباحة من الواضحات، ضرورة أنّ العين على هذا القول باقية على ملكه، فمقتضى قاعدة السلطنة نفوذ إجازته.

و أمّا كون إجازة المباح له نافذة فمشكلة من حيث ثبوت إباحة التصرفات له فتنفذ إجازته، و من حيث كون العين للغير فلا تنفذ.

و الرّاجح من الوجهين هو الأوّل أي نفوذ إجازة المباح له، لأنّ الإجازة تصرّف في مال المبيح، و المفروض حلّيّة جميع التصرفات للمباح له.

ص: 240

و لكلّ منهما ردّه (1) قبل (2) إجازة الآخر.

و لو رجع (3) الأوّل، فأجاز الثاني، فإن جعلنا الإجازة- كاشفة لغا (4)

______________________________

(1) أي: ردّ بيع الفضول، و هذا إشارة إلى فرع ثالث من فروع بيع المأخوذ بالمعاطاة فضولا. و حكمه: أنه يجوز لكلّ منهما ردّه، لأنّ من له الإجازة له الرّد أيضا، فكما تكون إجازته رجوعا فكذا ردّه. نعم سلطنة كلّ منهما على الرّد مقيّدة بعدم سبق إجازة الآخر.

و لا فرق بين كون الرّد من قبل المعطي أو الآخذ، كما لا فرق بين الملك و الإباحة. فإن ردّ المعطي فبناء على الملك المتزلزل يكون ردّه لعقد الفضول رجوعا عن المعاطاة و إعادة للمال في ملكه. و بناء على الإباحة فالأمر أوضح، لبقاء العين على ملكه، و لم يطرأ ما يلزم المعاطاة بعد.

و إن ردّ الآخذ فكذلك، إذ بناء على الملك يكون ردّه تصرّفا في ملكه و تصير المعاطاة لازمة. و بناء على الإباحة فإنّ العين و إن لم تكن ملكه، إلّا أنّ الرّد تصرف، و هو يكشف عن سبق الملك.

(2) إذ لا مورد للرّد بعد إجازة الآخر، لسقوط حقّ الرجوع في المعاطاة حينئذ، فلا ينفذ ردّه.

(3) يعني: و لو رجع الأوّل عن المعاطاة ثم أجاز الثاني عقد الفضول. و هذا إشارة إلى آخر فروع عقد الفضول، و توضيحه: أنّه يفرض أزمنة أربعة في المقام، ففي الساعة الأولى تحققت المعاطاة بين زيد و عمرو، و في الساعة الثانية وقع عقد الفضول، و في الثالثة رجع زيد عن المعاطاة، و في الرابعة أجاز عمرو عقد الفضول.

و قد فصّل المصنف في حكم هذا الفرع بين الكشف و النقل، فبناء على الكشف احتمل وجهين: أحدهما لغوية الرجوع و نفوذ الإجازة، و ثانيهما لغوية الإجازة و نفوذ الرجوع. و بناء على النقل جزم بلغوية الإجازة، و سيأتي بيان كلّ منها.

(4) توضيحه: أنّه إذا رجع المالك الأوّل عن المعاطاة و ردّها، فأجاز المالك

ص: 241

الرجوع.

و يحتمل (1) عدمه، لأنّه رجوع قبل [1] تصرف الآخر، فينفذ، و يلغو الإجازة. و إن جعلناها (2) ناقلة لغت الإجازة قطعا (3).

______________________________

الثاني العقد الفضولي، فعلى القول بكون الإجازة كاشفة لغا رجوع المالك الأوّل، لكشف الإجازة عن صحة العقد حين وقوعه، فلا يبقى مورد للرّد، حيث إنّه رجوع بعد التصرف الملزم.

(1) يعني: و يحتمل عدم كون الرجوع لغوا، لأنّ الرّجوع تحقّق قبل التصرف بالإجازة، فينفذ. و كاشفيّة الإجازة منوطة بصحّتها المفقودة بعد رجوع الأوّل.

و بعبارة أخرى: يعتبر في المجيز أن يكون مالكا لأمر العقد، فإذا عادت العين إلى المالك الأوّل برجوعه كانت إجازة الثاني من إجازة الأجنبي، فتلغو، إذ لا عبرة بإجازته في باب عقد الفضول.

(2) معطوف على «جعلنا» و حاصله: أنّه بناء على كون الإجازة ناقلة لغت الإجازة قطعا، ضرورة أنّ عقد الفضولي لا يؤثّر حقيقة إلّا بعد تماميّته، و المفروض أنّه لا يتمّ إلّا بالإجازة، و أنّ رجوع المالك الأوّل وقع قبل تأثير العقد، فيمنع عن تأثير الإجازة اللاحقة، فلا أثر للإجازة فيه و تقع لغوا، لارتفاع قابلية العقد للتأثير بسبب الرّد.

(3) إذ لا يبقى لها مورد بعد ارتفاع عقد الفضولي بالرجوع عن المعاطاة.

هذا تمام الكلام في فروع الملزم الثالث أعني به التصرف الاعتباري في إحدى العينين أو كلتيهما.

______________________________

[1] هذا خلاف فرض الكشف الحقيقي، لأنّ مقتضى تمامية العقد المؤثّر من حين وقوعه هو ترتب الأثر عليه في أوّل أزمنة وقوعه، و كون الرجوع لغوا، لتحقّقه بعد تأثير العقد. نعم بناء على الكشف غير الحقيقي كان احتمال عدم لغوية الرجوع قويّا.

ص: 242

[الملزم الرابع: مزج إحدى العينين]
اشارة

و لو امتزجت العينان أو إحداهما سقط (1) الرّجوع على القول بالملك،

______________________________

الملزم الرابع: مزج إحدى العينين

(1) هذا شروع في الملزم الرابع و هو امتزاج إحدى العينين أو كلتيهما. و المقصود بالامتزاج هنا ما لا يوجب تبدّل الصورة النوعية و لم يحصل الاستهلاك، و إلّا كان بحكم التلف.

ثم إن المصنف فصّل بين الملك و الإباحة، فرجّح اللزوم بالامتزاج بناء على إفادة المعاطاة للملك، و اختار بقاء جواز التّراد بناء على الإباحة.

و توضيح المقام: أنّ الامتزاج تارة يكون بمال ثالث، و أخرى يكون بمال أحد المتعاطيين. و على التقديرين إمّا أن نقول بالملك في المعاطاة أو بالإباحة، فالصور ست.

الأولى: أن يكون الامتزاج بمال ثالث، و قلنا بإفادة المعاطاة للملك، و حكمها اللزوم لامتناع تراد العينين على الوجه المعتبر و هو الخلوص عن مال الغير.

قال في المسالك: «لو اشتبهت بغيرها أو امتزجت بحيث لا تتميّز، فإن كان بالأجود فكالتلف، و إن كان بالمساوي أو الأردإ احتمل كونه كذلك، لامتناع التراد على الوجه الأوّل. و اختاره جماعة. و يحتمل العدم في الجميع، لأصالة البقاء» «1».

و عن تعليق الإرشاد و الميسيّة: «أنّ ذلك في معنى التلف» «2»، هذا.

الثانية: أن يكون الامتزاج بمال البائع، فيمتنع التّراد أيضا، لعدم إمكان الرجوع بعين ماله، بل يصير المال بسبب الامتزاج مشتركا بين البائع و المشتري.

و إن شئت فقل: إنّ الامتزاج بمنزلة التلف في كونه مانعا عن التراد.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 150

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 157

ص: 243

لامتناع التّراد. و يحتمل (1) الشركة، و هو ضعيف (2).

أمّا على القول بالإباحة (3)

______________________________

و منه يظهر عدم الوجه في الرجوع إلى الكسر المشاع.

الثالثة: أن يكون الامتزاج بمال المشتري، و حكمها أيضا لزوم المعاطاة، لامتناع التّراد، إذ المفروض امتزاج ماله المأخوذ بالمعاطاة بماله الآخر، فالمال كلّه له، و لا يمكنه ردّ المأخوذ بالمعاطاة على وجه بحيث يردّ عين المال إلى البائع. و ردّه بالكسر المشاع مما لا وجه له.

و الحاصل: أنّ الحكم في هذه الصور الثلاث هو لزوم المعاطاة، و عدم جواز الرجوع على القول بالملك، لامتناع التّراد.

(1) معطوف على قوله: «سقط الرجوع» و غرضه بيان احتمال جواز الرجوع، و إنّ الامتزاج ليس بملزم للمعاطاة، بل يوجب الشركة، بأن يقال: أنّه بالرجوع يقدّر ملك الشخص للأجزاء الواقعية من ماله الممتزج بمال غيره، و يحكم بالشركة لأجل الامتزاج، و به يجمع بين دليلي الشّركة و جواز المعاطاة.

(2) وجه ضعفه: أنّ موضوع جواز الرجوع في المعاطاة هو إمكان ترادّ العينين، و بالامتزاج يمتنع ترادّهما، فلا يصح الرجوع حتى يقدّر الملك بعده، ثم يحكم بالشركة.

فالحكم بالشركة متفرّع على الملك، و هو مترتب على الرجوع، و هو مترتب على إمكان التّراد، فبإمتناع التراد يسقط ما يتفرع عليه.

(3) الصور الثلاث المتقدمة كانت مبنيّة على القول بإفادة المعاطاة للملك.

و أمّا الصور الثلاث المترتبة على الإباحة فأولاها: امتزاج العين بمال ثالث.

و حكمها بطلان المعاطاة بمعنى زوال الإباحة، لأنّ موضوع الإباحة لم يبق على ملك المبيح بالاستقلال، لأنّه صار مشتركا بسبب الامتزاج بينه و بين الثالث، و لم يكن المال المشترك موضوعا للإباحة الحاصلة بالمعاطاة. هذا.

و ثانيتها: امتزاج العين بمال المشتري. و حكمها بطلان المعاطاة أيضا، لأنّ

ص: 244

فالأصل بقاء التسلّط (1) على ماله الممتزج بمال الغير، فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج به.

نعم (2) لو كان المزج ملحقا له بالإتلاف جرى عليه حكم التلف.

______________________________

الامتزاج أوجب الشركة القهرية بين المتعاطيين، و لم يكن هذا الملك الجديد الإشاعي موردا لإباحة المالك.

و ثالثتها: امتزاج العين بمال البائع، و حكمها جواز الرجوع كما كان قبل الامتزاج، فإنّ امتزاج ماله بماله الآخر لا يمنع عن بقاء المعاطاة- المفيدة للإباحة- على جوازها.

فالمتحصل: أنّ في الصور الثلاث المبنية على القول بالملك تلزم المعاطاة بالامتزاج المانع عن جواز التراد، و في الصور الثلاث المبنية على القول بالإباحة تبطل المعاطاة في الصورتين الأوليين منها، و تبقى على الجواز في الصورة الثالثة منها.

(1) لبقاء المال على ملك مالكه، و عدم ترتب أثر على المزج إلّا الشركة. و كونه مباحا للغير لا يمنع من حصول الشركة بالمزج. و سلطنة الناس على أموالهم عامّة للملك الاستقلالي و الإشاعي، فيجوز الرجوع على الإباحة.

لكن يمكن أن يقال: إنّ جواز التراد ليس بدليل السلطنة، بل بالإجماع، و المتيقن منه هو جواز ردّ ماله إذا كان متميّزا عن مال غيره، بأن يكون موضوع جواز الرجوع خصوص المال المتميّز عن غيره كما كان ذلك قبل المعاطاة، فلا بدّ حينئذ من القول بالإباحة اللازمة، إذ لا موجب للملك، فتدبّر.

(2) استدراك على قوله: «فالأصل بقاء التسلط .. إلخ» و حاصله: أنّ عدم جواز الرجوع في صورة الامتزاج- بناء على القول بالإباحة- مختصّ بما إذا كان المزج ملحقا للمأخوذ بالمعاطاة بالإتلاف، كالمزج بغير الجنس، نظير خلط مقدار من ماء الورد بالزيت على ما مثّل به المصنف قدّس سرّه في خيار الغبن، فإنّ الرجوع حينئذ يسقط، لكون هذا المزج بمنزلة الإتلاف.

ص: 245

[التصرف غير المغيّر للصورة ملزم للمعاطاة أم لا]

و لو تصرّف (1) في العين تصرّفا مغيّرا للصورة كطحن الحنطة و فصل الثوب، فلا لزوم (2) [1] على القول بالإباحة. و على القول بالملك ففي اللزوم

______________________________

التصرف غير المغيّر للصورة ملزم للمعاطاة أم لا

(1) هذا إشارة إلى أمر آخر قد يعدّ من ملزمات المعاطاة، و هو التصرف الخارجي في إحدى العينين- أو كلتيهما- بما يغيّر صورتها، بحيث لا تبقى العين على ما كانت عليه من الصفات. و مثّل له المصنف بصيرورة الحنطة دقيقا بالطحن، و القماش ثوبا بالفصل و خياطته. و حكم بعدم كون هذا النحو من التصرف ملزما، بلا تفاوت بين القول بالملك و الإباحة، و لكنّه احتمل اللزوم بناء على الملك، للشك في بقاء موضوع الاستصحاب، و سيأتي توضيحه.

(2) لعدم ما يوجب لزوم المعاطاة من التلف و التصرف الناقل، فكلّ من المالين باق على ملك مالكه، فله السلطنة على استرداده، لعدم تبدل طبيعة الحنطة بالطحن، و لا القماش بالفصل و الخياطة.

______________________________

[1] بل يمكن القول باللزوم، لما مرّ من أنّ المتيقّن من الإجماع على جواز الرجوع هو صورة عدم تغير وصف من أوصاف العينين ليمكن ترادّهما على وجههما، و لأنّ تلف الجزء الصوري- و هو الوصف الموجب لتفاوت رغبات الناس مع عدم رجوع المتعاطيين بالمثل و القيمة- يوجب تعيّن الباقي على حاله بدلا عمّا تلف منه جزؤه الصوري، فمقتضى القاعدة اللزوم. كما أنّ مقتضاها اللزوم على القول بالملك، اقتصارا على المتيقن من التخصيص، و هو بقاء العين على أوصافها.

و يمكن استفادة حصول التغيير بمثل فصل الثوب من مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السّلام: «في الرجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد به عيبا؟ قال: إن كان الشي ء قائما بعينه ردّه على صاحبه و أخذ الثمن. و إن كان الثوب قد قطع أو خيط

ص: 246

وجهان مبنيّان على جواز جريان استصحاب جواز التراد (1).

و منشأ الإشكال أنّ الموضوع في الاستصحاب عرفي أو حقيقي (2).

______________________________

(1) فبناء على جريان الاستصحاب يجوز الرجوع، و بناء على عدمه لا يجوز، قال الشهيد الثاني قدّس سرّه: «و إن أوجب- أي التصرف- تغيرا إلى حالة أخرى- كطحن الحنطة و صبغ الثوب- احتمل كونه كذلك، لأصالة بقاء الملك مع بقائه. و لزوم المعاطاة بذلك، و به جزم بعض الأصحاب. لما تقدّم من امتناع التراد بسبب الأثر المتجدّد. و عندي فيه إشكال» «1».

(2) فإن كان عرفيّا جرى الاستصحاب، لأنّ الملكية و الطهارة و النجاسة و نحوها من الأمور الاعتبارية تعرض الذّوات لا العناوين، مثلا إذا تنجّست الحنطة و بعد طحنها شكّ في طهارتها، فاستصحاب النجاسة محكّم مع كون المتنجس هو الحنطة لا الدقيق. لكن موضوع النجاسة لمّا كان بنظر العرف هو الجسم كان استصحاب نجاسته جاريا.

و إن كان حقيقيّا أي دليليّا فلا يجري، لأنّ الدقيق غير الحنطة التي هي موضوع الدليل. و لا ينبغي الارتياب في كونه عرفيّا لا حقيقيّا.

لكن ليس المقام من موارد الاستصحاب، بل من التمسك بعموم دليل اللزوم.

______________________________

أو صبغ رجع بنقصان العيب» «2» حيث إنّه عليه السّلام منع من الرّد بمجرّد التصرف بالصبغ و الخياطة و القطع، و أنّه يتعيّن الأرش لو أراد. و لو لم يكن هذا المقدار من التغيير تصرفا مسقطا للرّد لم يكن وجه لتعيّن الأرش.

و عليه فجعل فصل الثوب من التصرف غير المغيّر للصورة- كما في المتن- لا يخلو من شي ء، فمقتضى الرواية جعله ملزما للمعاطاة.

______________________________

(1): مسالك الافهام، ج 3، ص 150

(2) وسائل الشيعة، ج 12، ص 363، الباب 16 من أبواب الخيار، الحديث: 3

ص: 247

ثم إنّك (1) قد عرفت ممّا ذكرنا (2) أنه ليس جواز الرّجوع في مسألة المعاطاة نظير (3) الفسخ (4) في العقود اللّازمة حتى يورث بالموت (5) و يسقط بالإسقاط

______________________________

(1) الظاهر أنّ الغرض من التنبيه على كون جواز الرجوع في المعاطاة حكما لا حقّا- كما سبق تفصيله في أوّل هذا الأمر السادس- هو التمهيد لبيان ملزم آخر من ملزمات المعاطاة، و هو موت أحد المتعاطيين، و الدليل على ملزميته كون جواز التّراد حكما لاحقا، و من المعلوم أنّ الجواز الحكمي كالجواز في الهبة غير موروث، و ذلك لأنّ ما ينتقل الى الوارث هو «ما تركه الميت من ملك أو حقّ» بحيث لو لم ينتقل الى الوارث بقي بلا محلّ، لوضوح قيام إضافة الملكية بطرفيها من المالك و المملوك، كقيام إضافة الحقّيّة بمن له الحق و من عليه الحق، فلا بد من انتقال الملك و الحق إلى الوارث حتى لا يلزم بقاء المملوك بلا مالك و لا بقاء الحق بلا ذي الحق.

و أمّا جواز المعاطاة و الهبة شرعا فليس شيئا تركه الميّت حتى يورث، بل هو حكم شرعي ثبت لعنوان المتعاطيين و للواهب. و لو فرض ثبوت هذا الجواز للوارث- كما كان للمورّث- فإنّما هو بدليل خاص، لا لأدلة الإرث العامة.

و يتفرّع على كون جواز المعاطاة حكما- لا حقّا- لزومه بموت أحدهما سواء قلنا بالملك أم بالإباحة. أمّا على الملك فتنتقل نفس العين إلى الوارث، لا حكمها و هو جواز التراد الثابت حين حياة المورّث، فتنتهي الملكية الجائزة إلى اللازمة.

و أمّا على الإباحة فلقيام السيرة على عدم التراد بعد موت أحد المتعاطيين، و هي تكشف عن لزوم الإباحة قبل الموت، و انتقال كل من المالين إلى من بيده، هذا.

(2) بقوله: «و لم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتى يستصحب بعد التلف، لأن ذلك الجواز من عوارض العقد لا العوضين ..».

(3) خبر «ليس جواز».

(4) يعني: الفسخ بالخيار في العقود اللّازمة، الذي هو من قبيل الحق لا الحكم.

(5) بمقتضى عموم «ما تركه الميت من مال أو حقّ فهو لوارثه».

ص: 248

ابتداء (1) أو في ضمن المعاملة (2)، بل هو (3) على القول بالملك نظير [1] الرجوع في الهبة. و على القول بالإباحة نظير الرجوع [2] في إباحة الطعام بحيث يناط الحكم فيه بالرّضا الباطني، بحيث لو علم كراهة المالك باطنا لم يجز له التصرف.

[الملزم الخامس: موت أحد المتعاطيين]
اشارة

فلو (4) مات أحد المالكين لم يجز لوارثه الرجوع على القول

______________________________

(1) كإسقاطه بعد العقد.

(2) كأن يقول: بعتك المتاع الفلاني بشرط إسقاط الخيار.

(3) أي: جواز الرجوع في المعاطاة على القول بالملك يكون نظير الرجوع في الهبة في كونه حكما غير قابل للإسقاط، فكما لا يسقط جواز الرجوع في الهبة بالإسقاط فكذلك الرجوع في المعاطاة.

و على القول بالإباحة يكون كالرجوع في إباحة الطعام في إناطة الإباحة بالرّضا الباطني الذي يرتفع بالكراهة. فالفرق بينهما أنّ الرجوع على القول بالملك يتعلّق بمال الغير، و على القول بالإباحة يتعلق بمال نفسه.

الملزم الخامس: موت أحد المتعاطيين

(4) هذا متفرّع على قوله: «أنّه ليس جواز الرجوع في مسألة المعاطاة نظير

______________________________

[1] لعلّ وجه كون الجواز في المعاطاة حكما- كجواز الرجوع في الهبة- هو: أنّ المخرج عن أصالة اللزوم لمّا كان هو الإجماع، فلا بدّ من الأخذ بالمتيقن منه، و هو خصوص المتعاطيين، فلا يثبت لغيرهما من الورثة، كما لا يسقط بالإسقاط للاستصحاب.

[2] هذا صحيح في الإباحة المالكية لا الشرعية، و المفروض أنّ الإباحة في المقام شرعية لا مالكية، فإناطة الإباحة بالرّضا الباطني غير ظاهر، فيحكم ببقاء الإباحة و لو مع رجوع المالك في المعاطاة، بل بعد التصرفات الناقلة منه أيضا، فتدبّر.

ص: 249

بالملك (1) [1] للأصل (2) [2]

______________________________

الفسخ ..» و حاصله: أنّ جواز التراد حكم كجواز الرجوع في الهبة، و ليس حقّا، إذ لو كان حقّا كحقّ الخيار لانتقل إلى الوارث، لكونه «ممّا تركه الميّت» و من المعلوم صيرورة الملك بالموت لازما، فيكون المال للوارث ملكا لازما.

و اعلم أنّ الفرق بين موت أحد المتعاطيين و بين الملزمات المتقدمة هو أنّ منشأ اللزوم فيها كان عروض أمر على إحدى العينين من تلف و تصرّف ناقل و نحوهما. و منشأ اللزوم في هذا الملزم سقوط المتعاطيين عن أهلية التملك مع بقاء العوضين على ما كانا عليه حين التعاطي.

(1) تقييد ملزمية الموت بالملك مشعر ببقاء الجواز بناء على الإباحة، لئلّا يلزم لغوية التقييد بالملك.

(2) أي: استصحاب عدم انتقال الحكم- و هو الجواز- إلى الوارث، و أنّ المنتقل إليه هو المال، و بالانتقال إليه يسقط حقّ الرجوع، نظير سقوطه بانتقال المال بالنواقل الاختيارية الملزمة للمعاطاة.

______________________________

[1] و كذا على القول بالإباحة، لأنّها شرعيّة، و من المعلوم أنّها حكم غير قابل للانتقال، فتسقط بمجرّد انتقال موضوعها إلى الوارث، فينتقل المال إليه بدون إباحته من المباح له، حيث إنّ المتيقن من الإجماع هو ثبوت الإباحة من طرف المبيح لشخص المباح له، و ثبوتها لوارثه مشكوك فيه، فيرجع إلى الاستصحاب القاضي بعدم انتقال الإباحة إلى الوارث، فتبطل المعاطاة رأسا.

نعم بناء على صدق العقد على المعاطاة المفيدة للإباحة يحكم بلزومها بعد موت المبيح كما تقدم في بعض المباحث.

[2] لا يخفى أنّ الرجوع إلى الأصل مبني على عدم ثبوت كون الرجوع حكما.

و أمّا بناء عليه فلا وجه للرجوع إليه، لعدم الشك، ضرورة أنّ من لوازم الحكم عدم

ص: 250

لأنّ (1) [1] من له و إليه الرجوع هو المالك الأصلي.

______________________________

(1) تعليل لقوله: «لم يجز» و حاصله: أنّ وجه عدم انتقال «جواز الرجوع» إلى الوارث هو كون الرجوع متقوّما بنفس المتعاطيين، فلا ينتقل إلى الوارث.

______________________________

الانتقال إلى الوارث، فيسقط جواز الرجوع بموت مالكه الأوّل، و يصير ملكا لازما لمالكه الثاني. هذا على القول بالملك.

و أمّا على الإباحة فينتقل المال الى وارث المبيح بدون الإباحة، لكونها حكما مجعولا للمبيح، و من المعلوم انتفاء الحكم بانعدام موضوعه. و بعد الانتقال إلى الوارث يكون كسائر أمواله، فله السلطنة على الإباحة المالكية كسائر الملّاك، كما أنّ له السلطنة على إيجاد موضوع الإباحة الشرعية أعني به المعاطاة.

و الحاصل: أنّه لا منافاة بين عدم جواز انتقال الرجوع إلى الوارث و بين جواز الإباحة للوارث. وجه عدم المنافاة: أنّ جواز الرجوع من حيث كونه حكما لا ينتقل إلى الوارث، إذ المفروض عدم كونه حقّا، فلا يندرج في: ما تركه الميت.

و بالجملة: انتفاء الموضوع يوجب انتفاء جواز الرجوع قطعا، لأنّه شأن الموضوع و الحكم، فلا يرث الوارث جواز الرجوع من المورّث و إن كان سلطانا على ذلك من باب تسلط كل مالك على ماله.

[1] هذا التعليل يشبه المصادرة، لأنّه بمنزلة أن يقال: إنّ هذا الحق يختص بالمالك الأصلي، لأنّ من له و إليه الرجوع هو المالك الأصلي.

فلعلّ الأولى أن يعلّل الحكم بعدم جواز الإرث بهذا الوجه، و هو: أنّ علّة عدم انتقال جواز الرجوع إلى الوارث هي كون مقتضى القدر المتيقن من الإجماع اختصاص جواز الرجوع بالمتعاطيين و عدم ثبوته لغيرهما، فمع الشك في ثبوته للوارث يرجع إلى أصالة عدم جعله للوارث.

و الحاصل: أنّ الوجه في اختصاص جواز الرجوع بالمتعاطيين و عدم انتقاله إلى

ص: 251

و لا يجري (1) الاستصحاب.

[الفرق بين موت المتعاطيين و جنونهما]

و لو جنّ (2) أحدهما

______________________________

(1) أي: لا يجري استصحاب جواز الرجوع الذي كان ثابتا للمورّث، بأن يقال: إنّ الجواز كان متيقنا حال حياته، و يشك في زواله بالموت فيستصحب، فيبقى الملك متزلزلا على ما كان عليه في حال حياة المتعاطي، فيجوز للوارث الرجوع كما جاز للمورّث.

وجه عدم الجريان: عدم إحراز الموضوع، لاحتمال أن يكون الموضوع عنوان «المالك» المنطبق على الوارث، و أن يكون خصوص المتعاطي. فعلى الأوّل ينتقل إلى الوارث، و يصح جريان الاستصحاب فيه. و على الثاني لا يصح جريانه. و حيث إنّ الموضوع دائر بين ما هو مرتفع قطعا، و بين ما هو باق جزما، فلا يحرز بقاء الموضوع حتى يجري الاستصحاب.

الفرق بين موت المتعاطيين و جنونهما

(2) معطوف على «فلو مات» و مقصوده قدّس سرّه بيان الفارق بين الموت و الجنون بأنّ الأوّل ملزم للمعاطاة، دون الثاني، للفرق بين قيام الوارث مقام مورّثه، و بين قيام الولي مقام المولّى عليه. و بيانه: أنّ الولي بمنزلة الوكيل في كون فعله فعل الغير و مضافا إلى المتعاطي حقيقة، فالولي غير الوارث، لأنّ هذا يثبت له الحق بعنوان المالك و من له الحق، لكون الإرث جهة تعليليّة تقتضي ثبوت الحق لنفس الوارث.

______________________________

الوارث هو قصور الدليل عن إثباته لغيرهما من الوارث.

إلّا أن يقال: إن مقتضى الاستصحاب بقاء الحق و عدم سقوطه بموت المتعاطيين، فيندرج في: ما تركه الميت، فينتقل إلى الوارث.

إلّا أن يستشكل فيه بأنّ الشك في المقتضي.

لكن يجاب عنه بأن الاستصحاب يجري في الشك في المقتضي أيضا.

ص: 252

فالظاهر قيام وليّه مقامه في الرّجوع على القولين (1).

______________________________

بخلاف الولي، فإنّه يأخذ الحق لغيره، فالحقّ ثابت لنفس المتعاطيين، غاية الأمر أنّ أخذه يكون بمباشرة الولي كالوكيل، و لم يثبت اعتبار المباشرة في ثبوت الحق للمتعاطيين، حتى يقال: «إنّ المجنون يسقط حقّ رجوعه، لعدم قدرته على المباشرة» فلا يسقط جواز الرجوع بالجنون، بل لوليّه الرجوع، و من المعلوم أنّ الرجوع مما يقبل الولاية كقبوله للوكالة [1].

و لا يخفى أنّ قيام الولي مقام المتعاطي- الذي عرض عليه الجنون بعد المعاطاة- يجري من أوّل الملزمات إلى آخرها، فلا فرق في عدم لزوم المعاطاة بمجرّد الجنون بين التلف و التصرف الاعتباري و الخارجي و المزج و غيرها ممّا تقدّم من الفروع، فإنّ تحقّق أحد الملزمات عند تصدّي الولي يوجب صيرورة المعاطاة لازمة، و إلّا فهي باقية على جوازها، بلا فرق بين القول بالملك و الإباحة.

(1) أي: الملك و الإباحة، لما عرفت من كون الحق ثابتا لنفس المتعاطيين مع مباشرة الولي.

______________________________

[1] و مما ذكرنا يظهر غموض في تقرير سيدنا الخويي قدّس سرّه من قول المقرر:

«و قد تبيّن لك مما أوضحناه أنّه لو جنّ أحد المتعاطيين لم يجز له الرجوع إلى الآخر، سواء فيه القول بالملك و القول بالإباحة، فإنّ الدليل على جواز المعاطاة إنّما هو الإجماع على تقدير تحققه، و لا نطمئن بوجوده في هذه الصورة، بل يرجع إلى أدلة اللزوم على كلا القولين. و إذن فلا وجه صحيح لما أفاده المصنف من ثبوت حق الرجوع لوليّ المجنون على كلا القولين» «1».

و ذلك لما عرفت من كون الحق ثابتا للمجنون لا للولي حتى يكون الجنون كالموت في كون المتيقن من الإجماع على الجواز هو خصوص المتعاطيين لئلّا يرثه

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 2، ص 217

ص: 253

______________________________

الوارث، و لئلّا ينتقل إلى الولي. ففرق واضح بين الموت و الجنون.

نعم يكون الجنون مثل الموت إذا ثبت اعتبار المباشرة، و عدم قابلية الرجوع للوكالة و الولاية، و أنّ الرجوع في المعاطاة من الأمور غير القابلة لهما، نظير الرجوع في الطلاق الرجعي على ما في وكالة وسيلة سيدنا الفقيه الأصفهاني قدّس سرّه و إن كان فيه تأمّل، لأنّ الرجوع ليس إلّا إبقاء للزوجية. و لا فرق في نظر العقلاء بين إبقائها و إحداثها في قابلية كلّ منهما للوكالة. فيصح أن يقول الوكيل: «بوكالتي عن فلان أرجعت فلانة إلى زوجيّتها له» «1».

فالظاهر- بعد عدم منع شرعي عن هذه الوكالة- جواز التوكيل في الرجوع القولي، و قد ثبت في محله إطلاق أدلة الوكالة في كلّ أمر يكون عرفا قابلا للتفويض إلى الغير، و لم يرد دليل شرعي على اعتبار المباشرة فيه كالرجوع الفعلي في الطلاق الرجعي.

إلّا أن يقال: إنّ نفس التوكيل في الرجوع رجوع عرفا، و معه لا يبقى موضوع للوكالة، فتأمّل.

______________________________

(1): وسيلة النجاة، ج 2، ص 150

ص: 254

[التنبيه السابع: المعاطاة بعد اللزوم بيع أو معاوضة مستقلة]

السابع (1): أن الشهيد الثاني ذكر في المسالك وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف أو معاوضة مستقلّة، قال (2): «يحتمل الأول، لأنّ (3) [1]

______________________________

التنبيه السابع: المعاطاة بعد اللزوم بيع أو معاوضة مستقلة

(1) الغرض من عقد هذا التنبيه هو البحث عن إمكان فسخ المعاطاة بالخيار و الإقالة بعد طروء أحد الملزمات عليها و عدمه. و مورد الكلام هو المعاطاة المقصود بها الملك سواء أفادت الملك الجائز أم الإباحة، فإذا صارت لازمة بما تقدم في التنبيه السادس- من التلف و النقل بالعقد الجائز أو اللازم، و المزج و نحوها- يبحث عن قبولها للفسخ بالخيارات المعهودة من العيب و الغبن و تخلف الوصف و غيرها، و تجري فيها الإقالة، أو أنّها لا تقبل الفسخ أصلا؟ و ابتدأ المصنف بنقل كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه، ثمّ علّق عليه، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(2) قال في المسالك: «الثامن: على تقدير لزومها بأحد الوجوه المذكورة، فهل تصير بيعا أو معاوضة برأسها؟ يحتمل الأوّل .. إلخ».

(3) حاصله: أنّ حصر المعاوضات في الأمور المعهودة و عدم كون المعاطاة منها يقتضي اندراجها في البيع، و لا دليل على كونها معاوضة مستقلة في قبال المعاوضات المعهودة.

______________________________

[1] لا يخفى ما في هذا التعليل، ضرورة أنّ حصر المعاوضات- التي منها البيع-

ص: 255

المعاوضات محصورة، و ليست إحداها. و كونها معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل. و يحتمل الثاني، لإطباقهم (1) على أنّها ليست بيعا حال وقوعها، فكيف تصير بيعا بعد التلف (2)؟

______________________________

(1) حاصله: أنّ إطباقهم على عدم كون المعاطاة بيعا حين وقوعها يدلّ على كونها معاوضة مستقلة، إذ لا معنى لكون التلف موجبا لصيرورتها بيعا، فلا مقتضي لكونها بيعا.

(2) يعني: بعد البناء على عدم بيعيّتها حين وقوعها كيف تصير بالتلف بيعا؟

إلّا أن يقال: إنّ المنفي هو البيع الشرعي، لا العرفي المتقوم بقصد المبادلة بين المالين الموجود هنا، لأنّ المفروض قصد المتعاطيين للتمليك، فالمراد عدم شمول دليل

______________________________

في الأمور المعهودة- و عدم كون المعاطاة منها- يقتضي ضدّ المقصود و هو عدم بيعيّتها.

و إن أراد من المعاوضات غير البيع، فلا يقتضي نفيها عن المعاطاة ثبوت بيعيتها، لأنّ نفي الدليل على كونها من المعاوضات غير البيع لا يدلّ على كونها بيعا، بل بيعيّتها منوطة بصدق مفهومه عليها عرفا، فإن لم يصدق عليها فلا دليل على بيعيّتها. بل مقتضى الإجماع المدّعى على عدم بيعيتها قبل التلف هو عدم صيرورتها بعد التلف بيعا بالاستصحاب.

إلّا أن يقال: إنّ مفهوم البيع صادق عليها، غاية الأمر أنّ دليل حلّية البيع خصّص بالإجماع قبل التلف، و صارت المعاطاة مفيدة للإباحة مع كونها بيعا عرفا. لكن المتيقّن من الإجماع لمّا كان هو إفادة المعاطاة للإباحة قبل التلف فيرجع بعده إلى عموم دليل لزوم البيع، فالمراد بصيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا هو ترتب الأثر- أعني به الملكية- بعده، فالمعاطاة بيع، غاية الأمر أنّ الإجماع قام على عدم ترتب الأثر الملكي عليها إلّا بعد التلف.

و بهذا التقريب يظهر وجه اندفاع التعجب المستفاد من قوله قدّس سرّه: فكيف يصير بيعا بعد التلف؟

ص: 256

و تظهر الفائدة في ترتب الأحكام المختصة بالبيع عليها كخيار الحيوان لو كان التالف الثمن (1) أو بعضه (2).

و على تقدير ثبوته (3)

______________________________

نفوذ البيع للمعاطاة، للإجماع، لكنه بعد التلف لا إجماع، فيتشبّث بأدلة صحة البيع.

و بالجملة: فإن أريد بقولهم: «ليست بيعا حال وقوعها» نفي البيع الشرعي فلا بأس به. و إن أريد به نفي البيع العرفي فلا إشكال في فساده، لأنّ الحاكم بثبوت البيع و نفيه حينئذ هو العرف، و من المعلوم عدم ارتيابهم في صدق مفهوم البيع العرفي عليها.

(1) أمّا التقييد بالتلف فلأنّ المفروض جعل موضوع البحث- في ثبوت الخيارات- المعاطاة التي صارت لازمة بأحد ملزماتها التي منها التلف، و أمّا التقييد بكون التالف الثمن أو بعضه دون المثمن- أعني: الحيوان- فوجهه: أنّه يلزم من فرض وجود الخيار عدمه، و ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

توضيحه: أنّ المفروض كون المعاطاة اللازمة بسبب التلف موضوعا للخيار، و من المعلوم توقف الخيار كغيره من الأحكام على وجود موضوعه. و قد قرر في محلّه انحلال البيع و انفساخه بتلف المبيع في زمن الخيار، لقاعدة «كل مبيع تلف في زمن الخيار فهو ممّن لا خيار له».

و على هذا فالتلف الذي هو سبب و علّة للخيار موجب لانعدام موضوع الخيار. و هذا محال، ففرض ثبوت الخيار في المعاطاة بعد لزومها لا بدّ أن يكون بغير تلف المبيع.

(2) بناء على ما تقدم من كون تلف بعض أحد العوضين ملزما كتلف تمام أحد العوضين.

(3) أي: ثبوت الخيار بأن نختار بيعيّة المعاطاة.

ص: 257

فهل الثلاثة (1) من حين المعاطاة أو [1] من حين اللزوم؟ كلّ (2) محتمل.

و يشكل الأوّل (3) بقولهم: إنّها ليست بيعا، و الثاني (4) بأنّ التصرف ليس معاوضة بنفسها.

______________________________

(1) أي: الأيام الثلاثة في خيار الحيوان، فإنّ مبدء الخيار هل هو حين وقوع المعاطاة أم حين اللزوم؟

(2) أي: كل واحد من كون مبدء زمان الخيار حين وقوع المعاطاة أو حين لزومها. منشأ الاحتمال الأوّل هو احتمال كون موضوع الخيار مطلق البيع العرفي الفعلي سواء أ كان شرعيا بالفعل أم بالشأن.

و منشأ الثاني هو احتمال كون موضوعه البيع الفعلي عرفا و شرعا.

(3) أي: الوجه الأوّل، و هو صيرورة المعاطاة بيعا بعد التلف، و وجه الإشكال هو تصريحهم بعدم كون المعاطاة بيعا، فإنّه ينافي احتمال بيعيّتها.

(4) يعني: و يشكل الوجه الثاني و هو كون المعاطاة معاوضة مستقلة.

و محصّل وجه الإشكال: أنّ التصرف أو التلف أو غيرهما من ملزمات المعاطاة لا تجعل المعاطاة معاوضة بنفسها بحيث تكون أجنبية عن البيع، حتى لا يدخل فيها الخيارات المختصة بالبيع.

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا الترديد خلاف ما فرضه من كون المعاطاة بيعا بعد التلف.

توضيحه: أنّه- بعد البناء على توقف المعاطاة على بيعيتها المنوطة بلزوم المعاطاة بالتلف. و بعد البناء على إطباقهم على عدم بيعيّتها حين وقوعها- لا بدّ من الالتزام بكون مبدء ثلاثة الحيوان حين التلف الذي هو زمان لزوم المعاطاة و حصول بيعيّتها، فلا مجال للترديد في كون مبدء الخيار حين الوقوع أو اللّزوم.

ص: 258

اللهم (1) إلّا أن تجعل المعاطاة جزء السبب و التلف تمامه (2).

و الأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا (3) بناء [1] على أنّها ليست لازمة.

و إنّما يتمّ على قول المفيد (4) و من تبعه.

أمّا خيار العيب و الغبن (5) فيثبتان على التقديرين.

______________________________

(1) غرضه تصحيح كونها معاوضة مستقلّة بأن تكون المعاطاة جزء سبب المعاوضة، و يكون التلف متمّم السبب، فيصح أن تعدّ المعاطاة حينئذ معاوضة مستقلة.

(2) أي: تمام السبب، فيكون التلف كالقبض في بيعي الصرف و السّلم في متمّميّته للعقد.

(3) أي: في المعاطاة بناء على عدم لزومها، استنادا إلى كون موضوع الخيار هو العقد اللازم، فالمعاطاة المبنية على الجواز ليست موضوعا للخيار.

(4) بناء على ظهور كلامه في كون المعاطاة بيعا لازما. و قد تقدّم البحث عنه في نقل أقوال الأصحاب في المعاطاة، فراجع. «1»

(5) يحتمل أن يكون هذه الفقرة في قبال خيار الحيوان المختص بالبيع، فالمراد حينئذ بقوله: «على التقديرين» هو صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة.

______________________________

[1] هذا الابتناء ممنوع، لأنّ دعوى انحصار موضوع الخيار بالعقد اللازم تقييد في إطلاق أدلة الخيار بلا مقيّد. و قد تقدّم في بعض المباحث عدم التهافت بين جواز العقد و ثبوت الخيار، كما يأتي عدم التنافي بين الخيارين الثابتين في عقد واحد إن شاء اللّه تعالى.

نعم يختص دليل خيار الحيوان بالبيع كدليل خيار المجلس، فثبوتهما، في المقام منوط بصدق البيع على المعاطاة من دون فرق بينهما.

______________________________

(1): هدى الطالب، ج 1، ص 328 و 563

ص: 259

..........

______________________________

و محصل المرام على هذا هو: أنّه تظهر الثمرة بين الاحتمالين في الأحكام المختصة بالبيع كخيار الحيوان. فبناء على صيرورتها بيعا بعد التلف يثبت فيها خيار الحيوان، و بناء على كونها معاوضة مستقلة لا يثبت فيها ذلك.

و أمّا الأحكام غير المختصة بالبيع كخيار العيب و الغبن فلا تظهر الثمرة فيها، لثبوتها على كلا الاحتمالين، حيث إنّ مقتضى عموم أدلّتها عدم الاختصاص بالبيع، فتثبت للمعاطاة على كلا التقديرين، و هما صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة، هذا.

و يحتمل أن تكون راجعة إلى قوله: «و الأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا .. إلخ» و المراد حينئذ بقوله: «على التقديرين» هو لزوم المعاطاة قبل التلف كما هو المحكي عن المفيد قدّس سرّه، و عدم لزومها قبله كما هو قول غيره. أمّا وجه ثبوتهما في المعاطاة على التقديرين هو عموم دليلهما الشامل للمعاطاة اللّازمة و الجائزة.

______________________________

و مما يدلّ على عدم التقييد بلزوم البيع في ثبوت خيار العيب رواية جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السّلام: «في الرجل يشتري الثوب أو المتاع، فيجد فيه عيبا، فقال: إن كان الشي ء قائما بعينه ردّه على صاحبه، و أخذ الثمن. و إن كان الثوب قد قطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب» و مثلها غيرها.

و مما يدل على الثاني رواية ميسّر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال غبن المؤمن حرام» و رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث: «ان رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا ضرر و لا ضرار».

و عن المسالك: «المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين منهم ثبوت خيار الغبن». و نقل عن الدروس القول بعدمه، و الأخبار خالية عنه.

نعم ورد في تلقي الركبان تخييرهم إذا غبنوا. و استدلّوا عليه أيضا بخبر الضرار.

و عن التذكرة ظهور عدم الخلاف فيه بين علمائنا.

ص: 260

كما أنّ خيار المجلس منتف (1)» انتهى «1».

______________________________

(1) ظاهره الجزم بانتفاء خيار المجلس على كلا التقديرين، و هما: كون المعاطاة معاوضة مستقلة، أو صيرورتها بيعا. و الوجه فيه: أنّ خيار المجلس مختص بالبيع الذي يكون مبنيّا على اللزوم لو لا هذا الخيار.

و ليس المراد بالتقديرين لزوم المعاطاة كما عن المفيد، و جوازها كما عن المشهور، لوضوح عدم المناسبة حينئذ مع اللزوم، إذ على مذهب المفيد قدّس سرّه يثبت خيار المجلس في المعاطاة قطعا، لكونه كالبيع بالصيغة مفيدا للملك اللازم من أوّل الأمر. مضافا إلى: أنّ المناسب أن يقول: «على القولين» لا التقديرين.

______________________________

و كيف كان فالقول بثبوته قوي جدّا، و اللّه العالم.

و قد ظهر من جميع ذلك خلوّ أدلة خيار الغبن عن اعتبار لزوم البيع لولاه، فلو شكّ في اعتبار في ثبوت خيار الغبن فإطلاق أدلته ينفيه، فلاحظ و تدبّر.

و محصل ما يمكن أن يقال في المقام: إنّ الخيار المتصور في العقود على ثلاثة أقسام.

الأوّل: أن يكون ثبوته بالجعل و الاشتراط، كاشتراط فعل على أحد المتعاقدين، أو صفة في أحد العوضين، فإنّ مرجع الاشتراط حينئذ إلى سلطنة المشروط له على فسخ العقد مع تخلف الوصف أو الشرط، و ليس هذا إلّا معنى الخيار عند التخلف، فاللزوم منوط بوجود ذلك الفعل أو الوصف، إذ لو كان المعلّق نفس العقد بحيث توقف أصل العقد عليهما بطل إجماعا، لكونه من التعليق في العقود، فلا محالة يكون الموقوف على الفعل أو الوصف لزوم العقد لا نفس العقد، هذا.

الثاني: أن يكون الخيار للشرط الضمني كاعتبار السلامة في العوضين، و التساوي بينهما في المالية، فإنّ كلّا منهما شرط في المعاوضة بمقتضى بناء العقلاء على ذلك. فهذا

______________________________

(1): مسالك الافهام، ج 3، ص 151

ص: 261

______________________________

شرط ضمني ارتكازي عقلائي، و تخلفه يوجب الخيار، هذا.

الثالث: أن يكون الخيار للدليل الشرعي المسمّى بالخيار المنجعل، فإنّ الخيار يثبت تعبّدا لعنوان البيع، بحيث يكون الموضوع في أدلة الخيار نفس عنوان البيع، كخياري المجلس و الحيوان، من دون أن يكون ذلك لشرط ضمني أو ارتكازي عقلائي، كما لا يخفى.

لا ينبغي الإشكال في جريان القسمين الأوّلين من الخيار في المعاطاة بناء على إفادتها الملك الجائز و إن لم تكن بيعا، بل معاوضة مستقلة، إذ المفروض عدم اختصاصهما بالبيع، حيث إنّ دليلهما لا يختص به، فجريان هذين القسمين من الخيار لا يتوقف على كون المعاطاة بيعا.

و المناقشة في جريان الخيار في المعاطاة تارة بلغوية جعل الخيار، لكونه تحصيلا للحاصل، حيث إنّ المعاطاة بذاتها جائزة، و لا معنى لجعل الخيار فيها، و هذا إشكال عام لجميع الخيارات، كما أنّ الاشكال الآتي يختص بخياري المجلس و الحيوان.

و أخرى في خصوص خيار المجلس و الحيوان بما حاصله: أنّ أدلتهما ظاهرة في كون موضوعهما خصوص البيع المبني على اللزوم لو لا الخياران المزبوران، لا كلّ ما يصدق عليه البيع، و من المعلوم أنّ المعاطاة المفيدة للملك الجائز جائزة بطبعها الأوّلي.

مندفعة.

أمّا الأولى- التي مرجعها إلى الامتناع الذي هو إشكال ثبوتيّ- فبما تقدم في التنبيه الأوّل، و حاصله: أنّه لا مانع من جعل الخيار في المعاطاة المبنية على الجواز، و ذلك لأنّ جوازها إمّا حقّي و إمّا حكمي كجواز الهبة، و على التقديرين، إمّا يكون متعلق الجواز نفس العقد، و إمّا يكون العين المأخوذة بالمعاطاة، فالصور أربع:

الاولى: أن يكون جواز المعاطاة حقّيا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به.

و لا ينبغي الإشكال حينئذ في شمول أدلة الخيارات للمعاطاة، إذ لا مانع من اجتماع

ص: 262

______________________________

الجوازين، فإذا كان المتعاطيان في مجلس المعاملة كان جواز المعاطاة ثابتا لهما، فإذا تلفت العينان أو إحداهما قبل الافتراق سقط جواز المعاطاة، و بقي خيار المجلس. كما أنّه إذا افترقا قبل تلفهما أو إحداهما سقط خيار المجلس و بقي جواز المعاطاة، كما هو واضح.

الثانية: أن يكون جواز المعاطاة حقّيّا متعلّقا بالعين. و الحكم في هذه الصورة أوضح من سابقتها، لمغايرة متعلق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار، حيث إنّ متعلق جواز المعاطاة هو العين، و متعلق الخيار هو العقد.

الثالثة: أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بنفس العقد كتعلق الخيار به.

و قد يتوهم اللّغويّة هنا، إذ المفروض اجتماع الجوازين على موضوع واحد و هو العقد، فجعل الخيار مع جواز المعاطاة طبعا تحصيل للحاصل.

لكن هذا التوهم فاسد، لأنّ اللغوية إنّما تلزم إذا لم يمكن انفكاك أحد الخيارين عن الآخر، و المفروض خلافه، لما عرفت في الصورة الاولى من انفكاكهما، و أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، لاجتماعهما مع وجود العينين قبل التفرق عن المجلس، و سقوط جواز المعاطاة و بقاء خيار المجلس، إذا تلفت العينان أو إحداهما قبل التفرق، و بقاء جواز المعاطاة و سقوط خيار المجلس كما إذا تفرّقا عن المجلس و كانت العينان باقيتين.

الرابعة: أن يكون جواز المعاطاة حكميّا متعلّقا بالعين، و الحكم هنا أوضح من سابقتها، لتغاير متعلّق جواز المعاطاة لمتعلق الخيار المصطلح.

و بالجملة: فلا مانع ثبوتا و إثباتا من جريان جميع الخيارات في المعاطاة بناء على كونها بيعا جائزا.

و أمّا الثانية الراجعة إلى الإشكال الإثباتي- المختص بخياري المجلس و الحيوان الذي مرجعه الى قصور الدليل- فبما تقدّم أيضا في الأمر الأوّل من: أنّ المعاطاة كالبيع اللفظي مبنيّة- بحسب قصد المتعاطيين- على اللزوم، غاية الأمر أنّه قام الدليل من

ص: 263

و الظاهر أنّ هذا (1) تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة. و أمّا على القول بكونها مفيدة للملك المتزلزل، فيلغى [فلا ينبغي] الكلام في كونها

______________________________

(1) أي: صيرورة المعاطاة بيعا أو معاوضة مستقلة، فإنّ الظاهر تفريعهما على

______________________________

الخارج على أنّ لزومها يكون بالتصرف و نحوه من الملزمات.

و الحاصل: أنّ الجواز العرضي لا ينافي اللزوم الذاتي.

فالمتحصل: مما ذكرنا جريان الخيارات مطلقا حتى خياري المجلس و الحيوان في المعاطاة المقصود بها التمليك المفيدة للملك الجائز من دون توهم مانع ثبوتي في كل خيار، و لا إثباتي في خصوص خياري المجلس و الحيوان.

و أمّا المعاطاة المقصود بها التمليك- على القول بإفادتها للإباحة- فإن أريد بالخيار ردّ العين إلى ملك مالكها الأوّل فلا يثبت فيها، لأنّ العين لم تخرج من ملك مالكها حتى يثبت له حقّ استردادها. و إن أريد به سلطنة حلّ العقد و فسخه فلا يبعد ثبوته هنا، لكون المعاطاة على هذا القول أيضا بيعا عرفا و شرعا، غاية الأمر أنّ الشارع أناط تأثيرها في الملكية بطروء أحد الملزمات، نظير إناطة الملكية في الصرف و السلم بالقبض، ففسخ المعاطاة حينئذ يوجب انتفاء الموضوع أعني به العقد، فتسقط المعاطاة عن قابلية التأثير في الملكية.

و بالجملة: فالخيار بمعنى السلطنة على حلّ العقد و فسخه جار في المعاطاة المقصود بها الملك مع إفادتها شرعا للإباحة، لكونها بيعا عرفا و شرعا، غاية الأمر أنّ فعليّة تأثيرها شرعا في الملكية منوطة بطروء أحد الملزمات. و لا يقدح ذلك في صدق البيع الذي هو موضوع أدلة الخيارات، فلكل واحد من المتعاطيين رفع قابلية المعاطاة للتأثير في الملكية بالفسخ.

فتلخص من جميع ما ذكرناه: جريان جميع الخيارات في المعاطاة المقصود بها الملك المفيدة للملك المتزلزل أو الإباحة، من دون إشكال ثبوتي و لا إثباتي في ذلك.

ص: 264

معاوضة مستقلة أو بيعا متزلزلا قبل اللزوم حتى يتبعه حكمها بعد اللزوم، إذ (1) الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع، بلا إشكال في ذلك (2) عندهم على ما تقدّم من المحقق الثاني «1»، فإذا (3) لزم صار بيعا لازما، فيلحقه أحكام البيع (4) عدا ما أستفيد من دليله ثبوته للبيع العقدي الذي مبناه على اللزوم لو لا الخيار (5).

______________________________

القول بالإباحة في المعاطاة، إذ على القول بإفادة المعاطاة للملك المتزلزل يلغو الترديد بين كونها بيعا أو معاوضة، إذ الظاهر أنّ القائلين بإفادتها للملك المتزلزل جازمون بكونها بيعا على ما تقدّم في كلام المحقق الثاني، فإذا لزمت المعاطاة حينئذ بأحد ملزماتها صارت بيعا لازما.

(1) تعليل لقوله: «فيلغى الكلام» و حاصله: أنّ وجه اللّغوية هو عدم الإشكال عند القائلين بكون المعاطاة مفيدة للملك في كونها بيعا. و عليه فالترديد بين كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة لغو.

و لا يخفى أنّ في بعض النسخ المطبوعة «فينبغي الكلام في كونها معاوضة ..»

و لكنه سهو قطعا، لمنافاته مع تعليل المصنف بقوله: «إذ الظاهر» فإنّه تعليل لبيعية المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل، و لا يبقى موضوع للترديد بين البيعية و المعاوضة المستقلة حتى يبقى مجال للبحث فيه.

و كتب سيدنا الأستاذ النوري قدّس سرّه في هامش نسخته: «الظاهر أن يقال:

فلا ينبغي الكلام».

(2) أي: في كون المعاطاة بيعا عند القائلين بالملك.

(3) هذا نظر المصنف و ليس تتمة لكلام المحقق الثاني.

(4) من الخيارات التي تثبت للبيع اللازم من غير جهة الخيار، إذ المفروض لزومها من جهة الملزمات، فهي لازمة لو لا الخيار.

(5) فلا يثبت شي ء من تلك الخيارات في المعاطاة، لعدم كونها حينئذ من العقد

______________________________

(1): تقدم كلامه في التنبيه الأوّل في ص 8

ص: 265

و قد تقدّم (1) أنّ الجواز هنا لا يراد به ثبوت الخيار.

و كيف كان (2) فالأقوى أنّها على القول بالإباحة بيع عرفي لم يصحّحه

______________________________

المبني على اللزوم لو لا الخيار، إذ المعاطاة عقد مبني على الجواز و التزلزل.

(1) أي: في أوائل التنبيه السادس، حيث قال: «و لم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري ..، فإنّ الجواز فيه بمعنى جواز الرجوع .. إلخ».

و قد تقدم نظيره في أواخر التنبيه السادس أيضا، فراجع.

ثم إنّ هذا دفع توهم، و هو: أنّ المعاطاة أيضا على القول بالملك بيع مبني على اللزوم لو لا الخيار المعبّر عنه بجواز الرجوع.

و حاصل دفعه: أنّ الجواز في المعاطاة ليس بمعنى الخيار الذي هو حق، بل هو جواز حكمي أجنبي عن الخيار، فلا يثبت الخيار المذكور في المعاطاة.

(2) يعني: سواء أ كان جواز الرجوع في المعاطاة حكما كما في الهبة أم حقّا كما في الخيار. أو سواء أ كانت المعاطاة المفيدة للملك الجائز بيعا أم معاوضة مستقلة.

و كيف كان فظاهر العبارة منع ما أفاده الشهيد الثاني قدّس سرّه من ابتناء الترديد- في حكم المعاطاة من كونها بيعا أو معاوضة مستقلة- على القول بالإباحة على ما استظهره المصنف قدّس سرّه بقوله قبل أسطر: «و الظاهر أن هذا تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة».

وجه المنع ما تقدم مرارا من أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفي سواء أفادت الملك المتزلزل أم الإباحة، فالمفيدة للإباحة الشرعية بيع أيضا و إن كان فاسدا لا يترتب عليه أثره المقصود إلّا بطروء أحد الملزمات، نظير توقف الملك في بيع الصّرف و السّلم على القبض. و على هذا لا بدّ من ترتيب أحكام البيع اللفظي على المعاطاة المفيدة للإباحة، عدا الحكم المختص بالبيع المنعقد صحيحا أي مفيدا للملك اللازم بحسب طبعه، فإنّه لا يثبت في المعاطاة، لفرض إفادتها الإباحة بحكم

ص: 266

الشارع و لم يمضه إلّا بعد تلف إحدى العينين أو ما في حكمه (1). و بعد التلف يترتب عليه أحكام البيع عدا ما اختصّ دليله بالبيع الواقع صحيحا من أوّل الأمر (2).

______________________________

الشارع.

و لا يخفى أنّ ترتب أحكام البيع على المعاطاة المبيحة- بعد طروء الملزم- هو الذي احتمله الشهيد الثاني قدّس سرّه في آخر كلامه بقوله: «اللهم إلّا أن تجعل المعاطاة جزء السبب و التلف تمامه» بأن يكون التعاطي مقتضيا للملكية- و إن لم تترتب عليه من أوّل الأمر- و يتوقف فعلية التأثير على حصول الشرط و هو طروء الملزم.

(1) كالتصرف الاعتباري، و المزج و نحوهما من الملزمات.

(2) يعني: لا بعد التلف. و غرضه من ذلك أنّ البيع العرفي على قسمين:

أحدهما: ما هو حكم لخصوص البيع الواقع صحيحا شرعيا من أوّل الأمر كالصيغة الخاصة، أو مطلق الصيغة على الخلاف.

و الآخر: ما هو حكم لمطلق البيع العرفي، نظرا إلى عدم انفهام الاختصاص من دليل ذلك الحكم، كالعلم بالعوضين و ثبوت الخيارات كلّا أو بعضا، على الخلاف في أنّ المستفاد من أدلّتها هو الإطلاق، أو المستفاد من أدلة بعضها الإطلاق كخيار العيب المستند إلى حديث نفي الضرر، فإنّ دليله لا يختص بالبيع العرفي الواقع صحيحا من أوّل الأمر.

و الحاصل: أنّ المراد بالبيع الصحيح من أوّل الأمر هو البيع العرفي الذي يترتب عليه الحكم الشرعي من زمان وقوعه، و المراد من مقابله هو عدم ترتب الأثر الشرعي عليه إلّا بعد طروء أحد ملزمات المعاطاة، فهما مشتركان في كونهما بيعا عرفيّا، و مفترقان في كون أحدهما موضوعا للأثر الشرعي من حين وقوعه، و الآخر من حين طروء أحد الملزمات.

ص: 267

و المحكي (1) «1» عن حواشي الشهيد «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة

______________________________

(1) الظاهر أنّ غرض المصنف قدّس سرّه من نقل كلام الشهيد الأوّل ثم توجيهه دفع ما يرد على قوله: «إذ الظاهر أنه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» و توضيح المطلب: أنّ المصنف جعل مصبّ ترديد الشهيد الثاني في المسالك «من صيرورة المعاطاة بعد التلف بيعا أو معاوضة مستقلة» المعاطاة المقصود بها الإباحة، دون المعاطاة المقصود بها الملك. و علّل ذلك بأنّ المعاطاة المفيدة للملك المتزلزل بيع عند القائلين به كما صرّح به المحقق الثاني قدّس سرّه، فلا يبقى وجه لأن يتردّد الشهيد الثاني في كونها بيعا أو معاوضة مستقلّة، و عليه لا بد أن يكون غرض المسالك الترديد في حكم المعاطاة بناء على مشهور القدماء من الإباحة التعبدية، هذا.

لكن قد ينافي هذا الحمل تصريح الشهيد في حواشي القواعد من «أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة أو لازمه» وجه المنافاة: أنّها لو كانت بيعا عندهم لم يبق مجال للجزم بكونها معاوضة مستقلة، فهذا الجزم شاهد على عدم تسالمهم على بيعيّتها، فتختلّ دعوى المصنف «إذ الظاهر أنّه عند القائلين بالملك المتزلزل بيع بلا إشكال» بل هي إمّا معاوضة مستقلة بلا إشكال كما ادّعاه الشهيد، و إمّا هي بيع على إشكال.

و يترتب على هذا التنافي: إمكان الأخذ بإطلاق كلام المسالك من أنّ الترديد بين البيع و المعاوضة المستقلة جار على كلّ من الملك و الإباحة، و لا وجه لتخصيصه بالإباحة كما ادّعاه المصنف بقوله: «و الظاهر أنّ هذا تفريع على القول بالإباحة»، هذا.

و قد تخلّص المصنف عن هذا الإشكال بمنع التنافي، و ذلك لأنّ جزم الشهيد قدّس سرّه بكونها معاوضة مستقلة مبني على مسلكه في المعاطاة من كونها مفيدة لإباحة التصرف غير المتوقف على الملك، بشهادة منعه عن إخراج المأخوذ بها في خمس و هدي و نحوهما مما يناط شرعا بالملك.

______________________________

(1): الحاكي هو السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 158

ص: 268

أو (1) لازمة» و الظاهر (2) أنّه أراد التفريع على مذهبه من الإباحة. و كونها (3) معاوضة قبل اللزوم من جهة كون كلّ من العينين مباحا عوضا عن الأخرى.

لكن (4) لزوم هذه المعاوضة لا يقتضي حدوث الملك كما لا يخفى، فلا بدّ أن

______________________________

و على هذا فكونها معاوضة مستقلّة ليس على حدّ سائر العقود المعاوضية الناقلة للأملاك كالبيع القولي و الصلح و القرض و نحوها. بل مراده بالمعاوضة هو التعاوض في الإباحة، لوضوح أنّ الإباحة قد تكون بلا عوض كما في أكل المارّة، و قد تكون مع العوض، و المعاطاة عند المشهور تكون من القسم الثاني. فإطلاق المعاوضة عليها بهذا اللحاظ، لا بلحاظ المبادلة في إضافة الملكية.

فتحصّل: أنّ جزم الشهيد قدّس سرّه بالمعاوضة المستقلة ليس منافيا لما نسبه المصنف إلى القائلين بالملك المتزلزل من التصريح ببيعيّتها.

هذا توضيح توجيه كلام الشهيد، و للمصنف إشكال عليه سيأتي بيانه.

(1) حرف العطف هنا للتنويع لا للترديد، يعني الجواز قبل الملزم، و اللزوم بعده.

(2) هذا توجيه المصنف لكلام الشهيد، و قد أوضحناه بقولنا: «و قد تخلص المصنف عن هذا الاشكال بمنع التنافي». و عليه فالغرض إخراج الشهيد عن مخالفة القائلين ببيعية المعاطاة المفيدة للملك الجائز، إذ لو كان مقصوده من المعاوضة المستقلّة المبادلة في الملكية كان مخالفا لهم، و لكن حيث إنّ مختار الشهيد في المعاطاة معلوم و هو الإباحة الخاصة، فمراده من المعاوضة ليس المبادلة في الملكية.

(3) دفع لما يتوهم من أنّ جعل مورد كلام الشهيد المعاطاة المفيدة للإباحة ينافي جعلها معاوضة لازمة أو جائزة، إذ لا تكون المعاطاة حينئذ من المعاوضات.

و محصل دفعه هو: إنّ إطلاق المعاوضة عليها إنّما هو باعتبار كون كلّ من العينين مباحا عن الأخرى.

(4) إشارة إلى إشكال على القول بالإباحة، و هو: أنّه بناء على كون المعاطاة

ص: 269

يقول بالإباحة اللّازمة، فافهم (1).

______________________________

مفيدة للإباحة لا وجه لصيرورتها مملّكة بأحد الملزمات، إذ لا يوجب طروء الملزم حدوث الملكية اللازمة، بل لا يقتضي عروضه إلّا لزوم المعاطاة، فإن كانت مفيدة للملك صارت لازمة بمعنى صيرورة الملك لازما، و إن كانت مفيدة للإباحة صارت الإباحة لازمة بمعنى عدم جواز حلّ الإباحة الشرعية.

و قيل: إنّه لم يظهر من الشهيد قدّس سرّه، خلاف ذلك، فالتزامه بصيرورة الإباحة لازمة غير بعيد.

(1) لعلّه إشارة إلى: عدم إباء كلام الشهيد عن كون الإباحة لازمة.

أو إلى: أنّ احتمال لزوم المعاطاة المفيدة للإباحة المنافي للإجماع على جوازها مندفع بأنّه مبني على أن يكون قول الشهيد: «جائزة أو لازمة» للترديد. و أمّا إذا كان للتنويع فلا يلزم إشكال أصلا، لأنّ المعاطاة على هذا تارة تكون لازمة، و أخرى جائزة، يعني: أنّ المعاطاة جائزة قبل عروض الملزم و لازمة بعده.

ص: 270

[التنبيه الثامن: إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة]

الثامن (1): لا إشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة- التي هي معركة الآراء بين الخاصة و العامة- بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل و هو قبض العينين.

______________________________

التنبيه الثامن: إلحاق الصيغة الملحونة بالمعاطاة

(1) الغرض من عقد هذا الأمر هو: بيان أنّ العقد الفاسد- لاختلال شرائط الصيغة- هل يرجع إلى المعاطاة أم لا؟ و بعبارة أخرى: المعاطاة التي تتحقق بقبض العينين قطعا هل تنعقد بالصيغة غير الجامعة لشرائط الصحة كما في الجواهر «1» أم لا؟

محصل ما أفاده المصنف قدّس سرّه في ذلك هو: أنّه لا إشكال في تحقق البيع اللازم بإنشائه باللفظ المستجمع للخصوصيات الدخيلة فيه من الماضوية و العربية و الصراحة و نحوها، كما لا إشكال في تحقق المعاطاة بما إذا كان إنشاء التمليك أو الإباحة بإقباض العينين.

و يقع الكلام في أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالصيغة الفاقدة لبعض شروط الصحة، فعلى القول بكفاية الإنشاء القولي بكلّ لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني و إن لم يكن جامعا لشرائط الصحة- بناء على شمول معقد الإجماع على توقف العقود اللّازمة على اللفظ لكل لفظ مبرز عرفا للاعتبار النفساني و إن لم يكن صحيحا-

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 238

ص: 271

أمّا إذا حصل بالقول غير الجامع لشرائط اللّزوم [1] فإن قلنا بعدم اشتراط اللزوم بشي ء زائد على الإنشاء اللّفظي كما قوّيناه سابقا (1)- بناء على التخلص بذلك (2) عن اتفاقهم على توقف العقود اللّازمة على اللّفظ-

______________________________

فلا إشكال حينئذ في كون هذا الإنشاء صحيحا لازما.

و على القول بمذهب المشهور- من اعتبار أمور زائدة على اللفظ- ففيه وجوه:

الأوّل: كون هذا الإنشاء بحكم المعاطاة مطلقا.

الثاني: كونه بحكم المعاطاة بشرط تحقق قبض العين معه.

الثالث: كونه فاسدا كغيره من العقود الفاسدة.

(1) حيث قال قبل أسطر من نقل رواية: «إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» ما لفظه: «نعم الإكتفاء في اللزوم بمطلق الإنشاء القولي غير بعيد» «1».

(2) أي: بالإنشاء اللفظي غير الجامع للشرائط. و ظاهر كلمة «التخلّص» أنّ الإجماع ألجأنا إلى الإكتفاء بمطلق اللفظ في إنشاء العقود اللّازمة، و لو لا هذا الإجماع لأنكرنا شرطية اللفظ رأسا، و قلنا بلزوم المعاطاة من أوّل الأمر.

و على كلّ فوجه التخلص هو صدق «الإنشاء اللفظي» على الصيغة الملحونة أو الفاقدة لبعض الشرائط، و بهذا الصدق نخرج عن مخالفة الإجماع المزبور.

______________________________

[1] الظاهر كونه غلطا، و المناسب لما يذكره من قوله: «فان قلنا .. إلخ» تبديل اللّزوم بالصحة.

و كيف كان فملخص الكلام: أنّه إذا حصل إنشاء التمليك بالقول غير الجامع لشرائط الصحة كأن يقول: «بعتك» فعلى القول بكفاية مجرّد الإنشاء اللفظي في اللزوم و عدم الحاجة إلى غيره فلا إشكال في صحّته و لزومه.

و على القول بما عن المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ في اللزوم ففيه وجوه:

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 579

ص: 272

فلا إشكال في صيرورة المعاملة بذلك (1) عقدا لازما.

______________________________

(1) أي: بالقول غير الجامع للشرائط.

______________________________

أحدها: رجوع ذلك الإنشاء القولي إلى المعاطاة مطلقا، أي سواء تحقق معه قبض أم لا.

ثانيها: رجوعه إليها إذا تعقّبه القبض مطلقا، سواء حصل إنشاء آخر بهذا القبض أم لا.

ثالثها: كونه بيعا فاسدا لا يترتب عليه أثر سواء تحقق قبض بعده أم لا.

التحقيق أن يقال: انّ المعاطاة إن كانت على طبق القاعدة فلا محيص عن الالتزام بكون إنشاء التمليك بالقول الفاقد لبعض شرائط الصحة بيعا لازما، إذ المفروض عدم نهوض دليل على اعتبار مبرز خاص فيه، فدليل صحة البيع و نفوذه يقتضي صحة البيع المنشأ بلفظ فاقد لشرائط الصحة، و لزومه كصحّته إذا أنشئ بكتابة أو إشارة أو إلقاء حصاة أو غير ذلك من كل فعل مبرز لاعتبار نفساني.

و إن كانت على خلاف القاعدة بأن اعتبر في صحة البيع لفظ خاص كما اعتبر في النكاح و الطلاق فلا ينبغي الإشكال في فساده إذا أنشئ بغير ذلك اللفظ الخاص، سواء أ كان لفظا أم فعلا، و يكون الإنشاء بغير ذلك اللّفظ الخاص كالعدم، و القبض به من صغريات المقبوض بالعقد الفاسد.

كما أنّه إذا دلّ دليل على اعتبار لفظ خاصّ بكيفية مخصوصة في لزوم العقد فلا ينبغي الإشكال أيضا في صحته جوازا، إذ المفروض كون المشروط بتلك الخصوصية هو اللزوم لا صحة العقد و جوازه، فلا بد في الحكم باستمرار جوازه من ملاحظة دليل الجواز.

فإن كان له إطلاق يحكم بجواز العقد دائما على حذو العقود الجائزة بالأصالة، و مع هذا الإطلاق لا وجه للتمسك باستصحاب الجواز، لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل العملي، فلا تصير هذه المعاملة لازمة بطروء ملزمات المعاطاة، إلّا إذا قام دليل خاص على اللزوم بها.

و إن لم يكن له إطلاق يحكم باللزوم في غير القدر المتيقن، تمسكا بعمومات

ص: 273

و إن قلنا (1) بمقالة المشهور- من اعتبار أمور زائدة (2) على اللّفظ- فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا (3)، أو بشرط (4) تحقق قبض العين منه، أو لا يتحقق (5) به مطلقا (6)؟

نعم (7) إذا حصل إنشاء آخر [1] بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة.

______________________________

(1) معطوف على «فان قلنا» و هذا شروع في بيان محلّ النزاع، و هو إلحاق الصيغة الفاقدة لبعض الشروط بالمعاطاة.

(2) مثل الماضوية، و تقدّم الإيجاب على القبول، و الموالاة، و نحوها.

(3) هذا إشارة إلى الوجه الأوّل، و الإطلاق في مقابل قوله: «أو بشرط .. إلخ».

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني.

(5) معطوف على قوله: «فهل يرجع» و هذا إشارة إلى الوجه الثالث. و ضمير «به» راجع إلى الإنشاء القولي، يعني: أو لا يتحقق حكم المعاطاة بالإنشاء القولي.

(6) يعني: لا يكون الإنشاء القولي المزبور بحكم المعاطاة مطلقا، سواء تحقق معه قبض أم لا، فهذا الإنشاء عقد فاسد.

(7) ظاهره الاستدراك على مورد البحث في هذا التنبيه من أنّ القول الفاقد لبعض الشرائط هل يلحق بالمعاطاة أم لا؟ حيث قال: «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقا .. إلخ».

______________________________

اللزوم، كما كان الأمر كذلك في المعاطاة المتحققة بقبض العينين المفيدة للملك الجائز.

غاية الأمر أنّ الجواز هناك كان بالسيرة و الإجماع على ما تقدّم في القول بجواز المعاطاة، و هنا بدليل خاص لو قيل به.

[1] أو حصل التراضي منهما بالتصرف في العينين، فإنّه يباح لهما التصرف

ص: 274

..........

______________________________

و لكن قوله: «نعم .. تحقق المعاطاة» استثناء منقطع، و غرضه قدّس سرّه بيان صورة أخرى ليست محلّ النزاع، لكونها بيعا صحيحا، كما لا ريب في صحة البيع في صورتين، إحداهما: إنشاؤه بالقول الجامع، و الأخرى: إنشاؤه بقبض العينين فكذا لا ريب في صحّته في صورة ثالثة، و هي: ما إذا التفت المتبايعان إلى أنّ القول الملحون لا يتحقق به البيع، فقصدا إنشاء المعاملة بسبب آخر- و هو تعاطي العينين- و هو يوجب تحقق بيع صحيح، إذ ليست المعاطاة إلّا إنشاء المعاملة بالفعل في قبال إنشائها بالقول.

______________________________

بذلك، و من المعلوم أنّ هاتين الصورتين خارجتان موضوعا عن محل النزاع، و هو جريان حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة. فإذا فرض وقوع نفس المعاطاة بعد ذلك الإنشاء أو الرّضا بالتصرف و لو مع فساد المعاملة- بحيث يكون الرضا به مغايرا للرضا المقوّم للمعاملة- كان خارجا تخصّصا عن موضوع البحث و عن حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد.

و إن أريد بقوله: «بشرط تحقق قبض العين» القبض بعنوان الوفاء- لا بعنوان المعاطاة- ففيه: أنّ القبض بعنوان الوفاء ليس دخيلا في صحة العقد أصلا، لأنّ المبرز للاعتبار النفساني هو الإنشاء بالصيغة الملحونة، فالعقد بدون القبض باطل، فضمّه إلى الإنشاء الباطل لا يصحّحه.

فالمتحصل: أنّ التفصيل بقوله: «أو بشرط تحقق قبض العين» غير سديد، لأنّه على تقدير كون القبض بنفسه معاطاة خارج عن موضوع البحث، و هو إجراء حكم المعاطاة على الإنشاء بالصيغة الملحونة، لأنّ هذا القبض بنفسه معاطاة صحيحة، و لا يتوهم توقف صحة المعاطاة على عدم سبقها بعقد فاسد.

و على تقدير كون القبض وفاء لما أنشئ باللفظ ليس له دخل في صحة العقد، لفرض بطلانه و عدم دخل القبض في صحته.

ص: 275

فالإنشاء (1) القولي السابق كالعدم،

______________________________

نعم تختلف هذه الصورة عن سابقتها بأنّ القبض الإنشائي وقع عقيب قول ملحون، بخلاف المعاطاة المتعارفة، فإنّ القبض و الإقباض فيها إنشاء البيع من أوّل الأمر من دون سبق صيغة ملحونة عليها. و لكن هذا المقدار غير فارق في حكم الصورتين، فكلتاهما مصداق للبيع المعاطاتي.

و بعبارة أخرى: القبض الواقع بعد الإنشاء القولي الفاقد لبعض الخصوصيات يقع تارة بعنوان الوفاء بالعقد، و أخرى بعنوان إنشاء البيع بإنشاء جديد، للعلم بعدم تأثير ذلك القول الناقص.

و الصورة الأولى هي محل النزاع في هذا التنبيه من كونها بحكم المعاطاة و عدمه. و أمّا الصورة الثانية فهي معاطاة صحيحة قطعا، و لا شبهة فيها، و خارجة عن حريم النزاع.

(1) هذا أجنبي عن قوله: «نعم» و راجع إلى قوله: «فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة ..» و يمكن أن يدفع به توهم، بأن يقال: إنّ إنشاء المعاملة و إن كان باللفظ الناقص الذي لا يؤثّر عند المشهور في النقل و الانتقال، إلّا أنّه قد تعقّبه القبض و الإقباض من البائع و المشتري، فيمكن أن يلحقه حكم المعاطاة، لتحقق التعاطي من الطرفين حسب الفرض، مع زيادة- على المعاطاة المتعارفة- و هي الإنشاء القولي الناقص.

و عليه فالصيغة الناقصة التي يلحقها التقابض لا تقلّ عن المعاطاة المعهودة، فلا مجال لهذا البحث الطويل الذيل من جريان حكم المعاطاة على القول الناقص مطلقا أو بشرط القبض.

و حاصل الدفع: منع مقايسة القول الفاقد- المتعقب بالقبض- بالمعاطاة المعهودة، و بيانه: أنّه يعتبر في مقام إنشاء العناوين الاعتبارية- من العقود

ص: 276

لا عبرة به و لا بوقوع القبض بعده (1) خاليا عن قصد الإنشاء، بل بانيا [مبنيّا]

______________________________

و الإيقاعات- القصد إلى العنوان و التسبّب إليه باللّفظ أو الفعل، أو إبرازه بأحدهما، على الخلاف في حقيقة الإنشاء. فإن أنشئت المعاملة بالإيجاب و القبول اللفظيين اعتبر تحقق قصد التمليك مقترنا بهما، و تترتب آثار البيع على هذا الإنشاء القولي، فيجب الوفاء به بتسليم المبيع للمشتري، و الثمن للبائع، و لا يقصد المتبايعان إنشاء التمليك بالقبض و الإقباض، و إنّما قصداه بالقول.

و إن أنشئت المعاملة بالمعاطاة اعتبر القصد إلى التمليك و التملك حين التعاطي، لفرض التسبّب به إلى العنوان البيعي.

و على هذا فإذا كان الإنشاء بالقول الملحون، و زعم المتبايعان تأثيره في النقل و الانتقال كان قبض العينين خاليا عن قصد الإنشاء- كما يقصدانه في المعاطاة- بل هو مبني على وجوب الوفاء بذلك الإنشاء القولي الملحون، كما إذا كان ذلك اللفظ جامعا للشرائط و الخصوصيات، حيث إن القبض المترتب عليه متمحض في الوفاء به، و ليس هناك قصد ثانوي لإنشاء المعاملة بالتقابض.

و لمّا كان الإنشاء الملحون ساقطا عن التأثير عند المشهور- و كان القبض بعنوان الوفاء لا بعنوان الإنشاء الجديد- فلا محالة لم يتحقق سبب قولي و لا فعلي للتمليك. و هذا بخلاف المعاطاة المتعارفة، فإنّ التعاطي إنشاء التمليك، و يشمله إطلاق دليل إمضاء البيع.

(1) أي: بعد القول غير الجامع الشرائط اللزوم. وجه عدم العبرة بهذا القبض هو خلوّه عن قصد الإنشاء، لأنّ المتعاملين زعما تأثير ذلك القول، و اعتقدا وجوب الوفاء به، ضرورة كون الوفاء بالعقد الصحيح حقّا على كلا المتعاملين، فأقبض كلّ منهما ماله للآخر أداء لهذا الحق، لا إنشاء جديدا للمعاملة. و حيث إنّ أصل الإنشاء باطل، فالقبض المتأخر عنه كذلك.

ص: 277

على كونه حقّا لازما، لكونه (1) من آثار الإنشاء القولي السابق، نظير القبض في العقد الجامع للشرائط.

ظاهر (2) كلام غير واحد من مشايخنا المعاصرين (3) الأوّل (4) تبعا لما يستفاد من ظاهر كلام المحقق و الشهيد الثّانيين. قال المحقق في صيغ عقوده- على ما حكي عنه- بعد ذكره الشروط المعتبرة في الصيغة: «انّه لو أوقع البيع بغير ما قلناه و علم التراضي منهما كان معاطاة» (5) «1» انتهى.

______________________________

(1) أي: لكون القبض حقّا لازما، وجه لزومه كونه من آثار الإنشاء القولي، و وفاء لما التزما به من الإنشاء السابق.

(2) هذا متعلق بقوله: «فهل يرجع ذلك الإنشاء» و غرضه بيان الأقوال في المسألة، و أنّ لكلّ من الوجوه الثلاثة قائلا.

(3) كالسيد المجاهد و الفاضل النراقي و صاحب الجواهر، قال في المناهل:

«منهل: إذا كان إيجاب البيع و قبوله بغير العربية من الألفاظ الفارسية و غيرها، فلا إشكال حينئذ في صحة البيع، و إفادته إباحة التصرف و نقل الملك، بناء على المختار من إفادة المعاطاة ذلك، لظهور عدم القائل بالفصل بين الأمرين، و لفحوى ما دلّ على إفادة المعاطاة أو عمومه الملك. و هل يفيد ذلك اللّزوم كما إذا كان الإيجاب و القبول عربيّين أو لا؟ بالثاني صرّح المحقق الثاني في حاشية الإرشاد و جامع المقاصد .. إلخ».

و قال في الجواهر: «لكن قد عرفت سابقا: أنّ قصد التمليك العقدي غير مشخص، مع فرض تحقق البيع بالمعاطاة التي منها الصيغة الملحونة مثلا» «2».

(4) و هو كونه بحكم المعاطاة مطلقا.

(5) و قال بعده على ما حكي عنه: «لا يلزم إلّا بذهاب العينين».

______________________________

(1): رسالة صيغ العقود و الإيقاعات (ضمن مجموعة رسائل المحقق الكركي) ج 1، ص 178، و الحاكي لهذه العبارة هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ج 4، ص 159

(2) المناهل، ص 270، مستند الشيعة، ج 2، ص 361 و 362، المسألة الخامسة من مسائل الفصل الأوّل. جواهر الكلام، ج 22، ص 257

ص: 278

و في الرّوضة في مقام عدم كفاية الإشارة مع القدرة على النطق: «انّها تفيد المعاطاة مع الإفهام الصريح» (1) «1» انتهى.

و ظاهر الكلامين (2) صورة وقوع الإنشاء بغير القبض، بل يكون القبض من آثاره (3).

و ظاهر (4) تصريح جماعة منهم المحقق و العلّامة بأنّه «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك و كان مضمونا عليه» هو (5) الوجه الأخير (6)، لأنّ (7)

______________________________

ثم إنّ هذا الكلام من المحقق الثاني صريح في كون الإنشاء القولي الملحون معاطاة، فيجري فيه ما يجري فيها من لزومه بتلف العينين، و جواز التراد قبله.

(1) وجه دلالة هذا الكلام على كون الصيغة الفاقدة للشرائط- التي هي مورد البحث- بحكم المعاطاة هو: أنّ المناط في إجراء حكم المعاطاة على الإشارة هو إفهام المقصود صريحا، و من المعلوم وجود هذا المناط في موضوع البحث.

(2) حيث إنّ رجوع الضمير- الذي هو اسم «كان» في قول المحقق قدّس سرّه «كان معاطاة»- إلى: إيقاع البيع بغير ما قلناه- ممّا لا ينبغي إنكاره.

و كذا قول الشهيد في الروضة: «إنّها تفيد المعاطاة» فإنّ ضمير «إنّها» راجع إلى الإشارة. و من المعلوم أنّ المستفاد منهما كون نفس الإنشاء الملحون و الإشارة معاطاة.

(3) أي: آثار الإنشاء بالقول الملحون، فلا يتحقق الإنشاء بالقبض حتى يتوهم تحقق المعاطاة بهذا التقابض.

(4) مبتدء معطوف على قوله قبل أسطر: «ظاهر كلام غير واحد من .. إلخ».

و هذا بيان القائل بالوجه الثالث، أي: كون الإنشاء القولي الملحون بحكم العدم.

(5) خبر «و ظاهر».

(6) و هو عدم جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي الفاقد للشرائط.

(7) هذا تقريب الظهور، و محصله: أنّ مرادهم ظاهرا بالعقد الفاسد الذي صرّحوا فيه بالضمان و عدم الملكية هو الإنشاء القولي الفاقد للشرائط الذي هو مورد بحثنا.

______________________________

(1): الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج 3، ص 225

ص: 279

مرادهم بالعقد الفاسد إمّا خصوص ما كان فساده من جهة مجرّد اختلال شروط الصيغة (1)، كما ربّما يشهد به (2) ذكر هذا الكلام بعد شروط الصيغة و قبل شروط العوضين و المتعاقدين. و إمّا (3) يشمل هذا و غيره كما هو الظاهر (4).

______________________________

وجه الظهور: أنّهم ذكروا هذا الكلام و هو قوله: «لو قبض ما ابتاعه .. إلخ» بعد شروط الصيغة و قبل شروط العوضين و المتعاقدين، فيكون قولهم: «لو قبض ما ابتاعه» تفريعا على فساد العقد لأجل فقدان شروط الصيغة، لا لفقدان شروط أخر.

و لو سلّمنا شمول العقد الفاسد لما إذا كان منشأ الفساد اختلال شروط العوضين و المتعاقدين أيضا لم يقدح ذلك فيما نحن بصدده من كون الصيغة الملحونة موضوعا للبحث و النزاع في جريان حكم المعاطاة فيها و عدمه. فكلامهم المزبور أعني به:

«لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك .. إلخ» شامل للإنشاء القولي الملحون.

و من هذا البيان ظهر وجه تعبير المصنف ب «ظاهر تصريح» فإنّ المحقق و العلّامة صرّحا بحكم المقبوض بالعقد الفاسد من حيث عدم التملك و الضمان، و لم يصرّحا بمنشإ الفساد، فاستظهر المحشّون- من إطلاق الفساد- عدم تأثير الصيغة الملحونة.

(1) كتقدم الإيجاب على القبول، و الماضوية بناء على اعتبارها، و الموالاة بين الإيجاب و القبول، و التطابق بينهما.

(2) أي: بكون منشأ الفساد مجرّد اختلال شروط الصيغة.

(3) معطوف على «إمّا خصوص».

(4) لشمول إطلاق «الفاسد» لجميع موجبات الفساد من اختلال شروط الصيغة و العوضين و المتعاقدين، فالمراد ب «غيره» هو الفساد من جهة اختلال شروط المتعاقدين كعدم بلوغ أحدهما، و العوضين، و ككون أحدهما مجهول الوصف.

ص: 280

و كيف كان (1) فالصورة الأولى (2) داخلة قطعا (3).

و لا يخفى (4) أنّ الحكم فيها (5) بالضمان مناف لجريان حكم المعاطاة.

و ربما يجمع (6)

______________________________

(1) أي: سواء أ كان مراد المحقّق و العلّامة من العقد الفاسد خصوص الإنشاء القولي الفاقد لبعض الشرائط، أم الأعم منه و من اختلال شروط المتعاقدين أو العوضين.

(2) و هي كون فساد العقد لاختلال شروطه كما هو موضوع البحث.

(3) لصدق «الفاسد» على الصيغة الفاقدة لشروطها، و لكون الكلام المزبور و هو «لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد .. إلخ» مذكورا بعد شروط الصيغة، و هذا قرينة على كون الكلام المذكور متفرّعا على شروط الصيغة.

(4) غرضه إبداء إشكال على الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد، و جعل العقد الملحون كالمعاطاة في الحكم بالإباحة.

و محصل الإشكال: منافاة الضمان للمعاطاة، لأنّ جريان حكم المعاطاة في الإنشاء القولي الملحون يقتضي عدم الضمان، فينافيه الحكم بالضمان.

فأجاب عنه المصنف بأنّ حكم المحقق و العلامة بضمان المقبوض بالعقد الفاسد قرينة على عدم لحقوق حكم المعاطاة بالصيغة الملحونة، فالإنشاء الملحون يكون بحكم العدم. و لو كان هذا معاطاة لم يكن وجه للضمان فيه، لكونها صحيحة شرعا حينئذ.

و عليه يظهر التهافت بين نظر المحقّق و العلّامة من الحكم بالفساد، و بين نظر المحقق و الشهيد الثانيين من إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة، و قد تصدّى السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه للجمع بين كلامي الطائفتين.

(5) أي: في الصورة الأولى و هي فقدان شروط الصيغة.

(6) الجامع هو السيد الفقيه في مفتاح الكرامة في مبحث المقبوض بالعقد

ص: 281

بين هذا الكلام (1) و ما تقدم (2) من المحقق و الشهيد الثانيين، فيقال (3): «إنّ موضوع المسألة في عدم جواز التصرف بالعقد الفاسد ما إذا علم عدم الرّضا إلّا بزعم صحة المعاملة، فإذا انتفت الصحة انتفى الإذن، لترتّبه (4) على زعم

______________________________

الفاسد. ذكره بعد نقل كلمات جمع من الأصحاب، آخرها عبارة المسالك و هي:

«لا إشكال في الضمان- أي ضمان المقبوض، بالعقد الفاسد- إذا كان جاهلا بالفساد، لأنه قدم على أن يكون مضمونا عليه فيحكم عليه به و إن تلف بغير تفريط» «1».

(1) و هو: لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملك و كان مضمونا عليه.

(2) حيث قال قبل أسطر: «بأنّ العقد الفاقد للشروط يكون معاطاة».

(3) هذا تقريب الجمع بين الضمان في المقبوض بالعقد الفاسد و بين جريان حكم المعاطاة على العقد الفاسد.

و محصل الجمع بينهما هو تغاير الموضوع في المسألتين، إذ الموضوع في الحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو تقيّد الإذن في التصرف بصحّة المعاملة، بحيث يكون الرّضا مفقودا في صورة فساد المعاملة.

و الموضوع في جريان حكم المعاطاة هو صورة إطلاق الإذن لكلتا صورتي صحة المعاملة و فسادها، إمّا لحدوث الإذن و الرّضا بالتصرف بعد علمهما بالفساد، بحيث يستند جواز التصرف إلى الرضا الحادث المستمرّ إلى زمان القبض، و إمّا لكون الإنشاء من أوّل الأمر على نحو تعدّد المطلوب. و لم يظهر من المحقق و العلّامة قدّس سرّهما القائلين بضمان المقبوض بالعقد الفاسد ذهابهما إلى الضمان في صورة بقاء الإذن بالتصرف إلى زمان القبض، و عدم جريان حكم المعاطاة فيها حتى يكونا مخالفين للمحقق و الشهيد الثانيين.

(4) أي: لترتب الإذن في التصرف على سبب واحد و هو اعتقاد صحة العقد، و حيث كان العقد فاسدا فلا إذن، لانتفاء الموقوف بانتفاء الموقوف عليه.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 168

ص: 282

الصحة، فكان التصرف تصرفا بغير إذن و أكلا للمال بالباطل، لانحصار وجه الحلّ في كون المعاملة بيعا أو تجارة عن تراض أو هبة، أو نحوها من وجوه الرضا بأكل المال من غير عوض. و الأوّلان (1) قد انتفيا بمقتضى الفرض. و كذا البواقي (2)، للقطع من (3) جهة زعمهما صحة المعاملة بعدم الرضا بالتصرف، مع عدم بذل شي ء في المقابل، فالرّضا المقدّم كالعدم (4). فإن (5) تراضيا [1] بالعوضين بعد العلم بالفساد، و استمرّ رضاهما، فلا كلام في صحة المعاملة و رجعت إلى المعاطاة، كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف بأيّ وجه اتّفق،

______________________________

(1) و هما البيع و التجارة عن تراض. و وجه انتفائهما بعد ارتفاع الإذن واضح.

(2) أي: الهبة و نحوها من المجّانيّات، فإنّ انتفاء الإذن يوجب انتفاءهما أيضا.

(3) كلمة «من» نشوية، يعني: للقطع الناشئ عن زعم صحة المعاملة، حاصله:

أنّ القطع بعدم الرضا بالتصرف ناش عن عدم صحة المعاملة، حيث إنّ الرّضا كان متقوما بصحة المعاملة، فانتفاؤها يوجب انتفاء الرّضا قطعا.

(4) لتقوّمه بما يكون منتفيا واقعا، فلا عبرة به.

(5) هذا بيان لمورد كلام المحقق و الشهيد الثانيين و من تبعهما- بناء على الجمع المذكور في مفتاح الكرامة- و حاصله: أنّ مورد الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة العلم بعدم الرّضا بالتصرف على تقدير البطلان، و مورد جريان حكم المعاطاة- الملازم لعدم الضمان فيه- هو صورة العلم بتجدّد الرضا به بعد العلم بالفساد. و على هذا الجمع لا يبقى تهافت بين الكلامين.

______________________________

[1] بل الظاهر أنّ مورد حكم المشهور بضمان المقبوض بالعقد الفاسد هو صورة تقيّد الإذن بصحة المعاملة، فمع الفساد ينتفي الإذن. و مورد كلام المحقق و الشهيد الثانيين هو صورة إطلاق الإذن لصورتي صحة المعاملة و فسادها.

ص: 283

سواء صحّت المعاملة أو فسدت، فإنّ ذلك ليس (1) من البيع الفاسد في شي ء» [1].

أقول: المفروض (2) أنّ الصيغة الفاقدة لبعض الشرائط لا يتضمّن إلّا إنشاء واحدا هو التمليك، و من المعلوم أنّ هذا المقدار لا يوجب بقاء الإذن

______________________________

(1) حتى يكون المقبوض به من المقبوض بالعقد الفاسد المحكوم بالحرمة و الضمان.

(2) غرضه قدّس سرّه الإشكال على الجمع المزبور المشتمل على أمرين:

أحدهما: تحقق المعاطاة بالتراضي الموجود حال العقد إذا علم بعدم تقيّده بصحة المعاملة. و قد تعرّض لهذا الأمر بقوله: «كما إذا علم الرضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرف».

و قد أجاب المصنف عنه بقوله: «المفروض أنّ الصيغة .. إلخ» و محصله: أنّ التراضي الموجود حين العقد مقيّد بالتمليك لا مطلق، و من المعلوم انتفاء المقيّد بانتفاء قيده، فبإنتفاء التمليك ينتفي التراضي.

ثانيهما: حصول المعاطاة بالتراضي الجديد الحادث بعد العقد و العلم بالفساد.

و قد تعرّض السيد العاملي لهذا الأمر بقوله: «فان تراضيا بالعوضين» الى قوله:

«و رجعت إلى المعاطاة».

و قد أجاب عنه المصنف بقوله: «مع أنّك عرفت .. إلخ» و حاصله: أنّ كلام الشهيد و المحقق الثانيين لا يقبل الحمل على التراضي الجديد، و وقوع معاطاة جديدة بالتقابض الواقع بعد العقد الفاسد، و ذلك لظهور كلامهما في حصول المعاوضة بنفس الإشارة المفهمة، و بنفس الصيغة الخالية عن الشرائط، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

______________________________

[1] لكنّه ليس من المعاطاة المعهودة أيضا، بل هو إباحة مالكيّة لا تلزم بملزمات المعاطاة. مع أنّ مورد كلام المحقق و الشهيد الثانيين قدّس سرّهما إلحاق نفس اللفظ الملحون بالمعاطاة، و لا أثر من الرّضا غير المعاملي في كلامهما.

ص: 284

الحاصل في ضمن التمليك بعد فرض انتفاء التمليك (1)، و الموجود بعده (2) إن كان إنشاء آخر في ضمن التقابض خرج عن محل الكلام، لأنّ المعاطاة حينئذ إنّما تحصل [1] به لا بالعقد الفاقد للشرائط.

مع أنّك (3) عرفت أنّ ظاهر كلام الشهيد و المحقق الثانيين حصول المعاوضة و المراضاة بنفس الإشارة المفهمة (4) بقصد البيع، و بنفس الصيغة (5) الخالية عن الشرائط، لا بالتقابض الحاصل بعدهما.

________________________________________

(1) حيث إنّه مقيّد بالتمليك، و بانتفاء القيد ينتفي المقيّد.

(2) أي: بعد انتفاء التمليك العقدي. و هذا إشكال على ما ادّعاه السيد العاملي قدّس سرّه من وجود إذن بعد فساد العقد، و محصّل الإشكال: أنّ الإذن المدّعى إن كان إنشائيا حاصلا بالتقابض بقصد المعاطاة كان خارجا عن محل الكلام، و مندرجا في حصول إنشاء جديد بعد الصيغة الملحونة، و هذه المعاطاة صحيحة بلا ريب كما سبق في قول المصنف قدّس سرّه: «نعم إذا حصل إنشاء آخر بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة».

و إن كان هذا الإذن هو الذي تحقق بالإنشاء الملحون فالمفروض فساده، فينتفي الإذن قطعا.

(3) هذا إشكال على حصول المعاوضة بالتقابض الحادث بعد الإنشاء الملحون، و قد تقدم آنفا.

(4) كما هو مصبّ كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه.

(5) كما هو مورد كلام المحقق الثاني قدّس سرّه.

______________________________

[1] حصول المعاطاة التي هي محل الكلام في إفادتها الملك أو الإباحة بالتقابض- مضافا إلى خروجها عن موضوع البحث- ممنوع جدّا، لأن تلك المعاطاة التي قامت السيرة على إباحة التصرف بها هي التي قصد بها التمليك، لا مجرّد التراضي بالتصرف، فإنّه خارج عن المعاطاة المصطلحة. بل التراضي المزبور لا يجدي إلّا الإباحة المالكية لا الشرعية التي هي المقصودة في المعاطاة.

ص: 285

و منه (1) يعلم فساد ما ذكره من حصول المعاطاة بتراض جديد بعد

______________________________

(1) أي: و من ظهور كلام المحقق و الشهيد الثانيين- في حصول المعاوضة و المراضاة بنفس الإنشاء الملحون و الإشارة المفهمة- يعلم فساد .. إلخ، و هذا إشكال المصنف على ما ذكره السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه في الأمر الأوّل بقوله: «فان تراضيا بالعوضين بعد العلم بالفساد» و محصل الإشكال أمور:

الأوّل: أنّ الحمل على التراضي الجديد خلاف ظاهر كلام المحقق و الشهيد الثانيين، لما عرفت من ظهور كلاميهما في إلحاق نفس الإنشاء القولي الملحون و الإشارة المفهمة بالمعاطاة، و ليس من الرّضا الحادث عين و لا أثر في عبارتيهما، فيصير حمل الكلامين على حصول المعاطاة بإنشاء جديد أجنبيّا عنهما، لا توجيها لهما.

الثاني: أنه لو سلّمنا استناد حليّة التصرف في المالين إلى التراضي الجديد فهو مخصوص بما إذا علم المتبايعان فساد العقد، و عدم ترتب النقل و الانتقال عليه، حتى يأذن كلّ منهما للآخر بالتصرّف فيما يأخذه. و أمّا إذا لم يعلما بالفساد أو علما به و لم يرضيا بالتصرف فلا مجال لتوجيه السيد قدّس سرّه، إذ لا معنى للرّضا الجديد في هاتين الصورتين. مع أنّ كلام الفقهاء مطلق يعمّ جميع الصور الثلاث، يعني: سواء علما بفساد ذلك الإنشاء الناقص أم لم يعلما به، و سواء رضيا بالتصرف بعد العلم بالفساد أم لم يرضيا به.

و عليه يكون قول السيد قدّس سرّه: «فان تراضيا بعد العلم بالفساد» توجيها للصحة في صورة واحدة- و هي العلم بالفساد و الرضا الحادث- لا في جميع الصور، فالمناسب حينئذ التفصيل في إطلاق فتوى الأصحاب، لا دعوى توجيهه في جميع الصور.

الثالث: أنّ أصل هذا التوجيه- بفرض الرّضا الحادث- ممنوع، مع الغض عن إباء كلام الأصحاب عن حمله عليه. و سيأتي توضيح المنع عن قريب.

ص: 286

العقد غير (1) مبنيّ على صحة العقد.

ثم (2) إنّ ما ذكره من التراضي الجديد بعد العلم بالفساد- مع اختصاصه بما إذا علما بالفساد دون غيره من الصور (3) مع أنّ كلام الجميع مطلق- يرد عليه: أن (4) هذا التراضي

______________________________

(1) بالجر صفة ل «تراض جديد».

(2) قد عرفت توضيح هذا الإشكال آنفا، و حاصله: أنّ ذلك الجمع مختص بصورة علم المتعاملين بالفساد حتى يتراضيا بالإنشاء ثانيا بالقبض، مع أنّ كلامهم مطلق، حيث إنّهم حكموا بالفساد و الضمان مطلقا سواء علم المتبايعان بالفساد أم لا.

(3) المراد من الصور صورتان، إحداهما: علم المتبايعين بفساد الإنشاء القولي و عدم إنشاء إذن جديد، و الثانية: جهلهما بفساده.

(4) هذا أصل الإشكال على الجمع المزبور، و حاصله: أنّ التراضي الجديد- المفروض حدوثه بعد العلم بالفساد- غير مجد على تقدير، و غير واقع على تقدير آخر. و بيانه: أنّ هذا التراضي إن كان لا على وجه المعاطاة، و لا تقابض آخر في البين، بل رضي كلّ منهما بتصرّف الآخر في ماله، ففيه: أنّه على فرض حدوثه إباحة مجّانية لا يترتب عليها إلّا جواز التصرف المستند إلى طيب النفس. و هذا غير المعاطاة المصطلحة، و هي الّتي يقصد بها التمليك، و تترتب عليها الملكية أو الإباحة الشرعية، و من المعلوم أنّ المقصود بالمعاطاة هنا هو المصطلح منها.

و إن كان على وجه المعاطاة بأن كان التراضي منهما على إنشاء التمليك حتى تندرج في المعاطاة المصطلحة- التي هي من المعاوضات- ففيه: أنّه ليس في المقام تراض جديد، إذ المعاطاة المعهودة هي التي قصد بها التمليك، كما تقدم عن المحقق الثاني، و من المعلوم عدم تراض جديد على التمليك بعد العلم بفساد العقد، بل التراضي الموجود فعلا هو التراضي الذي كان على التمليك السابق.

ص: 287

إن كان (1) تراضيا آخر حادثا بعد العقد، فإن كان لا على وجه المعاطاة، بل كلّ منهما رضي بتصرف الآخر في ماله من دون ملاحظة رضاء صاحبه بتصرّفه في ماله، فهذا ليس من المعاطاة، بل هي إباحة مجّانيّة من الطرفين تبقى ما دام العلم بالرضا، و لا يكفي فيه عدم العلم بالرجوع، لأنّه (2) كالإذن الحاصل من شاهد الحال (3)، و لا يترتب عليه أثر المعاطاة من اللزوم بتلف إحدى العينين، أو جواز التصرف إلى حين العلم بالرجوع.

______________________________

(1) لم يذكر المصنف عدلا لهذه الشرطية، فالأولى أن يقال: «ان هذا التراضي الحادث بعد العقد إن كان لا على وجه المعاطاة .. إلخ».

(2) تعليل لدوران هذه الإباحة المجّانية مدار العلم بالرضا، و عدم كفاية الجهل بالرجوع عن الإباحة.

(3) في لزوم إحراز الإذن في إباحة التصرف، و عدم كفاية عدم العلم بالرجوع عن الإذن. و الوجه في عدم الكفاية هو: أنّ الإذن بالتصرف انحلالي، فكلّ فرد من أفراده الطولية و العرضية لا بدّ أن يكون مقرونا بالإذن، فمع العلم به يجوز التصرف، و بدونه لا يجوز. و مع الشّك لا مجال للاستصحاب، لتعدد الموضوع، ضرورة أنّ كل فرد من أفراد التصرف موضوع مستقل، و استصحاب الإذن في الفرد المشكوك فيه تسرية الحكم من موضوع إلى آخر، و هو أجنبي عن الاستصحاب و مندرج في القياس المسدود بابه.

و بالجملة: فلا مجال لاستصحاب الإذن في الفرد من التصرف. بخلاف الرجوع في المعاطاة المفيدة للإباحة الشرعية، حيث إنّ غايتها رجوع المالك، و مع الشك فيه يستصحب عدم الرجوع.

ففرق واضح بين الرجوع في المعاطاة، و بين الإذن و طيب النفس في الإباحة المالكية، فإنّ الإباحة المالكية منوطة بالعلم بطيب النفس في كل فرد من

ص: 288

و إن كان (1) على وجه المعاطاة فهذا ليس إلّا التراضي السابق على (2) ملكية كلّ منهما لمالك الآخر، و ليس تراضيا جديدا- بناء (3) على أنّ المقصود بالمعاطاة التمليك كما عرفته من كلام المشهور (4) خصوصا المحقق الثاني (5)-

______________________________

أفراد التصرف.

(1) معطوف على: «فإن كان» و هذا شقّ آخر من المنفصلة، و قد عرفت توضيحه آنفا.

(2) متعلق بالتراضي، لا بالسابق، يعني: التراضي على مالكية كل منهما لمال الآخر، و هذا التراضي هو الحاصل بالإنشاء الفاقد لبعض خصوصيات الصيغة، و لم يحصل هذا التراضي بإنشاء جديد بعد العلم بفساد الإنشاء الأوّل.

(3) حاصله: أنّه- بناء على كون المقصود بالمعاطاة التمليك- لا يكون هنا تراض جديد على التمليك، بل ذلك التراضي المتحقق حال العقد الفاسد. نعم بناء على كون المقصود بالمعاطاة الإباحة فلا بد من التراضي الجديد على الإباحة، لأنّ التراضي السابق كان على التمليك لا على الإباحة.

(4) حيث إن محطّ نظر المشهور القائلين بالإباحة التعبدية هو المعاطاة المقصود بها الملك، و قد استظهر المصنف قدّس سرّه هذا من عبارات الأصحاب عند ما خاض في تحقيق النزاع بين المحقق الكركي و صاحب الجواهر قدّس سرّهما «1».

(5) حيث نقل عنه المصنف بعد نقل الأقوال في المعاطاة ما لفظه: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم يكن كالعقد في اللزوم .. إلخ» «2».

______________________________

(1): راجع الجزء الأول من هذا الشرح، ص 336 إلى 334

(2) راجع الجزء الأول من هذا الشرح، ص 345 إلى 347

ص: 289

فلا يجوز (1) له أن يريد بقوله المتقدم عن صيغ العقود: «إنّ الصيغة الفاقدة للشرائط مع التراضي يدخل في المعاطاة» التراضي (2) الجديد الحاصل بعد العقد لا على وجه المعاوضة (3) [1].

______________________________

(1) متفرع على كون المقصود بالمعاطاة التمليك. وجه عدم الجواز هو: أنّ المعاطاة عنده هي المقصود بها التمليك، فالتراضي الجديد على الإباحة لا يوجب الاندراج في المعاطاة المزبورة، بل تكون هذه الإباحة أجنبية عن البيع المنقسم إلى القولي و المعاطاتي.

(2) مفعول «يريد».

(3) يعني: المعاطاة المفيدة للإباحة.

هذا تمام ما أفاده المصنف حول الوجه الأوّل، و هو إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة كما اختاره المحقق و الشهيد الثانيان، و الوجه الثالث و هو كونه عقدا فاسدا، الذي اختاره المحقق و العلّامة، و ما أفاده السيد العاملي قدّس سرّه من محاولة الجمع بينهما، ثم نقاش المصنف في الجمع المزبور. و سيأتي مختاره في إلحاق الإنشاء الملحون بالمعاطاة و عدمه.

______________________________

[1] و لا يخفى أنّ المحقق الخراساني قدّس سرّه جمع بين ما عن المشهور من عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد و ضمانه، و بين ما عن المحقق و الشهيد الثانيين و غيرهما من جريان حكم المعاطاة على الإنشاء القولي غير الجامع للشرائط بما هذا لفظه: «و الحكم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد يمكن أن ينزّل على أنّه حكم اقتضائي لا فعلىّ، بمعنى: أنّ قضية فساده بما هو عقد ذلك لو لم يجي ء في البين الحكم بصحته بوجه آخر أي بما هو بيع بغير العقد. و هذا أحسن ما يقال توفيقا بين ما ذكر في

ص: 290

و تفصيل (1) الكلام: أنّ المتعاملين بالعقد الفاقد لبعض الشرائط إمّا أن يقع تقابضهما بغير رضا من كلّ منهما في تصرّف الآخر، بل حصل قهرا عليهما أو على أحدهما و إجبارا على العمل بمقتضى العقد، فلا إشكال في حرمة التصرف في المقبوض على هذا الوجه (2).

______________________________

(1) أي: تفصيل المطلب الذي عقد له هذا التنبيه الثامن و ما يصح اختياره فيه، لا تفصيل الكلام في الجمع بين الكلامين و رفع التهافت بينهما.

(2) أي: وجه العمل بمقتضى العقد الفاسد إجبارا، و محصل ما أفاده من التفصيل هو: أنّ التعاطي بالعقد الفاسد يتصور ثبوتا على وجوه:

أحدها: أن يترتب عليه التقابض من المتعاطيين قهرا عليهما أو أحدهما بعنوان الوفاء بالعقد. و لا إشكال في حرمة التصرف في هذه الصورة، لعدم مسوّغ لهذا التصرف المشروط جوازه بطيب نفس المالك المفقود هنا، إذ المفروض بطلان العقد و عدم تأثيره في التمليك، و عدم التراضي منهما في إباحة التصرف، فلا محالة يكون تصرف كلّ منهما في مال الآخر حراما و موجبا للضمان.

______________________________

المقامين، فتفطّن» «1».

و فيه: أنّ الحمل على الحكم الاقتضائي و إن كان في نفسه حسنا، لكنه إنّما يصح فيما إذا صار فعليّا و لو في بعض الأزمنة كالأحكام الأوّلية مثل وجوب الوضوء عند طروء عنوان ثانوي كالضرر، فإنّ الجمع بين الحكم الأوّلي و الثانوي بحمل الأوّلي على الاقتضائي، و الثانوي على الفعلي في غاية المتانة. بخلاف المقام، فإنّ جعل الحرمة و الضمان فيه بنحو الاقتضاء لغو، لعدم فعليتهما أصلا، ضرورة وجود عنوان المعاطاة دائما في المقبوض بالعقد الفاسد، فلا يصير شي ء من الضمان و الحرمة في المقبوض بالعقد الفاسد في شي ء من الأزمنة فعليّا، بل يبقيان على الاقتضاء.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 26

ص: 291

و كذا (1) إن وقع على وجه الرّضا الناشئ عن بناء كلّ منهما على ملكية الآخر اعتقادا (2) أو تشريعا، كما في كلّ قبض وقع على هذا الوجه (3)، لأنّ (4) حيثية

______________________________

ثانيها: أن يترتب التقابض على العقد الفاسد بعنوان الوفاء بمقتضى ذلك العقد و إن كان برضاهما مقيّدا بالوفاء، لبنائهما على صحة ذلك العقد اعتقادا أو تشريعا.

و بعبارة أخرى: يتقابضان مع التراضي بناء على كون ذلك التقابض عملا بمقتضى العقد، لاعتقاد صحته شرعا- من جهة جهلهما بفساد العقد واقعا- أو تشريعا بالبناء على صحة ذلك الإنشاء الفاقد لشروط التأثير.

و حكم هذا الوجه هو الحرمة و الضمان، لشمول قولهم: «المقبوض بالعقد الفاسد مضمون و يحرم التصرف فيه» له.

ثالثها: أن يكون التقابض بقصد إنشاء التمليك بعد الإعراض عن أثر العقد الأوّل. و لا إشكال في جواز التصرف، و عدم الضمان فيه، لكونه معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

رابعها: أن يكون الرّضا بالتصرف مقارنا لاعتقاد الملكية، لا مقيّدا به حتى يرتفع بانتفاء الملكية. و سيأتي حكم هذا الوجه من ابتناء شمول المعاطاة له على أمرين.

(1) يعني: و كذا لا إشكال في حرمة التصرف إن وقع التقابض على وجه الرضا .. إلخ. و هذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدّم بقولنا: «ثانيها: أن يترتب .. إلخ».

(2) يعني: أنّ التقابض- بعنوان الوفاء بالعقد الفاسد- موجب للضمان، سواء أ كان عن اعتقاد بصحة العقد جهلا بحقيقة الأمر، أو عن التشريع بالبناء على صحته مع العلم بفساده أو مع عدم العلم بصحّته. و الوجه في الضمان عدم حصول سبب حلّية التصرف و الملكية.

(3) أي: على وجه بناء كلّ منهما على ملكيّة القابض لما يقبضه.

(4) تعليل لحرمة التصرف في كلا الوجهين، و هما: الإجبار على العمل بمقتضى

ص: 292

كون القابض مالكا مستحقا لما يقبضه جهة تقييدية (1) مأخوذة في الرّضا ينتفي بانتفائها في الواقع كما في نظائره (2).

و هذان الوجهان ممّا لا إشكال فيه في حرمة التصرف في العوضين.

______________________________

العقد الفاسد، و رضا كلّ منهما، بالتصرف في مال الآخر اعتقادا بأنّه ماله، أو تشريعا.

و حاصل التعليل: أنّ المستفاد من مثل قوله عليه السّلام: «لا يحل مال امرء مسلم إلّا بطيبة نفسه» هو اعتبار طيب نفس المالك بتصرف الغير في ماله بما أنّه ماله و هو مالكه، فإذا أنيط الرضا بكون القابض مالكا انتفى بانتفاء المالكية، إذ ليس رضا المالك- بما أنّه أجنبي عن المال- كافيا في جواز التصرف.

و على هذا فإذا باع زيد كتابا من عمرو بدينار- ببيع صحيح- و أقبضه الكتاب كان رضاه بالقبض من جهة كون القابض مالكا مستحقا للكتاب. و أمّا إذا كان بيعه فاسدا فالمشتري القابض للمبيع يعلم بعدم مالكيّته للكتاب و عدم استحقاقه له، و حرمة التصرف فيه من جهة انتفاء الملكية.

و الحاصل: أنّ الرضا بالقبض ليس مطلقا، بل مقيّد بكون القابض مالكا، و حيث إنّ الملكية منتفية في الوجه الأوّل و الثاني كان الرضا بالقبض منتفيا أيضا، فيكون تصرف الآخذ كتصرف الغاصب في الضمان و الحرمة.

(1) يعني: يتقيّد الرّضا بالتصرف بما إذا كان القابض مالكا مستحقا لما يقبضه.

(2) كما إذا أعطى زيد دينارا لعمرو باعتقاد كونه مديونا له، فأدّى دينه به، و رضي بتسلّم عمرو للدينار و تصرّفه فيه بما أنّه مالكه، و لكن علم عمرو بعدم استحقاقه شيئا على زيد، فإنّه لا يجوز له التصرف في الدينار بمجرد رضا زيد بإقباضه إياه.

و وجه عدم الجواز هو: أنّ رضا زيد بالتصرف في الدينار ليس مطلقا، بل مقيّد بكون القابض- و هو عمرو- مالكا، و مع عدم مالكيته له واقعا ينتفي رضا زيد بالتصرف في ماله، فإنّ انتفاء المقيّد بانتفاء قيده من القضايا التي قياساتها معها.

ص: 293

كما أنه لا إشكال (1) في الجواز إذا أعرضا عن أثر العقد و تقابضا بقصد إنشاء التمليك ليكون معاطاة صحيحة عقيب عقد فاسد.

و أمّا (2) إن وقع الرضا بالتصرف بعد العقد- من دون ابتنائه على استحقاقه بالعقد السابق، و لا قصد لإنشاء التمليك، بل وقع مقارنا لاعتقاد الملكية الحاصلة، بحيث (3) لولاها كان الرّضا أيضا موجودا،

______________________________

(1) إشارة إلى الوجه الثالث. و الوجه في عدم الإشكال في جواز التصرف فيه و انتفاء الضمان هو كون التقابض حينئذ مصداقا للمعاطاة، و عدم توقف صحتها على العقد السابق الفاسد حسب الفرض.

(2) هذا إشارة إلى الوجه الرّابع، و هو مقارنة الرّضا بالتصرف لاعتقاد الملكية به لا مقيّدا به، و كون العقد الفاسد وسيلة للتصرف، بحيث لو سئل كلّ منهما بعد فساد العقد «هل تكون راضيا بتصرف صاحبك في مالك» لأجاب بقوله: «نعم». و حكم هذا الوجه: أنّ إدخاله في المعاطاة منوط بأمرين:

أحدهما: كفاية الرّضا الارتكازي في حصول المعاطاة. و لعلّ ما أفاده في مفتاح الكرامة من قوله: «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر بإباحتهما التصرّف بأيّ وجه اتفق» يرجع إلى ذلك. و الوجه في كفاية هذا الرّضا المركوز في النفس- بل الرّضا الشأني- هو صدق «طيب النفس» على هذا الرّضا.

ثانيهما: عدم اعتبار إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض في إباحة التصرفات، بل عدم اعتبار فعل في ذلك، و كفاية وصول كلّ من العوضين إلى المالك الآخر، و حصول الرّضا بالتصرف قبله أو بعده.

فإن تمّ هذان الأمران صحّ الوجه الرابع، و جاز التصرف لكلّ واحد منهما، و إن نوقش فيهما أو في أحدهما لم يصح، و لحقه حكم المقبوض بالعقد الفاسد، و سيأتي مناقشة المصنف في الأمر الثاني.

(3) أي: بحيث لو لا الملكية، و هو متعلّق بقوله: «وقع» و بيان لمقارنة الرضا

ص: 294

و كان (1) المقصود الأصلي من المعاملة التصرف، و أوقعا العقد الفاسد وسيلة له.

و يكشف عنه (2) أنّه لو سئل كلّ منهما من رضاه بتصرّف صاحبه على تقدير عدم التمليك أو بعد تنبيهه على عدم حصول الملك كان (3) راضيا- فإدخال (4) هذا في المعاطاة يتوقّف على أمرين [1]:

______________________________

بالتصرف لاعتقاد الملكية.

(1) معطوف على «لولاها» يعني: بحيث كان المقصود الأصلي .. إلخ. و هذا من عطف العلة على المعلول.

(2) أي: عن كون المقصود الأصلي من المعاملة هو التصرّف.

(3) جزاء الشرط في قوله: «لو سئل».

(4) جزاء الشرط في قوله: «و أما إن وقع الرضا بالتصرف» و غرضه بيان حكم الوجه الرابع، و قد عرفت آنفا أنّ إدراجه في المعاطاة مبني على أمرين.

أحدهما: عدم اشتراط المعاطاة بالرّضا الفعلي.

و ثانيهما: عدم توقف المعاطاة على خصوص الإنشاء الفعلي بالقبض و التعاطي، بل البناء على كفاية وصول كل من العوضين إلى الآخر في تحقق المعاطاة.

______________________________

[1] قال السيد قدّس سرّه: «الحق عدم تمامية شي ء منهما. أمّا الأوّل فلأنّ الرضا الباطني و إن كان كافيا في جواز التصرف في مال الغير، إلّا أنّه لا يكفي في لحقوق حكم المعاطاة من اللزوم بالملزمات و غيره. و أمّا الثاني فلأنّه لا بد في تحقق المعاملة من إنشاء قولي أو فعلي، فلا يكفي مجرّد وصول كل من العوضين إلى مالك الآخر. و دعوى: أنّ عنوان التعاطي في كلماتهم لمجرّد الدلالة على الرّضا، و أنّ السيرة التي هي عمدة الدليل موجودة في المقام كما ترى، فإنّا نمنع أنّ مجرّد الرضا كاف، بل لا بدّ من الإنشاء الفعلي أو القولي. و السيرة ممنوعة، و مسألة أخذ الماء و البقل و دخول الحمام ليست من باب المعاطاة، بل من باب الإذن المعلوم بشاهد الحال. و على فرضه فليست موردا للسيرة المستمرة الكاشفة كما لا يخفى. فالتحقيق عدم لحوق حكم المعاطاة لهذا القسم، إلّا أن

ص: 295

______________________________

يرجع إلى ما ذكرنا من إنشاء التمليك و الرضا المطلق بالصيغة الفاسدة، بأن يكون هذه الصيغة بمنزلة المعاطاة في إنشاء التمليك و التراضي به مطلقا، فتدبّر» «1».

أقول: الحق أن يقال: إنّ المعاطاة لم ترد في دليل حتى يجب اتباع عنوانها، و إقامة الدليل على إلحاق شي ء بها، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة الأدلة القاضية بصحة هذه المعاملة الفعلية. فعلى القول بكونها بيعا مفيدا للملك من أوّل الأمر كما اخترناه سابقا فلا إشكال في إفادتها الملك اللازم، لإطلاقات أدلة البيع و التجارة، من غير فرق بين كون آلة الإنشاء قولا و فعلا واجدا للخصوصيات أو فاقدا لها، إذ المناط صدق البيع العرفي عليه. و كذا الحال إذا كان الدليل سيرة العقلاء بما هم عقلاء، إذ لا فرق في نظرهم بين كون الإنشاء بالقول و الفعل.

و على القول بالملك عند التصرف أو غيره من ملزمات المعاطاة، فإن استند ذلك إلى السيرة الجارية على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة المال المباح بإذن المالك ما دام حيّا، فيجوّز العقلاء كلّ تصرف فيه، و لا يحكمون بالضمان عند التلف، بل يحكمون بتعين الباقي للعوضية من دون فرق في ذلك بينهم بين الفعل و القول.

و إن استند ذلك إلى اقتضاء، الجمع بين الأدلة له فيمكن الفرق بين الفعل و القول، حيث إنّ الجمع بين الأدلة منوط بنهوض الدليل على جواز كل تصرف، و هو في الفعل ثابت شرعا دون القول، و ذلك لأنّ الإباحة المعاطاتية، إمّا لأجل الرضا الضمني، و إمّا شرعية محضة مستندة إلى الإجماع، و المتيقن منه هو المعاملة الفعلية.

و أمّا الأولى- أي الإباحة لأجل الرضا الضمني- فقد تعرّض لها المحقق الأصفهاني قدّس سرّه في حاشيته بما هذا لفظه: «فقد مرّ غير مرّة أنّ التسليط الخارجي حيث إنّه صادر عن الرضا، فإثبات يد الغير عليه- عن الرّضا- له دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرّف كان. بخلاف الإنشاء القولي الصادر عن الرّضا، فإنّه يدلّ على أنّ التمليك مرضي به. و لم يحصل. و التسليط الواقع بعده لا دلالة له نوعا إلّا على الالتزام بالمعاملة القولية،

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 85

ص: 296

______________________________

لا عن الرضا به بخصوصه، و حيث إنّه نوعا بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلذا لا يجدي في استكشاف الرضا بالتصرفات.

و هذا هو الفارق بين المعاطاة و العقد الفاسد في إفادة الأولى للإباحة دون الثاني.

و عليه فلا رضا و لو ضمنا في المعاملة القولية الفاقدة لما يشك في اعتباره حتى يكون على طبقه إباحة شرعية، ليكون مقتضى الجمع بين الأدلة حصول الملك عند التصرف أو التلف» «1».

و محصل ما أفاده قدّس سرّه في الفرق بين المعاطاة و بين الإنشاء القولي الفاسد هو: أنّ التسليط الخارجي لمّا نشأ عن الرّضا بكلّ تصرف فله دلالة نوعية على الرّضا بكل تصرف، فمقتضى الجمع بين الأدلة حينئذ هو الملكية عند التصرف أو التلف.

و هذا بخلاف الإنشاء القولي الفاسد، فإنّه لا يدلّ إلّا على الرضا بالتمليك، و المفروض عدم حصوله. و أمّا التسليط الواقع بعده فإنّه لمّا كان بعنوان الوفاء بما اعتقد تأثيره فلا يكشف عن الرضا بالتصرفات، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى، حيث إنّ التسليط الخارجي لمّا كان بعنوان التمليك و إنشاء له فالرّضا أيضا يكون بالتمليك، لا بالتصرفات في ماله بعنوان أنّه ماله و هو مالكه، فوزان المعاطاة وزان الإنشاء القولي في عدم الدلالة على الرّضا بالتصرفات.

و بالجملة: فمن ناحية الرّضا لا فرق بين القول و الفعل. فالإنشاء القولي الفاسد لا يترتب عليه أثر أصلا حتى جواز التصرف، بخلاف الفعل و هو المعاطاة، فإنّه بناء على عدم تأثيره في الملكية يترتب عليه إباحة التصرف شرعا، للإجماع و السيرة، لا لأجل الرّضا الضمني فيه الموجود في كلّ من الإنشاء القولي الفاسد و المعاطاة و هي التقابض.

فعدم كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة ليس لاعتبار وجود الرضا الضمني في المعاطاة الفعلية دون الإنشاء القولي الفاسد حتى يكون الفارق بينهما ذلك الرّضا، بل الفارق بينهما

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 63

ص: 297

الأوّل: كفاية هذا الرضا المركوز في النفس، بل (1) الرضا الشأني، لأنّ (2)

______________________________

(1) يعني: يتوقف إدراج الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني الذي هو أخفى من الرّضا الارتكازي، فإنّ الرّضا الارتكازي موجود بالفعل في النفس، و لكن الشأني لا حظّ له من الوجود فعلا، و إنّما هو بحيث لو التفت إلى ذات الشي ء المرضيّ لرضي به.

ففي المقام لو التفت المتعاقدان إلى بطلان العقد و فساده و عدم حصول النقل الملكي لرضي كلّ منهما بتصرف الآخر في ماله. و هذا الرضا الاقتضائي في قبال الرضا الفعلي، و هو الرّضا بالتصرف اعتقادا بصحة العقد و كون الآخذ مالكا.

(2) تعليل لتوقف إدخال الوجه الرابع في المعاطاة على كفاية الرّضا الشأني،

______________________________

هو وجود السيرة و الإجماع على الإباحة في المعاطاة الفعلية، دون الإنشاء القولي الفاسد.

فالفرق بين العقد الفاسد و بين المعاطاة حكمي لا موضوعي.

فتلخص: أنّ الإنشاء القولي الفاسد لا أثر له أصلا، و المقبوض به بمنزلة المغصوب في الحرمة و الضمان.

نعم مع العلم بالتراضي يجوز لهما التصرف. لكنه ليس من المعاطاة المصطلحة التي هي عبارة عن إنشاء التمليك بالفعل. فما أفاده المحقق الثاني و من تبعه من «كون الإنشاء القولي الفاسد معاطاة» لا يخلو من غموض.

و عليه فما عن الفقهاء قدّس سرّهم «من ضمان المقبوض بالعقد الفاسد و حرمة التصرف فيه» متين إن لم يكن تراض منهما بالتصرف، و إلّا فلا بأس بالتصرف و عدم الضمان لكن من باب الإذن و الرضا في ذلك، لا من باب كونه معاطاة. فلا يمكن التوفيق بين كلام الفقهاء و بين ما عن المحقق الثاني و من تبعه.

و حمل التراضي على تقابض جديد بعنوان المعاطاة خلاف ظاهر عبارة المحقق الثاني «كان معاطاة» لظهور رجوع ضمير «كان» في عبارته المزبورة إلى نفس ما أوقع و هو الإنشاء الملحون، فنفس الإنشاء الملحون معاطاة.

ص: 298

الموجود بالفعل هو رضاه من حيث كونه مالكا في نظره. و قد صرّح بعض (1) من قارب عصرنا بكفاية ذلك. و لا يبعد رجوع الكلام المتقدم ذكره (2) إلى هذا.

و لعلّه يصدق طيب النفس (3) على هذا الأمر المركوز في النفس (4).

الثاني: أنّه لا يشترط في المعاطاة إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض (5) بل و لا بمطلق الفعل، بل يكفي وصول كلّ من العوضين الى المالك الآخر، و الرّضا بالتصرف قبله أو بعده على الوجه المذكور (6).

______________________________

و بيانه: أنّ الرضا بالتصرف- الموجود فعلا- لا ينفع من جهة الاعتقاد بصحة العقد، فإن كان المدار على الرضا الفعلي لم يندرج الوجه الرابع في المعاطاة، و إن كان على الرضا الشأني اندرج فيها.

(1) و هو صاحب المقابس قدّس سرّه «1».

(2) و هو كلام السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، المتقدّم مفاده في المتن بقوله: «كما إذا علم الرّضا من أوّل الأمر .. و علم التراضي منهما كان معاطاة ..».

(3) إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحل دم امرء مسلم و لا ماله إلّا بطيبة نفس منه» «2».

(4) يمكن أن يستأنس من عدم المناقشة في كفاية الرّضا الشأني التزامه بها في المقام، و هو إدراج الوجه الرابع في المعاطاة.

(5) يعني: من الطرفين، في قبال قوله: «و لا بمطلق الفعل» بأن يراد منه كفاية إعطاء أحدهما و أخذ الآخر في صدق المعاطاة.

(6) لعلّ المراد بالوجه المذكور هو الوصول على وجه إنشاء الإباحة أو التمليك، بأن لا يكون كفاية وصول العوض مجرّدا عن القصد، إذ لا يتحقق به المعاطاة قطعا.

______________________________

(1): مقابس الأنوار، ص 138

(2) وسائل الشيعة ج 3، ص 424، الباب 3 من أبواب مكان المصلّي، الحديث: 1

ص: 299

و فيه (1) إشكال، من (2) أنّ ظاهر محلّ النزاع بين العامة و الخاصة هو العقد الفعلي كما ينبئ عنه (3) قول العلامة رحمه اللّه في ردّ كفاية المعاطاة في البيع: «إنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» «1». و كذا استدلال المحقق الثاني على عدم

______________________________

(1) أي: و في الأمر الثاني- و هو عدم اشتراط إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض حتى من طرف واحد- إشكال، و سيذكر المصنف قدّس سرّه وجهي الإشكال، ثم يرجّح كفاية وصول العوضين بناء على القول بإفادة المعاطاة للإباحة، لا الملك.

(2) هذا أحد وجهي الإشكال على عدم اشتراط الإباحة أو التمليك بالقبض، و تحقّقه بمجرد وصول كلّ من العوضين إلى مالك الآخر.

و حاصل هذا الوجه: أنّ محل النزاع بين العامة و الخاصة في المعاطاة هو العقد الفعلي كما يدل عليه قول العلامة في ردّ كفاية المعاطاة في البيع: «أنّ الأفعال قاصرة عن إفادة المقاصد» و كذا استدلال المحقق الثاني على عدم لزومها «بعدم كون الأفعال كالأقوال في صراحة الدلالة». و كذا ما تقدّم من الشهيد رحمه اللّه في قواعده: «من أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول، و إنّما يفيد الإباحة ..» إلى غير ذلك من العبارات التي تظهر منها أنّ محلّ الكلام في المعاطاة هو الإنشاء الحاصل بالتقابض، فالإنشاء المتحقق بغير ذلك خارج عن موضوع بحثهم في المعاطاة.

و كذا يظهر ذلك من كلمات العامة، حيث إنّه ذكر بعضهم «أنّ البيع ينعقد بالإيجاب و القبول و بالتعاطي» فإنّ ظاهره هو التقابض.

و عليه فبعد بطلان هذا الأمر الثاني لا سبيل لإدراج الوجه الرابع في المعاطاة، لعدم حصول التقابض بقصد الإنشاء، و المفروض عدم كفاية مجرّد وصول العوضين إلى الطرفين.

(3) أي: كما ينبئ قول العلّامة عن أنّ محل النزاع بين العامة و الخاصة هو خصوص العقد الفعلي.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

ص: 300

لزومها «بأن الأفعال ليست كالأقوال في صراحة الدلالة» «1». و كذا ما تقدّم من الشهيد رحمه اللّه في قواعده من «أنّ الفعل في المعاطاة لا يقوم مقام القول، و إنّما يفيد الإباحة» «2». إلى غير ذلك من كلماتهم الظاهرة في أنّ محلّ الكلام هو الإنشاء الحاصل بالتقابض.

و كذا كلمات العامة «3»، فقد ذكر بعضهم: أنّ البيع ينعقد بالإيجاب و القبول و بالتعاطي (1).

و من (2) أنّ الظاهر أنّ عنوان التعاطي [التقابض] في كلماتهم لمجرّد (3)

______________________________

(1) الظاهر في التقابض. و إرادة مطلق الفعل منه- و لو مجرّد وصول العوضين- محتاجة إلى القرينة.

(2) معطوف على قوله قبل أسطر: «من أن ظاهر .. إلخ» و هذا ثاني وجهي الاشكال، و مقصوده تصحيح المعاطاة بمجرّد وصول العوضين، و عدم توقفها على القبض و لو من طرف واحد.

و حاصله: أنّ عنوان التعاطي لم يقع في حيّز دليل حتى يتبع ذلك بخصوصه.

و عليه فاللازم حينئذ ملاحظة دليل صحة المعاطاة، فإن اقتضى دليلها التعدّي عن التعاطي إلى كلّ فعل يدلّ على الرضا فلا بدّ من التعدّي إليه، و إلّا فيقتصر على التعاطي، فنقول: إنّ عمدة الدليل على صحة المعاطاة هي السيرة الموجودة في غير صورة التقابض أيضا، لوجودها في أخذ الماء و البقل و غير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم، فإنّ بناء الناس على أخذها و وضع الفلوس في الموضع المعدّ لها.

و بالجملة: فعلى هذا يكون المعيار في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف.

(3) خبر قوله: «أن عنوان التعاطي».

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 58

(2) القواعد و الفوائد، ج 1، ص 178، رقم القاعدة 47 و العبارة منقولة بالمعنى.

(3) تقدم نقل بعض كلماتهم في عدّ الأقوال في المعاطاة، فراجع ج 1، ص 329

ص: 301

الدلالة على الرّضا، و أنّ عمدة الدليل على ذلك هي السيرة (1)، و لذا (2) تعدّوا إلى ما إذا لم يحصل إلّا قبض أحد العوضين (3).

و السيرة موجودة في المقام (4)، فإنّ بناء الناس على أخذ الماء و البقل و غير ذلك من الجزئيات من دكاكين أربابها مع عدم حضورهم، و وضعهم الفلوس في الموضع المعدّ له، و على (5) دخول الحمام مع عدم حضور صاحبه، و وضع الفلوس في كوز الحمّامي.

فالمعيار (6) في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما مع التراضي بالتصرف.

و هذا (7) ليس ببعيد

______________________________

(1) قد تكرّرت السيرة في كلمات الأصحاب، و استدلّ بها المصنف على مدّعاه من إفادة الملك بقوله: «للسيرة المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك» «1».

(2) يعني: و لأجل كون التعاطي لمجرّد الدلالة على الرّضا- و عدم خصوصية للتعاطي- تعدّوا .. إلخ.

(3) يعني: حصل إنشاء المعاملة بقبض أحد العوضين، و كان قبض العوض الآخر بعنوان الوفاء.

(4) أي: في وصول العوضين- بدون التعاطي- مع الرضا بالتصرف.

(5) معطوف على «أخذ الماء» يعني: أنّ بناء الناس على دخول الحمّام مع .. إلخ.

(6) هذه نتيجة عدم دخل خصوصية التقابض في حصول المعاطاة.

و عليه تمّ إلى هنا إدراج الوجه الرابع في المعاطاة، لكنّه مقيّد بالمعاطاة المبيحة لا المملّكة. و بهذه العبارة قد وفى المصنف قدّس سرّه بما وعده في التنبيه الثاني- في حكم انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال المثمن و أخذ المثمن- بقوله: «و سيأتي توضيح ذلك في مقامه إن شاء اللّه تعالى».

(7) يعني: و حصول المعاطاة بوصول المالين أو أحدهما- مع التراضي بالتصرف- ليس ببعيد على القول بالإباحة.

______________________________

(1): راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 371

ص: 302

على القول بالإباحة (1) [1].

______________________________

(1) لعلّ وجه هذه التقييد هو: أنّ دليل هذه المعاطاة- و هو السيرة- لا يساعد على أكثر من القول بالإباحة، و لا يساعد على القول بالملك.

هذا آخر ما أردنا إيراده من توضيح كلام المصنف قدّس سرّه في المعاطاة، و نرجو من فضله تعالى شأنه أن يمنّ علينا بالقبول، و أن ينفع به إخواننا المتّقين من أهل العلم و الفضل، زاد اللّه تعالى في تأييداتهم.

______________________________

[1] لا ينبغي الإشكال في حصول الإباحة بذلك، و عدم توقفها على التقابض.

لكن ترتيب آثار المعاطاة عليها مشكل جدّا، فلا يلزم بما تلزم به المعاطاة، بل ليس ذلك إلّا إباحة مالكية منوطة بطيب النفس.

و بالجملة: لا يكون ما أفاده المصنف قدّس سرّه من الصورة الرابعة- و إناطة كونها من المعاطاة بتسليم أمرين- ممّا يمكن المساعدة عليه.

إذ في أوّلهما: عدم كون طيب النفس الإنشائي في المعاملات- التي منها المعاطاة- كافيا في صحتها، و إن كان ذلك كافيا في جواز التصرفات الخارجية.

و في ثانيهما: أنّ المتيقن من السيرة- التي هي عمدة الدليل على الإباحة المعاطاتية- هو التقابض الذي هو المعاطاة المتداولة بين الناس، و الأمثلة المزبورة ليست من المعاطاة، بل من الإباحة المالكية المتقومة بطيب النفس.

مضافا إلى: أنّ تصحيح هذه الصورة بالسيرة مناف لما تقدّم من الاستدلال بالسيرة على مملّكية المعاطاة، كمنافاته للخدشة فيها بكونها ناشئة من قلّة المبالاة بالدين.

و وجه المنافاة إنّ السيرة على إنشاء المعاملة بالتقابض إمّا أن تكون مع قصد التمليك أو الإباحة، و لا تعدّد في عمل العقلاء و المتشرعة حتى يعتمد عليه تارة في إفادة الملك، و أخرى في الإباحة. ثم لو فرض رمي السيرة بقلة المبالاة لم تكن دليلا على شي ء من الملك و الإباحة كما لا يخفى، فتأمّل في كلمات المصنف لعلّك تجد للجمع بينها سبيلا

ص: 303

[مقدمة في ألفاظ عقد البيع]

اشارة

مقدمة (1)

______________________________

مقدمة في ألفاظ عقد البيع

(1) قد تعرّض المصنف قدّس سرّه في هذه المقدمة لمقصدين.

أحدهما: البحث في اعتبار أصل اللفظ في البيع.

و الثاني: في اعتبار الخصوصيات الملحوظة في اللفظ بعد اعتبار أصله.

و قد تضمّن المقصد الأوّل لأمور:

أحدها: أن اعتبار اللفظ في البيع، بل في جميع العقود اللازمة ممّا نقل عليه الإجماع، فأصالة اللزوم في الملك و إن اقتضت ترتب ملك لازم على المعاطاة المقصود بها الملك، إلّا أنّ الإجماع المزبور أوجب الخروج عن عموم أصالة اللزوم، و أنّ المفيد للملك اللّازم هو الإيجاب و القبول اللّفظيّان، فالمعاطاة تفيد الملك الجائز، و يتوقف لزومها على طروء الملزم.

ثانيها: أن القدر المتيقن من الإجماع المتقدم هو صورة قدرة المتبايعين على الإنشاء القولي، لكونه دليلا لبّيّا. و أما العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس فلا خلاف و لا إشكال في قيام الإشارة فيه مقام اللفظ، سواء تمكّن من التوكيل أم لا.

هذا إذا قلنا بأنّ معاطاة الأخرس كمعاطاة المتكلم تفيد ملكا جائزا. و أما بناء على الفرق بينهما، و أن الإنشاء الفعلي من الأخرس كالإنشاء القولي من غيره فلا يتوقف

ص: 304

في خصوص (1) ألفاظ عقد البيع.

قد عرفت (2) أنّ اعتبار اللفظ في البيع- بل في جميع العقود- ممّا نقل عليه الإجماع (3)، و تحقّق فيه الشهرة العظيمة (4)، مع الإشارة إليه في بعض

______________________________

لزوم بيعه على الإشارة و الكتابة أصلا، و ذلك لأنّ المتيقن من الإجماع على اعتبار اللّفظ في اللزوم هو القادر عليه، فتكون معاطاته جائزة، و أمّا العاجز عن اللفظ فيبقى تحت عموم أصالة اللزوم. و سيأتي مزيد توضيح للفرق بين معاطاة الأخرس و غيره.

ثالثها: أنّ الظاهر كفاية الكتابة مع العجز عن الإشارة. و أمّا مع التمكن منها فقد ترجّح الإشارة، لكونها أظهر في الإنشاء، هذا إجمال ما أفاده المصنف في المقصد الأوّل.

(1) يعني: الخصوصيات الدخيلة في ألفاظ عقد البيع، في قبال الإكتفاء بمطلق اللفظ فيه.

(2) يعني: في أدلة اللزوم. ثم إنّ هذا شروع في المقصد الأوّل.

(3) حيث قال بعد الفراغ من أدلة اللزوم: «و عن جامع المقاصد: يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع» و لم أظفر على تصريحه بالإجماع، و إن تكرّر منه قوله:

«العقود اللازمة تتوقف على اللفظ» فقال- في اعتبار الماضوية و الموالاة و الإعراب و البناء في عقد البيع- ما لفظه: «و كذا كل عقد لازم، لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة، و غيرها لم يدلّ عليه دليل» «1».

و قريب منه كلامه في الإجارة و الهبة و النكاح، فراجع. و لعلّه استفيد الإجماع من إرسال الحكم إرسال المسلّمات.

(4) كما في المسالك- في شرح ما أفاده المحقق قدّس سرّه من عدم كفاية التقابض في حصول الملك- حيث قال: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل كاد يكون إجماعا» «2» و نحوه عبارته في شرح اللمعة.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 60

(2) مسالك الأفهام، ج 3، ص 147، الروضة البهية، ج 3، ص 222

ص: 305

النصوص (1). لكن هذا (2) يختص بصورة القدرة.

أمّا مع العجز عنه كالأخرس، فمع عدم القدرة على التوكيل لا إشكال و لا خلاف في عدم اعتبار اللفظ، و قيام الإشارة مقامه (3).

______________________________

(1) كقوله عليه السّلام: «إنّما يحلل الكلام و يحرم الكلام» و قال المصنف قدّس سرّه في ذيله:

«و كيف كان فلا تخلو الرواية عن إشعار أو ظهور» ثم ذكر روايات أخر مشعرة باعتبار اللفظ في عقد البيع «1».

(2) يعني: أنّ اعتبار اللفظ في العقود مختصّ بحال القدرة. قال المحقق الأردبيلي قدّس سرّه: «إنّما يشترط أي اللفظ المعتبر مع الإمكان، و مع التعذّر يقوم مقامه الإشارة كما في الأخرس و من بلسانه آفة، فإنّها بمنزلة تكلمه» «2».

و في الروضة: «و تكفي الإشارة الدالّة على الرّضا على الوجه المعيّن مع العجز عن النطق لخرس و غيره، و لا تكفي مع القدرة» «3».

و في مفتاح الكرامة: «قد طفحت عباراتهم بأنّ العاجز عن النطق لمرض و شبهه كالأخرس» «4».

و كيف كان فالظاهر عدم اختصاص الحكم بالأخرس، بل موضوع المسألة هو العاجز عن النطق و إن لم يكن أخرس.

و قال في الجواهر: «و دعوى اختصاص ذلك في خصوص الأخرس كما ترى، ضرورة عدم الفرق بين الجميع، كما لا يخفى على من أحاط خبرا بمدرك المسألة» «5».

(3) لأنّ الإشارة حينئذ- كالقول من القادر على التلفظ- عهد مؤكّد، فيشمله

______________________________

(1): تقدم ذكرها في ج 1، ص 574 و 576 و 607 و 608

(2) مجمع الفائد و البرهان، ج 8، ص 144، ذكر هذا الكلام في شرح قول العلامة: «و لو تعذر النطق كفت الإشارة».

(3) الروضة البهية، ج 3، ص 225

(4) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 163

(5) جواهر الكلام، ج 22، ص 251

ص: 306

و كذا (1) مع القدرة على التوكيل. لا لأصالة عدم وجوبه (2)- كما قيل (3)-

______________________________

قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ توضيحه: أنّ الصادر من القادر على التلفظ قد يكون عهدا غير مؤكّد، و قد يكون مؤكّدا و هو المسمّى بالعقد، فللقادر على التكلم سنخان من العهد. و كذلك يتصور هذان السنخان بالنسبة إلى العاجز عن النطق كالأخرس، فإنّ له أيضا سنخين من العهد بلحاظ قوّة الدلالة على العهد و ضعفها، فإنّ للإشارة منه- كاللفظ من غيره- دلالة قويّة على العهد.

و لا مجال لتوهم لزوم تحريك لسانه هنا كلزومه في باب القراءة. و ذلك لأنّ المطلوب هناك هو القراءة، و تحريك لسانه بما يناسبها هو المقدار المقدور عليه منها.

بخلاف المقام، فإنّ المطلوب فيه هو الدلالة على تأكّد العهد، و الإشارة من العاجز عن التكلم دالّة عليه، فلا حاجة إلى تحريك اللسان.

هذا كله مضافا إلى: إطلاق ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود. و المتيقن من الخارج هو القادر على التلفظ مباشرة، فإنّه يجب عليه الإنشاء اللفظي. و أمّا إذا كان عاجزا عن التكلم مباشرة- و إن كان قادرا عليه تسبيبا بالتوكيل- فلا يشمله الإجماع، فمقتضى الإطلاق الإكتفاء بالإشارة، و عدم توقف صحته على التوكيل.

(1) معطوف على «فمع عدم القدرة على التوكيل».

(2) و لا لقوله عليه السّلام: «كلّما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر» لقصوره عن نفي وجوب التوكيل.

(3) لعلّ القائل المحقق الثاني قدّس سرّه فإنّه قال: «يجوز لمن لا يعلم الإيقاع بمقدوره، و لا يجب التوكيل للأصل. نعم يجب التعلم إن أمكن من غير مشقة عرفا» «1» فاستند قدّس سرّه في نفي وجوب التوكيل إلى أصالة عدم وجوبه.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 60

ص: 307

لأنّ (1) الوجوب بمعنى الاشتراط- كما فيما نحن فيه- هو الأصل [1].

______________________________

(1) تعليل لقوله: «لا لأصالة» و غرضه منع جريان أصالة عدم وجوب التوكيل، بتقريب: أنّ مقتضى الأصل عدم سببية ما شكّ في سببيّته، من جهة احتمال اشتراطه بشرط مفقود، فلا يحكم بتحقق المسبب كالملكية إلّا بعد وجود جميع ما يحتمل دخله في سببية السبب.

و بعبارة أخرى: أصالة عدم وجوب التوكيل لا مجرى لها في المقام، سواء أريد بها الاستصحاب أي أصالة عدم الجعل، أم أريد بها أصالة البراءة.

وجه عدم الجريان: أنّ المشكوك فيه ليس هو الوجوب التكليفي- كالشك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال- حتّى يدفع بأصالة عدم وجوبه، بل هو الوجوب الوضعي بمعنى اشتراط صحة بيع الأخرس- و سائر معاملاته- بالتوكيل عند قدرته عليه، و من المعلوم أنّ أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات تقتضي الاشتراط، إذ بدون التوكيل يشك في تأثير إشارة الأخرس في مقام الإنشاء، فتأمّل.

______________________________

[1] كون الأصل هو الاشتراط مبنيّ على عدم عموم أو إطلاق في أدلة المعاملات، و إلّا فأصالة العموم تنفي الشرطية. و لعلّ مراد القائل بجريان أصالة عدم الوجوب ذلك، فليس مراده الأصل العملي، و معها لا تصل النوبة إلى الأصل العملي، و هو أصل عدم السببية أو عدم ترتب الأثر الذي هو المحكّم في المعاملات.

ثم إنّه قد يتوهم: أنّ وجه عدم جريان أصالة عدم الاشتراط هو عدم جريان أصالة البراءة في الأحكام الوضعية، و لذا دفعه المحقق الإيرواني قدّس سرّه بجريانها فيها، مستدلّا على ذلك باستدلال الامام عليه السّلام بحديث الرفع على بطلان طلاق المكره و عتاقه، «1»، فلاحظ.

لكن الإنصاف أنّه ليس وجه عدم جريان أصالة عدم الوجوب ذلك، بل ما أفاده المصنف من فحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس، و من المعلوم أنّه

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 89

ص: 308

بل (1) لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في طلاق الأخرس، فإنّ حمله (2) على صورة عجزه عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر.

______________________________

(1) معطوف على «لا لأصالة» و غرضه إقامة الدليل على أنّ العاجز عن النطق لا يجب عليه التوكيل حتى تنشأ المعاملة بالإيجاب و القبول اللفظيين.

و محصل الاستدلال هو: استفادة جواز البيع- بالإشارة- بالأولوية من حكم الشارع بصحة طلاق الأخرس بالإشارة المفهمة للمقصود، ففي معتبرة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «قال: طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها، و يضعها على رأسها، ثم يعتزلها» «1».

و نحوها مرسلة السكوني «2».

و تقريب الدلالة: أنّ إطلاقهما يشمل صورة التمكن من التوكيل. و حمل هذا الإطلاق على صورة العجز عن التوكيل حمل المطلق على الفرد النادر، فلا يجوز.

و تعبير المصنف قدّس سرّه بالفحوى إنّما هو لأجل اهتمام الشارع في الأعراض أشدّ من اهتمامه في الأموال، فإذا كان اعتبار التلفظ بالطلاق- عند العجز عنه- ساقطا حتّى مع التمكن من التوكيل، فسقوطه في المعاملات المالية التي ليست كالفروج في الأهمية بالأولوية.

(2) أي: حمل ما ورد في طلاق الأخرس على صورة العجز حمل للمطلق على الفرد النادر، و هو في عدم الجواز كتخصيص العام بأكثر أفراده.

______________________________

مع الدليل الاجتهادي لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

كما أنّه لا تصل النوبة، إلى أصالة الفساد المحكمة في المعاملات، بعد وجود الدليل الاجتهادي على عدم اعتبار التوكيل الحاكم على أصالة الفساد.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 301، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق و شرائطه، الحديث: 5

(2) المصدر، ص 300، الحديث: 3

ص: 309

مع (1) أنّ الظاهر عدم الخلاف في عدم الوجوب (2).

ثمّ (3) لو قلنا بأنّ الأصل في المعاطاة اللزوم- بعد القول بإفادتها للملكية-

______________________________

(1) إشارة إلى دليل آخر على عدم وجوب التوكيل على العاجز عن التكلم، و حاصله: أنّ الظاهر نفي الخلاف عن عدم وجوب التوكيل، ففي مفتاح الكرامة:

«و لم ينصّ أحد على وجوب التوكيل في الأخرس، و لا احتاط به» «1».

(2) أي: وجوب التوكيل.

(3) يعني: أنّ العاجز عن مباشرة اللفظ كالأخرس تكون معاطاته لازمة و إن كانت معاطاة المتكلم جائزة. و غرضه قدّس سرّه من هذه الجملة التنبيه على أمرين:

الأوّل: الاستدراك على ما أفاده بقوله: «أما مع العجز عنه كالأخرس و قيام الإشارة مقامه ..» حيث إنّ ظاهره توقف لزوم عقد الأخرس على ما يقوم مقام اللفظ من إشارة مفهمة ثم كتابة، فلا يكفي مجرّد التقابض في لزوم بيعه، كما لا يكفي من القادر على اللفظ.

و محصّل الاستدراك: أنّ اعتبار الإشارة في معاملة الأخرس مبنيّ على إفادة المعاطاة للملك الجائز، فيقال: كما أنّ للقادر على اللفظ نحوين من الإنشاء، أحدهما لفظي لازم، و الآخر فعلي جائز، فكذا الأخرس. فإن اقتصر على التقابض كان كمعاطاة المتكلّم مفيدا للملك الجائز. و إن ضمّ الإشارة إلى التقابض كان إنشاؤه مفيدا للملك اللازم.

و أمّا بناء على ما هو الحق من عموم أصالة اللزوم- و أنّ الخارج عنها بالإجماع خصوص معاطاة المتمكّن من اللّفظ- كانت معاطاة العاجز عنه باقية تحت عموم أصالة اللزوم.

و على هذا لا يجب على الأخرس إفهام مقصوده بالإشارة، ثم بالكتابة، بل يكفيه التعاطي بقصد البيع. و ذلك لما عرفت من أنّ الإجماع على اعتبار اللفظ في

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 164

ص: 310

..........

______________________________

العقود اللازمة دليل لبيّ، و لم يعلم قيامه على خروج كل عقد فعلي عن عموم أصالة اللزوم، أو على خروج إنشاء خصوص القادر على اللفظ. و قد تقرّر في الأصول مرجعيّة أصالة العموم- عند دوران المخصّص المنفصل المجمل المردّد بين الأقل و الأكثر- في ما عدا المتيقن من المخصص. فيحكم بالفرق بين معاطاة القادر على التلفظ و العاجز عنه، بالجواز في الأوّل و اللزوم في الثاني.

و نتيجته: أنّه لا يتوقف لزوم عقد الأخرس على الإشارة القائمة مقام اللفظ، بل كما تصحّ إشارته تصح معاطاته، و تفيد ملكا لازما.

الثاني: أنّ ظاهر المتن وجود سنخين من الإنشاء في العاجز عن التكلم، فتارة يأتي بالإشارة المفهمة للمقصود، فتقوم مقام اللفظ بالنسبة إلى القادر عليه. و أخرى يقتصر على مجرّد الإعطاء و الأخذ بقصد التمليك و التملك، فيكون كالتقابض من المتكلم. و لكن معاطاة القادر على التلفظ و العاجز عنه مختلفان حكما، فهي من المتكلم جائزة، و من العاجز عنه لازمة.

و حيث كانت الإشارة و المعاطاة متمشّية من مثل الأخرس- و إن لم يكن بينهما فرق في الحكم- توقّف إحراز أحدهما على القرينة المعيّنة.

و هذا المطلب قد أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه أيضا بقوله: «نعم يعتبر وجود القرينة الدالة على إرادة العقد بها- أي بالإشارة- أو المعاطاة. و بها يحصل الفرق بين المعاطاة و العقد في العاجز» «1».

و لكنه في جملة أخرى من كلامه استفاد من إطلاق كلام الفقهاء- من قيام إشارة الأخرس مقام الصيغة- أنّهم قائلون بعدم كون المعاطاة بيعا، قال قدّس سرّه: «و لكن قد سمعت سابقا إطلاق الأصحاب قيام الإشارة مقام العقد من غير إشارة إلى بيع المعاطاة. و فيه إشارة إلى عدم كونها بيعا» «2».

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 251

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 252

ص: 311

فالقدر المخرج (1) صورة قدرة المتبايعين على مباشرة اللفظ.

و الظاهر أيضا كفاية الكتابة (2) مع العجز عن الإشارة، لفحوى ما ورد

______________________________

و ظاهر هذا الكلام أنّ الشارع أقام إشارة الأخرس مقام اللفظ، و ليس له إنشاء آخر بالتقابض ليكون قسيما للإشارة، بل كل ما عدا اللفظ مشمول لعنوان «الإشارة».

و على هذا يشكل ما في المتن من تصوير نحوين من الإنشاء في حقّ الأخرس كالقادر على التلفظ.

و قد أجاب المصنف عن هذا الإشكال بأنّه لا وجه لإنكار المعاطاة من الأخرس، للفرق بين الإشارة و التقابض. و يمكن توجيه كلام الفقهاء- الذي استفيد منه إنكارهم لبيعية معاطاة الأخرس- بأحد أمرين:

الأوّل: أنّه مبني على مرامهم من كون المعاطاة إباحة تعبدية لا بيعا. و أمّا بناء على بيعيّتها- كما حققناها مفصّلا- فلا وجه لاختصاص المعاطاة بالقادر على التكلم بل يمكن صدورها من الأخرس أيضا.

الثاني: أنّهم قدّس سرّهم بصدد بيان ما يقوم مقام الصيغة المعتبرة من المتكلم، فقالوا بقيام إشارة الأخرس مقامها. و أمّا إنشاء المعاملة بالمعاطاة فلا يختلف فيه القادر على اللفظ و العاجز عنه حتى يحتاج إلى تصريح. و أمّا ترتب الإباحة أو الملك الجائز أو اللازم على المعاطاة فهو أجنبي عن أصل تحقق الموضوع. و قد عرفت أنّ المصنف حكم بلزوم الملك في معاطاة الأخرس تمسكا بأصالة اللزوم. هذا.

(1) يعني: أنّ القدر الخارج- بالإجماع- عن عموم أصالة اللزوم هو معاطاة القادر على التكلم، فهي جائزة، و أما معاطاة الأخرس فباقية تحت العموم.

(2) هذا إشارة إلى أمر آخر يقوم مقام اللّفظ- بالنسبة إلى العاجز عن التكلم- و هو الكتابة، و لكنّها متأخرة رتبة عن الإشارة. فلا تصل النوبة إلى الإنشاء بالكتابة مع تمكّنه من الإشارة المفهمة لمقصوده. و استدلّ المصنف قدّس سرّه على صحّة إنشاء البيع

ص: 312

من النص (1) على جوازها في الطلاق.

مع (2) أنّ الظاهر عدم الخلاف فيه.

و أمّا مع القدرة على الإشارة فقد رجّح بعض (3) الإشارة.

______________________________

بالكتابة بوجهين، أحدهما: فحوى جواز إنشاء الطلاق بها، ثانيهما: الإجماع.

(1) كخبر يونس: «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته. قال: إذا فعل في قبل الطهر بشهود، و فهم منه كما يفهم من مثله، و يريد الطلاق جاز طلاقه على السنة» «1».

و قريب منه غيره، فإنّ الإكتفاء بالكتابة في الطلاق- مع شدّة اهتمام الشارع بحفظ الفروج- يدلّ بالأولوية على كفاية الكتابة في المعاملات المالية.

(2) يعني: لو فرض عدم وفاء النصّ الوارد في طلاق الأخرس بالكتابة- بإثبات جواز إنشاء البيع- لم يقدح في الالتزام بجواز إنشاء البيع بالكتابة، و ذلك لتسالم الأصحاب على كفايتها، كما لا يخفى على من راجع كلماتهم، قال السيد الفقيه العاملي قدّس سرّه: «و أما الكتابة فكالإشارة كما في التحرير و غيره» «2».

(3) قال الشهيد قدّس سرّه في شرائط صيغة البيع: «و لا- أي و لا تكفي- الكتابة حاضرا كان أو غائبا. و يكفي لو تعذّر النطق مع الإشارة» «3» أي الإشارة المفهمة كما صرّح بها في إشارة الأخرس. و نحوه كلام العلّامة في النهاية «4».

و يظهر أيضا من كاشف الغطاء على ما في الجواهر: «فما في شرح الأستاد من أنّ الكتابة قاصرة عن الإشارة لا يخلو من نظر» «5».

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 15، ص 300، الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث: 4

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 163

(3) الدروس الشرعية، ج 3، ص 192

(4) نهاية الاحكام، ج 2، ص

(5) جواهر الكلام، ج 22، ص 251

ص: 313

و لعلّه (1) لأنّها أصرح في الإنشاء من الكتابة.

و في بعض روايات الطلاق (2) ما يدلّ على العكس (3)، و إليه ذهب الحلي رحمه اللّه هناك (4) [1].

______________________________

(1) يعني: و لعلّ وجه الترجيح هو كون الإشارة أصرح في الإنشاء من الكتابة، حيث إنّ الكتابة لا تفيد الإنشاء إلّا بقرينة، فإنّ الإنسان غالبا يكتب شيئا لغرض آخر غير الإنشاء كامتحان المداد و القلم، أو حكاية كلام شخص سمعه، أو غير ذلك، فلا ظهور للكتابة في الإنشاء.

(2) كصحيح ابن أبي نصر البزنطي: «قال: سألت الرّضا عليه السّلام عن رجل تكون عنده المرأة يصمت و لا يتكلّم، قال: أخرس هو؟ قلت: نعم، و يعلم منه بغض لامرأته و كراهة لها، أ يجوز أن يطلّق عنه وليّه؟ قال: لا، و لكن يكتب و يشهد على ذلك.

قلت: فإنّه لا يكتب و لا يسمع كيف يطلّقها؟ قال: بالذي يعرف به من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته و بغضه لها» «1».

(3) حيث إنّه قدّم في رواية ابن أبي نصر الكتابة، و لو كانت متأخرة عن الإشارة كان اللازم تقديم الإشارة على الكتابة.

(4) أي: في كتاب الطلاق، حيث قال: «و من لم يتمكّن من الكلام- مثل أن يكون أخرس- فليكتب الطلاق بيده إن كان ممّن يحسن الكتابة، فإن لم يحسن فليؤم إلى الطلاق كما يومي إلى بعض ما يحتاج إليه، فمتى فهم من إيمائه ذلك وقع طلاقه» «2».

______________________________

[1] ينبغي قبل تحقيق كلام المصنف قدّس سرّه، بيان مقدمة، و هي: أنّ الاعتبارات النفسانية- العقدية أو الإيقاعية- تتصور ثبوتا على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون مع الغض عن إبرازها بمبرز- قولي أو فعلي- موضوعا لآثار شرعية، كإنكار النّبوّة أو ضروري من ضروريات الدّين، أو الاعتقاد بشريك له تعالى، فإنّ

______________________________

(1): وسائل الشيعة ج 15، ص 300، الباب 11 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث: 1

(2) السرائر الحاوي، ج 2، ص 678

ص: 314

..........

______________________________

لكن يظهر من جماعة منهم ابن زهرة و المحقق الأردبيلي و الشهيد الثاني و غيرهم قدّس سرّهم عدم الترتيب بين الإشارة و الكتابة، و أنّهما في رتبة واحدة، بل كلّ ما يفهم منه الطلاق يجوز إنشاؤه به، و يظهر ذلك أيضا من صاحب الجواهر، حملا لما في حسنة البزنطي- من ذكر الكتابة- على كونها أحد أفراد ما يقع به الطلاق «1»، فلا تدلّ الحسنة على تعيّن تقديم الكتابة على الإشارة، فلاحظ.

______________________________

مجرّد الإنكار النفساني- و لو بدون إبرازه بفعل أو قول- يوجب الارتداد الذي هو موضوع لأحكام شرعية.

و كالتوبة، حيث إنّ حقيقتها الندم القلبي و العزم على ترك المعاصي من دون اعتبار إبرازها بمبرز قولي و إن كان أحوط.

و كالعهد- على احتمال ضعيف- فإنّه قد احتمل بعض كفاية النيّة في ترتيب آثار العهد عليها. لكنّه في غاية الضعف كما ثبت في محله.

ثانيها: أن تكون موضوعيّتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها سواء أ كان مبرزها قولا أم فعلا، كما في جملة من العقود و الإيقاعات كالوكالة و الإجارة و الهبة و الرّهن و القرض و البيع و غيرها.

ثالثها: أن تكون موضوعيتها للآثار الشرعية منوطة بإبرازها بمبرز خاصّ كالطلاق و النذر و النكاح، فإنّ مبرزها لا بدّ أن يكون قولا بنحو خاص. و كالإسلام، فإنّ إبرازه بالشهادتين موضوع للآثار الشرعية.

و ربما تكون أكثر الملكات كذلك، فإنّ ملكة العدالة أو الاجتهاد مثلا لا يترتب عليها الأثر الشرعي إلّا إذا أبرزت. و كذلك الملكات الرذيلة، فإنّ الحسد مثلا و إن كان بنفسه مذموما، لكن موضوعيته للحرمة منوطة بالإبراز، كما يدلّ عليه حديث الرفع،

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 32، ص 61

ص: 315

______________________________

فيكون المبرز جهة تقييديّة.

إذا عرفت هذه المقدمة، فاعلم: أنّ الكلام يقع في مقامين:

الأوّل: في ما يقتضيه الدليل الاجتهادي من اعتبار المبرز و عدمه.

و الثاني: في ما يقتضيه الأصل العملي عند الشك في اعتبار أصل المبرز، أو في اعتبار مبرز خاص.

أمّا المقام الأوّل فإشباع الكلام فيه منوط بتتبع تامّ في أدلة تشريع الأحكام للاعتبارات النفسانية في كلّ مقام، فإن ثبت بتلك الأدلة أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني من حيث هو و إن لم يبرز بمبرز فلا كلام. و إن ثبت بها أنّ الموضوع ذلك الاعتبار النفساني أو الصفة النفسانية بوصف الإبراز- بحيث يكون الإبراز جهة تقييديّة- فإن دلّت تلك الأدلة على إطلاق المبرز، و أنّه لا فرق فيه بين كونه قولا و فعلا، أو دلّت على دخل مبرز خاصّ من قول متخصّص بخصوصيات مادية و هيئيّة كصيغتي الطلاق و النكاح- على المشهور- فلا إشكال في ذلك.

و أمّا المقام الثاني فمحصل الكلام فيه: أنّ الشك في اعتبار المبرز يتصور على وجهين:

الأوّل: أن يكون الشك في اعتبار أصل المبرز، كما إذا شك في أنّه هل يعتبر في ترتيب آثار العدالة- بناء على كونها ملكة- وجود مبرز أم لا.

الثاني: أن يكون الشك في اعتبار مبرز خاص بعد دلالة الدليل على اعتبار أصل المبرز، كما إذا دل الدليل على اعتبار إبراز البيع مثلا بالقول، ثم شكّ في اعتبار كيفيّة خاصة فيه كالماضوية و العربية، أو دلّ على اعتبار القول مطلقا و شكّ في تحققه بالفعل أيضا.

أمّا الوجه الأوّل فملخّص الكلام فيه: أنّ الشك فيه يرجع إلى الشك في جعل الحكم الشرعي، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة، لكونه من الشبهة الحكمية الناشئة من فقد

ص: 316

______________________________

الدليل، فإذا شككنا في جعل ملكة العدالة- بوجودها الواقعي أو بوجودها العلمي- موضوعا لأحكام تجري البراءة في تلك الأحكام إن كانت إلزاميّة، و أصالة العدم إن كانت غير إلزامية كما لا يخفى.

و أمّا الوجه الثاني فمحصل البحث فيه: أنّه إن كان الشّك في اعتبار كيفية خاصة- كالماضوية مثلا- فمع إطلاق دليل صحة ذلك الأمر الاعتباري كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و «الصلح جائز بين المسلمين» و غير ذلك، فلا إشكال في الرجوع إلى ذلك الإطلاق المقتضي لنفي اعتبار الكيفية الخاصة، و عدم دخلها في موضوعية ذلك الاعتبار النفساني، فيحكم بجواز إبرازه بالقول مطلقا و إن لم يكن بهيئة الماضي مثلا.

و مع عدم إطلاق دليل صحة ذلك الاعتبار يحكم بعدم دخل كيفية خاصة في ترتب الأثر الشرعي، لأصالة البراءة أو أصالة العدم. و إن كان الشك في موضوعية ذلك الاعتبار إذا أبرز بغير ما دلّ الدليل على مبرزيّته كما إذا دلّ دليل- من إجماع أو غيره- على اعتبار إنشاء البيع بالقول، و شككنا في أنّه إذا أنشئ بالفعل- من إشارة أو غيرها- فهل يترتب عليه ما يترتّب على إنشائه بالقول من الآثار الشرعية أم لا؟ فهذا يتصور على وجهين:

أحدهما: أن يكون الشك في اعتبار خصوص القول تعبّدا مع كون الفعل مصداقا لذلك الاعتبار كالبيع مثلا، بحيث يكون صدق البيع عرفا على المنشأ بالفعل كصدقه كذلك على المنشأ بالقول.

و الآخر: أن يكون الشك في صدق العنوان الاعتباري على الفعل، كما إذا شكّ في صدق البيع على التمليك المنشأ بالفعل. و هذا أحد المسلكين في عدم إفادة المعاطاة اللزوم، حيث إنّه قيل بعدم كون الفعل مصداقا لعنوان من عناوين العقود، فيكون قاصرا عن إفادة التمليك فضلا عن اللزوم، و لذا ذهبوا إلى إفادتها الإباحة.

و المسلك الآخر هو: إفادة المعاطاة للإباحة، لا لعدم مصداقيّتها للبيع، بل للإجماع

ص: 317

______________________________

المدّعى على اعتبار اللفظ في اللزوم، مع صدق العقد عليها على حدّ صدقه على القول، و إفادتها الإلزام و الالتزام كإفادة اللفظ.

فإن كان الشك على الوجه الثاني- و هو الشك في صدق عنوان العقد- فيرجع الشك إلى وجود سبب الانتقال، و من المعلوم أنّ قضيّة الاستصحاب عدم الانتقال، و بقاء المالين على ملك مالكيهما. و المراد بأصالة الفساد هو هذا الاستصحاب.

و إن كان الشك على الوجه الأوّل- و هو دخل مبرز خاص تعبّدا كالقول على وجه مخصوص في ترتّب الأثر الشرعي على الاعتبار النفساني، مع فرض صدق العقد على الفعل- فالأصل يقتضي عدم الاعتبار، لأن دخل المبرز الخاص إنّما يكون بالتعبّد، فالشكّ فيه شكّ في الجعل الشرعي، و مقتضى الأصل عدمه. فإنشاء الأمر الاعتباري بالفعل كإنشائه بالقول ممّا يترتب عليه الأثر الشرعي، لأنّ الشك في ترتب الأثر الشرعي عليه نشأ من احتمال دخل مبرز خاصّ فيه تعبّدا، و قد نفي ذلك بالأصل. و قد حقّق في محلّه جريان أصل البراءة في الوضعيات كجريانه في التكليفيّات.

فلا يصغى إلى ما قيل من: «أنّ الأصل في المقام يقتضي عدم ترتّب الأثر، لأنّه يشكّ في ترتّبه على المبرز المزبور، و مقتضى الاستصحاب عدمه، فكلّ من المالين باق على ملك مالكه. و هذا مرادهم بكون الأصل في العقود الفساد».

و ذلك لأنّ الشك في ترتب الأثر ناش عن الشك في دخل المشكوك اعتباره.

و لمّا كان الدخل تعبديّا جرى فيه البراءة أو أصل العدم، و بعد جريان الأصل في الشك السببي لا يجري في الشك المسببي حتى يقال: إنّ الأصل الجاري فيه هو أصالة الفساد، فإنّ جريان أصالة الفساد منوط بأمور:

أحدها: عدم جريان أصالة البراءة في الجزئية و الشرطية و السببية و المانعية، إمّا لعدم تأصّلها في الجعل و كونها منتزعة عن الأحكام التكليفية، و إمّا لاعتبار كون مجرى أصالة البراءة الشرعية حكما إلزاميّا حتى توجب مخالفته استحقاق العقوبة عقلا الذي ينفيه البراءة العقلية. و لذا قيل: إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم و هو الحكم، و العقلية

ص: 318

______________________________

تنفي اللازم و هو استحقاق العقوبة، و من المعلوم أن الحكم الوضعي- كالتكليفي غير الإلزامي- لا يوجب استحقاق العقوبة، فلا تجري فيه البراءة، فهي تختص بالحكم الإلزامي.

ثانيها: عدم تسبب أحد الشكين- أعني الشك في الفساد- عن الآخر، و هو الشك في الشرطية.

ثالثها: عدم حكومة الأصل السببي على المسببي.

رابعها: عدم جريان البراءة في المحصّلات، بناء على كون الإنشاء القولي و الفعلي في المعاملات منها.

خامسها: أنّ أصالة البراءة لا تثبت كون الفاقد لمشكوك الدخل موضوعا للأثر المترتب على الاعتبار النفساني المبرز إلّا على القول بالأصل المثبت.

توضيحه: أنّه إذا شككنا في دخل الماضوية مثلا في البيع بحيث لا يكون إنشاؤه و إبرازه بغير صيغة الماضي موضوعا للأثر الشرعي، فنفي اعتبار الماضوية بأصالة البراءة لا يثبت سببيّة الفاقد لها للأثر الشرعي إلّا بناء على حجية الأصول المثبتة.

لكن الكلّ كما ترى.

إذ في الأوّل: أنّ أصالة البراءة تجري في الوضعيات كجريانها في التكليفيّات، لوجود المناط و هو كون المشكوك فيه قابلا للوضع و الرفع التشريعيين في الوضعيات كوجوده في التكليفيّات.

و دعوى اعتبار كون مجرى البراءة متأصّلا في الجعل ممّا لا شاهد له، بل الشاهد على خلافها، حيث إنّ الرفع في مثل حديثه لمّا كان تشريعيّا كان من الضروري صحّة إسناد الرفع إلى ما له شأنيّة التشريع، و الرجوع فيه إلى الشارع بحيث لا يكون المرجع فيه إلّا الشارع، فاعتبار تأصّله في الجعل قيد زائد ينفى بإطلاق أدلة البراءة. فلا فرق في مورد البراءة بين المتأصّل في الجعل و غيره.

ص: 319

______________________________

و على هذا فتجري البراءة في الحكم الوضعي مطلقا سواء أ كان متأصّلا في الجعل كالملكية و الزوجية و نحوهما، أم منتزعا عن حكم تكليفي كالجزئية التي تنتزع عن الأمر المتعلّق بعدّة أمور بنحو الارتباطيّة بأن كانت تلك الأمور مؤثّرة في ملاك واحد. أو عن دخل شي ء في موضوع الحكم كدخل الاستطاعة في موضوع وجوب الحج، فإذا شككنا في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوبه أيضا، فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن الدخل، فنفي شرطية الرجوع إلى الكفاية يمكن بالبراءة، لأجل كون منشأ انتزاعها دخل الشارع ذلك في وجوب الحج. كما يمكن بإطلاق الدليل لو كان لفظيّا أو مقاميّا.

و لو لم يكن هذا الدخل شرعيّا لما جاز التمسك لنفيه بالإطلاق، إذ لا فرق بين الدليل و الأصل في كون موردهما ممّا يقبل التشريع. فشرطيّة مثل الرجوع إلى الكفاية لوجوب الحج منتزعة عن دخل الشارع له في موضوع وجوبه.

لكن الحق عدم جريان البراءة في دخل الرجوع إلى الكفاية في وجوب الحج، لفقدان الامتنان الذي هو شرط لجريان البراءة، لا لعدم المجعولية.

و من هنا يظهر غموض ما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّه من «انقسام الأحكام الوضعية إلى ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون متأصّلا في الجعل كالملكية و الزوجية و الرقية و نحوها.

الثاني: أن يكون الحكم الوضعي راجعا الى الحكم نفسه كالسببيّة و الشرطيّة و المانعية للوجوب مثلا، فالسببية و الشرطية و المانعية منتزعة عن جعل الحكم و لحاظه مقيّدا بقيد وجودي أو عدمي.

الثالث: أن يرجع الحكم الوضعي إلى متعلق التكليف كالجزئية و الشرطية و المانعية للمأمور به، فإنّها منتزعة من كيفية الأمر المتعلق بأشياء عديدة، فإنّه ينتزع الجزئية لكل واحد من تلك الأشياء، كما ينتزع الشرطية من الأمر المتعلق بشي ء مقيّدا بوجود شي ء آخر كالاستقبال و الستر، و المانعيّة من الأمر بشي ء مقيّدا بعدم شي ء آخر، كتقيّد الصلاة بعدم استصحاب المصلّي أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

ص: 320

______________________________

و بالجملة: فالجزئية و الشرطية و المانعية منتزعة عن كيفية الأمر، و ليست متأصلة في الجعل، فلا تجري فيها البراءة، و إن قلنا بشمول حديث الرفع للأحكام الوضعية، نعم ترتفع هذه الأمور بإجراء البراءة في مناشئ انتزاعها» انتهى ملخصا «1».

وجه الغموض ما عرفت من: أن دليل اعتبار كون مجرى البراءة حكما شرعيا هو كون الرفع تشريعيّا لا تكوينيّا، فلا بدّ في صحة إسناد الرفع التشريعي من كون المرفوع قابلا للتشريع نفيا و إثباتا. و من المعلوم أنّ صحة هذا الإسناد لا تتوقف إلّا على كون المرفوع ممّا يرجع فيه وضعا و رفعا إلى الشارع دون غيره. و بديهي أنّ هذا لا يتوقف على كون المرفوع متأصّلا في الجعل، بل يكفي في ذلك قابلية منشئه للتشريع.

و عليه فلا فرق في جريان البراءة في الشرطية و السببية و المانعية بين كونها راجعة إلى موضوع الحكم، و بين كونها راجعة إلى متعلّق الحكم، لأنّها في كليهما منتزعة عن الدخل الشرعي. و قد عرفت صحة إسناد الرفع إلى الشرطية و نحوها بلحاظ انتزاعها عن الدخل الشرعي، و عدم توقف صحته على كونها مجعولة بالذات.

و لو لم يكن هذا المقدار مصحّحا لإسناد الرفع التشريعي لم يصح التمسك أيضا بإطلاق الدليل الاجتهادي لنفيها. مثلا إذا شككنا في شرطيّة الماضوية في العقد نتمسّك في نفيها بإطلاق مثل «أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ» و كذا إذا شككنا في وجوب الرجوع إلى الكفاية في الحج. فلا فرق في الرجوع إلى البراءة بين كون مجراها مجعولا بالأصالة و بين كونه منتزعا.

نعم يمنع عن جريان البراءة في الوضعيات باختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية الموجبة مخالفتها لاستحقاق العقوبة، و لذا قيل: إنّ البراءة الشرعية تنفي الملزوم، و البراءة العقلية تنفي اللازم و هو استحقاق المؤاخذة.

إلّا أن يقال: إنّ استدلال الإمام عليه السّلام بحديث الرفع على فساد طلاق المكره

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 3، ص 7 إلى 11

ص: 321

______________________________

و عتاقه يدلّ على جريان البراءة في الوضعيّات.

و كيف كان ففي جريان أصالة العدم في الشرطية و نحوها غنى و كفاية، و بها يثبت عدم كون المشكوك فيه من أجزاء السبب المؤثّر أو من شرائطه، و مع هذا الأصل لا يجري أصالة الفساد أي عدم النقل و الانتقال، و إن كانت أصلا تنزيليا حاكما على البراءة التي هي أصل غير تنزيلي. و ذلك لأنّ أصل البراءة هنا يكون في مرتبة السبب، و استصحاب عدم الانتقال في مرتبة المسبّب، و حديث حكومة الاستصحاب على البراءة إنّما يكون في صورة اتحادهما رتبة.

فتلخص من جميع ما ذكرنا: أنّه لا مانع من جريان البراءة أو أصالة العدم في الشرطية، و إثبات عدم كون المشكوك فيه جزءا من السبب المؤثر، نظير جريان البراءة عن الجزئية و الشرطية و المانعية في متعلق التكليف كالصلاة، إذ المتيقن هو الأقل الجامع بين الأقل و الأكثر.

و دعوى الفرق- كما في تقرير سيدنا الخويي تبعا لشيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّهما- بين متعلّق التكليف كالصلاة إذا شكّ في شرطية أو جزئية أو مانعية شي ء لها، و بين الأسباب كالشكّ في شرطية شي ء كالماضوية للعقد «بجريان البراءة في الأوّل لكونه شكّا في تعلق الأمر بالمقيّد به، فيدفع بأصالة البراءة، و أمّا الأقل أعني به الطبيعي الجامع بين المطلق و المقيد فهو مأمور به قطعا. و عدم جريانها في الأسباب كالشك في شرطية شي ء لصحة عقد أو إيقاع، لانعكاس الأمر فيها، حيث إنّ ترتب الأثر كالملكية أو براءة الذمة على العقد أو الإيقاع الواجد لذلك الشرط معلوم، و ترتّبه على الفاقد مجهول، فيدفع بالأصل. و هذا هو الفارق بين الشك في شرطية شي ء للمأمور به، و بين الشك في شرطيّته للعقد أو الإيقاع» «1» خالية عن البيّنة، إذ مناط البراءة و هو الشك في الحكم الشرعي موجود في كلّ من متعلّقات التكاليف و الأسباب.

و أمّا دعوى: «العلم بترتب الأثر في العقد و الإيقاع على الواجد لمشكوك الشرطية

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 3، ص 10 و 11

ص: 322

______________________________

و الجهل بترتبه على الفاقد له، بخلاف متعلّق التكليف، حيث إنّ الأقل معلوم الوجوب، فتجري البراءة في الزائد المشكوك فيه».

ففيها: أنّ منشأ العلم بحدود متعلّق التكليف و سببية العقد إنّما هو الأدلة البيانية المبيّنة لما له دخل في متعلق التكليف و في ترتب الأثر على العقد، فحينئذ نقول: نعلم بدخل ما قامت عليه الأدلة، مثلا نعلم بدخل عشرة أشياء في متعلق التكليف كالصلاة، و بدخل أمور خمسة مثلا في سببيّة العقد للأثر المقصود، و نشك فيما زاد على العشرة في المتعلّق، و على الخمسة في العقد، فالشكّ في دخل الزائد شرعا مشترك بين المتعلّقات و الأسباب، حيث إنّا نعلم بتعلق التكليف بالعشرة و بدخل الخمسة في سببية العقد، و نشك في الزائد، فينفى بالأصل.

و العلم بترتب الأثر على العقد الواجد لمشكوك الدخل شرعا إنما هو من باب القدر المتيقن، لا لأجل العلم بكون الواجد بخصوصيته سببا لترتب الأثر.

و إلّا فمقتضى البرهان ترتب الأثر على ما علم دخله في السببيّة بعد نفي مشكوك الشرطية بالأصل، و العلم بترتب الأثر من باب القدر المتيقن كالعلم بفراغ الذمة عن التكليف كذلك إذا أتى بالأكثر المشكوك فيه في متعلقات التكاليف.

فجعل باب الأسباب على عكس باب متعلّقات التكاليف في غاية الغموض.

و منه يظهر ما في قوله: «و ترتبه على الفاقد مجهول فيدفع بالأصل» و ذلك لأنّ أصالة عدم ترتب الأثر مبنية على عدم جريان البراءة في مشكوك الدخل في سببية العقد، و مع جريانها لا تصل النوبة إلى الأصل المسببي أعني به أصالة الفساد، فترتب الأثر على الفاقد مجهول وجدانا و معلوم تعبّدا، كما أنّ فراغ الذمة عن التكليف بالإتيان بالأقل كذلك.

هذا إذا أريد بأصالة عدم ترتب الأثر ما هو المعروف بينهم من استصحاب عدم النقل و الانتقال.

ص: 323

______________________________

و أمّا إذا أريد بها أصالة عدم سببية الأقل لترتب الأثر فلا تجري إن قصد بها البراءة، لعدم الامتنان. بل جريانها يوجب الضيق، لأنّ اعتبار الماضوية مثلا ضيق على المكلف.

و في الثاني: أنّ إنكار تسبّب الشك في الفساد عن الشك في شرطية شي ء للعقد مساوق لإنكار البديهي.

و في الثالث أوّلا: ما قرّر في محلّه من حكومة الأصل السببي على المسببي، و عدم الوجه في منع الحكومة.

و ثانيا: أنّه- بعد تسليم عدم الحكومة- لا تجري أصالة الفساد أيضا، لمعارضة أصالة البراءة لها، فتصل النوبة إلى القرعة أو الصلح القهري، لقاعدة العدل و الإنصاف، كما لا يخفى.

إلّا أن يقال: بجريان أصالة الفساد و تقدمها على البراءة، لكونها أصلا تنزيليّا، دون أصالة البراءة.

إلّا أن يدّعى أنّ هذا التقدم مبنيّ على الحكومة التي أنكرها الخصم. فعلى هذا تجري أصالة الفساد و البراءة معا و تتساقطان.

اللهم إلّا أن يقال: إنّ الخصم أنكر الحكومة المترتبة على تعدّد الرتبة، لا مع وحدتها، فإنّ حكومة الاستصحاب على البراءة مع وحدة رتبتهما ممّا لا سبيل إلى إنكاره، فتجري أصالة الفساد بلا مانع.

و في الرابع أوّلا: كون المقام أجنبيا عن باب المحصّل، لأنّ ضابطه أن يكون الأثر المقصود مترتبا على المحصّل قهرا بحيث يكون مسبّبا توليديّا لا يتوسّط بينه و بين الفعل المحصّل له إرادة فاعل مختار كالإحراق المترتّب على الإلقاء، و نقاء المحلّ عن النجاسة المترتب على الغسل و العصر مثلا، و نحو ذلك. فإذا توسّط ذلك خرج عن المحصّل و دخل في باب الحكم و الموضوع، كوجوب الصلاة عند الدلوك، و وجوب

ص: 324

______________________________

الزكاة عند تحقق شرائطها، فإنّ ترتب الحكم على موضوعه أجنبي عن باب المحصّل.

و من المعلوم أنّ ترتب الأثر المقصود كالملكية على الإنشاء القولي و الفعلي يكون من ترتب الحكم على موضوعه لا ترتب المعلول على علته.

و تسمية العقود أسبابا إنّما هي بلحاظ نظر العرف، حيث إنّهم يرون العقود أسبابا للآثار المترتبة عليها، و إلّا فإنّ العقود و الإيقاعات من صغريات الحكم و الموضوع.

و ثانيا: أنّه- بعد تسليم كون المقام من المحصّل- نمنع عدم جريان الأصل في مطلق المحصّل، و إنّما لا يجري في المحصّل العقلي و العادي، دون الشرعي كالغسلتين و المسحتين بناء على كون المأمور به الطهارة النفسانية الحاصلة بها، و إنّها محصّلات للمأمور به، لا أنّها نفسه، فإذا شكّ في دخل شي ء جزءا أو شرطا للمحصّل الشرعي جرت فيه أصالة البراءة، و يثبت بها أنّ الأقل هو المحصّل، و ليس المشكوك فيه جزءا له، هذا.

و في الخامس: أنّ مثبتيّة البراءة الجارية في متعلّقات التكاليف- التي هي المركبات الارتباطية و في الأسباب المركّبة كالعقود- منوطة بكون التقابل بين الإطلاق و التقييد تقابل التضاد، إذ يلزم حينئذ إثبات أحد الضدين بنفي الضّد الآخر. و هذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت. بخلاف ما إذا كان التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة- كما هو الحق المحقّق في محله- فلا يلزم إشكال الإثبات أصلا، لأنّ الإطلاق على هذا أمر عدمي، لأنّه عبارة عن عدم تقييد ما من شأنه أن يقيّد. مثلا إذا جرت أصالة البراءة في الاستعاذة، فمقتضاها عدم تقيّد الصلاة بها و كون أجزائها مطلقة غير مقيّدة بالاستعاذة.

و كذا الحال في جريان البراءة في مشكوك الجزئية أو الشرطية في باب الأسباب، فإذا جرت في نفي شرطية الماضوية في عقد البيع مثلا فمقتضاها عدم شرطية الماضوية في سببية العقد للملكية، و عدم كون العقد مقيّدا بالماضوية.

و بالجملة: بعد البناء على كون الإطلاق أمرا عدميّا، و أنّ التقابل بينه و بين التقييد تقابل العدم و الملكة لا يلزم إشكال المثبتية أصلا.

ص: 325

______________________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا: عدم جريان أصالة الفساد، و عدم مانع من جريان أصالة البراءة في شرطية شي ء كالماضوية للعقد، و إثبات سببية الأقلّ لترتب الأثر. و عدم الفرق في جريان البراءة بين متعلقات التكاليف و بين الأسباب، و أنّ مجرى البراءة في كلا البابين هو الأكثر.

لكن الذي يسهّل الخطب أنّ الشك في شرطية شي ء للعقود يدفع بالإطلاقات اللفظية أو المقامية، و لا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقع الكلام في أنّه أصالة الفساد أو أصالة الصحة، فينبغي أن يكون هذا البحث فرضيّا.

نعم إذا كان الشك في صدق عنوان العقد- لا في شرطية شي ء فيه تعبّدا- جرى فيه أصالة الفساد بلا كلام. و أمّا في الشك في دخل شي ء فيه تعبّدا فلا مانع من جريان أصالة البراءة فيه، أو أصالة العدم بناء على اختصاص البراءة بالأحكام الإلزامية، بعد فرض عدم إطلاق دليل اجتهادي يرفع الشك.

فعلى كلّ تقدير لا تصل النوبة إلى أصالة الفساد إلّا إذا كان الشك في صدق أصل العنوان عرفا، كما إذا شك في صدق عنوان البيع العرفي على الإنشاء الفعلي، أو شكّ في صدقه على الإنشاء القولي الفاقد للماضوية مثلا، فإنّه يجري في صورة الشك في صدق العنوان أصالة عدم ترتب الأثر، لأنّ مرجع الشك حينئذ إلى الشك في تحقق المؤثر في النقل عرفا، و الأصل عدم تحققه.

و قد تحصل مما تقدم أمور:

الأوّل: أنّ المرجع في الشك في تحقق العنوان العقدي أو الإيقاعي عرفا بمبرز هو أصالة عدم حصول ذلك العنوان الموجب لعدم ترتب آثاره عليه، و إن شئت فعبّر عن هذا الأصل بأصالة الفساد.

الثاني: أنّ المرجع عند الشك في دخل شي ء تعبّدا في مبرز الاعتبار العقدي أو الإيقاعي هو البراءة، و عدم دخل ذلك المشكوك فيه، و كون فاقد مشكوك الشرطية مؤثّرا

ص: 326

______________________________

في الأثر المقصود من ذلك العقد أو الإيقاع. و لازم جريان البراءة فيه هو الصحة. هذا في الشبهة الحكمية.

و أمّا الموضوعية كما إذا شك في وجود شي ء من الشرائط من شروط نفس العقد كالماضوية- بعد فرض تسلّم اعتبارها- أو من شروط العوضين أو من شروط المتعاقدين، فالإستصحاب و إن اقتضى عدمه المستلزم لفساد العقد أو الإيقاع، إلّا أنّه قد ادّعي الإجماع و السيرة على ترتيب آثار وجود المشكوك اعتباره، و الحكم بصحة الإنشاء العقدي.

الثالث: أنّه إذا صدق الاعتبار النفساني بكلّ ما يكون مبرزا له فلا محالة يكون نافذا، لشمول أدلة ذلك العنوان له، فإذا صدق البيع مثلا على الإنشاء القولي أو الإشاري أو الكتابي شمله مثل أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فيكون نافذا، إلّا إذا نهض دليل على اعتبار مبرز خاصّ في نفوذه كالإجماع المدّعى على اعتبار اللفظ في العقود و الإيقاعات، فلا يترتب حينئذ على إنشائها بغير اللفظ أثر من آثار النفوذ.

لكن يختص ذلك بالمتمكّن من التلفظ، لكون الإجماع دليلا لبّيّا، و المتيقن منه خصوص القادر، كما إذا ورد «أكرم العلماء» ثم قام الإجماع على عدم وجوب إكرام البصريين منهم، فإنّ المتيقّن منه هو خصوص فسّاقهم، فيخصّص العام به، لا بكلّ عالم بصري و إن كان عادلا.

و عليه فلا بدّ في تخصيص العام بالدليل اللّبّي من الاقتصار على المتيقن، و في الزائد عليه يرجع إلى العام المقتضي للنفوذ بأيّ مبرز أنشئ ذلك الاعتبار النفساني.

و على هذا فتكون الإشارة و الكتابة على حدّ سواء بالنسبة إلى العاجز عن التكلم، إلّا إذا قام دليل خاص على الترتيب بينهما بتقديم الإشارة على الكتابة، فإنّه مع عدم هذا الدليل الخاصّ يحكم بعدم الفرق بين المبرزات، لأجل العمومات و الإطلاقات الدالّة على نفوذ العقود و صحتها.

نعم إن كان المخصّص لها دليلا لفظيا كقوله عليه السّلام: «إنما يحلّل الكلام و يحرّم

ص: 327

______________________________

الكلام» كان المرجع هذا المخصّص، و مقتضاه الشرطية المطلقة للفظ المستلزمة لوحدة المطلوب، فإن لم يتمكّن من النطق فلا بدّ من التوكيل.

فقد ظهر مما ذكرنا: أنّ البيع الصادر من العاجز عن التكلم كالأخرس نافذ مطلقا سواء أنشئ بالمعاطاة أم الإشارة أم الكتابة أم غيرها مما يكون مبرزا عرفا لذلك الأمر الاعتباري و إن كان قادرا على التوكيل، لما عرفت من أنّ المخصص دليل لبيّ فيقتصر على المتيقن منه، و قد قرّر في محله لزوم الرجوع إلى العموم فيما عدا المتيقن من المخصّص المجمل اللبي، لكون الشك في التخصيص الزائد. فمقتضى العمومات عدم الترتيب بين المبرزات، و كون الكل في عرض واحد، لعدم مرجّح لأحدها على الآخر بعد اشتراكها في المبرزية.

فالالتزام بالترتيب بين الإشارة و الكتابة- بتقديم الأولى على الثانية- بلا ملزم.

و احتمال الاستناد في ذلك إلى أصرحيّتها في الإنشاء من الكتابة- كما أفاده المصنف قدّس سرّه- لا يخلو من غموض، لعدم وضوح أصرحية الإشارة من الكتابة أوّلا لو لم نقل بالعكس.

و لعدم دليل على اعتبار الأصرحيّة في المبرز، و كفاية الظهور العرفي في ذلك ثانيا، لصدق العنوان مع الظهور العرفي المعتبر عند أبناء المحاورة من دون حاجة إلى الصراحة فضلا عن الأصرحيّة.

و بالجملة: فمع صدق العقد على كل مبرز لا بدّ من القول باللزوم. لكنّ الإجماع قام على اعتبار اللفظ في اللزوم، و المتيقن منه- على فرض تماميته- هو صورة القدرة على النطق، فبدونها يكون كل فعل يصدر منه مبرز للاعتبار النفساني سواء أ كان إشارة أم كتابة مصداقا للعقد، فيجب الوفاء به. و على هذا يسقط البحث عن اعتبار الترتيب بين الإشارة و الكتابة، لصدق العقد عرفا على كل مبرز.

نعم يكون للبحث عن الترتيب مجال بناء على التعبد، لا الصدق العرفي.

فعلى القول بالصدق العرفي يقوم كل فعل مبرز مقام اللفظ، فإشارة الأخرس و كتابته و غيرهما من أفعاله المبرزة للأمر الاعتباري تقوم مقام اللفظ و لو كان قادرا على

ص: 328

______________________________

التوكيل، لأنّ الأصل عدم اشتراطه.

و على القول بعدم الصدق العرفي فلإطلاق الأخبار الواردة في طلاق الأخرس، المستفاد منها بالفحوى حكم عقده و إيقاعه في سائر الأبواب، و حملها على صورة العجز عن التوكيل حمل لها على الفرد النادر، هذا.

و المتحصل مما ذكرنا: أنّ كل عقد أو إيقاع ينشأ بما يكون مبرزا له عرفا تشمله العمومات. إلّا إذا ثبت بالدليل اعتبار مبرز خاص فيه، بحيث لو أنشئ بغيره لم يكن ممّا يترتب عليه الأثر المقصود. فلو فرض قيام الإجماع على اعتبار اللفظ في العقود و الإيقاعات و أغمض عن المناقشة فيه كان ذلك مختصّا بالقادر على التلفظ، فالعاجز عنه ينشئ العقد و الإيقاع بكلّ مبرز عرفي. و لا دليل على حصر المبرز في حقه باللفظ، فالأخرس و غيره ممن يعجز عن التكلم يصحّ عقده و إيقاعه بكل مبرز حصل، فلا ترتيب بين المبرزات للأخرس كما قيل.

و إطلاق ما دلّ على تقديم الإشارة على الكتابة و بالعكس يقيّد بنص الآخر، فإنّ ما دلّ على اعتبار الكتابة ظاهر- بمقتضى إطلاقه- في التعيينية، و نصّ في اعتبار الكتابة.

و ما دلّ على اعتبار الإشارة ظاهر بإطلاقه في التعيينية أيضا، و نصّ في اعتبار الإشارة، فيرفع ظاهر كل من الإطلاقين بنص الآخر. و نتيجة هذا الجمع هو التخيير بينهما، هذا.

ثم إنّه هل يتعدّى من الأخرس إلى من لا يقدر شرعا على التكلم كمن حلف أو نذر على ترك التكلم بغير القرآن و الصلاة مثلا، كالتعدّي إلى من لا يقدر تكوينا على التكلم كما إذا ابتلى بمرض أوجب عجزه عن التكلم؟

الأقوى العدم، لأنّ التعدّي من موضوع إلى آخر منوط بالدليل، و المفروض عدمه، لورود الدليل في خصوص الأخرس، و لا موجب لإلقاء الخصوصية و التعدّي عنه إلى غيره ممّن يعجز عن التكلّم شرعا لنذر، أو تكوينا لمرض.

و عليه لا بدّ أن يكون إنشاء العقد أو الإيقاع بالنسبة إلى القادر على النطق تكوينا- العاجز عنه تشريعا- بالقول، و لا يكفيه الإشارة و غيرها من الأفعال الكافية في إنشاء الأخرس.

ص: 329

[ما يعتبر في صيغة البيع مادة و هيئة]

اشارة

ثم (1) الكلام في الخصوصيّات المعتبرة في اللّفظ [1]:

______________________________

ما يعتبر في صيغة البيع مادة و هيئة

(1) هذا شروع في المقصد الثاني و هو الخصوصيات المعتبرة في الصيغة بعد البناء على اعتبار أصل اللفظ في المعاملات. و قد بسط المصنف قدّس سرّه الكلام فيها في جهات ثلاث، إذ يقع البحث تارة في مواد الألفاظ، و أخرى في الهيئات الإفرادية، و ثالثة في الهيئات التركيبية.

و البحث في الجهة الأولى إمّا في اعتبار الصراحة و الظهور في المادّة التي تنشأ بها المعاملة، و إمّا في اعتبار لغة خاصة فيها، و على كلّ منهما فالكلام تارة في ألفاظ الإيجاب، و أخرى في ألفاظ القبول.

و البحث في الجهة الثانية- و هي الهيئة الإفرادية- عن اعتبار الماضوية.

و في الجهة الثالثة عن أمور:

الأوّل: اعتبار تقدم الإيجاب على القبول.

الثاني: اعتبار الموالاة بينهما.

الثالث: اشتراط التنجيز في العقد.

الرابع: التطابق بين الإيجاب و القبول.

الخامس: بقاء المتعاقدين على أهليّة الخطاب، و سيأتي تفصيل المباحث بترتيب المتن إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] ينبغي لتوضيح البحث من تقديم أمر، و هو: أنّ كلّ عقد يلاحظ فيه جهات ثلاث: جهة اللفظ، و جهة الخطاب، و جهة العقد.

أمّا الأولى: فيعتبر فيها القصد، لتقوّم العقد به كما اشتهر من تبعية العقد للقصد، فلا يؤثّر التلفظ السّهوي. و لو باللفظ الجامع للخصوصيات المعتبرة فيه في ترتّب الأثر المقصود.

ثمّ إنه يجري في اللفظ اعتبارات ثلاثة:

ص: 330

______________________________

الأوّل: الجنس ككونه عربيّا مثلا.

الثاني: الصنف مثل كونه من صيغ الماضي في اللغة العربية.

الثالث: الشخص العاقد، فلا بدّ أن يوقع شخص جامع للشرائط المعتبرة في العاقد اللّفظ المتخصص بخصوصيته الجنسية كالعربية و النوعية كالماضويّة و غيرها.

فمن قصد التلفّظ بلفظ «بعت» فقد قصد اللّفظ العربي الماضي الذي هو من المادّة الخاصة، فلا يكفي من اللفظ الذي ينشأ به اعتبار عقدي أو إيقاعي إلّا ما هو مخصوص بخصوصه، للإجماع، و لكون العقود المأمور بالوفاء بها هي المتعارفة التي يقصد فيها لفظ مخصوص، و لأنّ الأصل عدم حصول النقل و الانتقال بغير اللفظ الخاص الكذائي الذي قصد إنشاء الاعتبار النفساني به، فلا ينعقد بالتلفظ باللفظ الذي صدر منه سهوا، و إن كان في حدّ ذاته صالحا لأن يقع به العقد الخاص.

فإذا فرض صلاحية كل واحد من لفظي «ملّكت و بعت» لإنشاء البيع، و كان العاقد قاصدا لإنشائه بلفظ «بعت» و لكن سها و قال: «ملكت» لم يكن مجزيا في تحقق البيع، للإجماع، و للقاعدة، لأنّ الإنشاء باللفظ المقصود لم يقع، و الإنشاء الذي وقع باللفظ الصادر غير مقصود.

و لو أتى بألفاظ متعددة و لم يعيّن واحدا منها للإنشاء به، فتارة يجمع بين تلك الألفاظ في الإيجاب كأن يقول في إنشاء النكاح: «زوّجت و أنكحت و متعت زينب من موكّلك زيد على الصداق المعلوم» فيقول القابل: «قبلت». و أخرى يوجب بأحدها، و يقع القبول بعده بلا فصل، ثم يوجب بالآخر فيتبعه قبوله، ثم يوجب بالثالث و يتبعه قبوله، و هكذا.

و على التقديرين قد يكون قصد الإنشاء بجنس ما ينشأ به النكاح، الصادق على كل واحد من الألفاظ المتعددة المفروض عدم تعيين بعضها للإنشاء به. و قد يكون قصد الإنشاء بواحد مردّد بينها.

ص: 331

______________________________

و الفرق بينهما: أنّه على الأوّل يمكن أن يقع الاعتبار النفساني بالمجموع من حيث المجموع، لصدق الجنس على القليل و الكثير. و بواحد منها معلوم عند اللّه تعالى مجهول عندنا، لصدق الجنس عليه أيضا. بخلاف الثاني، فإنّه لا يقع فيه الإنشاء إلّا بواحد منهما، كما لا يخفى.

و قد يكون قصد الإنشاء بواحد معيّن عند اللّه تعالى غير معيّن عنده.

و قد يكون قصد الإنشاء بمجموع الألفاظ من حيث المجموع، بحيث يكون كل واحد منها جزءا للمبرز.

و قد يكون قصد الإنشاء بكل واحد من الألفاظ بالاستقلال، و باعتبار سببية كلّ منها برأسه لتحقق العقد.

فهذه وجوه خمسة، تضرب في الصورتين المتقدمتين- و هما: اتباع كلّ لفظ بقبول يخصّه، و اتباع مجموع الألفاظ بقبول واحد- و الحاصل من الضرب عشرة وجوه.

و قد ذكر الفقيه المامقاني قدّس سرّه أنّ حكم الجميع هو عدم تحقق العقد إجماعا.

مضافا إلى: أنّ المجموع من حيث المجموع ممّا لم يحصل له السببية شرعا قطعا.

و استثنى من الصور المزبورة صورتين:

إحداهما: ما لو قصد كلّ منها مستقلّا، فإنّه يصح في القسم الأوّل من قسمي الجمع بين الألفاظ المتعددة الصالحة للإنشاء بها، و صحّته إنّما هي باعتبار اتّصال القبول بالإيجاب الصالح للإنشاء به، فيحصل الأمر الاعتباري الذي أريد إنشاؤه، و يقع الباقي من الألفاظ- المتقدمة على الإيجاب المتصل بالقبول- لغوا غير قادح في الإنشاء، فإذا قال: «أنكحت و زوّجت و متّعت» و قال القابل بلا فصل: «قبلت» صحّ، و وقع الإنشاء بقوله: «متّعت» المتّصل بالقبول، و وقع ما تقدّمه من لفظي «أنكحت و زوّجت» لغوا.

ثانيتهما: قصد الإنشاء بكلّ من ألفاظ الإيجاب مستقلّا أيضا. لكن مع تعقب كلّ منها بقبول يخصّه. و الوجه في صحة هذه الصورة هو حصول الإنشاء بالسبب الأوّل مع

ص: 332

______________________________

اتصال قبوله به، و لغوية ما بعده من الألفاظ، لحصول المسبّب بسببه الأوّل، و امتناع تأثير السبب الثاني فيه، لاستحالة تحصيل الحاصل «1»، هذا.

ثم إنّه من اعتبار اتصال القبول بالإيجاب يظهر عدم صحة الإنشاء في الصور التي يحصل فيها فصل بين الإيجاب و القبول إذا كان الإنشاء باللّفظ الأوّل، كما إذا قال:

«أنكحت و زوّجت و متّعت موكّلتي موكّلك» ثم قال القابل: «قبلت» و ذلك لوقوع الفصل بين الإيجاب و القبول بأجنبي- و هما الأخيران أعني بهما: زوّجت و متّعت- إذ لم يقصد بهما الإنشاء، فيكون الفصل بين الإيجاب و القبول بأجنبي، و قد صرّحوا بمانعية الفصل بينهما من انعقاد العقد.

و قد علم من ذلك: أنّه لو قصد الإنشاء في القسم الأوّل بالأخير صحّ العقد، لاتصال القبول به. و لو قصد الإنشاء بالأوّل في القسم الثاني لم يكن في صحّته إشكال أصلا، لتعيينه اللفظ، و اتصال القبول بالإيجاب، و يقع ما بعد هذا الإيجاب و القبول المتأخرين عنهما لغوا.

و إن قصد بالإيجاب و القبول المتأخرين الاحتياط بعد قصد الإنشاء بالأوّل بدون تردّد و تزلزل جاز كما هو الشأن في كلّ احتياط بعد العمل بمقتضى الفتوى.

و كذا لا إشكال في الصحة إذا قصد الإنشاء بالوسط و الأخير، و كان الإتيان بما تقدّمه لا على وجه التردّد و التزلزل، إذ لو كان على هذا الوجه لم يتحقق الإنشاء بالمتأخر، لأنّ التزلزل في السابق يوجب التزلزل في اللاحق.

إلّا أن يقال: إنّ التزلزل في الأوّل يوجب بطلانه، فيصح الإنشاء بما بعده، لكن بشرط توجّه الموجب و التفاته إلى هذا المعنى حتى يقصد الإنشاء بالمتأخر.

و قد حكى الفقيه المامقاني قدّس سرّه عن بعض مشايخه: أنّ المصنف قدّس سرّه كان في عقد النكاح يبتدئ بعقد فارسي، فيقول: «به زني دادم موكّله خودم فلانه را بموكّل خود فلان بمهر معلوم» ثم يأتي بالعقد العربي. و غير خفي أنّ مقصوده قدّس سرّه بذلك إنما هو الاحتياط.

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 219

ص: 333

______________________________

و قد أورد عليه: بأنّ هذا خلاف الاحتياط، و أنّ الاحتياط في تركه، لأنّ الإكتفاء بالعقد الفارسي خلاف الاحتياط، لنقل الإجماع على اعتبار العربية في النكاح، بل في جميع العقود كما سيأتي اعتبارها في المتن عن جامع المقاصد.

فالأولى لمن يريد الاحتياط أن يقدّم ما يقتضي الفتوى صحّته، و يقصد به الإنشاء، ثم يأتي بما يحتمل صحة الإنشاء به على وجه الاحتياط. لا أن يقدّم العقد الفارسي الذي لا يصح إلّا في حقّ العاجز عن العقد العربي، فمع عدم صحته من القادر على العربي كيف يقدّم على العربي تحصيلا للاحتياط؟ بل استشكل في مطلق التكرير حتى لو كان قد أتى بالأوّل على مقتضى الفتوى.

أقول: الإنصاف أنّه بناء على كون الإنشاء إبراز الأمر الاعتباري النفساني- لا إيجاد المعنى باللفظ- كما هو خيرة بعض المحققين لا إشكال في أصل جواز التكرار، لأنّ الاعتبار النفساني موجود، و الاحتياط يقع في إبرازه، فيجمع بين المبرزات طرّا حتّى يحصل العلم بوجود ما هو مبرز له واقعا، فالاحتياط يكون في المبرزات، فلا يلزم التعليق في الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ حتى يستشكل فيه بلزوم عدم المعقولية، لاستلزامه وجود شي ء على تقدير، و عدمه على آخر.

و لا يلزم أن يكون الإتيان بالمحتمل- لرعاية الاحتياط- بعد العمل بما يقتضيه الفتوى كما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه نظرا إلى لزوم مراعاة شأن الأمارة، فإنّ تقديم المحتمل الآخر على ما تقتضيه الحجة إلغاء لاعتبار الأمارة و كسر لسورتها، هذا.

وجه عدم اللزوم أنّ هذا وجه استحساني لا عبرة به، حيث إنّ الواقع يحرز بالاحتياط بإتيان كلا المحتملين على كل تقدير سواء قدّم ما يقتضيه الحجة أم أخّر.

و عليه فلا إشكال في حصول الاحتياط بتقديم اللغة الفارسية على العربية في عقد النكاح كما هو المحكي عن الشيخ قدّس سرّه على ما عرفت. كما لا إشكال في حصوله بتقديم

ص: 334

______________________________

العربية على الفارسية، هذا.

و أمّا الجهة الثانية- و هي جهة الخطاب- فحاصل الكلام فيها: أنّه لا بدّ من توجيه الخطاب إلى المخاطب و إسماعه إيّاه على الوجه المتعارف، و إصغاء المخاطب إلى المتكلم بحيث يلتفت إلى مفهوم كل كلمة برأسها حتى ينتهي المتكلّم إلى آخر كلامه، فيعقّبه المخاطب بالقبول. كما أنّه لا بدّ من معرفة المتكلّم بكلّ كلمة تجري في العقد ليقصد معناها، و لا يكفي العلم بما يكون مقصودا من جميع الكلام المؤلّف من الكلمات المتعددة، فلو قال: «بعت هذا المتاع ممّن أراده» فقال غيره: «قبلت أو اشتريت» لم ينعقد البيع، لعدم حصول التوجيه. و كذا لو قال: «بعت هذا من أحدكما» فقبل، لكون أحدهما مبهما، فلا يقبل تعلق الإنشاء الإيجادي به في حال صدوره و تحققه.

و هذا بخلاف الإنشاء الطلبي بأحدهما المبهم المردّد كما في الواجب الكفائي و الواجب التخييري، فإنّه يصحّ هناك، لمجي ء التخيير فيهما بعد الطلب، فيأتي من شاء منهما بالمأمور به، لكون الإنشاء الطلبي متعلّقا بصرف الوجود من المكلف، أو يأتي المأمور المعيّن بما شاء من فردي المأمور به.

و بالجملة: فالإنشاء الإيجادي لا بدّ له من متعلّق يقوم به في الواقع حال صدوره، هذا.

و أمّا الجهة الثالثة- و هي جهة العقد- فملخّصها: أنّ القدر المتيقّن الكافل بها هو اللفظ العربي الصحيح الصريح الماضي المنجّز المشتمل على إيجاب البائع و القبول المتأخر المتصل المطابق معنى من المشتري. و هذا ممّا لا خلاف و لا إشكال فيه، بل الإجماع بقسميه عليه. هذا بحسب الإجمال.

و أمّا بحسب التفصيل فقد ذكر المصنف قدّس سرّه أنّ الكلام فيه يقع تارة في موادّ الألفاظ، و أخرى في هيئاتها لكلّ من الإيجاب و القبول، و ثالثة في هيئة تركيب الإيجاب مع القبول. و سيأتي الكلام فيها بترتيب المتن إن شاء اللّه تعالى.

ص: 335

تارة يقع في موادّ الألفاظ من حيث إفادة المعنى بالصراحة (1) و الظهور و الحقيقة و المجاز و الكناية، و من حيث (2) اللّغة المستعملة في معنى المعاملة.

و أخرى في هيئة كلّ من الإيجاب و القبول من حيث اعتبار كونه بالجملة الفعلية، و كونه بالماضي (3).

و ثالثة في هيئة تركيب الإيجاب و القبول من حيث الترتيب (4) و الموالاة (5).

[الجهة الأولى شرائط مادة العقد]
[المبحث الأوّل: اعتبار الدلالة الوضعية]

أمّا الكلام من حيث المادة (6) فالمشهور عدم وقوع العقد بالكنايات. قال

______________________________

(1) سيأتي في المتن ما يراد من صراحة صيغ العقود و ظهورها و كنايتها و مجازها، فانتظر.

(2) معطوف على «من حيث إفادة المعنى» يعني: أنّ البحث في موادّ الألفاظ يشمل أمرين، أحدهما: صراحة الألفاظ و ظهورها، و ثانيهما: اللغة التي تستعمل في معنى المعاملة من العربية و الفارسية و غيرهما من اللّغات، فيمكن أن يكون في كلّ لغة لأيّ واحدة من المعاملات لفظ صريح و ظاهر و كناية و مجاز. و لا ملازمة بين جهتي البحث، إذ يمكن أن تعتبر العربية في صيغ المعاملات من دون اعتبار الصراحة و الظهور، بل يكفي إنشاؤها بالكناية و المجاز. و يمكن أن يقال بكفاية اللغات الأخرى بشرط صراحة اللفظ أو ظهوره- المعتدّ به- في عنوان المعاملة.

(3) فالبحث عن اعتبار العربية بحث عن المادّة، و عن الماضوية بحث عن الهيئة.

(4) أي: تقدم الإيجاب على القبول.

(5) أي: عدم الفصل المخلّ- بصدق العقد- بين الإيجاب و القبول.

شرائط مادة العقد المبحث الأوّل: اعتبار الدلالة الوضعية

(6) إن كان غرضه قدّس سرّه من جعل عدم كفاية الكناية من مباحث مادة العقود هو مماشاة القوم و متابعتهم في اعتبار الصراحة و الظهور الوضعي في صيغ العقود اللّازمة بلا نظر إلى كون الكناية في المادة أو في الهيئة فلا بحث.

ص: 336

في التذكرة: «الرابع من شروط الصيغة التصريح، فلا يقع بالكناية (1) مع النيّة، مثل قوله: أدخلته في ملكك (2) أو: جعلته لك، أو: خذه منّي بكذا، أو: سلّطتك عليه بكذا، عملا بأصالة (3) بقاء الملك، و لأنّ (4) المخاطب لا يدري بم خوطب» «1» انتهى.

______________________________

و إن كان غرضه من قوله: «من حيث المادة» التقييد، و أنّه لا مانع من الكناية من حيث الهيئة لم يخل عن إشكال، لظهور بعض الكلمات في منع الإنشاء بالكناية مطلقا سواء أ كانت في المادة أم في الهيئة، ففي المبسوط: «و عندنا: أن قوله:- أنت مطلقة- إخبار عمّا مضى فقط، فإن نوى به الإيقاع في الحال فالأقوى أن نقول: انّه يقع به. و قال بعضهم هو كناية» «2». و قال أيضا: «فإن قال:- أنت الطلاق- فعندنا ليس بصريح، و الكناية لا نقول بها. و عندهم على وجهين، منهم من قال هو صريح، و منهم من قال: كناية» «3».

و من المعلوم أنّ الفرق بين قوله: «أنت طالق» و بين «أنت مطلّقة أو أنت الطلاق» ليس إلّا بحسب الهيئة، ضرورة اشتراكها في المادّة. و لشيخ الطائفة قدّس سرّه غير ما ذكرناه من العبارتين في فصل ما يقع به الطلاق به ما يقع به، فلاحظ.

(1) و هي: استعمال اللفظ في معناه الحقيقي و إرادة لازمه أو ملزومه بحيث يكون المقصود الأصلي ذلك اللازم أو الملزوم، و كان استعمال الألفاظ في معانيها للانتقال إلى اللوازم أو الملزومات.

(2) هذا من الانتقال من اللازم إلى الملزوم الذي هو المبادلة بين المالين، و كذا ما بعده.

(3) المعبّر عنها بأصالة الفساد.

(4) فلا يتمشّى منه القبول الذي هو أحد ركني العقد، إذ مع عدم علم المخاطب بما

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 5، ص 25

(3) المصدر، ص 26

ص: 337

و زاد في غاية المراد على الأمثلة: «مثل قولك: أعطيتكه بكذا، أو: تسلّط عليه بكذا» «1».

و ربما يبدّل هذا (1) «باشتراط الحقيقة، فلا ينعقد بالمجازات» حتى صرّح بعضهم بعدم الفرق بين المجاز القريب و البعيد.

______________________________

أراده المتكلم لا يمكنه القبول حتى يتحقق عنوان العقد. و هذا الدليل ظاهر في أنّ عدم صحة العقد في مورد الكناية مستند إلى عدم تحقق المفهوم العرفي، لا إلى تعبد شرعي، كما هو ظاهر ما يأتي من كلام مفتاح الكرامة، لظهوره في كون عدم الصحة لأجل التسالم، لا من جهة عدم صدق مفهوم العقد عرفا.

(1) أي: ربما يبدّل الشرط الرابع و هو التصريح، فإنّه قد يعبّر عنه باشتراط الحقيقة كما حكاه السيد الفقيه العاملي عن السيد العلامة الطباطبائي قدّس سرّهما بقوله:

«و الّذي اعتمده الأستاد الشريف دام ظلّه: لا فرق في المجازات بين قريبها و بعيدها في عدم انعقاد العقود اللّازمة بها، وقوفا مع هذه القاعدة المسلّمة عندهم، إلّا أن يقوم إجماع فيتّبع» «2». و قريب منه ما في الجواهر، فراجع.

ثم إنّ الفقهاء اختلفوا في مادة الصيغة على أقوال ستة:

الأوّل: الاقتصار على القدر المتيقن، فلا يجوز إنشاء العقود و الإيقاعات بغيره من الصيغ المشكوكة.

الثاني: الاقتصار فيها على الألفاظ المنقولة عن الشارع الأقدس، و هو محتمل المنقول عن الإيضاح و المسالك «3».

و يدلّ عليه: أنّ مقتضى الاقتصار على القدر المتيقن الجمود على الألفاظ المأثورة، و عدم دليل على كفاية مطلق الصراحة، فيرجع في غيرها إلى الأصل.

______________________________

(1): غاية المراد للشهيد الأوّل، ص 82

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 149، جواهر الكلام، ج 22، ص 249

(3) إيضاح الفوائد، ج 3، ص 12 و مسالك الأفهام، ج 5، ص 172

ص: 338

و المراد بالصريح- كما يظهر من جماعة من الخاصة و العامة في باب

______________________________

و لعلّه يرجع إلى الوجه الأوّل كما قيل، بل ادّعي ظهور الرجوع إليه. لكنه لا يخلو من تأمّل.

الثالث: أن يكون اللفظ صريحا بمعنى كونه موضوعا لعنوان العقد. كلفظ «بعت» في إنشاء البيع، و «صالحت» في إنشاء الصلح، و «آجرت» في الإجارة و هكذا، فتخرج الكنايات و المجازات. و حكي عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه التصريح به في مصابيحه.

و إليه يرجع ما ذكره الفخر من: «أنّ كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن، بناء على أنّ ما عداه ليس من القدر المتيقن.

و كذا ما في إجارة المسالك.

و في مفتاح الكرامة: «و هو الذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في أبواب متفرقة كالسّلم و النكاح و غيرهما: أنّ العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات ..، و كذا لا ينعقد بشي ء من الكنايات كالتسليم و التصريف و الدفع و الإعطاء و الأخذ و نحو ذلك» «1».

و على هذا فلا ينعقد عقد و لا إيقاع إلّا بالألفاظ التي تعنونت بها عناوين العقود و الإيقاعات.

الرابع: كفاية كلّ لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود. و هذا هو الذي حكاه المصنف عن جماعة. و هذا يشمل المشترك اللفظي و المعنوي و المجاز القريب و البعيد الجاري على قانون الاستعمال الصحيح.

و قد مال إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه، حيث قال عقيب قوله المصنف قدّس سرّه:

«فالمشهور عدم الوقوع» ما لفظه: «لكن مقتضى الإطلاقات في باب البيع وقوعه

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 149

ص: 339

الطلاق و غيره- ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة (1) أو شرعا (2). و من

______________________________

بالكنايات و أنحاء المجازات، بلا فرق أصلي بين أن يكون القرينة على التجوز لفظا أو غيره، لاستناد إنشاء التمليك إلى اللفظ على كل تقدير كما لا يخفى. نعم ربما يمكن المناقشة في صدق العقد على ما إذا وقع بالكناية، فإنّه عهد مؤكّد، و لا يبعد أن يمنع عن تأكده فيما إذا وقع بها، و ذلك لسراية الوهن من اللفظ إلى المعنى، لما بينهما من شدّة الارتباط، بل نحو من الاتّحاد» «1».

الخامس: التفصيل في الألفاظ المجازية بين القرينة و البعيدة، فيصح بالأولى كما يصح بالحقيقة، بخلاف الثانية. و هذا مما أفاده المحقق الثاني قدّس سرّه في النكاح و السّلم قال رحمه اللّه عند قول العلامة قدّس سرّه في القواعد: «و الأقرب انعقاد البيع بلفظ السّلم، فيقول:

أسلمت إليك هذا الثوب في هذا الدينار» ما لفظه: «أي: يقول ذلك البائع، فيكون المسلم هو المبيع، و المسلم فيه هو الثمن .. إلخ» «2».

و محصل وجهه هو شمول العمومات الدالة على صحة البيع و عدم شمولها للمجازات البعيدة، هذا.

________________________________________

السادس: ما حكاه الفقيه المامقاني قدّس سرّه عن بعض مشايخه: «من التفصيل في قرائن المجازات بين اللفظ الحقيقي و غيره، بعد التفصيل بجواز المجاز القريب و عدم جواز المجاز البعيد. ففصّل في المجاز القريب بين ما لو كانت قرينته لفظا حقيقيّا و بين ما كانت غيره فلا يجوز. و لكنّا لم نجد به قائلا، و سألنا الحاكي فلم يعرفه» «3».

(1) كلفظ «بعت» في إنشاء البيع.

(2) كلفظ «ملّكت» مثلا في إنشاء البيع، فإنّه يصح إنشاؤه به شرعا مع عدم وضعه لغة للبيع.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 27

(2) جامع المقاصد، ج 4، ص 207

(3) غاية الآمال، ص 222

ص: 340

الكناية ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع (1)، فيفيد إرادة نفسه (2) بالقرائن، و هي على قسمين عندهم جليّة و خفيّة.

و الذي (3) يظهر من النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللّازمة، و الفتاوى المتعرضة لصيغها في البيع

______________________________

(1) كلفظ «سلّطتك» إذا فرض قيام دليل شرعا على الإكتفاء به في مقام الإنشاء، بحيث يكون «سلّطتك» بمنزلة «بعتك» و إن لم يكن لفظ «سلّطتك» موضوعا لغة لعنوان البيع، لأنّه وضع للازم البيع و هو السلطنة، فلفظ «سلّطتك» وضع للسلطنة التي هي من لوازم التمليك الذي هو مفهوم البيع، على ما تقدّم تعريفه في كلام المصنف.

(2) أي: أنّ اللازم يفيد نفس العقد الذي هو الملزوم، فإنّ إرادته من التسليط- الذي هو لازمه- منوطة بالقرائن التي تنقسم إلى الجليّة و الخفيّة.

(3) غرضه قدّس سرّه التعرض لما ينافي نسبة الحكم المزبور- أعني به اعتبار الوضع اللغوي في ألفاظ العقود، و عدم إنشائها بالمجازات و الكنايات- إلى المشهور، و ذلك لوجهين:

أحدهما: النصوص المتفرقة في أبواب العقود اللّازمة، حيث يظهر منها الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي في العنوان الاعتباري الإنشائي.

ثانيهما: الفتاوى المتعرضة لصيغ العقود.

فهذان الوجهان يشهدان بمنع النسبة المزبورة إلى المشهور، فلا تعتبر الصراحة و لا الدلالة الحقيقية المستندة إلى الوضع اللغوي. هذا بحسب الدعوى.

و استدلّ المصنف قدّس سرّه بنقل جملة وافية من عبارات الأصحاب في إنشاء البيع و النكاح و الوقف و الرّهن و غيرها كما سيأتي في المتن، و لم يذكر هنا من الروايات شيئا، فلا بأس بالتبرّك بذكر جملة منها:

الأولى: ما ورد فيها إنشاء البيع بلفظ الأمر، مثل ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السّمسار أ يشتري بالأجر؟ الى أن قال،

ص: 341

..........

______________________________

فيقول: خذ ما رضيت و دع ما كرهت، فقال: لا بأس» «1».

و ظاهر الخبر- بملاحظة تقريره عليه السّلام- كفاية إنشاء البيع بلفظ الأمر، و جواز تخيير المشتري بين الأخذ و التّرك.

و نحوه ما ورد في بيع اللّبن في الضّرع بعد حلب مقدار منه في الاسكرّجة «2».

و بهذا المضمون روايات أخرى في الأبواب المتفرقة.

الثانية: ما ورد فيها إنشاء البيع بصيغة المضارع، مثل ما في معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قدم لأبي متاع من مصر، فصنع طعاما و دعى له التجار، فقالوا له: نأخذه منك بده دوازده، فقال لهم أبي: و كم يكون ذلك؟ فقالوا: في العشرة آلاف ألفان، فقال لهم أبي: فإنّي أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألف درهم، فباعهم مساومة» «3». و ظاهره صحة البيع بصيغة المضارع مع عدم تعقب إيجابه عليه السّلام بقبولهم، بل يستفاد القبول من قولهم: «نأخذ منك».

و نحوه ما ورد في شراء العبد الآبق مع الضميمة «4».

الثالثة: ما ورد في بيع الصرف من إنشاء المعاملة تارة بلفظ «آخذ منك المائة بمائة و عشرة» كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «5»، و يكون بطلان البيع لأجل الرّبا.

و أخرى من إنشائها بلفظ التحويل كما في رواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قول المشتري للصرّاف: «حوّلها- أي الدراهم الوضح- لي دنانير» «6» الحديث، و تقريره عليه السّلام إمضاء لوقوع بيع الصّرف بلفظ التحويل.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، 394، الباب 2 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 2

(2) المصدر، ص 259، الباب 8 من أبواب عقد البيع، الحديث: 2

(3) وسائل الشيعة، ج 12، ص 385، الباب 14 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 1

(4) وسائل الشيعة، ج 12، ص 263، الباب 11 من أبواب أحكام العقود، الحديث: 2

(5) وسائل الشيعة، ج 12، ص 467، الباب 6 من أبواب الصرف، الحديث: 3

(6) وسائل الشيعة، ج 12، ص 463، الباب 4 من أبواب الصّرف، الحديث: 1

ص: 342

..........

______________________________

و ثالثة من إنشائها بالاستبدال و التبديل كما في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «عن الرّجل يستبدل الكوفية بالشامية وزنا بوزن، فيقول الصيرفي: لا أبدّل لك حتى تبدّل لي يوسفية بغلّة وزنا بوزن، فقال: لا بأس» «1».

الرابعة: ما ورد في بيع الزرع و الثمار من إنشاء المعاملة تارة بلفظ «أبتاع» كما في رواية زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في زرع بيع و هو حشيش، ثم سنبل؟ قال: لا بأس إذا قال: ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع ..» الحديث «2».

و أخرى بلفظ التقبّل كما في معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة و إن شئت فأكثر، و إن لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» «3».

الخامسة: ما ورد في إنشاء عقد الصلح بقول أحد الشريكين للآخر: «لك ما عندك و لي ما عندي» و قد تقدم في (ص 71) السادسة: ما ورد في إنشاء المزارعة بلفظ المضارع، كما في خبر أبي الربيع الشّامي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا ينبغي أن يسمّي بذرا و لا بقرا، و لكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك، و لك منها كذا و كذا» الحديث «4». و لا يخفى ظهوره في صحة الإنشاء بلفظ المضارع، مع تقدم القبول فيه على الإيجاب.

السابعة: ما ورد في عقد المساقاة من إنشائها بلفظ الأمر، كما في معتبرة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن رجل يعطي أرضه و فيها ماء أو نخل أو فاكهة، و يقول: اسق هذا الماء و اعمره، و لك نصف ما أخرج اللّه عزّ و جلّ منه؟ قال: لا بأس» «5» فإنّ تقريره عليه السّلام لما حكاه السائل من الصيغة دليل على صحة المساقاة بلفظ الأمر.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ص 469، الباب 7 من أبواب الصرف، الحديث: 1

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 22، الباب 11 من أبواب بيع الثمار، الحديث: 9

(3) وسائل الشيعة، ج 13، ص 8، الباب 2 من أبواب بيع الثمار، الحديث: 4

(4) وسائل الشيعة، ج 13، ص 201، الباب 8 من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة، الحديث: 10

(5) وسائل الشيعة، ج 13، ص 202، الباب 9 من أبواب أحكام المزارعة و المساقاة، الحديث: 2

ص: 343

بقول مطلق (1)، و في بعض أنواعه (2)، و في غير البيع من العقود اللازمة هو (3) الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفيّ معتدّ به في المعنى المقصود، فلا فرق بين قوله:

«بعت و ملّكت» و بين قوله: «نقلت إلى ملكك» أو «جعلته ملكا لك بكذا»

______________________________

الثامنة: ما ورد في وقوع عقد المضاربة بغير الصيغة المعهودة، كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّه قال في الرّجل يعطي المال، فيقول له: ائت أرض كذا و كذا و لا تجاوزها، و اشتر منها، قال: فإن جاوزها و هلك المال فهو ضامن» «1» و ظاهرها تحقق المضاربة بإعطاء المال، و ضمان العامل بمخالفة ربّ المال بتجاوزه عن البلدة المعيّنة للعمل و الاتّجار فيها.

و المستفاد من مجموع هذه النصوص و غيرها جواز الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي في المعنى المقصود من العقد أو الإيقاع، و لا تتوقف الصحة على صراحة الصيغة كما في التذكرة، و لا على الظهور الوضعي كما حكي عن المصابيح، بل كما يجوز إنشاء البيع بلفظ «بعت» فكذا يجوز بلفظ «ملّكت و نقلته إلى ملكك» و نحوهما من الألفاظ الظاهرة عرفا في إنشاء الأمر الاعتباري البيعي.

(1) يعني: جميع أقسام البيع، سواء أ كان المبيع كلّيا أم شخصيا، و سواء أ كان عرضا أم نقدا كالدرهم و الدينار، و سواء أ كان البيع برأس المال أم بأزيد منه أم بوضيعة منه، و غير ذلك من الأقسام، فيجوز إنشاء البيع في هذه الأقسام بما ليس صريحا فيه، كإيجابه بلفظ «السّلم» مع كون المبيع شخصيا حالّا لا مؤجّلا.

(2) كإنشاء بيع الصّرف بلفظ التبديل و التحويل، و إنشاء بيع الزرع بلفظ التقبّل، و إنشاء بيع التشريك بلفظ «شرّكتك» و بيع التولية بلفظ «ولّيتك» مع عدم صراحة هذه الألفاظ في مفهوم البيع و هو إنشاء تمليك عين بمال.

(3) خبر قوله: «و الّذي يظهر».

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 13، ص 181، الباب 1 من كتاب المضاربة، الحديث: 2

ص: 344

و هذا (1) هو الذي قوّاه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

و حكي عن جماعة ممّن تقدّمهم كالمحقق على ما حكي عن تلميذه كاشف الرموز «أنّه حكى عن شيخه المحقق: أنّ عقد البيع لا يلزم منه لفظ مخصوص» و أنّه (2) اختاره أيضا.

و حكي عن الشهيد رحمه اللّه في حواشيه «أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه مثل: أسلمت إليك و عاوضتك» (3).

و حكاه في المسالك عن بعض مشايخه المعاصرين (4).

______________________________

(1) يعني: الإكتفاء بكل لفظ ظاهر عرفا بنحو يعتدّ به. و مقصود المصنف قدّس سرّه عدم تفرّده بهذا الإكتفاء، لأنّه مختار جمع من طبقة متأخري المتأخرين كالمحدث الفيض في محكي المفاتيح «1»، و صاحب الحدائق «2». بل يستفاد من كلمات المتقدمين أيضا كما سيأتي نقل جملة منها في المتن، و قد ابتدأ الماتن بحكاية ما ذكروه في البيع، ثم ما يتعلق بصيغ سائر العقود.

(2) معطوف على «أنّه» يعني: و حكي عن الفاضل الآبي أنّه اختار مذهب المحقق. قال في بيع الفضولي: «و إذا تقرّر هذا فلا إشكال على شيخنا- و هو المحقق- دام ظله، لأنّ النهي عنده في المعاملات لا يقتضي الفساد، و لا للبيع لفظ مخصوص، بل يشكل على الشيخين، لأنّهما يخالفانه في المسألتين. و المختار عندنا اختيار شيخنا دام ظله» «3».

(3) قال في مفتاح الكرامة: «فجوّز- أي الشهيد- البيع بكل لفظ دلّ عليه، فقال: مثل: قارضتك و سلّمت إليك، و ما أشبه ذلك» «4».

(4) قال في المسالك: «غير أن ظاهر كلام المفيد قدّس سرّه يدل على الإكتفاء في تحقق البيع بما دلّ على الرّضا به من المتعاقدين إذا عرفاه و تقابضا. و قد كان بعض

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150

(2) الحدائق الناظرة، ج 18، ص 354

(3) كشف الرموز، ج 1، ص 446، و الحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150

(4) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150

ص: 345

بل هو ظاهر العلّامة في التحرير، حيث قال: «إنّ الإيجاب اللفظ الدالّ على النقل مثل: بعتك، أو ملّكتك، أو ما يقوم مقامهما (1)» «1».

و نحوه المحكي عن التبصرة و الإرشاد «2»، و شرحه لفخر الإسلام.

فإذا كان (2) الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل فكيف لا ينعقد بمثل «نقلته إلى ملكك أو جعلته ملكا لك بكذا؟» بل (3) ربما يدّعى: أنّه (4) ظاهر كلّ من أطلق اعتبار الإيجاب و القبول فيه من دون ذكر لفظ خاص كالشيخ و أتباعه (5)

______________________________

مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك أيضا، لكن يشترط في الدال كونه لفظا. و إطلاق كلام المفيد أعم منه» «3».

(1) من كل لفظ يدلّ على إنشاء البيع و إن لم تكن دلالته عليه بالوضع، و عليه فيمكن نسبة عدم اعتبار لفظ خاصّ في البيع إلى العلّامة قدّس سرّه.

(2) هذا ما استنتجه المصنف من كلام العلامة و غيره. و وجهه: أنّ البيع لمّا كان بمعنى «نقل العين» لزم جواز إنشائه بلفظ النقل و ما يفيده.

(3) الإتيان بكلمة الإضراب من جهة أنّ مختار العلّامة قد علم من تصريحه بقوله: «أو ما يقوم مقامهما» و المدّعي لكفاية مطلق اللفظ يقول بعدم الحاجة إلى هذا التصريح، و ذلك لكفاية نفس إطلاق اعتبار الإيجاب و القبول في جواز الإنشاء بكلّ لفظ يدل على مقصود المتعاملين.

(4) أي: أنّ الإكتفاء بكلّ لفظ له ظهور معتدّ به في المعنى المقصود.

لكن يمكن المناقشة فيه بورود الإطلاق في مقام اعتبار أصل اللفظ، لا في مقام بيان صحة إنشائه بكلّ لفظ له ظهور في المعنى المقصود من العقد أو الإيقاع، فتدبّر.

(5) قال في مفتاح الكرامة: «و قد يدّعى أنّه- أي أنّ عدم اعتبار لفظ

______________________________

(1): تحرير الأحكام، ج 1، ص 164

(2) تبصرة المتعلمين، ص 88، إرشاد الأذهان، ج، ص 359

(3) مسالك الأفهام، ج 3، ص 147

ص: 346

فتأمّل (1).

و قد حكي (2) عن الأكثر: تجويز البيع حالّا بلفظ السّلم.

______________________________

مخصوص- ظاهر الأكثر كالشيخ و أبي يعلى و أبي القاسم القاضي و أبي جعفر محمد ابن علي الطوسي و أبي المكارم حمزة الحلبي و غيرهم، حيث اقتصروا على الإيجاب و القبول مطلقين، من دون تنصيص على لفظ مخصوص» «1».

(1) إشارة إلى: أنّ إطلاق كلام من إطلاق ناظر إلى اعتبار هذا الجنس في مقابل غيره كالفعل، و ليس مسوقا لبيان صحة الإيجاب و القبول بكلّ لفظ له ظهور في إنشاء عنوان العقد أو الإيقاع. و لا بأس بنقل عبارة واحدة من عبارات الذين أطلقوا في المقال حتى تكون أنموذجا نهتدي بها إلى حقيقة الحال، و هي عبارة الغنية، قال فيها: «أمّا شروطه فعلى ضربين: أحدهما شرائط صحة انعقاده، و الثاني شرائط لزومه. فالضرب الأوّل ثبوت الولاية في المعقود عليه، و أن يكون معلوما مقدورا على تسليمه منتفعا به منفعة مباحة، و أن يحصل الإيجاب من البائع و القبول من المشتري، من غير إكراه و لا إجبار إلّا في موضع» «2». انتهى المقصود من كلامه زيد في علوّ مقامه.

و مثله المحكي عن الشيخ رحمه اللّه في المبسوط.

(2) الحاكي هو الشهيد الثاني في المسالك، حيث قال في الاستدلال على ما أفاده المحقق من انعقاد البيع بلفظ السّلم: «و هذا هو اختيار الأكثر» «3». و نسبه السيد العاملي إلى العلامة و المحقق و الشهيدين و المحقق الثاني «4».

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150

(2) غنية النزوع (ضمن الجوامع الفقهية)، ص 523

(3) مسالك الأفهام، ج 3، ص 405

(4) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 149

ص: 347

و صرّح جماعة (1) أيضا (2) في بيع التولية

______________________________

(1) كالمحقق و العلّامة و الشهيد قدّس سرّهم «1».

(2) يعني: كما جوّز جماعة انعقاد البيع بلفظ السّلم- الموضوع لنوع خاص منه- فكذا صرّح جماعة بانعقاد بيع التولية و التشريك بلفظ «ولّيتك و شرّكتك» مع عدم كونهما موضوعين لغة للتمليك البيعي، بل يدلّان عليه بالقرينة.

و لا بأس بتوضيح هذين القسمين، فنقول: إنّ المعروف بين الفقهاء تقسيم البيع باعتبار الإخبار برأس المال، و عدم الإخبار عنه إلى أربعة أقسام، لأنّه إن أخبر البائع بالثمن فباعه بزيادة كان مرابحة، و إن باعه بنقيصة كان مواضعة، و إن باعه بنفس الثمن كان تولية، و إن لم يخبر برأس المال أصلا كان مساومة.

و زاد الشهيد في الدروس و اللمعة قسما خامسا و سمّاه التشريك. و فسّره بقوله: «و التشريك هو أن يجعل له فيه نصيبا برأس ماله، و هو بيع أيضا. و لو أتى بلفظ التشريك فالظاهر الجواز، فيقول: أشركتك في هذا المتاع نصفه بنصف ثمنه» «2».

و محصله: أنّ التشريك بيع جزء مشاع بجزء من الثمن الذي بذله المشتري، فهو نظير بيع التولية في كونه تمليك العين بنفس رأس المال لا أزيد منه و لا أنقص. و لكنه يفترق عن بيع التولية بأنّ التشريك بيع كسر مشاع من المبيع، كما إذا اشترى زيد دارا من عمرو بألف دينار، و أراد بيع نصفها من بكر بخمسمائة دينار، فيقول: «شرّكتك بنصفه بنسبة ما اشتريت» أو: «أشركتك بنصف الثمن» فيقبله بكر. و يصير شريكا في الدار مع زيد، و لكل منهما نصفها. قال الشهيدان قدّس سرّهما: «و هو أي التشريك في الحقيقة بيع الجزء المشاع برأس المال، لكنه يختص عن مطلق البيع بصحته بلفظه» «3».

و حيث اتضح بيع التولية و التشريك فنقول: إنّ غرض المصنف قدّس سرّه من

______________________________

(1): راجع: شرائع الإسلام، ج 2، ص 42 و 43، تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 545، قواعد الأحكام ص 53، (الطبعة الحجرية) الدروس الشرعية، ج 3، ص 221

(2) الدروس الشرعية، ج 3، ص 221

(3) الروضة البهية، ج 3، ص 437

ص: 348

بانعقاده (1) بقوله: «ولّيتك العقد، أو: ولّيتك السلعة» و التشريك (2) في المبيع بلفظ «شرّكتك».

______________________________

الاستشهاد بكلام جماعة في هذين البيعين هو: أنّ تجويزهم إنشاء بيع التولية بلفظ «ولّيتك» دليل على كفاية مطلق اللفظ في البيع و عدم اعتبار الصراحة فيه. وجه الدلالة: أنّ معنى «ولّيتك العقد أو السلعة» ليس تمليك عين بعوض- الذي هو حقيقة البيع- بل معناه جعل المشتري متوليا على العقد أو السلعة التي باعها بنفس الثمن الذي اشتراها به، و دلالة التولية على بيع المتاع برأس المال يكون بالقرينة كالمقاولة بين المتبايعين قبل العقد، هذا.

و كذا الحال في البيع بالتشريك، فإنّ قول البائع، «أشركتك في هذا المتاع نصفه بنصف ثمنه» لا يدلّ بالوضع على «إنشاء تمليك عين بمال» إلّا مع القرينة، لأنّ «الشركة» أعم من أن تكون في العين و المنفعة، و من كونها حاصلة بسبب قهري كالإرث أو اختياري كالمزج و غير ذلك من موجباتها.

و على هذا فتجويزهم بيع التولية و التشريك بغير لفظ البيع- و التمليك و النقل و التبديل- شاهد على كفاية مطلق اللفظ في انعقاد البيع، و عدم اعتبار الدلالة الوضعية فيه.

(1) أي: بانعقاد بيع التولية. فلا يرد على المصنف: أنّه لا شهادة في جواز إنشاء بيع التولية بهذه الصيغة على جواز إنشاء مطلق البيع بهذا اللفظ.

وجه عدم الورود: أن المصنف لا يقصد الاستشهاد بكلام الجماعة على انعقاد مطلق البيع بلفظ التولية، بل غرضه: أنّ البيع في جميع موارده «تمليك عين بعوض» فإذا جاز إنشاء صنف خاص منه بلفظ التولية- ممّا ليس موضوعا للمبادلة بين المالين- كان دليلا على صحة انعقاد البيع بالمجاز و الكناية، لأنّ مفاد البيع في جميع أفراده هو المبادلة بلا فرق بين التولية و المساومة و غيرهما.

(2) ظاهره كونه معطوفا على «بيع التولية» فيكون القائل بجواز التشريك في البيع جماعة كما في التولية، و هو غير بعيد. لكن لم أقف في هذه العجالة على كلام غير

ص: 349

و عن المسالك (1) في مسألة تقبّل أحد الشريكين في النخل حصّة صاحبه بشي ء معلوم من الثمرة «أن ظاهر الأصحاب جواز ذلك بلفظ التقبّل» مع أنّه

______________________________

الشهيدين قدّس سرّهما في جوازه و عدّه من أقسام البيع، و لذا فالأولى عطفه على «عن الأكثر» يعني: و قد حكي التشريك في المبيع بلفظ شرّكتك، و إن كان المحكي عنه بعضا لا جماعة.

(1) قال في المسالك: «و ظاهر الأصحاب أنّ الصيغة تكون بلفظ القبالة، و أنّ لها حكما خاصّا زائدا على البيع و الصلح، لكون الثمن و المثمن واحدا، و هو عدم ثبوت الرّبا لو زاد أو نقص، و وقوعه بلفظ التقبيل، و هو خارج عن صيغتي العقدين» «1».

و التقبّل عبارة عن أن يكون بين اثنين نخل أو شجر أو زرع فيتقبّل أحدهما بحصّة صاحبه- بعد خرص المجموع- بشي ء معلوم على حسب الخرص، و هي معاوضة مستثناة من المزابنة و المحاقلة معا.

و قد دلّ على صحّته شرعا صحيحة يعقوب بن شعيب التي رواها المشايخ الثلاثة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجلين يكون بينهما النخل، فيقول أحدهما لصاحبه: اختر إمّا أن تأخذ هذا النخل بكذا و كذا كيل [كيلا] مسمّى، و تعطيني نصف هذا الكيل إمّا زاد أو نقص. و إمّا أن آخذه أنا بذلك؟ قال: نعم لا بأس به» «2».

و صحيحة أبي الصلاح الكناني قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما افتتح خيبر تركها في أيديهم على النصف، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبد اللّه بن رواحة إليهم فخرّص عليهم، فجاؤا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنّه قد زاد علينا، فأرسل إلى عبد اللّه بن رواحة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ فقال: خرصت عليهم بشي ء، فإن شاؤا يأخذون بما خرصت، و إن شاؤا أخذنا. فقال رجل من اليهود: بهذا قامت السموات و الأرض» «3».

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 370

(2) وسائل الشيعة، ج 13، ص 18، الباب 10 من أبواب بيع الثمار، الحديث: 1

(3) المصدر، ص 19، الحديث: 3

ص: 350

لا يخرج عن البيع أو الصلح (1) أو معاملة ثالثة لازمة عند جماعة «1».

هذا ما حضرني من كلماتهم في البيع.

و أمّا في غيره (2)، فظاهر جماعة (3) في القرض عدم اختصاصه بلفظ خاصّ، فجوّزوه بقوله: «تصرّف فيه، أو: انتفع به و عليك ردّ عوضه، أو: خذه بمثله

______________________________

و غيرهما من الأخبار الكثيرة، و إن ردّها الحلّي بناء منه على عدم حجية أخبار الآحاد. و ضعف مبناه يغني عن التكلم في ردّه. و المثبتون اختلفوا في كون هذه المعاملة صلحا أو بيعا أو معاملة مستقلّة لازمة.

(1) يعني: أنّ لفظ «التقبّل» أجنبي- بحسب الوضع- عن كلّ من البيع و الصّلح، فلو كانت القبالة بيعا أو صلحا كان إنشاؤها بصيغة «تقبّل هذا بكذا» شاهدا على كفاية مطلق الدلالة اللفظية. نعم بناء على كون القبالة معاوضة مستقلّة كانت الصيغة المزبورة حقيقة فيها.

و عليه فكان المناسب أن يقتصر المصنف على احتمال كونها بيعا أو صلحا حتى يكون لفظ القبالة مجازا فيهما، إذ بناء على الاستقلال لم يلزم مجاز و لا كناية، مع أنّ مقصوده قدّس سرّه الاستناد إلى كفاية إنشائها بعنوان القبالة حتى إذا كانت معاملة مستقلة.

إلّا أن يقال: إنّ مادّة «القبول و القبالة» لا تدل بالوضع على هذه المعاملة، فتتّجه دعوى الماتن من عدم وضع صيغة «قبّلتك» لشي ء من البيع و الصلح و المعاملة المستقلة.

(2) أي: غير البيع. و قد أشرنا إلى أنّ المصنف تصدّى لإثبات مرامه- من كفاية مطلق اللفظ في إنشاء العقود اللّازمة- بالاستشهاد بكلمات الفقهاء في موضعين، أحدهما فيما يخصّ البيع، و قد فرغ منه. و ثانيهما ما ذكروه في سائر العقود، و قد شرع فيه بذكر صيغ القرض.

(3) كالمحقق و العلّامة و الشهيدين و المحقق الثاني، فراجع كلماتهم «2».

______________________________

(1): راجع للوقوف على الأقوال، مفتاح الكرامة، ج 4، ص 391 و 392

(2) راجع شرائع الإسلام، ج 2، ص 67، تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 5. الدروس الشرعية، ج 3، ص 318. مسالك الأفهام، ج 3، ص 440، جامع المقاصد، ج 5، ص 20، و غيرها ممّا نقلها السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 5، ص 33 و 34

ص: 351

و أسلفتك» و غير ذلك (1) ممّا عدّوا مثله في البيع من الكنايات (2). مع (3) أنّ القرض من العقود اللّازمة (4) على حسب لزوم البيع و الإجارة.

و حكي عن جماعة (5) في الرّهن: أنّ إيجابه يؤدّي بكل لفظ يدلّ عليه، مثل قوله: «هذه وثيقة عندك» و عن الدروس (6): تجويزه بقوله: «خذه أو أمسكه بمالك».

______________________________

(1) كقول المقرض: «اصرفه و عليك مثله، و ملّكتك بمثله» و لا ريب في أنّ التصرف في العين المقترضة- و الانتفاع بها- من لوازم القرض الذي هو «تمليك مال مع ضمان بدله» مثل «سلّطتك عليه بكذا» في باب البيع، و من المعلوم أنّ ذكر اللّازم و إرادة الملزوم كناية.

(2) يعني: فلا يعتبر لفظ خاص في إنشاء القرض.

(3) فإنشاؤه بأيّ لفظ مع كونه من العقود اللازمة- و لو من طرف الدائن- يدل على عدم اعتبار لفظ خاص فيه.

(4) لعلّ مراده قدّس سرّه لزوم القرض من طرف المقرض، أو اللّزوم من طرف المقترض أيضا إذا شرطاه في عقد لازم كالبيع و الإجارة. و إلّا فيشكل عدّ القرض بنفسه من العقود اللازمة، فمقتضى تصريح الشهيد الثاني و ظاهر المحقق الثاني قدّس سرّهما كون القرض من العقود الجائزة، فراجع «1».

(5) قال السيد الفقيه العاملي: «و صريح الشرائع و التحرير و الكتاب- يعني القواعد- و التذكرة و الدروس و اللمعة و المسالك و الرّوضة و مجمع البرهان و الكفاية و المفاتيح أنه- أي عقد الرّهن- لا يختص بلفظ، و لا بلفظ الماضي» «2».

(6) قال الشهيد فيه: «و لو قال: خذه على مالك أو بمالك فهو رهن. و لو قال:

أمسكه حتى أعطيك مالك و أراد الرّاهن جاز. و لو أراد الوديعة أو اشتبه فليس

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 5، ص 20 و 24، مسالك الافهام، ج 3، ص 440

(2) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 72

ص: 352

و حكي عن غير واحد (1) تجويز إيجاب الضمان الذي هو من العقود اللازمة بلفظ «تعهّدت المال و تقلّدته» و شبه ذلك.

و قد ذكر المحقق (2) و جماعة ممن تأخّر عنه جواز الإجارة بلفظ العارية معلّلين بتحقق القصد.

______________________________

برهن» «1». و عليه فتجويز إنشاء الرهن بصيغة الإمساك ليس مطلقا، بل مقيّد باقترانه بقصد الرّهن.

و على كلّ حال فجواز إيجاب الرّهن- مع كونه لازما من قبل الراهن- بالألفاظ غير الدالّة عليه بالوضع دليل على عدم اعتبار الصراحة أو الظهور الوضعي في إنشاء العقد.

(1) كشيخ الطائفة و العلّامة، قال السيد العاملي في شرح قول العلامة: «الصيغة، و هي: ضمنت و تحمّلت و تكفّلت و ما أدّى معناه» ما لفظه: «من الألفاظ الدالة عليه صريحا كتقلّدته و التزمته، و أنا بهذا المال ظهير، أو كفيل، أو ضامن، أو زعيم، أو حميل، أو قبيل، كما في المبسوط و غيره. و كذا لو قال: دين فلان عليّ كما في التذكرة، لأنّ عليّ ضمان، لاقتضاء عليّ الالتزام» «2».

(2) قال المحقق قدّس سرّه: «أمّا لو قال: ملّكتك سكنى هذه الدار سنة بكذا صحّ.

و كذا: أعرتك، لتحقق القصد إلى المنفعة» «3» و وافقه المحقق الأردبيلي و غيره. و وجه الصحة- كما في المسالك- هو: «أنّ الإعارة لمّا كانت لا تقتضي ملك المستعير للعين، و إنّما تفيد تسلّطه على المنفعة و ملكه لاستيفائها كان إطلاقها بمنزلة تمليك المنفعة، فتصحّ إقامتها مقام الإجارة، كما يصح ذلك بلفظ الملك» «4».

و المسألة خلافية، فاستشكل العلّامة في التحرير في جوازه، و منعه في القواعد «5»

______________________________

(1): الدروس الشرعية، ج 3، ص 383

(2) مفتاح الكرامة، ج 5، ص 351

(3) شرائع الإسلام، ج 2، ص 179

(4) مسالك الأفهام، ج 5، ص 173

(5) مفتاح الكرامة، ج 7، ص 74

ص: 353

و تردّد جماعة (1) في انعقاد الإجارة بلفظ بيع المنفعة.

و قد ذكر جماعة (2) جواز المزارعة بكلّ لفظ يدلّ على تسليم الأرض للمزارعة.

______________________________

و وافقه في المنع المحقق و الشهيد الثانيان «1».

و على تقدير الجواز فلا ريب في كون العارية مجازا في «تمليك المنفعة بعوض معيّن» عند وجود القرينة و القصد إلى تمليك المنفعة و أخذ العوض، فتمام المناط في انعقاد الإجارة بلفظ العارية هو القصد إلى تمليك المنفعة سواء أ كان الدالّ عليه حقيقة أم كناية أم مجازا. و عليه فيكون فتوى المحقق دليلا على صحة التجوّز في صيغ العقود.

(1) كالمحقق و الشهيد في اللمعة، قال في الشرائع: «و كذا- أي لم تصح الإجارة- لو قال: بعتك سكناها سنة، لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان، و فيه تردّد» «2». و وجه التردّد: أنّ البيع موضوع لنقل الأعيان، فلا ينشأ به نقل المنافع، فلا يجوز، و أنّه مع التصريح بقصد تمليك المنفعة ينبغي الجواز.

و كيف كان فنفس تردّد المحقق قدّس سرّه شاهد على عدم اعتبار الصراحة في صيغ العقود، إذ لو كانت معتبرة فيها لم يبق وجه للتردد، بل تعيّن الحكم بالبطلان.

(2) كالمحقق و العلّامة و غيرهما قدّس سرّهم، قال في الشرائع: «و عبارتها أن يقول:

زارعتك، أو: ازرع هذه الأرض أو سلّمتها إليك- و ما جرى مجراه- مدّة معلومة بحصّة من حاصلها». و زاد العلامة في التذكرة على الصيغ المذكورة ألفاظا أخرى و هي: «أو قبّلتها بزراعتها أو بالعمل فيها مدة معلومة .. أو خذ هذه الأرض على هذه المعاملة و ما أشبه ذلك، و لا تنحصر في لفظ معيّن، بل كل ما يؤدّي هذا المعنى» و في القواعد زيادة صيغة «عاملتك» «3».

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 5، ص 83، مسالك الأفهام، ج 5، ص 173

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 179، الروضة البهية، ج 4، ص 328

(3) شرائع الإسلام، ج 2، ص 149، تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 337، قواعد الأحكام، ص 94 (الطبعة الحجرية).

ص: 354

و عن مجمع البرهان (1)- كما في غيره- أنّه لا خلاف في جوازها بكلّ لفظ يدل على المطلوب مع كونه ماضيا.

و عن المشهور (2) جوازها بلفظ «أزرع».

______________________________

و حكى السيد العاملي انعقادها بما أشبه هذه الصيغ عن آخرين، فراجع.

و الغرض: أنّ ما عدا لفظ «زارعتك» لا يدلّ بحسب الوضع اللّغوي على عقد المزارعة، و لا بدّ من قرينة معيّنة للمراد، فهذا دليل على جواز الإكتفاء بمطلق اللفظ في العقود اللّازمة.

(1) ظاهر العبارة: أنّ المحقق الأردبيلي جوّز إنشاء المزارعة بالألفاظ المتقدمة إلّا صيغة الأمر المذكورة في الشرائع و التذكرة و غيرهما، فاعتبر الماضوية فيها. و لعلّ المصنف قدّس سرّه اعتمد في نقل كلامه على مفتاح الكرامة «1» أو غيره، و إلّا فالمحقق الأردبيلي استظهر انعقادها بالمضارع و الأمر، قال: «و الظاهر أن لا خلاف في الجواز بكل لفظ يدلّ على المطلوب، مع كونه ماضيا، و الظاهر جوازها بالأمر أيضا» فراجع «2».

(2) الناسب إلى المشهور هو الشهيد الثاني في الروضة، حيث قال: «و المشهور جوازها بصيغة: ازرع هذه الأرض» «3».

و في الرياض: «و استدلّ الأكثر بالصحيح السابق و نحوه على جواز المزارعة و المساقاة بصيغة الأمر» «4».

لكن تأمّل السيد العاملي في صحة النسبة «5»، فراجع.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 7، ص 299

(2) مجمع الفائدة و البرهان، ج 10، ص 96 و 98

(3) الروضة البهية، ج 4، ص 476

(4) رياض المسائل، ج 1، ص 611

(5) مفتاح الكرامة، ج 7 ص 299

ص: 355

و قد جوّز جماعة (1) الوقف بلفظ «حرّمت و تصدقت» مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف، مثل «أن لا يباع و لا يورث» مع عدم الخلاف- كما عن غير واحد- على أنّهما من الكنايات (2).

و جوّز جماعة (3) وقوع النكاح الدائم بلفظ التمتع، مع أنّه ليس صريحا فيه.

______________________________

(1) كالمحقق و العلّامة و الشهيدين و المحقق الثاني قدّس سرّهم «1»، ففي اللّمعة و شرحها:

«و أمّا حبّست و سبّلت و حرّمت و تصدقت فمفتقر إلى القرينة كالتأبيد، و نفي البيع و الهبة و الإرث، فيصير بذلك صريحا» «2».

و لا يخفى صراحة كلامهما في افتقار بعض الصيغ إلى القرينة، مع عدم وضعها بأنفسها للوقف، مع أنّه يجوز إنشاؤه بها.

(2) و وجه كون «حرّمت و تصدّقت و أبّدت» كناية عن الوقف- كما في جامع المقاصد- هو اشتراكها في الاستعمال بين الوقف و بين غيره، فيتوقّف على ضمّ قرينة تدلّ على حكم من أحكام الوقف مثل عدم جواز بيعه و هبته.

(3) كالمحقّق و العلّامة في بعض كتبه، و المحقق الثاني و غيرهم، قال في الشرائع:

«و في متّعتك تردّد، و جوازه أرجح» «3». و جوّزه العلّامة في القواعد و الإرشاد، و منع منه في التذكرة «4».

و الغرض أنّ لفظ «التمتع» لم يوضع لغة للنكاح الدائم، فجواز إنشائه به دليل على الإكتفاء باللفظ غير الصّريح.

هذه جملة الكلمات التي استظهر المصنف قدّس سرّه منها كفاية مطلق اللفظ في العقود

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 211، تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 427. الدروس الشرعية، ج 2، ص 263. جامع المقاصد، ج 9، ص 8 و 9

(2) الروضة البهية، ج 3، ص 164

(3) شرائع الإسلام، ج 2، ص 273، قواعد الأحكام، ص 147 (الطبعة الحجرية)، إرشاد الأذهان، ج 2، ص 6، جامع المقاصد، ج 12، ص 69 و 70

(4) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 581

ص: 356

و مع هذه الكلمات (1) كيف يجوز أن يسند إلى العلماء- أو أكثرهم- وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له (2)، و أنّه (3) لا يجوز بالألفاظ المجازية خصوصا (4) مع تعميمها للقريبة و البعيدة؟ كما تقدّم عن بعض المحققين (5) و لعلّه (6) لما عرفت من تنافي ما اشتهر بينهم- من عدم جواز التعبير بالألفاظ المجازية في العقود اللازمة- مع (7) ما عرفت منهم من الإكتفاء في

______________________________

اللازمة، و إن كان استفادة الحكم من بعضها لا تخلو من شي ء كما تقدم في مطاوي التوضيح.

(1) غرضه الاستنتاج من الفتاوى التي بدأت بقوله: «و الذي يظهر من النصوص و الفتاوى المتعرّضة لصيغها في البيع بقول مطلق، و في بعض أنواعه، و في غير البيع من العقود اللازمة هو الإكتفاء بكل لفظ له ظهور عرفي معتدّ به في المعنى المقصود».

(2) أي: الصريح، كما نصّ عليه في التذكرة.

(3) يعني: كيف يجوز أن يسند إلى العلماء المنع من الإنشاء بالألفاظ المجازية؟

(4) قيد ل «لا يجوز» يعني: أنّ المانع من الانعقاد بالمجاز إن كان مانعا عن خصوص المجاز البعيد ربما أمكن توجيهه. و إن كان مانعا عن مطلق المجاز قريبه و بعيده- كما نقله السيد العاملي عن مصابيح السيد بحر العلوم- كان في غاية الإشكال، إذ مع هذه الفتاوى المتقدمة في صيغ العقود اللّازمة كيف يمنع عن المجاز القريب؟

(5) و هو العلامة السيد الطباطبائي بحر العلوم قدّس سرّه في المصابيح.

(6) الضمير للشأن. غرضه الجمع بين الكلمات من القول بوجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له، و عدم جواز إيقاعه بالألفاظ المجازية مع الإكتفاء في أكثر العقود بالألفاظ غير الموضوعة لذلك العقد. و حاصل وجه الجمع الذي أفاده المحقق الثاني هو حمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة، و مثّل للمجاز البعيد، بالخلع و الكتابة بالنسبة إلى إنشاء البيع، و مثّل للمجاز القريب بالتمليك و السّلم. و قريب منه كلامه في كتاب النكاح.

(7) متعلق بالتنافي، يعني: التنافي بين ما اشتهر و بين ما عرفت منهم.

ص: 357

أكثرها بالألفاظ غير الموضوعة لذلك العقد جمع المحقق الثاني- على ما حكي عنه في باب السّلم و النكاح- بين كلماتهم بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة «1»، و هو جمع حسن.

و الأحسن منه (1) أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية الوضعية سواء كان اللفظ الدّال على إنشاء العقد موضوعا له بنفسه أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ موضوع آخر (2) ليرجع الإفادة بالأخرة إلى

______________________________

(1) لعلّ وجه الأحسنيّة هو الأشملية، توضيحه: أنّ لهم في عدم كفاية الألفاظ المجازية في العقود عبارتين: إحداهما: أنّه لا يجوز التعبير بالألفاظ المجازية. و الأخرى: أنّه يعتبر كون ألفاظ العقود اللازمة من قبيل الحقيقة، كما أشار إليها بقوله: «أن يراد باعتبار الحقائق».

و الجمع الذي ذكره المحقق الثاني لا ينطبق على العبارة الثانية، إلّا بأن يراد بالحقيقة ما هو أعمّ منها و من المجاز القريب، و هو تكلّف بعيد.

بخلاف ما ذكره المصنف قدّس سرّه من وجه الجمع، فإنّ مقتضاه التوسعة في اعتبار الحقيقة، بمعنى كون الدلالة مستندة إلى الحقيقة، سواء أ كانت هي المفيدة لمضمون العقد ابتداء، بأن يقع الإنشاء به، كأن يقول: «بعتك هذا المتاع بكذا» أم كانت ممّا يستند إليه دلالة اللفظ الذي وقع به الإنشاء، كقوله: «نقلت إليك هذا المتاع بالبيع» فإنّ نفس اللفظ الذي ينشأ به البيع- و هو لفظ «نقلت»- ليس موضوعا لمعنى البيع، لكنّ دلالته على البيع يكون بسبب الوضع، حيث إنّ قرينته- و هي قوله: «بالبيع»- تدلّ بالوضع على معنى البيع، فيصدق على الصيغة: أنّها تدلّ بالوضع على معنى البيع.

(2) كما في دلالة «تصدّقت» على الوقف بقرينة دلالة لفظ موضوع مثل «لا تباع و لا توهب و لا تورث» و كدلالة «متّعت» على النكاح المؤبّد بقرينة كلمة «الدائم» الموضوعة للدوام.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 207 و 208، ج 12، ص 70، و الحاكي عنه هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 149

ص: 358

الوضع، إذ (1) لا يعقل [1] الفرق في الوضوح- الذي هو مناط الصراحة- بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع، أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللفظ. و هذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال (2) أو سبق مقال (3) خارج عن العقد، فإنّ الاعتماد عليه (4) في متفاهم المتعاقدين و إن كان من المجازات القريبة جدّا.

______________________________

و هذا معنى رجوع دلالة مثل «تصدّقت و متّعت» إلى الوضع، يعني: أنّ القرينة تكون دلالتها وضعية، فتعيّن المراد من ذي القرينة ببركة الوضع.

(1) تعليل لقوله: «و الأحسن منه» و قد عرفت توضيحه.

(2) كما إذا أسّس مكانا للصلاة فيه و علم من حاله أنّه يريد جعله مسجدا، و لكنّه اقتصر في صيغة الوقف على قوله: «تصدّقت» بدون تعقيبه بقوله: «صدقة لاتباع و لا توهب و لا تورث» فإنّ العلم بالوقفية و إن كان حاصلا من قرينة حالية، و لكن هذا الإنشاء لا يكفي في مقام الوقف- بناء على توجيه المصنف- لخلوّ الصيغة عن القرينة اللفظية المعيّنة للمراد.

(3) كما إذا تقاول الرجل و المرأة على النكاح الدائم بدون ذكر قرينة في صيغة العقد، كما إذا قالت: «متّعتك نفسي بكذا» فإنّ القرينة المقالية السابقة على العقد غير كافية حينئذ، بل لا بد أن يؤتي بقيد الدوام في نفس العقد.

(4) أي: فإنّ الاعتماد على المقترن بالعقد- من حال أو مقال سابق عليه- رجوع عمّا أسّسوه من دوران صحة العقود مدار الأقوال.

______________________________

[1] عدم معقولية الفرق في الوضوح- بناء على كون مناط الصراحة مطلق الوضوح في المراد و إن نشأ من القرينة- و إن كان متينا، لكنه يوجب عدم الفرق حينئذ بين القرينة اللفظية و غيرها، لأنّ ظهور اللفظ في المراد و إن كان بمعونة قرينة حالية أيضا لفظي، فيكون الإنشاء باللفظ الظاهر في المقصود، لا بغيره حتى يكون عدولا عما بنى

ص: 359

رجوع [1] عمّا بني عليه من عدم العبرة بغير الأقوال في إنشاء المقاصد، و لذا (1) [2] لم يجوّزوا العقد بالمعاطاة و لو مع سبق مقال أو اقتران حال تدلّ على إرادة البيع جزما.

و مما ذكرنا (2) يظهر الإشكال في الاقتصار على المشترك اللفظي اتّكالا

______________________________

(1) أي: و لأجل عدم العبرة بغير الأقوال منعوا من تحقق العقد بالمعاطاة حتّى مع سبق مقاولة، أو اقتران التعاطي بقرينة حاليّة دالة على إرادة التمليك البيعي.

(2) أي: من اعتبار الدلالة اللفظيّة الوضعيّة- إمّا في نفس الصيغة، و إمّا في قرينتها على المراد، و أنّه لا تكفي القرينة القولية السابقة كالمقاولة، و لا القرينة الحالية المقارنة- يظهر عدم جواز الاقتصار في مقام إنشاء العقود على المشترك اللفظي و المعنوي، لقصور اللفظ عن إفهام المقصود ما لم ينضمّ إليه قرينة لفظية. و القرينة الحالية لا عبرة بها، لعدم كونها لفظا. نعم لو انضمّت القرينة الدالّة بالوضع على المراد من المشترك صحّ الإنشاء به.

______________________________

عليه من عدم العبرة بغير الألفاظ في إنشاء المقاصد و أمّا بناء على كون مناط الصراحة هو الوضع المستند إلى خصوص وضع اللفظ للمعنى المنشأ به- كما هو صريح تفسيرهم الصريح بما كان موضوعا لعنوان العقد المنشأ به- فعدم الفرق غير معقول.

و الحاصل: أنّه لم يظهر وجه لحسن ما أفاده فضلا عن أحسنيّته، فتدبّر.

[1] كيف يكون رجوعا مع وقوع الإنشاء بالقول، و كذا الإفهام؟ دون الفعل.

[2] فيه: أنّ ما لم يجوّزوه عقدا هو الإنشاء بالفعل المقرون بالقرينة، دون الإنشاء باللفظ المفهم للمراد بسبب القرينة، فلا مجال لقياس أحدهما بالآخر.

ص: 360

على القرينة الحاليّة المعيّنة (1) [1]. و كذا المشترك المعنوي.

و يمكن أن ينطبق على ما ذكرنا (2) الاستدلال المتقدّم في عبارة التذكرة بقوله قدّس سرّه: «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» «1» إذ ليس المراد أنّ المخاطب لا يفهم منها المطلب و لو بالقرائن الخارجية. بل المراد أنّ الخطاب بالكناية لمّا لم يدل على المعنى المنشأ (3) ما لم يقصد [2] الملزوم (4)، لأنّ (5) اللّازم الأعم- كما هو الغالب بل المطّرد في الكنايات- لا تدلّ على الملزوم

______________________________

(1) لأنّ ظهوره في البيع منوط بالقرينة، و مثاله «التمليك» المشترك بين البيع و الهبة كما قيل.

(2) من عدم جواز الاتّكال على القرينة المقالية السابقة على الإنشاء، أو الحالية المقارنة له. و مقصوده بقوله: «و يمكن» توجيه استدلال العلّامة قدّس سرّه و جعله موافقا لنفسه في مقام الجمع بين كلمات القوم الذي أفاده بقوله: «و الأحسن منه أن يقال .. إلخ».

(3) و هو عنوان المعاملة- كالبيع- إذا أنشئ بلفظ «نقلت» مثلا.

(4) و هو عنوان العقد كالبيع، يعني: ما لم يقصد المنشئ من اللّازم- كالنقل الذي كنّي به عن البيع- النقل الملازم للمعنى المنشأ و هو البيع. و يرشد إلى هذا التفسير قوله بعد ذلك: «ما لم يقصد المتكلم خصوص .. إلخ».

(5) تعليل لقوله: «لمّا لم يدلّ».

______________________________

[1] هذا مناف لما سيذكر من عدم الخلاف في صحة الإيجاب بلفظ «بعت» إذ لا إشكال في كونه مشتركا لفظيّا بين البيع و الشراء. و كثرة استعماله في البيع ليست من القرائن اللفظية. و هذا وجه آخر لعدم صحة ما أفاده من الجمع المزبور.

[2] قصد الملزوم غير دخيل في الدلالة، ففي العبارة مسامحة. نعم قصد الملزوم دخيل في إنشاء العنوان الاعتباري.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

ص: 361

ما لم يقصد [1] المتكلّم خصوص الفرد الجامع مع الملزوم الخاص، فالخطاب (1) في نفسه محتمل (2) لا يدري المخاطب بم خوطب، و إنّما يفهم بالقرائن الخارجية الكاشفة عن قصد المتكلم، و المفروض على ما تقرّر في مسألة المعاطاة [2] أنّ النّية بنفسها أو مع انكشافها بغير الأقوال (3) لا تؤثر في النقل

______________________________

(1) جزاء الشرط في قوله: «لمّا لم يدلّ».

(2) يعني: أنّ الخطاب- المراد به العقد- لعدم اشتماله على لفظ يدلّ على عنوان المعاملة محتمل لإرادة معاملة أخرى، فلا يعلم المخاطب بالعقد بأيّ معنى خوطب به علما مستندا إلى اللفظ، و إنّما يفهم المراد بالقرائن الخارجية اللفظية الكاشفة عن قصد المتكلم من اللازم الملزوم.

مثلا: إذا قال البائع: «أدخلته في ملكك بكذا» أو: «جعلته ملكا لك بكذا» أو: «مسلّطا عليه بكذا» لم يدلّ بنفسه على إرادة البيع، لأنّ إدخال المال في ملك المخاطب- و كذا جعله مسلّطا عليه- لازم أعم من البيع، لتحققه به و بالهبة و بالصلح، و من المعلوم أنّ اللازم الأعم لا يفيد بمجرّده الملزوم الخاص، إلّا أن يقصد البائع خصوص الإدخال و الجعل المجتمع مع البيع، مع وجود كاشف عن قيده، حيث إنّه بدون الكاشف يكون خطاب «أدخلته في ملكك» محتملا لعقود متعددة هي ملزومات الخطاب، و لا يتمكن المخاطب من أن يستفيد خصوص البيع أو الهبة مع قطع النظر عن القرائن الخارجية، و لا يعلم أنّ دخول المال في ملكه هل تحقّق بالبيع أم بالهبة المعوّضة أم بالصلح؟ مع فرض اختلاف أحكامها.

(3) كما في المعاطاة، فإنّها فعل مجرّد عن اللفظ.

______________________________

[1] ليست الدلالة تابعة لقصد المتكلم، و مراده قدّس سرّه لا يخلو من خفاء.

[2] قد تقدم آنفا فساد هذه المقايسة.

ص: 362

و الانتقال (1)، فلم يحصل هنا عقد لفظي يقع التفاهم به.

لكن هذا الوجه (2) لا يجري في جميع ما ذكروه من أمثلة الكناية.

ثم إنّه ربما يدّعى (3) أنّ العقود المؤثّرة في النقل و الانتقال أسباب شرعيّة توقيفية، كما حكي عن الإيضاح من أنّ «كل عقد لازم وضع له الشارع صيغة مخصوصة بالاستقراء» «1» فلا بدّ من الاقتصار على المتيقن (4).

______________________________

(1) هذا أوّل الوجوه الأربعة في معنى قوله عليه السّلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» حيث قال هناك: «انّ تحريم شي ء و تحليله لا يكون إلّا بالنطق بهما، فلا يتحقق بالقصد المجرّد عن الكلام، و لا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال».

ثمّ إنّ الكناية يكون من الثاني، لأنّ نية الملزوم- الذي هو المقصود فيها- قد انكشفت بغير الأقوال، لانكشافها بالانتقال عقلا من لفظ اللازم إلى المعنى الملزوم.

(2) أي: الوجه الذي ذكره لتطبيق كلام العلامة قدّس سرّه- من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى اللفظ- لا يجري في جميع أمثلة الكناية، لكونه أخصّ من المدّعى و هو إلغاء مطلق الصيغ الكنائية، و ذلك لأنّ القرينة في بعضها- مثل: أدخلته في ملكك- لفظية، لأنّ القرينة فيه هو قوله: «في ملكك» و هو لفظ، فيصدق عليه: العقد اللفظي.

(3) الغرض من التعرض لكلام فخر المحققين- بعد توجيه كلام العلّامة- هو رفع مانع آخر عمّا ينافي مختار المصنف من كفاية مطلق اللفظ في مقام إنشاء العقود اللازمة، و توضيحه: أنّ فخر المحققين قدّس سرّه ادّعى حصر جواز الإنشاء في القدر المتيقّن و هو الاقتصار على الحقائق. و لمّا كانت هذه الدعوى منافية لما أفاده المصنف في الجمع بين الكلمات- من جواز العقد بمطلق اللفظ المفيد له إفادة وضعية و لو كان مجازا محفوفا بالقرينة اللفظية الوضعية- تعرّض لذكره و الإشكال عليه بقوله: «و هو كلام لا محصل له» لمنافاته للروايات و فتاوى العلماء.

(4) يعني: اللفظ الموضوع لذلك العقد، مثل «بعت» في البيع، و «وهبت» في

______________________________

(1): إيضاح الفوائد، ج 3، ص 12

ص: 363

و هو كلام (1) لا محصّل له عند من لاحظ فتاوى العلماء فضلا عن الروايات المتكثرة الآتية بعضها.

و أمّا ما ذكره الفخر قدّس سرّه (2) فلعلّ المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة شرعا هي اشتمالها على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به (3) في كلام الشارع، فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرجل و المرأة معبّرا عنها في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة فلا بدّ من اشتمال عقدها على هذه العناوين، فلا (4) يجوز

______________________________

الهبة، و «أنكحت» في النكاح، و «وقفت» في الوقف، و هكذا سائر العناوين الاعتبارية.

(1) هذا إشكال المصنف على فخر الدين قدّس سرّهما. و محصله: مخالفة دعواه للفتاوى المتقدمة، و للنصوص التي تقدم جملة منها، و سيأتي بعضها الآخر في شرائط الصيغة إن شاء اللّه تعالى.

(2) غرضه توجيه ما أفاده الفخر قدّس سرّه- من وضع الشارع لكل عقد لازم صيغة مخصوصة- بما لا ينافي ما تقدّم في الجمع بين الكلمات من قول المصنف قدّس سرّه:

«و الأحسن منه أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة اللفظية .. إلخ» فيكون الفخر قدّس سرّه موافقا للمصنف لا مخالفا له.

و ملخص التوجيه: أنّه يحتمل أن يراد بالصيغة المخصوصة في كلام الفخر اشتمال الصيغة على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة، فلا بد من إنشاء عقد النكاح بلفظ النكاح، و البيع بلفظ البيع، و هكذا سائر العقود.

(3) أي: المعبّر بذلك العنوان عن تلك المعاملة في كلام الشارع.

(4) متفرع على لزوم اشتمال الصيغة على العناوين المعبّر عنها في لسان الشارع، فإنّ «الهبة» ليست مما عبّر بها في لسانه عن النكاح، و لذا لا يجوز إنشاء النكاح بها.

ص: 364

بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك [1]. و هكذا الكلام في العقود المنشئة للمقاصد الأخر كالبيع و الإجارة و نحوهما.

فخصوصية اللفظ من حيث (1) اعتبار اشتمالها على هذه العنوانات الدائرة في لسان الشارع أو ما (2) يرادفها لغة أو عرفا، لأنّها (3) بهذه العنوانات موارد للأحكام الشرعية التي لا تحصى.

و على هذا (4) فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في

______________________________

(1) خبر «فخصوصية» يعني: أنّ خصوصية الصيغة- بنظر فخر المحققين- تكون لأجل اشتراط العقود و الإيقاعات بخصوص هذه الألفاظ أو ما يرادفها.

(2) معطوف على «العنوانات الدائرة». و لا يخفى أنّ تعميم العنوان للمرادف العرفي و اللغوي مبني على توجيه المصنف لكلام الفخر، و إلّا فعبارة الإيضاح صريحة في الاقتصار على القدر المتيقن ممّا ورد في الأدلة الشرعيّة.

(3) يعني: لأنّ العقود بهذه العنوانات من البيع و الصلح و النكاح و غيرها موضوعات لأحكام شرعيّة، كموضوعية عنوان «البيع» لخياري المجلس و الحيوان و غيرهما من الأحكام. فلا بدّ في تحققها من إنشائها بعناوينها حتى يترتب عليها أحكامها، فلو أنشئت بغيرها كانت أصالة الفساد المحكّمة في المعاملات مقتضية لعدم ترتب أثر عليها.

(4) أي: و بناء على كون خصوصية اللفظ لأجل اشتمالها على عناوين العقود فالضابط هو .. إلخ. و محصّل ما أفاده: أنّ المناط في إنشاء المعاملات هو الألفاظ

______________________________

[1] الحق صحة العقد بكل لفظ له ظهور عرفي في مضمونه و إن لم يكن بالألفاظ المعبّر بها عن ذلك المضمون في كلام الشارع، ضرورة أنّ العمومات تشمله، فلو شك في اعتبار لفظ خاص في صحة المعاملة فينفى بالعمومات، فإنّ شمولها لما له ظهور عرفي من الألفاظ ليس بأدون من شمولها للأفعال التي ينشأ بها العقود.

ص: 365

لسان الشارع [1]، إذ لو وقع بإنشاء غيرها فإن كانت لا مع قصد تلك العناوين- كما لو لم تقصد المرأة إلّا هبة نفسها أو إجارة نفسها مدّة الاستمتاع- لم يترتب عليه الآثار المحمولة في الشريعة على الزوجية الدائمة أو المنقطعة.

______________________________

الدائرة في لسان الشارع، لا بمعنى الاقتصار على الصيغ المتيقنة كما ادّعاه فخر المحققين، بل نقول بأعميتها منها و مما يرادفها لغة أو عرفا، فإذا أنشأ البيع بقوله: «ملّكت» صح أيضا، لاقترانه بذكر العوض، و من المعلوم أنّ «التمليك على وجه المقابلة بين المالين» هو البيع لا غير. و المفروض أنّ ذكر العوض يدلّ بالدلالة اللفظية الوضعية على ما يراد من «ملّكت» فلو لم تكن الصيغة بنفسها موضوعة للعنوان المنشأ، و لم تنضم إليها قرينة لفظية دالّة على المراد لم يصح الإنشاء به.

و على هذا فإذا أنشأت المرأة الزوجية بقولها: «وهبت نفسي لك بكذا، أو آجرتك نفسي أو سلّطتك على البضع بكذا» لم تترتب عليها آثار الزوجية الدائمة و المنقطعة سواء قصدت حصول العلقة بينها و بين الرجل أم لا. أمّا مع القصد فلعدم كون هذه الصيغ معهودة من الشارع في مقام إنشاء الزوجية، بل المعهود منها في لسانه هو التزويج و النكاح و التمتع بالدوام لا التسليط و الهبة و شبههما. فهذه كنايات عن التزويج، لأنّ لازم تحقق الزوجية في وعاء الاعتبار هو سلطنة الزوج على البصع و حلية الاستمتاع، و لا عبرة بالكناية كما تقدم.

و أمّا بدون القصد إلى الزوجية بأن كان مقصودها من «وهبت نفسي لك» إنشاء عقد الهبة حقيقة كان لغوا، إذ لا معنى لأن تهب المرأة نفسها لرجل أجنبي.

______________________________

[1] بل الضابط ما عرفته من اعتبار كون اللفظ المنشأ به العقد ظاهرا عرفا في مضمون العقد و إن لم يكن بتلك العنوانات الدائرة في لسان الشارع، فإنّ المنشأ مفاهيم تلك العناوين بأي لفظ كان.

ص: 366

و إن كانت بقصد (1) هذه العناوين دخلت في الكناية التي عرفت أن تجويزها رجوع إلى عدم اعتبار إفادة المقاصد بالأقوال (2). فما ذكره الفخر (3) مؤيّد لما ذكرناه (4) و استفدناه من كلام والده (5) قدّس سرّهما.

و إليه (6) يشير أيضا ما عن جامع المقاصد من «أنّ العقود متلقّاة من

______________________________

(1) يعني: و إن قصدت المرأة عنوان الزوجية الدائمية أو الانقطاعية دخلت صيغة «وهبت نفسي» في الكناية، التي تقدم أنّ تجويز إنشاء العقود بها رجوع إلى جواز إنشاء مضامين العقود بغير الأقوال الخاصّة.

(2) بناء على أنّ دلالة الكناية على المراد عقلية و إن كان الانتقال من اللازم إلى الملزوم بسبب اللفظ الموضوع للّازم.

(3) من اعتبار صيغة مخصوصة من الشارع لكلّ عقد لازم.

(4) من اعتبار كون الدلالة مستندة إلى الحقيقة سواء أ كانت هي التي أنشئ بها العقد أم كانت هي قرينة اللفظ الذي أنشئ به.

و إلى هنا أخرج المصنف فخر المحققين من المخالفين لمختاره، و أدرجه في الموافقين له. و يستمدّ المصنف من كلمات الشهيد و المحقق الثانيين و الفاضل المقداد لتقوية مرامه.

(5) حيث قال: «لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب».

(6) أي: و إلى ما ذكره من الضابط المزبور- و هو وجوب إيقاع العقد بإنشاء العناوين الدائرة في لسان الشارع .. إلخ. فإنّ قول جامع المقاصد: «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع، فلا ينعقد عقد بلفظ عقد آخر ليس من جنسه» «1» عبارة أخرى لكلام المصنف قدّس سرّه، إذ المراد باللّفظ الآخر الذي ليس من جنس العقد هي الألفاظ المغايرة للعناوين الدائرة على لسان الشارع، كمغايرة «هبة النفس» للزوجية، و مغايرة «الكتابة و الخلع» للبيع، و هكذا.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 7، ص 83

ص: 367

الشارع، فلا ينعقد عقد بلفظ آخر ليس من جنسه» [1]. و ما (1) عن المسالك من «أنّه يجب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة» «1».

و مراده بالمنقولة شرعا هي المأثورة (2) في كلام الشارع.

______________________________

(1) معطوف على «ما» في قوله: «ما عن جامع المقاصد» يعني: و يشير إلى ما ذكرناه كلام المسالك في إنشاء عقد الإجارة من وجوب الاقتصار في العقود اللّازمة على الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة.

(2) يعني: لا ما يتبادر منها من النقل عن معانيها اللغوية إلى المعاني الشرعية، إذ لا يراد هذا المعنى من المنقول هنا، لوضوح أنّها في كلام الشارع- كلفظ البيع و الصلح و النكاح و غيرها- مستعملة في معانيها الأوّلية من دون نقل لها إلى معان أخر.

______________________________

[1] يحتمل قريبا أن يراد بعدم كون اللفظ الآخر من جنسه الألفاظ المجازية المستبشعة، حيث إنّها لا تصلح لأن تكون آلة لإنشاء مضمون العقد الذي أراده المتعاقدان حيث لا يكون ما ينشأ بها منشأ لانتزاع تلك العناوين في نظر العرف، لعدم كونها آلة لإنشائها، و من المعلوم أنّه لا يصح التمسك حينئذ لصحّتها و نفوذها بالعمومات، لأنّها منزّلة على العناوين العرفية. و أمّا ما لا يكون ملغى في نظر العرف فيتعيّن البناء على صحة الإنشاء به، من غير فرق بين الحقيقة و المجاز و المشترك اللفظي و المعنوي، عملا بالعمومات أو الإطلاقات المقتضية للصحة و النفوذ من غير مخصّص أو مقيّد، إذ لا منشأ لتوهم التخصيص أو التقييد إلّا توهم دعوى الإجماع على اعتبار لفظ خاص.

لكنّها ممنوعة جدّا، و الكلمات المتقدمة أقوى شاهد على المنع. و مع الغضّ عن شهادتها بعدم الإجماع فلا أقل من عدم ثبوته، الموجب لمرجعية القواعد العامّة المقتضية للصحة.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 5، ص 172، و عبارة المتن منقولة بالمعنى. و قريب منه كلامه في عقد النكاح، ج 7، ص 88

ص: 368

و عن كنز العرفان في باب النكاح «أنّه حكم شرعي حادث، فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله، و هو العقد اللفظي المتلقّى من النص (1) «1» ثمّ ذكر لإيجاب (2) النكاح ألفاظا ثلاثة، و علّلها بورودها في القرآن [1].

______________________________

و الشاهد على إرادة المأثور عن الشارع من كلمة «المنقولة» هو كلام الشهيد الثاني في إنشاء الإجارة ب «أكريتك» حيث قال: «فهي من الألفاظ المستعملة أيضا- يعني مثل آجرتك- لغة و شرعا في الإجارة، يقال: أكريت الدار فهي مكراة .. إلخ» «2».

(1) فبدون التلقّي من الشارع تقتضي أصالة الفساد عدم تأثير الإنشاء في العنوان المقصود و هو الزوجية.

(2) يعني: ذكر الفاضل المقداد لإيجاب النكاح .. إلخ.

______________________________

[1] مجرّد الورود في مقام الحكاية عن مفاهيمها تشريعا أو إخبارا- كقوله تعالى:

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ «3»، و قوله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ «4»، و قوله تعالى وَ أَنْكِحُوا الْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ «5» إلى غير ذلك من الآيات و الروايات المتضمنة لألفاظ العقود- لا يصلح لتقييد أو تخصيص الإطلاقات أو العمومات، بعد صدق عناوينها بإنشائها بألفاظ أخر تدلّ عليها دلالة عرفيّة، فإنّه مع هذا الصدق تشملها أدلة الصحة و النفوذ، لعدم صلاحيّة مجرّد ورود تلك الألفاظ لتقييد الإطلاقات أو تخصيص العمومات بعد صدق تلك العناوين عرفا بغير ألفاظها، كإنشاء

______________________________

(1): كنز العرفان للفاضل المقداد، ج 2، ص 146

(2) مسالك الأفهام، ج 5، ص 172

(3) الطور، الآية: 20

(4) القصص، الآية: 27

(5) النور، الآية: 32

ص: 369

و لا يخفى أنّ تعليله هذا (1) كالصريح فيما ذكرناه من تفسير توقيفية العقود، و أنّها متلقّاة من الشارع، و وجوب الاقتصار على المتيقن (2) [1].

و من هذا الضابط [2] تقدر على تمييز الصريح (3) المنقول شرعا المعهود لغة من الألفاظ المتقدمة في أبواب العقود المذكورة من غيره. و أنّ الإجارة بلفظ العارية غير جائزة [3]، و بلفظ بيع المنفعة أو السكنى مثلا لا يبعد جوازه،

______________________________

(1) يعني: أنّ تعليل الفاضل المقداد قدّس سرّه- لإيجاب النكاح بخصوص ألفاظ ثلاثة- بالورود في القرآن الكريم يكون كالصريح فيما ذكرناه .. إلخ.

(2) المراد بالمتيقّن هو ما دار و تداول في لسان الشارع، لا المتيقن بحسب الصراحة و الظهور لغة.

(3) المراد بالصريح في نظر المصنف قدّس سرّه هو وضوح الدلالة بنفسه أو بضميمة قرينة لفظية تدلّ بالوضع على إرادة المقصود من ذي القرينة. و قد تقدّم هذا بقوله: «إذ لا يعقل الفرق في الوضوح الذي هو مناط الصراحة .. إلخ» راجع (ص 359).

______________________________

البيع بلفظ «ملّكت» أو «نقلت في ملكك بكذا» و نحو ذلك ممّا له ظهور عرفي في إنشاء البيع.

[1] لا وجه للاقتصار على المتيقّن بعد اقتضاء الأصل اللفظي- و هو أصالة العموم- عدم الاقتصار على بعض الألفاظ، و جعل المدار على كل لفظ له ظهور عرفي في إنشاء تلك العناوين الموجب لاندراجها تحت العمومات الدالة على الصحة.

[2] قد عرفت ما هو الضابط، و أنّه ظهور كل لفظ في إنشاء العناوين.

[3] وجه عدم الجواز عدم ظهور لفظ العارية عرفا في مفهوم الإجارة، لا كونه خارجا عن الألفاظ المنقولة شرعا.

ص: 370

و هكذا (1) [1].

______________________________

(1) يعني: أنّ لسائر العقود ألفاظا مأثورة عن الشارع أيضا، لكن بعضها يدلّ على العنوان الاعتباري بنفسه، و بعضها يدلّ عليه بمعونة قرينة، كدلالة «تصدّقت» على الوقف بمعونة قوله: «لا تباع و لا توهب و لا تورث أبدا» و لا مانع من الإنشاء بكلا القسمين.

هذا تمام الكلام في البحث الكبروي، و هو أصل اعتبار الصراحة و الظهور الوضعي في موادّ ألفاظ العقود، و سيأتي الكلام في صغريات هذا البحث إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

[1] التحقيق في مواد صيغ العقود: أنّ موضوع الحكم في المعاملات سواء أ كانت بيعا أم غيره هو المعاملات المسببية، لأنّها بالحمل الشائع عقد و تجارة و صلح و هبة و غيرها ممّا أخذ عرفا و شرعا موضوعا لأحكام.

و هذا المعنى المسبّبي قد ينشأ بالهيئة التي تؤخذ من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات بالحمل الأوّلي، نظير: بعت و آجرت و صالحت.

و قد ينشأ ما يكون بالحمل الشائع أحد العناوين المزبورة من البيع و غيره بغير ما ذكر من الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات، كإنشاء البيع بلفظ «ملّكت» و الإجارة بلفظ «سلّطت» و هكذا.

و قد ينشأ بالكنايات و المجازات، أو بالأفعال و الكتابات أحيانا، إلى غير ذلك.

و لا إشكال في أنّ موضوع وجوب الوفاء عند العقلاء هو المعنى المسبّبي، فمعنى العقود في قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هي المعاهدات الواقعيّة و النقل الواقعي، من دون نظر إلى آلات إنشائها و إيجادها، فالتمليك الواقعي مع العوض هو العقد و التجارة الموضوعان لوجوب الوفاء، لا ما هو متحقق بعنوان البيع السّببي كلفظ «بعت» فلا وجه لما قيل من لزوم أخذ عناوين المعاملات كالبيع و الصلح و نحوهما في الصيغة التي ينشأ بها المسبّبات.

ص: 371

______________________________

كما لا وجه لتوهم كون موضوع الأدلة الشرعية كقوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الصلح جائز بين المسلمين» «1» هو نفس هذه العناوين بما هي عناوين بالحمل الأوّلى، إذ الموضوع هي العناوين بالحمل الشائع، سواء أ كانت آلة الإنشاء ألفاظا مشتملة على تلك العناوين كبعت في البيع و «هبت» في الهبة و نحوهما، أم لا، فإنّ الجمود على اعتبار إنشائها بالألفاظ الحاوية لموادّ تلك العناوين يقتضي اعتبار إنشاء العقد بلفظ «عاقدت» و إيجاد البيع بخصوص لفظ «بعت» و إنشاء التجارة بلفظ الاتجار. مع أنّه لم يحتمل أحد ذلك.

و هذا يدلّ على عدم اعتبار إنشاء المسبّبات بخصوص ألفاظ عناوينها الأوّلية.

فكلّ معاقدة تحقّقت بأيّ سبب عقلائي- من لفظ أو فعل أو كتابة أو كناية بحيث يصدق عليها بالحمل الشائع أحد العناوين من البيع و الصلح و الهبة و غيرها- كان موضوعا للأدلة الشرعية، و لوجوب الوفاء بها. فاللازم بيان الألفاظ التي ينشأ بها تلك العناوين المسبّبيّة، فنقول:

إنّ تلك الألفاظ مأخوذة تارة من المواد التي تصدق عليها عناوين المعاملات كبعت في إنشاء البيع. و أخرى من ألفاظ الكنايات. و ثالثة من ألفاظ مجازية. و رابعة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك اللفظي. و خامسة من ألفاظ مشتركة بالاشتراك المعنوي. فهنا أبحاث خمسة:

الأوّل: في الألفاظ المأخوذة من المواد الصادقة عليها عناوين المعاملات.

و لا ينبغي الإشكال في صحة الإنشاء بها على جميع الأقوال. و قد تقدّم عن المصنف قدّس سرّه نفي الخلاف فيه فتوى و نصّا.

البحث الثاني: في إنشاء العقود بالكنايات. و قد منع عن الإنشاء بها المحقّق النائيني قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه الشريف.

و محصّل ما أفاده أمور:

______________________________

(1): وسائل الشيعة ج 13، ص 164، الباب 3 من كتاب الصلح، الحديث: 2

ص: 372

______________________________

أحدها: الفرق بين الحكايات و الإيجاديات، بتأدّي الأولى بكلّ لفظ غير خارج عن أسلوب المحاورة و لو مجازا أو كناية، و عدم تأدّي الثانية كذلك، بل بما هو آلة لإيجادها و مصداق لعنوانها، فلا يكون إيجاد اللّازم أو الملازم إيجادا للملزوم أو الملازم الآخر.

ثانيها: أنّ الكناية ليست من المجاز، لكون الألفاظ فيها مستعملة في معانيها الموضوع لها، غاية الأمر أنّ استعمال الألفاظ في معانيها الحقيقية يكون بداعي الانتقال منها إلى ملزومها أو لازمها.

ثالثها: أنّ الأغراض الداعية إلى استعمال الألفاظ خارجة عن حيّز العقود و الإيقاعات، لعدم كون الألفاظ مستعملة في معانيها الموضوعة لها، و مع عدم الاستعمال فيها لا تصلح تلك الألفاظ لإنشاء العقود بها.

رابعها: انصراف أدلة العقود عن العقود المنشئة بتبعية إيجاد لوازمها، لكمال ضعف هذا النحو من الإيجاد بحيث تنصرف أدلة العقود عنها، و مع الشكّ في دخولها تحت العموم، فالأصل عدم ترتب الأثر عليها «1»، هذا.

أقول: ما أفاده قدّس سرّه لا يخلو من التأمل و الغموض، إذ لا فرق في جواز استعمال الكنايات بين الإخبار و الإنشاء. توضيحه: أنّ الألفاظ في باب الكنايات لا تستعمل إلّا في معانيها الحقيقيّة للدلالة على المعنى المكنيّ عنه، فالأخبار في باب الكناية إخبار حقيقة عن المكنيّ عنه، لا عن المعنى المستعمل فيه الذي هو الموضوع له، فقوله: «زيد كثير الرّماد» مثلا ليس إخبارا عن كثرة الرّماد حقيقة، بل هو إخبار عن جوده.

و الشاهد على ذلك أنّ مناط الصدق و الكذب عند أبناء المحاورة في مثل «زيد كثير الرماد» هو مطابقة المعنى المكنيّ عنه للواقع و عدمها، لا مطابقة المعاني الموضوعة لها للواقع و عدمها، فلو لم يكن لزيد كثرة الرماد و لا الرّماد أصلا، و لكن كان جوادا

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 105

ص: 373

______________________________

كان الإخبار صدقا، لأنّ الأخبار ليس عن ذلك، بل عن جوده الموجود بالفرض.

فلو كان المعنى المكنيّ عنه من قبيل الدواعي و كان الإخبار عن كثرة الرماد حقيقة لكان الصدق و الكذب تابعين للمخبر به، و هو كثرة الرّماد و عدمها. مع أنّه ليس كذلك عند أبناء المحاورة، إذ مناط الصدق عندهم في هذا الكلام هو كون زيد جوادا، لا ذا كثرة الرّماد حقيقة. فالمعاني التي وضعت لها الألفاظ في باب الكنايات مرادة بالإرادة الاستعمالية دون الإرادة الجدّية، فإنّ المراد بهذه الإرادة هو المعنى المكنيّ عنه.

هذا حال الأخبار بالكناية. و كذا الحال في الإنشاء بها، فقوله: «خذ هذا الكتاب و أعطني درهما عوضه» إنشاء بيع كناية، لأنّ الكناية ليست إنشاء للازم أو إخبارا به حتى يكون الملزوم مرادا بنحو الداعي، بل المخبر به و المنشأ هو نفس الملزوم بالاستعمال الصوري في المعاني الإفرادية، فهذا الاستعمال آلة للإخبار و الإنشاء.

و من هنا يظهر الفرق بين المعاني الكنائية و المعاني الالتزامية، ضرورة أنّه في الدلالة الالتزاميّة يقع الأخبار حقيقة عن الملزوم، ثم يدلّ المعنى المطابقي- و هو الملزوم- على اللازم، فالدالّ على المعنى الالتزامي هو المعنى المطابقي، فهو من باب دلالة المعنى على المعنى، فقوله: «طلعت الشمس» ليس إلّا إخبارا عن طلوعها الذي هو يدلّ على وجود النهار، و من المعلوم أنّه من دلالة المعنى على المعنى، لا من دلالة اللفظ على المعنى.

فالمتحصل: أنّه لا مانع عن إنشاء المعاملة المسببية بالكنايات.

نعم يعتبر في الإنشاء بها أن يكون المعنى المنشأ المكني عنه من لوازم أو ملزومات المعاني الموضوع لها التي تستعمل فيها الألفاظ استعمالا صوريّا، بحيث تكون تلك الألفاظ المستعملة في معانيها آلة لإيجاد المعنى المكنيّ عنه بحسب المحاورات العرفية. و ليس هذا شأن كل لازم و ملزوم، مثلا قوله: «خذ هذا المتاع و أعطني درهما عوضه» يكون آلة عند أبناء المحاورة لإيجاد البيع، بخلاف قوله: «أنت

ص: 374

______________________________

مسلّط على هذا المال بدينار» فإنّ مجرّد التسليط ليس لازما للبيع بحيث يكون آلة لإنشاء البيع، إذ يمكن أن يكون التسليط على العين بإزاء مال إجارتها، فليس التسليط لازما مساويا للبيع حتى يكون إنشاء له.

و من هنا يمكن التفصيل بين الكنايات في جواز إنشاء البيع مثلا بها بين اللوازم و الملزومات، بأن يقال: إنّ اللّازم إن كان مساويا للملزوم صحّ إنشاء البيع مثلا به، و إلّا فلا.

و كذا الحال في الإخبار، فإنّه يصحّ الإخبار عن جود زيد بأنّه صاحب المضيف، لأنّ هذه الجملة إخبار عرفا عن جوده و كثرة ضيوفه، لكون وجود المضيف لازما عرفا للجود، فيصحّ الإخبار عنه بكونه صاحب المضيف. و في مثل هذا اللّازم و الملزوم يصح الإخبار عن المعنى المقصود بالكناية. و كذا في الإنشاء، فيصح أن يقال: «عفّر الإناء بالتراب» كناية عن ولوغ الكلب فيه، بعد تسلّم كون الولوغ ممتازا عن غيره من سائر النجاسات بالتعفير.

و يمكن التصالح بما ذكرناه من التفصيل بين اللوازم بين المحقق النائيني قدّس سرّه المانع عن إنشاء العقود بالكنايات و بين غيره ممّن أصرّ على جواز إنشائها بالكنايات، فيقال: إنّ مقصود الميرزا قدّس سرّه من المنع هو الكنايات التي لا تكون المعاني المكنّي عنها ظاهرة من الجمل الكنائية ظهورا عرفيا، و مقصود غيره هو ما إذا كانت الجمل الكنائية ظاهرة عرفا في المعاني المكنيّ عنها.

و بالجملة: بعد منع توقيفية ألفاظ العقود و الإيقاعات إلّا ما خرج لا بدّ من الالتزام بإنشاء كلّ عقد و إيقاع بكلّ لفظ له ظهور عرفي في ذلك، سواء أ كان ذلك اللفظ مشتقا من المصدر الذي يكون اسما لذلك العقد أو الإيقاع أم غيره.

و دعوى: انصراف أدلّة النفوذ عن العقود المنشئة بالكنايات كما ترى، إذ بعد فرض ظهور الكناية في إنشاء اللّازم بذكر الملزوم أو بالعكس لا وجه للانصراف، بعد شيوع الإنشاء كذلك، و عدم خروج مثل هذا الإنشاء عن الأسباب المتعارفة، مع أنّ الانصراف الناشئ عن ذلك مما لا يعتنى به، كما ثبت في محله، هذا.

ص: 375

______________________________

البحث الثالث: في إنشاء العقود بالمجازات. و عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني على ما قرّره عنه شيخنا الفقيه الخوانساري قدّس سرّهما التفصيل بين المجاز المشهور و عدمه.

و محصّل ما أفاده عبارة عن مقدمة و أمرين.

أمّا المقدمة فهي: أنّ البيع و غيره من عناوين العقود و الإيقاعات عنوان بسيط غير مركّب من الجنس و الفصل، فيمتنع إيجاده تدريجا، فالتمليك البيعي و القرضي و نحوهما من الهبة و الإجارة ليس جنسا، و البيعيّة و القرضية و نحوهما فصلا، فالتمليك في الجميع واحد، و الاختلاف بينها كالاختلاف بين أفراد البيع، يعني: أنّ الاختلاف بين التمليك البيعي و غيره يكون من قبيل اختلاف أفراد البيع في الخصوصيات و المشخّصات الفردية.

و أمّا الأمران اللذان رتّبهما على هذه المقدمة و جعلهما نتيجة لها فأحدهما: أنّ المجاز غير المشهور لمّا احتاج إلى قرينة صارفة فلا يمكن إنشاء العقد به، للزوم التناقض بين معناه الحقيقي المدلول عليه بالدلالة التصورية، و بين معناه المجازي المدلول عليه بالدلالة التصديقية، فإذا قال في مقام إنشاء الإجارة: «بعتك منفعة الدّكان الفلاني بكذا في مدّة كذا» لا يقع إجارة، لأنّ قوله: «بعتك» يدلّ على تمليك العين، و قوله: «منفعة الدكان» يدلّ على تمليك المنفعة لا العين، و هما متناقضان، و لذا قال المشهور بعدم إفادة قوله: «بعتك بلا ثمن، و آجرتك بلا أجرة» للهبة الصحيحة و العارية مع الاحتفاف بالقرينة الصارفة، و ليس ذلك إلّا لأجل التناقض المزبور.

و ثانيهما: عدم جواز إنشاء العقود ببعض المشتركات اللفظيّة و المعنوية، للزوم إيجاد البسيط بالتدريج، هذا «1».

و أنت خبير بما فيه.

أمّا في المقدمة فلما فيها من عدم البساطة، و أن البيع مركّب من جنس اعتباري و هو التمليك و فصل اعتباري و هو كونه مع العوض، فاختلاف البيع مع القرض و الهبة

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 106

ص: 376

______________________________

اختلاف نوعي، فإنّ مفهوم البيع و القرض و الهبة عرفا هو التمليك الجنسي المتفصّل بالفصول المتقدمة، فاختلافها نوعي لا فردي.

فالحق أنّ ماهيّات العقود مركّبات اعتبارية و ليست بسائط. نعم تحقّق الأمر الاعتباري العقلائي منوط بتماميّة أجزاء العقد، فذلك الاعتبار عند العقلاء دفعي الوجود لا تدريجي الوجود. و هذا شي ء آخر لا ربط له بماهيّة العقد المركّب من جنس و فصل اعتباريّين، فمتى تحقّق إنشاء الموجب الملكيّة بالعوض بدالّين و القبول من القابل اعتبر العقلاء عقيبهما انتقال المبيع إلى المشتري و الثمن إلى البائع دفعة لا تدريجا، فكلّ من الإنشاء و المنشأ تدريجي التحقق بتعدّد الدال و المدلول، و اعتبار النقل بالحمل الشائع دفعي بعد تحقق الإنشاء إيجابا و قبولا، هذا.

و أمّا الأمران اللذان جعلهما نتيجة للمقدمة المزبورة ففيهما: أنّه لا فرق في إنشاء الماهية بين إنشائها بالحقائق، و بين إنشائها بالمشتركات اللفظية و المعنوية و المجازات، فإنّ الكلّ في الإنشاء و الاحتياج إلى تعدد الدال و المدلول على حدّ سواء.

و تخيّل التناقض بين ما يوجد بحسب الدلالة التصورية و بحسب الدلالة التصديقية- يعني بين المعنى الحقيقي التصوري و المجازي التصديقي- في غاية الغموض، لأنّه إن أريد لزوم التناقض بحسب الواقع، ففيه منع واضح، إذ المفروض أنّه لم ينشأ إلّا المعنى المجازي، و إنّما جعل اللفظ الموضوع للمعنى الحقيقي الذي استعمل فيه آلة لإيجاد المعنى المجازي، فلا تناقض بين المعنى الحقيقي و المعنى المجازي الذي هو المراد الجدّي.

و إن أريد لزومه بنظر غير المتبايعين، ففيه: أيضا ما لا يخفى، لأنّ ظهور الكلام في معناه- المتحصل من مجموع القرينة و ذيها- منوط بتمامية أجزاء الكلام، فقبل تماميّتها لا ينعقد ظهور في المراد، و بعد تماميّتها يكون ظاهرا في المعنى المجازي فقط.

و مما ذكرنا ظهر حال البحث الرابع، و هو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة اللفظية، و البحث الخامس و هو إنشاء العقود بالألفاظ المشتركة المعنوية، و أنّه لا مانع من الإنشاء

ص: 377

إذا عرفت هذا (1) فلنذكر ألفاظ الإيجاب و القبول.

[المبحث الثاني: ألفاظ الإيجاب و القبول]
[أ ألفاظ الإيجاب]

منها (2): لفظ «بعت» في الإيجاب، و لا خلاف فيه فتوى و نصّا. و هو

______________________________

المبحث الثاني: ألفاظ الإيجاب و القبول ألفاظ الإيجاب

(1) أي: ما تقدم من الضابط في صيغ العقود، و هي شرطية دلالة الصيغة وضعا بنفسها أو بمعونة القرينة اللفظية الدالة على المراد بالوضع. و قد عقد المصنف قدّس سرّه هذا المبحث- المتعلق بمواد ألفاظ العقود- لبيان الألفاظ التي ينشأ بها الإيجاب و القبول، و قدّم الكلام في ألفاظ الإيجاب، و المذكور منها في المتن أربعة.

(2) أي: من ألفاظ الإيجاب و القبول، و هذا أوّل صيغ البيع.

______________________________

بها بعد كون الإنشاء بها بتعدّد الدال و المدلول.

و دعوى «انصراف الإطلاقات كما في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه عن كل لفظ مجازيّ أو مشترك لفظي أو معنوي أفاد معنى البيع و لو بالقرينة، لقرب احتمال انصرافها إلى المتعارف» غير مسموعة، لما ثبت في محله من عدم صلاحية التعارف للانصراف المعتدّ به.

فالمتحصّل من جميع ما ذكر: أنّه لا مانع من إنشاء العقود و الإيقاعات بكلّ لفظ يكون ظاهرا عرفا في ذلك، من غير فرق بين الكنايات و المجازات بأقسامها، و الألفاظ المشتركة اللفظية و المعنوية، لما عرفت من أنّ الأحكام تتعلّق بحقائق المسبّبات من غير أن تتقيّد بتحققها بسبب خاص، مثلا وجوب الوفاء تعلق بالعقد الواقع بين المتعاقدين، و هو من مقولة المعنى، و لا دخل للألفاظ فيها إلّا دخالة الإيجاد. كما أنّ المناسبة بين الحكم و الموضوع تقتضي كون موضوع وجوب الوفاء هو العقد بما هو قرار محترم، لا بما هو موجد باللّفظ الكذائي كما لا يخفى.

ص: 378

و إن كان من الأضداد (1) بالنسبة إلى البيع و الشراء،

______________________________

و لا خلاف في صحة إنشاء الإيجاب به، بل اقتصر بعضهم عليه كما هو ظاهر ابن إدريس «1».

و قد يقال: إنّه يفهم من عبارة الغنية حصر الإيجاب في «بعت» و القبول في «اشتريت و قبلت» و عليه فيكون الحصر معقد الإجماع الذي ادّعاه فيها. لكنه ليس كذلك، لعدم ظهور عبارته في الحصر المدّعى، حيث قال في الغنية: «و اعتبرنا حصول الإيجاب من البائع و القبول من المشتري تحرّزا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري و الإيجاب من البائع، و هو أن يقول: بعينه بألف، فيقول: بعتك، فإنّه لا ينعقد بذلك، بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت حتى ينعقد .. إلى أن قال: يدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه. و أيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به، و ليس على صحته بما عداه دليل» «2».

و الظاهر أنّ منشأ فهم الحصر هو الفقرة الأخيرة، بتخيّل أنّ قوله: «فما اعتبرناه» إشارة إلى «بعتك» من البائع و «اشتريت أو قبلت» من المشتري.

لكنّك خبير بأنّ قوله: «فما اعتبرناه» إشارة إلى ما سبق في أوّل الكلام من اعتبار حصول الإيجاب من البائع و القبول من المشتري، لا خصوص لفظ «بعتك» فلاحظ.

(1) قال في المصباح: «باعه يبيعه بيعا و مبيعا فهو بائع و بيّع، و أباعه بالألف لغة، قاله ابن القطاع. و البيع من الأضداد مثل الشراء. و يطلق على كل واحد من المتعاقدين: أنّه بائع. و لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السّلعة» «3».

و عن شرح القاموس: التصريح بكونه من الأضداد. بل عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه: «نفي الخلاف عن وضعه للمعنيين، فيثبت أنّه مشترك لفظا

______________________________

(1): السرائر الحاوي، ج 2، ص 250

(2) غنية النزوع في الأصول و الفروع (ضمن الجوامع الفقهية) ص 524.

(3) المصباح المنير، ص 69

ص: 379

لكن كثرة استعماله (1) في وقوع البيع به تعيّنه.

و منها (2): لفظ «شريت» لوضعه له، كما يظهر من المحكيّ عن بعض أهل

______________________________

بينهما» «1» [1].

(1) لمّا كان «البيع» مشتركا لفظيا بين إنشاء الموجب و القابل توقّف جواز الإيجاب به على قيام قرينة معيّنة لأحد المعنيين، و قد أشار المصنف إلى قرينية كثرة استعمال «بعت» في الإيجاب، فيتعيّن له، دون القبول.

و يؤيّده ما في المصباح من أنه إذا أطلق «البائع» تبادر إلى الذّهن باذل السلعة.

و يستفاد من كلامه مسألة أصولية، و هي: أنّ اشتهار المشترك في أحد معنييه يصير قرينة على تعيّنه [2].

(2) أي: و من ألفاظ الإيجاب و القبول لفظ «شريت» و هذا ثاني ألفاظ

______________________________

[1] فما أفاده السيد بقوله: «يمكن أن يقال: إنّه مشترك معنوي بين البيع و الشراء .. فيكون بمعنى التمليك بالعوض أعم من الصّريح كما في البيع، أو الضمني كما في الشراء» «2». لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا: ما عرفته من أنّه من الأضداد.

و ثانيا: أنّ التمليك الضمني خارج عن حدود البيع، كما تقدّم في تعريفه.

لكن هذا الاشكال المذكور في تقريرات سيدنا الخويي قدّس سرّه «3» لا يخلو من غموض، لأنّ طبيعة التمليك بالعوض تنطبق على فرديها، و هما التمليك الأصلي المسمّى بالبيع، و التمليك الضمني المسمّى بالشراء على نسق واحد، و يتميّز أحد الفردين عن الآخر في مقام الإنشاء بالقرائن كجامع الطلب بالنسبة إلى الوجوب و الندب.

[2] لكن خالف فيه المحقق القميّ قدّس سرّه- في البحث عن حال الفرد المحلّى- لوجهين:

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 244

(2) حاشية المكاسب، ص 87

(3) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 20

ص: 380

اللّغة، بل قيل لم يستعمل في القرآن الكريم

______________________________

الإيجاب، و هو من الأضداد أيضا. ففي المصباح: «شريت المتاع أشريه: إذا أخذته بثمن أو أعطيته بثمن، فهو من الأضداد» «1».

و في المجمع: «شراء: يمدّ و يقصر، و هو الأشهر. يقال: شرت الشي ء أشريه، و شرى شراء: إذا بعته و إذا اشتريته أيضا، و هو من الأضداد» «2».

______________________________

أحدهما: عدم مدخلية مجرّد الشهرة في أحد معاني المشترك في ترجيحه.

و ثانيهما: معارضة الشهرة في المجاز المشهور بأصالة الحقيقة «3».

و في كليهما ما لا يخفى. أمّا الأوّل فلأنّ الشهرة و إن لم تكن مرجّحة بنفسها، لعدم دليل على الترجيح بها، لكنّها تكون مرجّحة، لإيجابها الظهور العرفي.

و أمّا الثاني، فلأنّ الشهرة في المجاز غير الشهرة في اللفظ المشترك، إذ المفروض كون المعنى المشهور حقيقيا، بخلاف المجاز المشهور، فإنّ المعنى المشهور غير الحقيقي، فيعارضه أصالة الحقيقة.

و عليه فلا بأس بما في المتن من قرينيّة كثرة الاستعمال على تعيّن «بعت» للإيجاب.

مضافا إلى ما تقدم من: أنّ المدار على الظهور العرفي من أيّ سبب حصل، هذا.

و استند صاحب الجواهر قدّس سرّه إلى قرينتين أخريين:

الأولى: أنّ الابتداء بالمعاملة بحسب الطبع و الغلبة يكون من الموجب، فهذا قرينة مقاميّة على إرادة الإيجاب بلفظ البيع.

______________________________

(1): المصباح المنير، ص 312

(2) مجمع البحرين: ج 1، ص 245

(3) قوانين الأصول، ج 1، ص 220

ص: 381

إلّا في البيع (1). و عن القاموس «شراه يشريه ملكه بالبيع، و باعه كاشتراه، فهما ضدّ» و عنه أيضا «كل من ترك شيئا و تمسّك بغيره فقد اشتراه (2)» «1».

______________________________

(1) و في الجواهر أيضا: «بل قيل: إنّه لم يرد في الكتاب العزيز غيره ..» «2»

و لم أظفر بالقائل به.

و كيف كان فقد ورد في قوله تعالى وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «3» أيّ: باعوا به أنفسهم.

و قوله تعالى وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «4» أي: باعوه.

و قوله تعالى وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ «5».

و قوله تعالى فَلْيُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيٰاةَ الدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ «6» أي: يبيعونها.

(2) مقتضى هذه العبارة كون «الاشتراء» مشتركا معنويا بين إيجاب البائع و قبول المشتري، لصدق «ترك شي ء و أخذ شي ء آخر مكانه» على فعل كليهما.

و مقتضى عبارته الأولى- و هي كون «الشراء» من الأضداد- هو اشتراكه اللفظي و تعدّد الوضع.

______________________________

الثانية: كيفية ذكر المتعلّقات، فإنّ «بعت» في الإيجاب يتعدّى إلى مفعولين، فيقول: «بعتك الدار» مثلا، و في القبول إلى مفعول واحد «7».

______________________________

(1): القاموس المحيط، ج 4، ص 347 و 348

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 244

(3) البقرة، الآية: 102

(4) يوسف، الآية: 20

(5) البقرة، الآية: 207

(6) النساء، الآية: 74

(7) جواهر الكلام، ج 22، ص 245

ص: 382

و ربما يستشكل فيه (1) بقلّة استعماله عرفا في البيع، و كونه محتاجا إلى القرينة المعيّنة، و عدم نقل الإيجاب به في الأخبار و كلام القدماء (2).

______________________________

(1) أي: يستشكل في وقوع البيع بلفظ «شريت» بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّ «شريت» و إن كان من الأضداد، و مقتضاه جواز إنشاء كل من البيع و الشراء به، إلّا أنّ قلة استعماله- عند العرف العام- في البيع توهن ظهوره فيه، و من المعلوم إناطة صحة الإنشاء بالظهور العرفي في المراد.

الثاني: توقف استعمال المشترك في أحد معنييه أو معانيه على القرينة المعيّنة.

الثالث: عدم ورود إنشاء البيع بلفظ الشراء في الأخبار، و لا في كلام القدماء، و عليه فلا يكون لفظ «شريت» مأثورا عن الشارع في مقام إيجاب البيع.

(2) اختلفوا في جواز الإيجاب ب «شريت» فأجازه العلّامة قدّس سرّه في التذكرة «1».

و في الجواهر: «و يتحقق إيجابه ببعت قطعا، بل و بشريت على المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا. بل لعلّها كذلك، لاشتراك كلّ من لفظي البيع و الشراء بين المعنيين، فهما من الأضداد .. إلى أن قال: فيصح استعمال كل منهما حينئذ في الإيجاب على الحقيقة. و لا يقدح الاشتراك، و إلّا لامتنع الإيجاب بالبيع. و لا ظهورهما في أشهرهما، لوضوح القرينة المعيّنة لغيره، و هي وقوع البيع من المشتري و الشراء من البائع. على أنّ استعمال الشراء في البيع كثير .. إلى أن قال: فلا بأس باستعمال كلّ منهما حينئذ في الإيجاب و القبول على الحقيقة» «2».

و محصل كلامه- زيد في علوّ مقامه- الاستدلال بأنّ المقتضي موجود و هو الوضع، و المانع مفقود، لأنّ المانع المتصوّر في المقام إنّما هو الإجمال الناشئ من الاشتراك.

و لكن فيه أوّلا: أنّه غير صالح للمنع، و إلّا لمنع من استعمال البيع أيضا.

و ثانيا: أنّ الإجمال مرتفع بوجود القرينة المعيّنة.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 244

ص: 383

و لا يخلو عن وجه (1).

______________________________

(1) و لعلّه لتوقيفية ألفاظ العقود، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن، و هو ليس إلّا «بعت» إذ لا نصّ و لا إجماع على غيره، كما عن المصابيح، هذا [1].

______________________________

[1] لكن يمكن أن يقال: إنّه لا وجه لما استوجهه المصنف قدّس سرّه من المنع، إذ القرينة المعينة للمشترك إن كانت لفظيّة حقيقية فلا مانع منه عنده قدّس سرّه. و قاعدة التوقيفية قد وجّهها المصنف قدّس سرّه عند نقل عبارة الفخر بما هذا نصّه: «ثم إنّه ربما يدّعى أنّ العقود المؤثّرة في النقل و الانتقال أسباب شرعية توقيفية كما حكي عن الإيضاح من: أن كل عقد لازم وضع الشارع له صيغة مخصوصة بالاستقراء، فلا بد من الاقتصار على المتيقن» إلى أن قال المصنف «و أمّا ما ذكره الفخر فلعلّ المراد فيه من الخصوصية المأخوذة في الصيغة شرعا هي اشتمالها على العنوان المعبّر عن تلك المعاملة به في كلام الشارع، فإذا كانت العلاقة الحادثة بين الرّجل و المرأة معبّرا عنها في كلام الشارع بالنكاح أو الزوجية أو المتعة فلا بد من اشتمال عقدها على هذه العناوين، فلا يجوز بلفظ الهبة أو البيع أو الإجارة أو نحو ذلك».

و هذا التوجيه لا يقتضي أزيد من اعتبار كون اللّفظ الذي ينشأ به العقد موضوعا لعنوان العقد، و لا يقتضي اعتبار شيوع استعماله في الإيجاب حتى تكون أقليّة استعمال لفظ «شريت» في إيجاب البيع من استعمال لفظ «بعت» فيه مانعة عن إنشاء الإيجاب.

فالمتحصل: أنّه لا وجه للمنع الذي استوجهه المصنف قدّس سرّه.

نعم يمكن توجيه المنع بوجه آخر، و هو: أنّ لفظ «الشراء» و إن استعمل في قديم الزمان في إنشاء إيجاب البيع، لكنه مهجور في هذه الأزمنة، و إنشاء الإيجاب به خارج عن المتعارف عند أبناء المحاورة، و لا بد أن لا يكون لفظ العقد من الألفاظ المهجورة عندهم، و لذا اختار بعض المتأخرين المنع استنادا إلى هذا الوجه، فتدبّر.

ص: 384

و منها (1): لفظ «ملّكت» بالتشديد. و الأكثر (2) على وقوع البيع به،

______________________________

(1) أي: و من ألفاظ إيجاب البيع لفظ «ملّكت» و هذا ثالث صيغ البيع.

(2) قال في الجواهر: «و أمّا ملّكت فالأكثر- بل المشهور- على تحقق الإيجاب بها، بل عن جامع المقاصد في تعريف البيع ما يشعر بالإجماع على صحة الإيجاب به في البيع» «1».

و لكن في دلالة كلام جامع المقاصد على الإجماع بل الإشعار به تأمّل، بل منع.

و مقابل الأكثر ما عن الجامع للشرائع- لابن سعيد الحلّي- من «أنّه لا يصح إلّا بلفظ الماضي، و هو: بعت أو شريت».

و كيف كان ففي صحة إنشاء إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» أقوال:

أحدها: ما عن الأكثر، و هو وقوع البيع بلفظ ملّكت.

ثانيها: عدم وقوعه به، و هو المحكي عن جامع ابن سعيد.

ثالثها: ما نسب إلى العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه من التفصيل بين تقييد «ملّكت» بالبيع و عدمه، بالوقوع في الأوّل، و عدمه في الثاني. و تبعه على ذلك صاحب الجواهر قدّس سرّه.

و اختار المصنف قدّس سرّه القول الأوّل، لوجهين:

أحدهما: الاتّفاق المنقول في غاية المراد، و يؤيّده الإجماع المستشعر من جامع المقاصد.

ثانيهما: أنّ التمليك بالعوض- المنحلّ إلى مبادلة العين بالمال- هو المرادف للبيع، و أنّه إذا اتّصل بها ذكر العوض أفاد المجموع المركّب- بمقتضى الوضع التركيبي- البيع خاصة، فيكون صريحا. و يؤيّد هذا الوجه ما حكي عن فخر المحققين قدّس سرّه من كون «ملّكت» مرادفا في لغة العرب ل «بعت».

فإن قلت: إنّ «التمليك» ليس مرادفا للبيع، لاستعماله في الهبة بحيث لا يتبادر

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 246

ص: 385

بل ظاهر نكت الإرشاد الاتفاق (1)، حيث قال: «إنّه لا يقع البيع بغير اللفظ المتّفق عليه كبعت و ملّكت» «1».

و يدل عليه (2) ما سبق في تعريف (3) البيع من أنّ التمليك بالعوض- المنحل

______________________________

عند الإطلاق غيرها، و من المعلوم أنّ تبادر الهبة من لفظ «ملّكت» يمنع عن ظهوره في البيع. و عليه فلا يصح إنشاء البيع به، لأنّه حينئذ يكون من الإنشاء بالمجازات، و هو غير جائز عندهم، على ما تقدم تفصيله في المبحث الأوّل من مباحث موادّ صيغ العقود.

قلت: ليس التمليك مرادفا للهبة، و إنّما تفهم من تجريد اللفظ عن العوض، لا من مادة «التمليك» حتّى يقال: إن انسباق الهبة منه إلى الذهن يمنع عن ظهوره في البيع كي يمنع من إنشائه به. بل التبادر مستند إلى القرينة، و هي التجريد عن العوض، فالتمليك مشترك معنى بين ما يتضمّن المقابلة و بين ما يتجرّد عنها، فإن احتفّ الكلام بذكر العوض أفاد المجموع- بمقتضى وضعه التركيبي- البيع. و هذا هو مفهوم البيع حقيقة، فصحة إرادة الهبة المعوّضة أو المصالحة من التمليك المحفوف بذكر العوض منوطة بصحة العقد بلفظ غيره مع النية.

فالمتحصّل: أنّه يصحّ إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» للترادف.

(1) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على صحة إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» و هو الإجماع المنقول عن الشهيد قدّس سرّه.

(2) أي: على وقوع البيع ب «ملّكت» و هذا هو الدليل الثاني، و قد تقدم توضيحه آنفا بقولنا: «ثانيهما: أن التمليك بالعوض .. إلخ».

(3) حيث قال في ردّ أصالة البيع في تمليك الأعيان- و أعميّته منه و من الهبة و الصلح- ما لفظه: «إن حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلّا البيع، فلو قال: ملّكتك

______________________________

(1): غاية المراد، ص 81

ص: 386

إلى مبادلة العين بالمال- هو المرادف للبيع عرفا و لغة كما صرّح به فخر الدين، حيث قال: «إنّ معنى بعت في لغة العرب: ملّكت غيري» «1».

و ما قيل (1): «من أنّ التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر عند الإطلاق غيرها» فيه (2): أنّ الهبة إنّما يفهم من تجريد اللفظ عن العوض، لا من مادة التمليك (3)، فهي مشتركة معنى بين ما يتضمّن المقابلة (4) و بين المجرّد عنها،

______________________________

كذا بكذا كان بيعا، و لا يصحّ صلحا و لا هبة معوّضة و إن قصدهما ..» «2».

(1) لم أظفر بقائله، و حكاه في الجواهر أيضا بقوله: «و دعوى ..» و لعلّ المقصود ما أفاده المحقق الثاني قدّس سرّه في بيع السلف بقوله: «لأنّه- أي التمليك- شائع في الهبة، فإذا انعقد بالأبعد فبالأقرب أولى» «3».

و كيف كان فغرض القائل منع مرادفة التمليك و البيع، فيمنع إنشاؤه به، و قد أوضحناه بقولنا: «فان قلت ..».

(2) خبر و «ما قيل» و هذا جواب الإشكال، و قد أوضحناه بقولنا: «قلت:

ليس التمليك مرادفا للهبة ..».

(3) حتى تكون مادة «التمليك» موضوعة لحصّة من طبيعة التمليك، و هي خصوص التمليك المجّاني كي يكون البيع- و هو التمليك بالعوض- معنى مجازيا له، بل هذه المادة مشتركة معنوية بين التمليك المعوّض و المجرّد عنه، فإرادة كل واحدة من الحصّتين تتوقف على قرينة.

(4) يعني: المقابلة بين المالين، لا مطلق المبادلة و لو كانت بين تمليك الواهب و تمليك المتهب، كما هو حال الهبة المعوضة.

______________________________

(1): حكاه السيد الفقيه العاملي عن شرح الإرشاد لفخر المحققين- و هو مخطوط- مفتاح الكرامة، ج 4، ص 151

(2) راجع الجزء الأوّل من هذا الشرح، ص 246 و 247

(3) جامع المقاصد، ج 4، ص 207

ص: 387

فإن اتّصل (1) بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع. و إن تجرّد عن ذكر العوض اقتضى تجريده الملكية المجّانية.

و قد عرفت سابقا (2) أنّ تعريف البيع بذلك (3) تعريف بمفهومه الحقيقي،

______________________________

و بعبارة أخرى: إن كان التمليك مجرّدا عن العوض أفاد الهبة غير المعوّضة.

و إن كان متضمنا للعوض فهو على قسمين:

أحدهما: أن يكون العوض عوضا عن تمليك الأوّل، فالمقابلة تقع بين تمليك و تمليك، و هذا هو الهبة المعوّضة.

ثانيهما: أن يكون العوض عوضا عن المال و هو العين التي ملّكها الأوّل للثاني، فالمقابلة تقع بين نفس المالين في إضافة الملكية، و هذا هو البيع.

و مقصود المصنف قدّس سرّه من «التمليك المتضمن للمقابلة الذي هو البيع» هو القسم الأخير كما أفاده في ردّ انتقاض تعريف البيع بالصلح و الهبة المعوّضة. و عليه لا يتوهم أنّ المقابلة موجودة في الهبة المعوضة أيضا لما عرفت من أنّ التقابل في الهبة ليس بين المالين بل بين الفعلين. و إن شئت توضيح هذا المطلب أزيد ممّا هنا فراجع الجزء الأوّل من هذا الشرح ص (241- 248).

(1) هذا متفرع على كون مادة «التمليك» مشتركا معنويا بين البيع و الهبة، فيلحقها حكمه، و هو توقف إرادة كل واحدة من الحصّتين على القرينة، فقرينة الهبة التجرّد عن ذكر العوض، و قرينة البيع ذكر العوض.

(2) يعني: في رد ما أفاده كاشف الغطاء قدّس سرّه من حمل التمليك بعوض على البيع، لكونه الأصل في تمليك الأعيان.

(3) أي: أن تعريف البيع ب «التمليك المتضمن للمقابلة على وجه العوض» تعريف للبيع بمفهومه الحقيقي، و ليس مشتركا بينه و بين الهبة المعوّضة و الصلح على عين بعوض.

و عليه فالمشترك بين البيع و الهبة هو طبيعي تمليك العين بعوض. و أمّا تمليك

ص: 388

فلو أراد منه (1) الهبة المعوضة أو قصد المصالحة بنى صحة العقد به على صحة عقد بلفظ غيره (2) مع النّية.

و يشهد لما ذكرنا (3) قول فخر الدين في شرح الإرشاد: «انّ معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري (4)».

______________________________

عين في قبال عين أخرى فليس إلّا البيع.

(1) أي: فلو أراد الموجب بقوله: «ملّكتك الكتاب بدينار» غير البيع، بأن أراد الهبة المعوّضة أو المصالحة توقّف صحته على انعقاد الهبة و الصلح بالألفاظ المجازية.

و وجه المجازية: أنّ «تمليك عين بإزاء عين أخرى» هو البيع خاصّة، فإرادة غيره مجاز.

(2) كإنشاء البيع بغير لفظ «بعت» مثل «نقلته إليك و أدخلته في ملكك» و نحوهما من المجاز و الكناية.

(3) من كون البيع هو التمليك بالعوض، و أنّ إنشاءه به صحيح.

(4) و بهذا قد وفى المصنف قدّس سرّه بما وعد به في أوّل كتاب البيع في تعريفه بإنشاء التمليك، و جوازه به، حيث قال: «و فيه: أنه الحق كما سيجي ء» [1].

______________________________

[1] و قد يستدلّ أيضا على جواز إنشاء البيع بلفظ «ملّكت» بما في الجواهر من قوله: «و لعلّه لكونها حقيقة فيما يشمل البيع، فاستعمالها فيه حينئذ حقيقة، إذا لم يكن على جهة الخصوصية التي يكون استعمال الكلّي فيها مجازا» «1».

و كذا بما مرّ من كلام كاشف الغطاء قدّس سرّه من «أن الأصل في تمليك الأعيان بالعوض هو البيع، و في تمليك المنافع هي الإجارة».

و في الكل ما لا يخفى. أمّا الاتفاق الذي نقله المصنف قدّس سرّه عن غاية المراد ففيه أوّلا: عدم دلالته على الإجماع كما يظهر للمراجع. و كذا لا إشعار به في كلام المحقق الثاني.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 246

ص: 389

______________________________

و ثانيا: عدم إجماع قطعا مع هذا الخلاف.

و ثالثا: عدم اعتباره بعد تسليم تحققه، لعدم حجية الإجماع المنقول.

و أمّا ما استدلّ به في المتن- من: أنّ التمليك بالعوض المنحل إلى «مبادلة عين بمال» هو المرادف للبيع إذا اتّصل به ذكر العوض فيكون صريحا- ففيه: أنّ المراد بالصريح في كلامهم ليس ذلك، و إلّا لجرى في «نقلته إليك و أدخلته في ملكك و جعلته لك» و المفروض عدمه كما لا يخفى على من لاحظ التذكرة.

و الاستشهاد بكلام فخر المحققين على ترادف البيع و التمليك ممنوع أيضا، لأنّه إن أراد الترادف لغة توجّه عليه أعمية التمليك من البيع، لاشتراكه بينه و بين العطيّة و الهبة كما نسب إلى الفقهاء و أهل اللغة. بل في المسالك- في مسألة انعقاد البيع بلفظ السلم- ما نصّه: «و لا ريب أنّ السّلم أقرب الى حقيقة البيع من التمليك المستعمل شرعا استعمالا شائعا في الهبة، فإذا انعقد بالأبعد لتأدية المعنى المراد، فالأقرب إذا أدّاه أولى» و هو قريب من كلام جامع المقاصد المتقدم في التوضيح.

و إن أراد التفسير بالأعم لم يجد في الدلالة على المطلوب و هو جواز إنشاء البيع به، لعدم دلالة العام على الخاص.

و أمّا ما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه فيردّه: أنّه مع إرادة الخصوصية- أي التمليك المتخصص بخصوصية البيعيّة- يصير استعمال لفظ «ملّكت» فيه مجازا، و استعمال المجازات في إنشاء العقود ممنوع عند الجماعة. و مع إرادة الكلّي لا يجوز أيضا، لأنّ معناه أعم من التمليك البيعي، لشموله له و للصلح و الهبة بعوض.

و أمّا ما حكي عن كاشف الغطاء- من أصالة البيع في تمليك الأعيان- ففيه: أنّ دعوى الأصالة ممنوعة جدّا، إذ الجامع بين التمليكات المتشخصة هو نفس التمليك، لأنّه القدر المشترك بين جميع حصص التمليك التي منها البيع و الصلح و الهبة، نظير

ص: 390

______________________________

تحصّص الحيوان بحصص عديدة متفصّلة بفصول متشتتة، و لذا لا يكون أحد أنواع الحيوان مثلا أصلا لسائر أنواعه.

________________________________________

و عليه فلا معنى لكون البيع أصلا في مقام الثبوت لسائر حصص التمليك.

هذا إذا أريد بالأصل الأصالة الثبوتية. و إن أريد به الأصالة الإثباتية- بمعنى كون غالب التمليكات في الخارج هو البيع- فلا تجدي في إثبات صحة إنشاء البيع ب «ملّكت» لأنّ هذا راجع إلى مقام الثبوت الذي هو أجنبي عن الغلبة الراجعة إلى مقام الإثبات، هذا.

بقي التعرض لدليل القولين الآخرين.

أمّا دليل القول الثاني- و هو المنع عن وقوع البيع بلفظ التمليك- فوجوه:

أحدها: توقيفية صيغ العقود، و عدم معهودية تجويز العقد عنهم بلفظ «ملكت» فتبقى أصالة الفساد سليمة عن المانع.

و فيه: عدم ثبوت توقيفيتها، و إلّا كان اللازم على الشارع تعيين لفظ أو ألفاظ لإنشاء العقود، لئلّا يتجاوز عن تلك الألفاظ إلى غيرها.

ثانيها: ما حكاه المصنف قدّس سرّه بقوله: «و ما قيل من أنّ التمليك يستعمل في الهبة».

و فيه: ما أجاب به في المتن بقوله: «إنّ الهبة إنّما يفهم من تجريده اللفظ .. إلخ».

ثالثها: أنّ التمليك حقيقة في القدر المشترك بين البيع و العطية و الهبة، فإن أريدت خصوصية البيع من لفظه صار مجازا، و استعمال الألفاظ المجازية في العقود غير جائز.

و إن لم ترد الخصوصية من اللفظ كان عنوانا عامّا غير منطبق على المقصود و هو البيع، فإنشاء إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» غير جائز.

و فيه: أنّ هذا مبني على القول باشتراط كون الصيغة بنفسها صريحة. و أمّا على القول بالاكتفاء بكون المجموع المركّب صريحا- كما يظهر من الأكثر- فلا يتم، إذ المجموع المركّب من لفظي التمليك و العوض المنضم إليه يصير صريحا في عنوان

ص: 391

______________________________

البيع، فيكون نفس «ملّكت» دالّا على طبيعة التمليك، و القيد دالّا على التمليك البيعي من باب تعدّد الدال و المدلول، نظير «أعتق رقبة مؤمنة».

و أمّا دليل القول الثالث فهو ما أفاده في محكي المصابيح من: «أنّه يشكل الإيجاب بلفظة- ملّكت- لاحتمالها لغير البيع و إن كانت نصّا في الإيجاب. و لا يجدي ذكر العين و العوض، لأنّ تمليكها به قد يكون بالهبة و الصلح، فلا يتعيّن بيعا، إلّا إذا قيّده البائع به، فقال: ملّكتك بالبيع. و منه يظهر وجه المنع كما هو ظاهر الجامع، مع ضعف إطلاقه، كإطلاق غيره. و لو حمل المنع فيه على المجرّد عن القيد، و الجواز في غيره على المقيّد زال الإشكال» انتهى.

و نسج على منواله صاحب الجواهر قدّس سرّه بزيادة احتمال حمل المنع على ما إذا استعمل فيه مجازا، بملاحظة الخصوصية، و المجاز لا ينعقد به العقد. و الجواز على استعماله على جهة الحقيقة و إن استفيدت الخصوصية من قيد آخر «1».

و فيه: أنّ التمليك المقرون بذكر العوض هو البيع حقيقة، فقوله قدّس سرّه: «و لا يجدي ذكر العين و العوض .. إلخ» في غاية الإشكال، لأنّ الصلح و الهبة المعوّضة ليسا من التمليك بالعوض على وجه المقابلة، فلا حاجة في تعيّن «ملّكت» في إنشاء إيجاب البيع إلى تقييده بذكر البيع، بأن يقال: ملّكتك بالبيع، هذا.

و أمّا ما أفاده الجواهر من «حمل المنع على ما إذا استعمل فيه مجازا .. إلخ» ففيه:

أنّ المجاز- بعد فرض الظهور العرفي للفظ في المعنى المقصود- ممّا لا مانع عنه، فلا فرق في الجواز بين كون الاستعمال على وجه الحقيقة و بين كونه على وجه المجاز.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 246

ص: 392

و أمّا الإيجاب ب «اشتريت» (1) [1] ففي مفتاح الكرامة «أنّه قد يقال بصحّته كما هو الموجود في بعض نسخ التذكرة (2)، و المنقول عنها في نسختين من

______________________________

(1) هذا رابع ألفاظ الإيجاب بناء على صحة إنشاء البيع به.

(2) ظاهر العبارة أنّ السيد الفقيه العامليّ ظفر ببعض نسخ التذكرة و بنسختين

______________________________

[1] قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه: «الظاهر أنه تصحيف- شريت- كما هو الموجود في النسخة التي رأيناها، لبعد الاقتصار عليها دون شريت. و يؤيّده: أنّه لم يذكر- اشتريت- بالخصوص أحد من الفقهاء في عداد ألفاظ إيجاب البيع، و إن كان بعض أهل اللغة ذكر استعماله في معنى الإيجاب و قبوله. ففي شرح القاموس يقال: اشتراه إذا ملكه بالبيع، و يقال: اشتراه إذا باعه» «1».

و لكن قد يتّجه عليه أوّلا: أنّ الظاهر صحة ما في المتن و وقوع السهو في النسخة التي رآها قدّس سرّه، ضرورة أنّ المصنف قدّس سرّه لم يقتصر في صيغ الإيجاب على «اشتريت» حتى يستبعد منه إهمال «شريت» بل قد جعلها في عداد صيغ الإيجاب، حيث قال قبل أسطر بعد ذكر صيغة «بعت» ما لفظه: «و منها: لفظ شريت، فلا إشكال في وقوع البيع به لوضعه له .. إلخ».

و عليه فلو قال المصنف هنا: «و أمّا الإيجاب بشريت» لكان تكرارا مخلّا بنظام المطلب.

مضافا إلى قوله في المتن: «و لكن الاشكال المتقدم في شريت أولى بالجريان هنا».

و ثانيا: أنّ المصنف قدّس سرّه اقتصر في أوّل كلامه على نقل عبارة مفتاح الكرامة، و الموجود فيه في هذا المقام: «اشتريت» كما في المتن، فراجع.

و ثالثا: أنّ المصنف لم يدّع ذكر خصوص صيغة «اشتريت» في شي ء من الكتب الفقهيّة، بل ادّعى ذكرها في التذكرة، ثم استفادتها من عطف «ما أشبههما، و ما يقوم مقامهما» على قولهم: «بعت و ملّكت».

و الإنصاف أنّه لم يتّضح لنا مراده قدّس سرّه و هو أعلم بما قال.

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 233

ص: 393

تعليق الإرشاد «1».

______________________________

من تعليق الإرشاد للمحقق الثاني قدّس سرّه، و ظفر بتجويز العلّامة قدّس سرّه إيجاب البيع بصيغة «اشتريت».

و قال السيد بعد العبارة المنقولة في المتن تأييدا لصحة الإيجاب بها: «و في القاموس: شراه يشريه إذا ملكه بالبيع، و باعه كاشترى، فهما ضدّ. و فيه أيضا: كل من ترك شيئا و تمسّك بغيره فقد اشتراه».

و عليه يسهل الأمر في الإنشاء ب «اشتريت» بعد كونه مشتركا بين الإيجاب و القبول.

و هذا لا ينافي ذكر صيغ ثلاث في كثير من كتب الأصحاب، و هي «بعت و شريت و ملّكت» كما حكاه السيد العاملي قدّس سرّه «2» عن التذكرة و نهاية الأحكام و الدروس و التنقيح و صيغ العقود و تعليق الإرشاد.

وجه عدم التنافي: أنّه يحتمل أن يكون ذكر الصيغ الثلاث للمثال، كما يحتمل أن يكون للحصر، فلا سبيل للجزم بالحصر حتى يكون ذكر «اشتريت» في بعض نسخ التذكرة منافيا للمشهور أو للمتّفق عليه بينهم.

نعم المستفاد من عبارة العلامة في القواعد الحصر في الثلاث، حيث قال:

«و لا بدّ من الصيغة الدالة على الرّضا الباطني، و هي الإيجاب كقوله: بعت و شريت و ملّكت» «3».

و لكن استظهر صاحب الجواهر «4» منها عدم الحصر، لأنّ العلّامة ذكر أوّلا لزوم الصيغة الدالة على الرّضا الباطني، و هي عنوان كلّي، ثم حكم بأنّه الإيجاب و القبول، و أدخل «الكاف» على ألفاظ الإيجاب، و هي ظاهرة في التمثيل.

______________________________

(1) أ: مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150 و 151

(2) ب: مفتاح الكرامة، ج 4، ص 150 و 151

(3) قواعد الأحكام، ص 47 (الطبعة الحجرية).

(4) جواهر الكلام، ج 22، ص 247

ص: 394

أقول: قد يستظهر (1) من عبارة كلّ من عطف على بعت و ملّكت «شبههما» أو «ما يقوم مقامهما» إذ إرادة خصوص لفظ «شريت» من هذا بعيد جدّا.

______________________________

و إن كان هذا الاستظهار لا يخلو من تأمّل، إذ لا ظهور لعبارة العلّامة في عدم الحصر.

(1) يعني: قد يستظهر صحة الإيجاب بلفظ «اشتريت» من عبارة غير العلّامة- في التذكرة- أيضا، لأنّ جمعا بعد أن ذكروا صيغتي «بعت و ملّكت» عطفوا عليهما:

«و ما أشبههما أو ما قام مقامهما».

فعن حواشي الشهيد على القواعد: «مثل قارضتك و سلّمت إليك و ما أشبه ذلك».

و عن التحرير: «الإيجاب اللفظ الدال على النقل مثل: بعتك و ملّكتك أو ما يقوم مقامهما». و من المعلوم أنّ المراد ممّا أشبه الصيغتين أو مما قام مقامهما ليس خصوص «شريت» لعدم الدليل على هذا الحصر، بل المراد كل ما يدلّ على الرضا بالبيع، فيشمل «اشتريت» الذي هو من ألفاظ الأضداد، و يكون استعماله في الإيجاب حقيقة لا مجازا.

و يؤيّد هذا الاستظهار ما اختاره الفاضل الآبي، و نسبه إلى المحقق من عدم اعتبار لفظ خاص في البيع «1».

و الحاصل: أنّ مراد المصنف قدّس سرّه أن يكون «اشتريت» بمعنى «بعت» بأن يراد منه إيجاب البيع، فيكون قول الموجب: «اشتريت مالي بمالك» بمعنى «بعت مالي بمالك». لا أن يكون «اشتريت» بمعنى قبول البيع، و كان من تقديم القبول على الإيجاب، لأنّه بهذا المعنى يخرج عن مورد النزاع.

______________________________

(1): كشف الرموز، ج 1، ص 446

ص: 395

و حمله (1) على إرادة «ما يقوم مقامهما» في اللّغات الأخر للعاجز عن العربية أبعد، فيتعيّن (2) إرادة ما يرادفهما لغة أو عرفا، فيشمل «شريت» و «اشتريت».

لكن الإشكال المتقدّم (3) في «شريت» أولى بالجريان هنا (4)، لأنّ «شريت» استعمل في القرآن الكريم في البيع، بل لم يستعمل فيه إلّا فيه (5). بخلاف

______________________________

(1) أي: و حمل العطف على إرادة .. إلخ. و غرضه بيان توهّم و دفعه. أما التوهم فتقريبه: أنّه يمكن أن يراد من كلمتي «شبههما، يقوم مقامهما» أمر آخر غير ما استظهره المصنف، بل المراد ما يدلّ على معنى «بعت و ملّكت» في سائر اللغات، بأن يقول بالفارسية «فروختم، مال تو قرار دادم» و هكذا ترجمة الصيغتين في اللّغات الأخرى.

و على هذا فلا يمكن أن ينسب إلى الفقهاء إرادة صيغة «اشتريت» من كلمة «أو ما أشبه أو ما يقوم» و نتيجة ذلك منع قول المصنف: «قد يستظهر».

و أمّا الدفع فهو: أنّ حمل «ما أشبههما» على ترجمة «بعت» بالنسبة إلى العاجز عن العربية في غاية البعد، إذ لو كان مرادهم مدلول خصوص صيغتي «بعت و ملّكت» في سائر اللغات لزم أن يقولوا: «إيجاب البيع: بعت و ملّكت للقادر على العربية، و مرادفهما من سائر اللغات، أو: ما يقوم مقامهما من سائر اللغات» مع أنّهم قالوا:

«إيجاب البيع: بعت و ملّكت و ما أشبههما» و لا مجال إلّا لأن يراد من «الشّبه» سائر الألفاظ الدالّة على إيجاب البيع مثل «شريت، اشتريت».

(2) هذا متفرع على أبعدية حمل العطف على المرادف من سائر اللغات.

(3) و هو قلّة استعماله عرفا في البيع، و احتياجه إلى القرينة المعيّنة.

(4) يعني: في لفظ «اشتريت» وجه الأولوية هو اشتمال «اشتريت» على تاء المطاوعة.

(5) أي: لم يستعمل- في القرآن- إلّا في البيع.

ص: 396

«اشتريت» (1) [1].

______________________________

(1) فإنّه لم يستعمل في إنشاء الإيجاب، بل اقتصر في محكي التذكرة- من ألفاظ القبول- على خصوص «اشتريت» «1».

______________________________

[1] قال سيدنا الأستاذ قدّس سرّه: «و ينبغي أن يكون جواز الإيجاب به مبنيّا على جواز الإيجاب بالمجاز، لأنّ استعمال اشتريت بمعنى بعت و شريت مجاز» «2».

و فيه ما عرفت من أنّ الاشتراء- كما تقدّم عن شرح القاموس- من الأضداد، فاستعمال «اشتريت» في إيجاب البيع ليس مجازا، بل هو حقيقة بقرينة معيّنة. و على تقدير المجازية لا بأس بها، لما مرّ من جواز الإنشاء، بكلّ ما يكون ظاهرا عرفا في المعني المقصود، و عدم دليل تعبّدي على اعتبار الإنشاء بما يكون دلالته على المقصود بالوضع، هذا.

ثم إنّه مع الغض عن كون «اشتريت» من الأضداد يمكن إثبات جواز الإيجاب به أيضا، لأنّ الاشتراء كما عن القاموس «ترك الشي ء و التمسك بغيره» و منه اشْتَرَوُا الضَّلٰالَةَ بِالْهُدىٰ و عليه فالإشتراء يستعمل حقيقة في الإيجاب.

و قد يقال: إنّ «اشتريت» متمحضة في القبول حقيقة، لكون هيئة الافتعال و التفعّل لمطاوعة فعل الغير، كما يظهر من تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه.

لكنّه ليس كذلك، لأنّ هذه المطاوعة عبارة عن اتخاذ الذات للمبدأ مطلقا سواء أ كان المبدأ صادرا من نفسه كالاكتساب و الاحتطاب و الاحتشاش و نحوها، و كما في التعمم و التقمص و التّسربل و التكبر و نحوها، أم من غيره.

و عليه فإن تعلّقت المطاوعة بمال نفسه كان معناه اتخاذ المبدأ من نفسه، و هو تمليك مال نفسه بعوض. و إن تعلّقت بمال الغير كان معناه اتخاذ البيع من الغير، و حينئذ يكون مصداقا للقبول و المطاوعة الحقيقة.

و منه يظهر أنّ وقوعه موقع الإيجاب يناسب مفهومه، لا أنه يبتني على كون «الشراء و الاشتراء» من الأضداد، فلاحظ و تدبّر.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، 152

(2) نهج الفقاهة، ص 96

ص: 397

و دفع (1) الإشكال في تعيين المراد منه بقرينة (2) تقديمه الدّال على كونه إيجابا، إمّا بناء على لزوم تقديم الإيجاب على القبول، و إمّا لغلبة ذلك، غير (3) صحيح، لأنّ الاعتماد على القرينة غير اللفظية في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت (4) ما فيه.

______________________________

(1) مبتدأ، خبره «غير صحيح» و المراد بالإشكال هو قوله: «لكن الإشكال المتقدم في شريت أولى بالجريان هنا» و مقصود الدافع تصحيح إيجاب البيع ب «اشتريت» فالإشكال الوارد على «شريت» لا يجري في «اشتريت».

و حاصل وجه الدفع هو: أنّ إنشاء الإيجاب بلفظ «اشتريت» إن كان مع القرينة الموجبة لظهوره في إنشاء الإيجاب فلا بأس به. ثم إنّ القرينة عبارة عن لزوم تقديم الإيجاب على القبول، أو غلبة ذلك الموجبة لظهور «اشتريت» مع التقديم في إنشاء الإيجاب.

(2) متعلق ب «دفع» و بيان له، و ضمير «تقديمه» راجع إلى «اشتريت».

(3) خبر «و دفع» و حاصل الإشكال على هذا الدفع عدم صلاحية القرينة- غير اللفظية- على تعيين المراد من ألفاظ العقود، فلا يصلح لزوم تقديم الإيجاب على القبول- أو غلبته- لتعيين المراد، و هو الإيجاب من لفظ «اشتريت».

(4) حيث قال: «و الأحسن منه أن يراد باعتبار الحقائق في العقود اعتبار الدلالة الوضعية .. الى أن قال: و هذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو سبق مقال خارج عن العقد» لاحظ (ص 358).

و حاصله: اعتبار الدلالة الوضعية في العقود، سواء أ كان اللفظ الدال على إنشاء العقد بنفسه موضوعا له، أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ آخر موضوع له، ليرجع الإفادة بالأخرة إلى الوضع، إلى آخر ما أفاده.

ص: 398

إلّا (1) أن يدّعى أنّ ما ذكر سابقا- من اعتبار الصراحة- مختصّ بصراحة اللفظ من حيث دلالته على خصوص العقد و تميّزه عمّا عداه من العقود. و أمّا تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله- الراجع إلى تميز البائع عن المشتري- فلا يعتبر فيه الصراحة، بل يكفي استفادة المراد و لو بقرينة المقام، أو غلبته، و نحوهما.

و فيه إشكال (2) [1].

______________________________

(1) غرضه تصحيح الاعتماد على القرينة غير اللفظية كغلبة تقديم الإيجاب على القبول- أو لزومه- في الدلالة على تعيين المراد من ألفاظ العقود.

و محصّله: أنّ اعتبار صراحة الدلالة إنّما هو في تشخيص عنوان العقد كالبيع و تمييزه عمّا عداه من سائر العقود، لا في تمييز الإيجاب عن القبول في عقد قد تميّز عنوانه عن غيره من العقود. و المفروض في المقام تميّز العقد- و هو البيع- عن سائر العقود، فلا تعتبر الصراحة في الدلالة على الإيجاب، بل تكفي الدلالة عليه بالقرينة المقامية.

(2) أي: في عدم اعتبار الصراحة في لفظ الإيجاب- و تردّده بين الإيجاب و القبول، و تعيّن أحدهما بالقرينة- إشكال. وجه الإشكال: ظهور كلماتهم في عموم المنع لذلك، و عدم اختصاص اعتبار الصراحة بعنوان العقد، فالصراحة معتبرة في تميّز العقد عمّا عداه من العقود، و في تميّز إيجاب عقد معيّن عن قبوله أيضا، فتوجيه إنشاء الإيجاب بغير ما يكون صريحا فيه بقوله: «إلّا أن يدّعى أن ما ذكر سابقا .. إلخ» مشكل.

______________________________

[1] و قد ظهر مما قدّمناه سابقا عدم اعتبار الصراحة أصلا، لا في تمييز عنوان العقد عمّا عداه من العقود، و لا في تمييز الإيجاب عن القبول.

نعم إذا استند في اعتبار الصراحة إلى الإجماع فالمتيقن منه هو اعتبار الصّراحة في الدلالة على تعيين عقد خاص، لا في تمييز الإيجاب عن القبول. لكن في الإجماع ما لا يخفى.

ص: 399

[ب: ألفاظ القبول]

و أمّا القبول (1) فلا ينبغي [1] الإشكال في وقوعه بلفظ: قبلت و رضيت و اشتريت و شريت (2) و ابتعت و تملّكت و ملكت مخفّفا. و أمّا «بعت» فلم ينقل إلّا من الجامع، مع أنّ المحكيّ عن جماعة من أهل اللغة (3) اشتراكه بين البيع و الشراء.

______________________________

ب: ألفاظ القبول

(1) هذا المقام الثاني من مبحث ألفاظ الإيجاب و القبول، و محصّل هذا المبحث على ما أفاده المصنف قدّس سرّه هو: أنّه لا ينبغي الإشكال في وقوع القبول بلفظ «قبلت» إلى آخر ما في المتن. و اشتراك بعضها لفظيّا أو معنويا غير قادح بعد الاحتفاف بالقرينة المقالية أو الحالية على تعيين المعنى المقصود كما تقدم.

(2) الأوّل مأخوذ من «شريت» بمعنى «بعت» فيكون بمعنى «ابتعت»، و الثاني مقابل «بعت» لفرض كون «شريت» من الأضداد.

(3) قال في مجمع البحرين: «و البيع الإيجاب و القبول» «1» و مقصود المصنف قدّس سرّه أنه مع قول جماعة من اللغويين باشتراك لفظ «البيع» بين البيع و الشراء كيف لم يذكر لفظ «بعت» من ألفاظ القبول إلّا يحيى بن سعيد في جامعه، على ما حكاه السيد العاملي من قوله: «و القبول: قبلت أو شريت، أو بعت» «2».

لكن الموجود في النسخة المطبوعة من الجامع «ابتعت» بدل «بعت» فراجع «3».

______________________________

[1] نفي الإشكال مبنيّ على مذهبه قدّس سرّه من عدم اعتبار ألفاظ خاصة في إنشاء عقد البيع. و أمّا مع اعتبارها فلا يخلو نفي الإشكال عن الغموض كما لا يخفى.

و كيف كان فالبحث فيما أفاده من ألفاظ القبول يقع في ناحيتين:

إحداهما: في انحصار الألفاظ الدالة على القبول و عدمه.

______________________________

(1): مجمع البحرين، ج 4، ص 304

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 152

(3) الجامع للشرائع، ص 246

ص: 400

..........

______________________________

ثانيتهما: في أنّ الأصل في القبول هل يكون أحدها، و الآخر بدله، أم لا؟

أمّا الناحية الأولى فمحصّلها: أنّ مقتضى العبائر التي عرفتها في المتن و غيرها مما لم يذكر عدم الانحصار.

و أمّا الناحية الثانية فمحصّلها عدم ثبوت أصل و بدل في ألفاظ القبول، لأنّ كلّ لفظ لا يصلح للقبول، إلّا إذا دلّ على معنى لا يمكن إنشاؤه ابتداء، سواء أ كان بلفظ «قبلت» أم غيره. و لعلّ المراد بالأصل هو كون الدلالة على المعنى القبولي مطابقة منحصرا بلفظ «قبلت» فتأمّل.

و لا بأس بالنظر إلى بعض كلماتهم في ألفاظ القبول، ففي السرائر «1» ما ظاهره الاقتصار على صيغتي «اشتريت و قبلت» لعدم ذكر غيرهما.

قيل: و قد يدّعى انفهام انحصار ألفاظ القبول فيهما من عبارة الغنية.

و في جواهر القاضي عبد العزيز بن البراج رحمه اللّه: «مسألة: إذا قال المشتري للبائع بعني بكذا، و قال البائع: بعتك هل ينعقد البيع أم لا؟ الجواب: لا ينعقد البيع بذلك، و إنّما ينعقد بأن يقول المشتري بعد ذلك: قبلت أو اشتريت، لأنّ ما ذكرناه مجمع على ثبوت العقد و صحته به، و ليس كذلك ما خالفه. و من ادّعى ثبوته و صحّته بغير ما ذكرنا فعليه الدليل. و أيضا فالأصل عدم العقد، و على من يدّعي ثبوته الدليل» «2».

و في التذكرة: «و القبول من المشتري قبلت أو ابتعت أو اشتريت أو تملّكت» «3».

و في الدروس: «و القبول ابتعت و اشتريت و تملّكت و قبلت بصيغة الماضي» «4».

و في القواعد: «و القبول و هو: اشتريت أو تملّكت أو قبلت».

و في جامع المقاصد في شرح هذه العبارة: «كان الأولى أن يقول: كاشتريت، لأنّ

______________________________

(1): السرائر الحاوي، ج 2، ص 250

(2) جواهر الفقه (ضمن الجوامع الفقهية)، ص 421

(3) تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(4) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191

ص: 401

و لعلّ الإشكال فيه (1) كإشكال «شريت» [1]

______________________________

(1) أي: و لعلّ الإشكال في إنشاء القبول بصيغة «بعت» هو قلّة الاستعمال في الإيجاب ب «شريت».

______________________________

ابتعت و نحوه قبول قطعا» «1».

وجه الأولوية: أنّ ظاهر قول العلّامة: «و القبول هو اشتريت .. إلخ» هو الحصر، بخلاف التعبير بقوله: «كاشتريت» فإنّه كالصريح في التمثيل، لا الحصر.

و عن العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه: القطع بعدم الفرق بين الصيغ المؤدّية للمعنى لا عقلا و لا شرعا.

و في الجواهر: «و لو توقف النقل على خصوص اللّفظ المعيّن لزم الاقتصار على بعت و اشتريت و قبلت، و لم يجز غيره، لعدم ثبوته بعينه من نصّ و لا إجماع. و رضيت في القبول أظهر من ملكت و شريت، و أقرب إلى مفهوم قبلت، فكان أولى بالجواز منهما» «2».

و أنت بعد الإحاطة بما ذكرناه من العبائر و غيرها ممّا لم نذكرها تعرف اختلافهم في انحصار ألفاظ القبول في بعض ما ذكر و عدم انحصارها فيه، فلا إجماع على الانحصار، فلا بدّ حينئذ من المشي على طبق القواعد. و هي تقتضي جواز إنشاء قبول البيع بكلّ لفظ يكون ظاهرا في ذلك بحيث يعدّ مبرزا له عند أبناء المحاورة، و يصدق عليه قبول العقد عرفا، فإنّه مع صدق البيع العرفي عليه تشمله العمومات كقوله تعالى:

أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ.

[1] لا يخفى أنّه بعد البناء على كون الشراء من الأضداد- و بعد وجود القرينة الدالة على إرادة الإيجاب منه- لا ينبغي الإشكال في جواز إنشاء الإيجاب به.

و كذا الإشكال في إنشاء القبول بلفظ «بعت». و غلبة استعماله في إنشاء الإيجاب

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 57

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 247

ص: 402

في الإيجاب (1).

و اعلم أنّ المحكي عن نهاية الأحكام و المسالك «أنّ الأصل في القبول قبلت (2)، و غيره (3) بدل، لأنّ [1] القبول على الحقيقة ممّا لا يمكن به الابتداء، و الابتداء بنحو اشتريت و ابتعت ممكن» «1» و سيأتي توضيح ذلك في اشتراط تقديم الإيجاب.

______________________________

(1) المراد بالإشكال في «شريت» هو ما أفاده المصنف قدّس سرّه عند ذكر لفظ «شريت» بقوله: «و ربما يستشكل فيه بقلة استعماله عرفا في البيع، و كونه محتاجا إلى القرينة المعيّنة، و عدم نقل الإيجاب به في الأخبار و كلام القدماء».

فإشكال «بعت» في القبول- و هو قلّة استعماله فيه عرفا- نظير الإشكال المزبور في «شريت» الذي يستعمل في الإيجاب.

(2) قال في المسالك: «و في الحقيقة: هذه الألفاظ المتقدمة المعدّة قبولا قائمة مقامه، لا نفسه، و إنّما القبول على الحقيقة: قبلت، و هو ممّا لا يصحّ الابتداء به».

(3) يعني: و غير «قبلت» مثل «اشتريت، ابتعت» بدل عن «قبلت» و الدّليل على أصالة هذه و بدليّة ما سواها هو امتناع تقديم «قبلت» على الإيجاب، بخلاف «ابتعت و اشتريت» فإنّ الابتداء بهما ممكن، و لذا عدّوهما من صيغ إيجاب البيع أيضا، فلا تتمحضان في قبوله، إذ ليس القبول مجرّد الرضا بفعل الغير حتى يمكن سبقه عليه، بل هو مطاوعة فعل الغير و متابعته له، و من المعلوم امتناع تقدمه على الإيجاب.

______________________________

لا تمنع عن جواز إنشاء القبول به مع القرينة المعيّنة.

[1] هذا التعليل لا يثبت أصالة «قبلت» فقط، بل مقتضاه أصالة كلّ ما لا يمكن الابتداء به كلفظ «تملّكت، و رضيت» و نحوهما ممّا يتضمن القبول.

______________________________

(1): نهاية الأحكام، ج 2، ص 448، مسالك الأفهام، ج 3، ص 154

ص: 403

ثم إنّ في انعقاد القبول بلفظ الإمضاء و الإجازة و الإنفاذ و شبهها وجهين (1) [1].

______________________________

(1) لعلّ منشأ المنع عدم كونها صريحة، لعدم وضعها لعنوان القبول مثل لفظ «قبلت» و لا لعنوان طرف المعاملة ك «اشتريت» و قد اشترطوا الصّراحة في ألفاظ العقود، مع عدم تصريح منهم بوقوع القبول بها، فلا ينعقد بها.

و منشأ الانعقاد أنّ الظاهر اعتبار الصراحة في خصوص ألفاظ الإيجاب دون القبول، و لذا يكتفى فيه بلفظ «قبلت» من دون ذكر المفعول و هو البيع، للاستغناء عنه بالاقتران بلفظ الإيجاب «كبعت» فإنّ الاقتران المزبور قرينة مقاميّة على إرادة القبول من لفظ «رضيت و أنفذت» و نحوهما أيضا، لدلالة الاقتران على كون مضمونه تابعا للإنشاء الإيجابي.

______________________________

[1] قال السيد قدّس سرّه في حاشيته: «الظاهر أنّ وجه الإشكال استعمال هذه الألفاظ غالبا في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه و قبوله كما في إجازة الفضولي، و إجازة المرتهن بيع الراهن، و إمضاء الورثة تصرّف الميت في الزائد عن الثلث، و هكذا. و لكنّ الحق كفايتها في القبول بعد مساعدة معناها عليه، إذ لا فرق بينها و بين لفظ رضيت كما لا يخفى» «1».

أقول: فيه أوّلا: أنّ عطف «و إمضاء الورثة .. إلخ» على قوله: «في إجازة الفضولي ..

إلخ» غير سديد، لأنّ الوصية بالزائد عن الثلث ليست عنده قدّس سرّه من العقود حتى يكون إمضاء الورثة تنفيذا للعقد، حيث قال ما لفظه: «الوصية العهدية لا تحتاج إلى القبول، و كذا الوصية بالفكّ كالعتق. و أمّا التمليكية فالمشهور على أنّه يعتبر فيها القبول جزءا.

و عليه تكون من العقود. أو شرطا على وجه الكشف أو النقل، فيكون من الإيقاعات.

و يحتمل قويّا عدم اعتبار القبول فيها، بل يكون الرّد مانعا. و عليه تكون من الإيقاع

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 87

ص: 404

______________________________

الصريح .. إلخ» «1».

و مع عدم كون الوصية من العقود لا يصح جعلها من العقود التي يتعقّبها الإمضاء و الإنفاذ، لكونها حينئذ من الإيقاعات.

و ثانيا: أنّ جعل منشأ الإشكال غلبة استعمال هذه الألفاظ في مقام إمضاء العقد الواقع مع إيجابه غير وجيه، لعدم صلاحية مجرّد غلبة الاستعمال للمنع عن إنشاء القبول بتلك الألفاظ بعد مساعدة معانيها على صحة إنشائه بها.

و لعلّ غرضه قدّس سرّه من غلبة الاستعمال هو كون مورد أدلة الإمضاء المعاملات المتداولة بين العقلاء، فكلّ ما هو المتداول بينهم يكون مورد الأدلّة، هذا.

لكن يرد عليه: أنّ التداول لا يمنع عن شمول أدلة الإمضاء لغير الغالب بعد كونه عرفيّا أيضا و إن كان نادرا عندهم، فمجرّد الغلبة لا يوجب انصراف أدلة الإمضاء عن النادر.

فالأولى توجيه الاشكال بخفاء دلالتها على القبول، فتدبّر.

و قال المحقق الأصفهاني قدّس سرّه: «لا ريب في أنّ عنوان الإمضاء و الإجازة و الإنفاذ لا يتعلق إلّا بما له مضيّ و جواز و نفوذ. و ما يترقّب منه ذلك هو السبب التام و هو العقد، لتقوّم السبب المترقّب منه التأثير في الملكية بالإيجاب و القبول معا، فلا معنى للتسبّب بقوله: أمضيت و أجزت و أنفذت إلّا في مثل العقد الفضولي، لا بالإضافة إلى الإيجاب فقط إلّا بنحو الكناية، لأنّ النفوذ و الجواز و المضي لازم تحقق العقد بلحوق القبول للإيجاب، فيكون القبول المتمّم للسبب ملزوما للنفوذ و المضي و الجواز. فيظهر الرّضا بالإيجاب- و هو الملزوم- بإنشاء لازمه و هو النفوذ مثلا من حيث إنّه لازم تمامية السبب بالقبول، و إظهار الرّضا بالإيجاب، فيبتني وقوع تلك الألفاظ موقع القبول على جواز العقد بالكناية.

مضافا إلى ما سيأتي إن شاء اللّه تعالى في محلّه من أنّ النفوذ و المضي و شبههما

______________________________

(1): العروة الوثقى، ج 2، ص 877، كتاب الوصية: المسألة الأولى.

ص: 405

______________________________

معان منتزعة من تأثير السبب أثره، لا أنّها أمور إنشائية يتسبّب بوجوداتها الإنشائية الى وجوداتها الحقيقيّة. و تمام الكلام فيه في محله» «1».

و فيه: أنّ عنوان الإمضاء و الإجازة لا ينحصر تعلّقهما بما فيه مضيّ و نفوذ بنحو السببية التامة كالعقد المتقوم بالإيجاب و القبول كما هو صريح قوله قدّس سرّه: «و ما يترقّب منه ذلك هو السبب التام و هو العقد» لأنّ هذه الألفاظ تستعمل كثيرا مع عدم كون متعلّقها سببا تامّا للتأثير كإمضاء أحد الورثة العقد الخياري الذي أوقعه مورّثهم، فإنّ الخيار موروث لجميع الورثة، و إمضاء أحدهم لا يتعلق بسبب تام للتأثير، بل تمامية العقد في التأثير اللزومي منوطة بإمضاء سائر الورثة.

و كحدّ القذف الذي يرثه الوراث، فإن عفى بعضهم لم يسقط حقّ الآخرين.

و سائر الحقوق الموروثة مع تعدّد الوارث و إنفاذ البعض.

و بالجملة: فالإمضاء و نحوه لا ينحصر تعلّقه بالسبب التّام، بل لا معنى لتعلقه به مع فرض إناطة تأثيره بالإمضاء، لأنّه خلاف سببيّته التامة.

فالأولى أن يقال: إنّ الإمضاء يتعلّق بما فيه اقتضاء التأثير و إن تعلّق بالإيجاب، فإنّ إمضاءه من القابل عبارة عن إيجاد القبول الذي هو جزء السبب المؤثّر، فالإنفاذ في العقود و الإيقاعات نظير الإيجاب في الواجبات، فإنّ الموجب قد يسدّ جميع أبواب عدم واجب كالواجب التعييني، و قد يسدّ بعض أبواب عدم واجب كالواجب التخييري، فإنّ المشرّع يسدّ أبواب عدمه إلّا عدمه الناشئ عن وجود عدله، كسدّ أبواب عدم أحد الإبدال في الكفارة إلّا عدمه الناشئ عن وجود غيره من الأبدال.

ففي المقام يكون الإنفاذ كذلك، فإمضاء الإيجاب لازم وجود القبول، فدلالته على القبول تكون من باب الكناية، لدلالة «أمضيت» و نحوه على اللازم- أعني النفوذ- مطابقة، و على الملزوم و هو تحقق القبول بالالتزام، لدلالة اللازم على الملزوم، كدلالة كثرة الرّماد على الملزوم أعني الجود. فما أفاده المحقق المتقدم قدّس سرّه من كون دلالة هذه الألفاظ على القبول بالكناية في محله.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 68

ص: 406

فرع: لو أوقعا العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب و القبول (1)، ثم اختلفا في تعيين الموجب و القابل، إمّا (2) بناء على جواز تقديم القبول، و إمّا من جهة اختلافهما في المتقدم، فلا يبعد الحكم بالتحالف (3)، ثم عدم ترتب الآثار المختصة.

______________________________

(1) كلفظ «بعت» فإنّه بناء على ما عن ابن سعيد قدّس سرّه يجوز إنشاء قبول البيع به.

و يؤيّده- بل يدلّ عليه- ما تقدّم من كونه من الأضداد، فيستعمل لفظ «بعت» في كلّ من البيع و الشراء. و كلفظ «شريت» المستعمل في كليهما.

(2) غرضه بيان منشأ الاختلاف، و هو أحد أمرين:

الأوّل: عدم لزوم تقديم الإيجاب، فيختلف المتعاقدان، و يدّعي البادي بالإنشاء بقوله: «شريت» أنّه أراد القبول، لعدم لزوم تقديم الإيجاب عليه، و يدّعي غيره أنّك أردت الإيجاب، أو بالعكس.

الثاني: أنّه يجب تقديم الإيجاب على القبول، غاية الأمر أنّهما يتنازعان في المتقدم، و أن البادي بالإنشاء هل هو هذا أم ذاك؟

ثم إنّ هذا النزاع لا يختص بما إذا وقع العقد بالألفاظ المشتركة، بل يعمّ ما إذا وقع بالألفاظ المختصة، بأن يختلفا في أنّ المتلفّظ بصيغة الإيجاب هذا أو صاحبه؟ فلا يترتب هذا النزاع على إيقاع العقد بخصوص الألفاظ المشتركة بين الإيجاب و القبول.

(3) لأنّ كلّا منهما مدّع و منكر، حيث إنّه يدّعي كلّ منهما أنّه مشتري الحيوان، و ينكره الآخر.

و توضيح ما أفاده: أنّ الأثر يترتّب تارة على كلّ من الدعويين، كما إذا كان العوضان حيوانين كفرس و غنم، و ادّعى كلّ منهما أنّه مشتر ليثبت له خيار الحيوان بناء على اختصاصه بالمشتري، فيدّعي صاحب الفرس أنّه اشترى الغنم بالفرس، فهو مشتر، و الغنم مبيع، و يثبت له الخيار. و يدّعي صاحب الغنم أنّه اشترى الفرس بالغنم، فالمبيع هو الفرس، و يكون له خيار الحيوان.

و الحكم حينئذ التحالف، لأنّ كلّا منهما مدّع للشراء و منكر للبيع، فكلّ منهما مدّع و منكر، و في مثله يجري التحالف.

ص: 407

[المبحث الثالث: اعتبار العربية]

مسألة (1):

______________________________

و أخرى يترتب الأثر على إحدى الدعويين، كما إذا كان أحد العوضين حنطة و الآخر غنما، فيدّعي أحد المتبايعين أنّه اشترى الغنم بالحنطة، فهو المشتري، و الغنم مبيع. و يدّعي الآخر أنّ الغنم ثمن، و باع الحنطة به، فلا خيار لمن انتقل إليه الحيوان.

و بالجملة: فالتحالف المذكور في المتن متّجه في الصورة الأولى، دون الصورة الثانية التي هي من باب المدّعي و المنكر، فإطلاق التحالف ممنوع.

و عليه فالإشكال الوارد على المتن أمران، أحدهما: حكمه قدّس سرّه بإطلاق التحالف. ثانيهما: جعل هذا الفرع متفرّعا على إنشاء العقد بالألفاظ المشتركة، مع أنّك عرفت عدم اختصاص النزاع بالألفاظ المشتركة.

المبحث الثالث: اعتبار العربية

(1) هذا إشارة إلى المبحث الثالث من الجهة الأولى- الباحثة عن خصوصيات موادّ العقود- و هو مسألة اعتبار العربية فيها، و قد نقل المصنف قدّس سرّه عنهم أدلة ثلاثة على الاعتبار و ناقش فيها، ثم ذكر فروعا ثلاثة رتّبوها على شرطية العربية.

و محصّل ما أفاده في أصل الاشتراط هو: أنّ المنسوب إلى جماعة من الفقهاء اعتبار العربية في العقد، لوجوه:

أحدها: التأسّي بالنبي و الأئمة عليهم الصلاة و السلام، حيث كان دأبهم على إنشاء العقود و الإيقاعات بالألفاظ العربية كما لا يخفى على المتتبع. هذا بحسب الصغرى.

و أمّا من حيث الكبرى فلا ريب في حجية فعلهم كحجية قولهم و تقريرهم عليهم الصلاة و السلام.

و على هذا فالتأسّي بهم عليهم الصلاة و السلام يقضي بإنشاء المعاملات بالعربيّة دون اللغات الأخرى الّتي لم تؤثر من الشارع الأقدس.

ثانيها: ما عن تعليق الإرشاد من: أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي- كقوله: أبيعك أو: أنا بائع- يستلزم عدم صحة العقد بغير العربي بالأولوية، لكونه

ص: 408

المحكيّ عن جماعة منهم السيد عميد الدين و الفاضل المقداد و المحقق و الشهيد الثانيان (1): اعتبار العربية في العقد (2)، للتأسّي كما في جامع المقاصد (3)، و لأن (4) عدم صحته بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته بغير العربي بطريق أولى.

و في الوجهين ما لا يخفى (5).

______________________________

فاقدا لكلّ من العربية و الماضوية، فعدم صحة فاقد إحداهما يستلزم عدم صحة فاقد كلتيهما بالأولوية كما لا يخفى.

(1) الحاكي لكلمات هذه العدّة- عدا الفاضل المقداد، إذ لم ينسب إليه اعتبار العربية- هو السيد الفقيه العاملي «1»، فراجع.

(2) المراد بالعقد هو البيع و نحوه، و أمّا النكاح فقد ادّعى شيخ الطائفة و العلّامة قدّس سرّهما اشتراطه بالعربية.

(3) قال المحقق الثاني قدّس سرّه: «لأنّ الناقل هو الألفاظ المخصوصة، و غيرها لم يدلّ عليها دليل، و معلوم أنّ العقود الواقعة في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام إنّما كانت بالعربية».

و قال الفاضل الأصفهاني: «لأنّ العقود متلقّاة من الشارع مع الأصل» «2».

(4) هذا إشارة إلى الوجه الثاني المذكور بقولنا عن تعليق الإرشاد: «ثانيهما عدم صحة العقد .. إلخ».

(5) إذ في أوّلهما: أنّ مجرّد عدم تلفّظهم عليهم السّلام- في مقام إنشاء العقود و الإيقاعات- إلّا باللغة العربية لا يدلّ على عدم جواز إنشائها باللّغات الأخر، لقوّة

______________________________

(1): لاحظ كلام السيد عميد الدين و المحقق الثاني في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 162، و النسبة إلى المحقق و الشهيد الثانيين في ص 164. و لاحظ كلام الفاضل المقداد في التنقيح، ج 2، ص 184 و ج 3، ص 7. و كلام المحقق الثاني في جامع المقاصد ج 4، ص 60، و ج 12 ص 74، و كلام الشهيد الثاني في بيع الروضة البهية، ج 3، ص 225، و في نكاح المسالك، ج 7، ص 95.

(2) كشف اللثام، ج 1، كتاب النكاح، ص 7

ص: 409

و أضعف (1) منهما منع صدق العقد على غير العربي مع التمكّن من العربي، فالأقوى (2) صحّته بغير العربي.

______________________________

احتمال أن يكون اقتصارهم على اللّغة العربية لأجل عدم الابتلاء باللّغات الأخر، لا لأجل التشريع الموجب للاقتصار على العربي، حتى يكون من قبيل مناسك الحج الصادرة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الثابت كونها في مقام التشريع بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خذوا عنّى مناسككم».

و عليه فلا يصلح التأسّي المزبور لتقييد إطلاقات الصحة و النفوذ الشاملة لغير العربي.

و في ثانيهما: منع الاستلزام المزبور، لأنّ غير الماضي بعيد عن معنى الإنشاء، بخلاف غير العربي المستعمل في مقام إنشاء العقد على طبق قواعد تلك اللغة.

(1) هذا إشارة إلى ثالث الوجوه التي استدلّ بها على اعتبار العربية في العقد، و حاصله: منع صدق العقد على ما ينشأ بغير العربي مع التمكّن من العربي، فالصدق منوط بالعربية، هذا.

و ضعفه في غاية الوضوح، لمخالفته للوجدان، بداهة صدق العقد العرفي على كل ما يصح عرفا إنشاؤه به، و عدم تقوّم مفهوم العقد بإنشائه بالعربية، و عدم اعتبار العربية في إنشائه عقلا أو شرعا، فعمومات أدلّة الإمضاء تشمل المنشأ بغير العربي، كشمولها للمنشإ بالعربي.

و بعبارة أخرى: العقد هو الالتزامان المرتبطان بلا فرق بين كون المتعاقدين عربيين أو عجميّين أو مختلفين، و من المعلوم أنّ الالتزام أمر نفساني لا ربط له باللسان حتى يختص بأهل لغة دون أخرى.

(2) هذا متفرّع على بطلان الوجوه الثلاثة المستدلّ بها على اعتبار العربية، و حاصله: صحة العقد بغير العربية، لأنّها مقتضى إطلاقات الصحة. و نسب ذلك إلى المشهور، لعدم تعرض الأكثر لهذا الشرط، و إنّما تعرّض له جماعة، و هم بين مثبت له و ناف.

ص: 410

و هل يعتبر عدم اللحن (1) من حيث المادّة (2) و الهيئة (3) بناء على اشتراط العربي؟ الأقوى ذلك (4) بناء على أنّ دليل اعتبار العربية هو لزوم الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل.

و كذا (5) اللّحن في الإعراب. و حكي (6) عن فخر الدين «الفرق بين ما لو قال: بعتك بفتح الباء، و بين ما لو قال: جوّزتك بدل زوّجتك، فصحّح الأوّل دون الثاني، إلّا مع العجز عن التعلم و التوكيل».

______________________________

(1) هذا الفرع الأوّل من فروع اعتبار العربية، و حاصله: أنّه بناء على اعتبار العربية هل تعتبر مطلقا- أي من حيث المادة و الهيئة و الإعراب- أم لا، أم يفصّل بين ألفاظ الإيجاب و القبول بالاعتبار فيها، و بين غيرها كالمتعلّقات بعدم الاعتبار فيها؟ فيه وجوه بل أقوال.

(2) كإنشاء النكاح بقوله: «جوّزت» بدل «زوّجت» لاختلاف مادتي الجواز و الزواج.

(3) كالإنشاء بلفظ «أبيع و بائع» لتعدد الهيئة مع وحدة المادة.

(4) أي: الاعتبار، بناء على كون الدليل في اشتراط العربية هو الاقتصار على المتيقّن من أسباب النقل، فيجري فيما عداه أصالة عدم ترتب الأثر.

(5) هذا الفرع من فروع اعتبار العربيّة، يعني: و كذا يعتبر عدم اللّحن في الإعراب بناء على استناد اعتبار العربية إلى المتيقن من أسباب النقل، فإذا قال: بعت- بفتح التاء ليكون للخطاب- لم ينعقد به البيع، و كذا إذا قال المشتري: «اشتريت أو قبلت» بفتح التاء أو كسرها.

(6) الحاكي هو السيد العاملي قدّس سرّه «1»، و غرضه حكاية التفصيل في الصحة و عدمها بين اللحن المادّي و الصّوري، فقيل بالصحة في الثاني دون الأوّل، إلّا مع العجز عن التعلّم و التوكيل، فقوله: «بعتك» صحيح، دون «جوّزتك» بدل «زوّجتك».

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 163 و 164

ص: 411

و لعلّه (1) لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع، بخلاف التجويز، فإنّ له معنى آخر، فاستعماله في التزويج غير جائز.

و منه (2) يظهر أنّ اللغات المحرّفة (3) لا بأس بها إذا لم يتغيّر بها المعنى (4).

ثم (5) هل المعتبر عربيّة جميع أجزاء الإيجاب و القبول كالثمن و المثمن، أم يكفي عربيّة الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب و القبول؟ حتى لو قال: «بعتك إين كتاب را به ده درهم» كفى.

______________________________

(1) أي: و لعلّ الفرق بين اللحن المادي و الصوري. لمّا كان يتوجه على فخر المحققين قدّس سرّه سؤال الفرق فيما حكي عنه بين «بعتك» و بين ما لو قال: «جوّزتك» بدل «زوّجتك» حيث حكم بصحة العقد بالأوّل دون الثاني مع اشتراكهما في اللحن، غاية الأمر أنّه في الأوّل صوري و في الثاني مادّي، تعرّض المصنف قدّس سرّه لإبداء الفرق بينهما بما حاصله: أنّه ليس للأوّل معنى صحيح إلّا البيع، فهو مراد من أنشأ البيع به، بخلاف الثاني، فإنّ له معنى آخر صحيحا مغايرا للنكاح، فلا يجوز استعماله في التزويج، إذ ليس مبرزا حينئذ للاعتبار النفساني من التزويج، بعد فرض المغايرة بينهما.

(2) أي: و من عدم قدح اللحن الصّوري في صحة الإنشاء يظهر أنّه لا بأس بالإنشاء باللّغات المحرّفة، ما لم تغيّر المعنى، حيث إنّها مع هذا التحريف لا تخرج عن كونها موجده أو مبرزة للاعتبارات النفسانية. و كذا الحال في الوصل بالسكون و الوقف بالحركة و نحوهما ممّا لا يوجب تغييرا في المعنى المقصود.

(3) المراد باللغة المحرّفة هي الكلمة التي تتغيّر فيها هيئتها بتضعيف حرف مخفّف أو بالعكس، أو ضمّ الحرف المفتوح و نحوهما.

(4) بخلاف ما إذا تغيّر المعنى، «كقبّلت» فإنّ معناه غير معنى: «قبلت» بالتخفيف.

(5) هذا الفرع الثالث من فروع اعتبار العربية، و محصّله: أنّه هل تعتبر العربيّة

ص: 412

و الأقوى هو الأوّل (1)، لأنّ (2) غير العربي كالمعدوم، فكأنّه لم يذكر في الكلام (3).

نعم (4) لو لم يعتبر ذكر متعلّقات الإيجاب- كما لا يجب في القبول (5)- و اكتفى بانفهامها و لو من غير اللفظ صحّ الوجه الثاني (6).

______________________________

في كل جزء من أجزاء الإيجاب و القبول؟ فلا بد أن يقول البائع: «بعتك هذا الكتاب بدينار» مثلا، و يقول المشتري «قبلت بيع الكتاب بدينار» أم لا يعتبر ذلك، و إنّما المعتبر عربيّة نفس صيغتي الإيجاب و القبول، و إن كان غيرهما فارسيّا أو غيره من اللغات، فلو قال: «بعتك إين كتاب را به ده درهم» و قال المشتري: «قبلت بيع إين كتاب را به ده درهم» كفى.

(1) و هو اعتبار العربية في جميع أجزاء الإيجاب و القبول.

(2) تعليل لقوله: «و الأقوى هو الأوّل» و حاصله: أنّ الثمن و المثمن من أجزاء العقد و من مقوّماته، و الإنشاء لا يحصل إلّا بالمجموع، بحيث لا يصدق على الخالي عنهما اسم العقد حتى تشمله العمومات و الإطلاقات، و لا أقلّ من الشك.

(3) و لعلّ وجهه كما في بعض الكلمات هو أنّه لا يلزم منه الفصل بين الإيجاب و القبول بالأجنبي، لأن تلك المتعلقات مرتبطة معنى بالصيغة التي أنشئ بها العقد و إن لم يكن الكلام جاريا على قانون الاستعمال.

(4) استدراك على قوله: «الأقوى هو الأوّل» و غرضه إقامة الدليل على قوله:

«أم يكفي عربية الصيغة» و حاصله: أنّ في مسألة اشتراط صحة العقد بذكر متعلقاته وجهين، فبناء على الاشتراط لا بدّ من ذكر المتعلّقات بالعربيّة كنفس الصيغة. و بناء على عدم الاشتراط يجوز ذكرها بالفارسية، فالمسألة مبنائيّة.

(5) لظهوره في كونه قبولا لما أنشأه الموجب، فلا موجب لإعادتها في القبول لأنّ المتعلقات من أجزاء الصيغة.

(6) و هو كفاية عربيّة نفس الصيغة الدالّة على إنشاء الإيجاب و القبول، و من

ص: 413

لكنّ (1) الشهيد رحمه اللّه في غاية المراد «1» في مسألة تقديم القبول نصّ على وجوب ذكر العوضين في الإيجاب [1].

______________________________

المعلوم أنّه بناء على عدم اعتبار ذكر متعلّقات الإيجاب- كعدم اعتباره في القبول- لا ينبغي الإشكال في كفاية العربية في الإيجاب و القبول، و عدم الحاجة إلى ذكر المتعلقات بالعربية.

(1) فعلى هذا يجب ذكر العوضين في الإيجاب باللغة العربية. و لعلّ وجهه ما عرفت آنفا عند شرح قوله: «لأن غير العربي كالمعدوم» فيجب ذكر العوضين، لأنّهما ركنان في المعاوضات، كركنيّة الزوجين في النكاح. و مقتضى الاقتصار على المتيقن هو ذكرهما بالعربية.

______________________________

[1] ينبغي تفصيل البحث في اعتبار العربية في صيغ العقود في مقامين:

الأوّل: فيما عدا النكاح من العقود اللازمة، سواء أ كانت بيعا أم غيره.

و الثاني: في عقد النكاح.

أمّا المقام الأوّل فمحصّله: أن المنسوب إلى المشهور عدم اعتبار العربية في صيغ العقود اللازمة، خلافا لجماعة، حيث إنّهم ذهبوا إلى اعتبار العربية فيها، لوجوه:

الأوّل: الأصل.

الثاني: التأسّي.

الثالث: أنّ عدم صحة العقد بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحّته بغير العربي بالأولويّة، لكون غير العربي فاقدا لقيدي العربية و الماضوية معا.

الرابع: أنّ غير العربي غير صريح، فهو من قبيل الكنايات التي وقع المنع عن استعمالها في العقود في كلمات الفقهاء. و هذا الوجه يظهر من كلام العلّامة في التذكرة لأنّه بعد الحكم فيها بعدم الانعقاد بغير العربية عند علمائنا قال: «و هو قولا الشافعي و أحمد، لأنّه عدل عن النكاح و التزويج مع القدرة، فصار كما لو عدل إلى البيع و التمليك

______________________________

(1): غاية المراد، ص 81

ص: 414

______________________________

و قال أبو حنيفة و أصحابه و الشافعي أيضا: إنّه ينعقد اعتبارا بالمعنى» «1».

الخامس: أنّ العقد بغير العربيّة لا يصدق عليه أنّه عقد.

و زاد بعضهم أنّ غير العربية من اللغات ليست لغة، لأنّ غير العرب أعجم، و الأعجم هو من لا لسان له، هذا.

و أنت خبير بما في الكل.

إذ في الأوّل- و هو الأصل- أنّه لا أصل له مع الدليل، و هو عموم ما دلّ على نفوذ العقود و البيع و التجارة، فإنّ صدق هذه العناوين عرفا على ما ينشأ بغير الألفاظ العربية ممّا لا يمكن إنكاره، و مع هذا الصدق كيف يصح التمسك بأصالة الفساد؟

و في الثاني: أنّ التأسّي إنّما يصح في الأفعال الواردة في مقام التشريع كأفعال الصلاة و الحج، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» و «خذوا عنّي مناسككم».

و أمّا إذا ورد فعل بعد ورود دليل عام على صحة شي ء، ثم صدر عمل يكون مصداقا لموضوع ذلك الدليل، فلا وجه للزوم التأسّي حينئذ حتّى يقال بانحصار المصداق فيما صدر عن التشريع كما في المقام، فإنّ عموم قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و نحوه يشمل العقد المنشإ بالعربي و الفارسي، فصدور العقود العربيّة منهم عليهم السّلام لا يدلّ على انحصار العقود النافذة بما أنشئ باللفظ العربي حتى يجب التأسّي.

و في الثالث: أنّ الماضي لا يختص باللغة العربية حتى يكون غير العربي فاقدا لقيدين، فلا أولوية في البين، بل هما سيّان، لكون كل واحد منهما فاقدا لقيد و واجدا له.

و في الرابع: أن كون غير العربي من الكنايات ممنوع أشدّ المنع، بداهة أنّ ترجمة لفظ «بعت» مثلا و هي بالفارسية «فروختم» كنفس «بعت» تدلّ بالوضع على معنى البيع في الزمان.

و لعل المستدل زعم أنّ الماضي مختص باللغة العربية، و هو معلوم الفساد، هذا.

و في الخامس: أنّ تقوّم العقد بالعربية مما يعلم بالضرورة خلافه، لصدق العقد العرفي على ما ينشأ بغير العربية من اللغات، فإنّ التشكيك في صدقه عليه خلاف

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 582

ص: 415

______________________________

الضرورة و ما عليه العقلاء.

بل دعوى انصراف العقود إلى المعهودة توجب القطع بعدم اعتبار العربية فيها، لكون العقود المتعارفة عند كلّ ملّة منشأة بلغاتهم المختلفة.

و يظهر مما تقدّم ضعف احتمال عدم كون غير العربية لغة.

فتلخص مما ذكرناه: عدم دليل على اعتبار العربية فيما عدا النكاح من العقود اللازمة حتى تخصّص به عمومات أدلة النفوذ، فلو شكّ في اعتباره فمقتضى العمومات عدمه، فيصحّ إنشاء العقود اللازمة غير النكاح بكلّ لغة، لصدق العقد عرفا عليها، و عدم اعتبار العربية فيها شرعا كما لا يخفى.

و أمّا المقام الثاني: و هو عقد النكاح ففي اعتبار العربية فيه خلاف. قال في المبسوط: «فإن عقدا بالفارسية، فإن كان مع القدرة على العربية فلا ينعقد بلا خلاف، و إن كان مع العجز فعلى وجهين: أحدهما، يصحّ، و هو الأقوى، و الثاني: لا يصح. فمن قال: لا يصحّ قال: يوكّل من يقبلها عنه، أو يتعلّمها. و من قال: يصحّ، لم يلزمه التعلم. و إذا أجيز بالفارسية احتاج إلى لفظ يفيد مفاد العربية على وجه لا يخلّ بشي ء منه فيقول الولي: اين زن را به تو دادم به زني، و معناه هذه المرأة زوّجتكها، و يقول الزوج: پذيرفتم به زني، يعني: قبلت هذا النكاح» «1».

و قال العلّامة قدّس سرّه في نكاح التذكرة: «لا ينعقد إلّا بلفظ العربية مع القدرة، فلو تلفّظ بأحد اللفظين- يعني: أنكحت و زوّجت- بالفارسية أو غيرها من اللغات غير العربية مع تمكّنه و معرفته بالعربية لم ينعقد عند علمائنا .. إلى أن قال: و أمّا إذا لم يحسن العربية، فإن أمكنه التعلم وجب، و إلّا عقد بغير العربي للضرورة» «2».

و قال المحقّق قدّس سرّه: «و لا يجوز العدول عن هذين اللفظين إلى ترجمتهما بغير

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 194

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 582

ص: 416

______________________________

العربية إلّا مع العجز عن العربية» «1».

و عن حاشية المحقق الثاني عليها: «لا ريب في وقوع عقد النكاح بالعربية، فيبطل لو وقع بغيرها. و المراد بالعربي ما يكون لفظه باعتبار مادّته و صورته. و لو غيّر بنية الكلمة أو لحن في إعرابها لم ينعقد مع القدرة على العربي، كما لو أتى بالترجمة مع العلم بلسان العرب. أمّا لو لم يكن عالما بذلك و لم يمكنه التعلم أو أمكنه بمشقّة العادة فإنّه يكفيه الإيقاع بمقدوره و إن تمكّن من التوكيل. و كذا كلّ موضع يعتبر فيه اللفظ العربي».

و في القواعد: «و لا يصحّ بغير العربية مع القدرة، و يجوز مع العجز» «2».

و قال المحقق الثاني في شرحه: «فلا ينعقد النكاح و غيره من العقود اللازمة بغيره من اللغات كالفارسية، مع معرفة العاقد، و تمكّنه من النطق، ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب. و قال ابن حمزة: إن قدر المتعاقدان على القبول و الإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. و الأصحّ الأوّل، لما قلناه» «3».

أقول: الذي يتحصل من الكلمات: أن في المسألة صورا:

الأولى: التمكن فعلا من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية.

الثانية: العجز عن ذلك فعلا مع التمكن من التعلم أو التوكيل.

الثالثة: العجز منهما معا.

أمّا هذه الصورة الأخيرة فقد ذكروا فيها عدم الخلاف و الإشكال في صحة العقد فيها بغير العربية، و قالوا: إن مثلها ما لو عجز عن التعلّم وحده مع التمكّن من التوكيل، لأصالة عدم وجوب التوكيل. و إليه يشير إطلاق كلام العلامة: «و أمّا إذا لم يحسن العربية فإن أمكنه التعلم وجب و إلّا عقد بغير العربي للضرورة» و أمّا الصورة الثانية فمقتضى الكلام المتقدم عن الشيخ في المبسوط: أنّ فيها قولين:

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 273

(2) قواعد الأحكام، ص 147 (الطبعة الحجرية).

(3) جامع المقاصد، ج 12، ص 74

ص: 417

______________________________

أحدهما: أنه يصح بغير العربي، و لا يجب التعلم و لا التوكيل.

و الآخر: أنّه لا يصح بغير العربي، فيجب التعلم أو التوكيل.

و يستدلّ للأوّل- بعد البناء على اعتبار العربية في العقد- بأصالة البراءة عن وجوب التعلم و التوكيل، فيأتي بمقدوره الذي يصدق عليه العقد قطعا، فيجب الوفاء به، لقوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. و برفع الحرج كما في كشف اللثام «1». و بفحوى الاجتزاء بإشارة الأخرس كما في كشف اللثام أيضا، حيث إنّ اللفظ غير العربي أولى من الإشارة.

و لعدم نصّ يدلّ على الأمر بالعربية، كما فيه أيضا.

و الظاهر أنّ مراده قدّس سرّه وجود أمارة على عدم اعتبار العربية، لأنّ عموم الابتلاء به يقتضي بيان المعصومين عليهم السّلام له، فعدم بيانهم عليهم السّلام- مع شدة الحاجة إليه- دليل على عدم اعتبار العربية كما هو الشأن في كلّ ما يعمّ به البلوى، هذا.

و أيّده الجواهر «بعدم عثوره على الخلاف في جواز العقد بغير العربي للعاجز عنه و لو مع التمكن من التوكيل. فما عن بعضهم من الإكتفاء بذلك مع العجز عن التوكيل لا يخلو من نظر» «2». انتهى ملخّصا.

و في الكلّ ما لا يخفى.

إذ في الأوّل: أنّه بناء على اعتبار العربية فإن كان له إطلاق بحيث يكون ظاهرا في الشرطية المطلقة فيجب التعلم، و لا مجال للبراءة. و إن لم يكن له إطلاق فيتشبّث في ذلك بإطلاق أدلة نفوذ العقود الذي هو دليل اجتهادي. و معه لا تصل النوبة إلى أصل البراءة كما لا يخفى.

و في الثاني- بعد فرض جريانه في الأحكام الوضعية كما هو الأصحّ- أنّه أخص من المدّعى.

و في الثالث: أنّه لا مجال للأولوية في الأحكام التعبديّة، لعدم خروجها عن

______________________________

(1): كشف اللثام، ج 1، كتاب النكاح، ص 7

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 250 و 251

ص: 418

______________________________

القياس الممنوع إعماله في الأحكام الشرعية.

و في الرابع: أنّه و إن كان متينا في نفسه، لكنه ينافي ما بنى عليه من اعتبار العربية في العقد.

و أمّا الصورة الأولى- و هي التمكن الفعلي من إنشاء النكاح بالعربي كالعالم باللغة العربية- فقيل: إنّه لا ريب في مصير الأكثر و المعظم إلى اعتبار العربية فيها، بل لم يحصل لنا دراية و لا رواية عثور على مخالف في المسألة عدا أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة، فإنه قال في كتاب النكاح من الوسيلة: «و إن قدر المتعاقدان على القبول و الإيجاب بالعربية عقدا بها استحبابا. و إن عجزا جاز بما يفيدها من اللغات» «1» و مراده بالاستحباب إمّا الاحتياط الاستحبابي و إن كان خلاف الظاهر، و إمّا استحباب التبرّك بألفاظ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ استدلّوا على اعتبار العربية مع التمكن فعلا منها بوجوه خمسة تقدمت في المقام الأوّل.

و زادوا عليها وجها سادسا، و هو: أنّ الاحتياط في الفروج يقتضي اعتبار العربية، ذكره في كشف اللثام «2».

و جوابه: أنّ الاحتياط أصل عملي، و إطلاق الأدلة النافي لاعتبار العربية دليل اجتهادي، و معه لا تصل النوبة إلى الأصل العملي.

التحقيق أن يقال: إنّ النكاح من الأمور العقلائية المتداولة بين الناس، كما يرشد إليه قولهم عليهم السّلام: «لكل قوم نكاح» و عدم كونه من الماهيات المخترعة، فكل ما يصدق عليه عنوان النكاح يندرج في إطلاق أدلة نفوذ النكاح، و تقييده بالعربية منوط بدليل مفقود. و لو سلّم فإنّما هو بالنسبة إلى القادر فعلا على العربية، و إن كان ذلك مخدوشا أيضا، لأنّه ليس إلّا الإجماع المدّعى، مع مخالفة ابن حمزة في الوسيلة. و مع احتمال

______________________________

(1): الوسيلة ضمن الجوامع الفقهية، ص 752

(2) كشف اللثام، ج 1، كتاب النكاح، ص 7

ص: 419

______________________________

استنادهم إلى الوجوه المذكورة التي قد عرفت حالها.

و مخالفة كلام المحقق الثاني، حيث قال: «ذهب إلى ذلك أكثر الأصحاب» لقول العلّامة: «لم ينعقد عند علمائنا» فإن الظاهر من الأوّل عدم الاتفاق، و ظاهر الثاني الاتّفاق، لظهور «عند علمائنا» في الإجماع كما قرر في محلّه.

و مع الغض عن ذلك فالمتيقن منه هو صورة القدرة فعلا على الإنشاء العربي، فيقيّد الإطلاق بهذه الصورة فقط.

و بالجملة: فكل لفظ يكون مبرزا للاعتبار النفساني- المعبّر عنه بالزواج و النكاح و نظائرهما- يشمله إطلاق أدلة صحة النكاح، لكونه عقدا عرفيا. فالقول بعدم اعتبار العربية مطلقا حتى بالنسبة إلى القادر عليها فعلا- لعدم دليل معتدّ به على تخصيص عموم أدلة وجوب الوفاء بالعقود- هو الأقوى، و إن كان الأحوط شديدا مراعاتها للقادر عليها، و اللّه العالم.

ثم إنّه على تقدير اعتبار العربية هل يعتبر فيها عدم اللّحن مطلقا، أي مادّة و هيئة و إعرابا أم لا؟ الحق هو الأوّل بناء على كون الدليل الاقتصار على المتيقن.

و أمّا بناء على كونه غيره فالمتجه هو العربية المتداولة بين الناس بحيث تكون عندهم مبرزة للاعتبار النفساني، و إن كانت مخالفة للقواعد العربية و غلطا بالنظر إليها، فالعربيّة الدارجة ممّا يصح الإنشاء بها كما لا يخفى.

فعلى هذا لا فرق في اللّحن بين أن يكون في المادّة ك «جوّزت» بدل «زوّجت» و بين أن يكون في الصورة ك «أبيع و بائع» مثلا بدل «بعت» و بين أن يكون في الإعراب ك «بعت» بعد فرض كون الكل مفهما للمعنى المقصود في اللغة العربية الدارجة.

و أمّا اللغات المحرفة فإن كانت مفهمة للمعنى المقصود عند العرف الحاضر فلا بأس بها، و إلّا فلا، إذ لا بدّ من الإنشاء بما يكون مبرزا عند العرف. فالضابط في صحة الإنشاء بالألفاظ العربية- بناء على اعتبار العربية- هو أن تكون مبرزة عرفا للمعنى المقصود، من غير فرق بين أنحاء اللّحن و اللّغات المحرّفة.

ص: 420

ثم إنّه (1) هل يعتبر [1] كون المتكلم عالما تفصيلا بمعنى اللّفظ بأن يكون فارقا بين معنى «بعت و أبيع و أنا بائع» أو يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللّفظ يستعمل في لغة العرب لإنشاء البيع؟ الظاهر هو الأوّل (2)، لأنّ عربيّة الكلام

______________________________

(1) هذا الفرع الثالث من فروع اعتبار العربية، و محصّله: أنّه هل يعتبر أن يكون المتكلم بالألفاظ العربية عالما بمعانيها تفصيلا، بأن يميّز بين معنى «بعت» و «أبيع» مثلا، أم يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللفظ يستعمل في لغة العرب لإنشاء البيع؟

وجهان، رجّح المصنف قدّس سرّه الأوّل، و سيأتي.

(2) و هو اعتبار العلم تفصيلا بمعاني الألفاظ العربية، لما أفاده المصنف قدّس سرّه بقوله: «لأنّ عربية الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام .. إلخ».

و حاصله: أنّ الإنشاء و الإخبار لمّا كانا من وجوه الاستعمال الذي هو متقوّم بلحاظ اللفظ و المعنى، و إيجاد المعنى باللفظ بالإرادة، فلا محيص عن تصوّر المعنى بالمقدار الذي يريد إيجاده باللّفظ حتّى يعقل توجه القصد إليه، فإنشاء ما لا معرفة له به تفصيلا غير معقول. فهذا الوجه يقتضي معرفة معنى الكلام تفصيلا حتى يقصده المتكلّم، و يستعمل الكلام فيه، فبدون المعرفة التفصيلية بالمعنى لا يصح استعمال اللفظ فيه [2].

______________________________

[1] لا يخفى أنّ هذا الكلام لا يترتب على اعتبار العربية.

[2] إلّا أن يقال: إنّ المقصود ليس وجود المعنى بالذات باللفظ، لاستحالة وجوده كذلك حتى يحتاج إلى لحاظه تفصيلا، بل الغرض وجود المعنى بالعرض، فيكفي في وجوده بالعرض قصد المعنى بالعرض، بأن يقصد العنوان المنطبق عليه قهرا، فيستعمل اللّفظ في معنون هذا العنوان المقصود، و ليس استعماله إلّا أن يكون وجود اللفظ بالذات وجودا بالعرض لذلك المعنى المقصود بالعرض. و عليه فيقصد العنوان المقصود كالبيع، و يستعمل اللفظ في معنون هذا العنوان المقصود، فيكون المعنون

ص: 421

ليست باقتضاء نفس الكلام، بل بقصد المتكلم منه المعنى الذي وضع له عند العرب، فلا يقال: إنّه تكلّم و أدّى المطلب على طبق لسان العرب إلّا إذا ميّز (1) بين معنى بعت و أبيع و أوجدت البيع و غيرها.

بل على هذا (2) لا يكفي معرفة أنّ «بعت» مرادف لقوله: «فروختم» حتى يعرف أنّ الميم في الفارسي عوض تاء المتكلم، فيميّز بين «بعتك و بعت» بالضمّ و «بعت» بفتح التاء، فلا ينبغي ترك الاحتياط، و إن كان في تعيّنه (3) نظر، و لذا نصّ بعض على عدمه.

______________________________

(1) ليقصد من كل جزء من أجزاء الكلام- مادّة و هيئة- معناه الموضوع له في لغة العرب، و يستعمله فيه، هذا.

لكن توقف صدق العربية على التمييز بهذا النحو مشكل جدّا، لإناطته بكمال معرفة و خبرة، مع اختلاف بين أهل العربية في بعض الخصوصيات.

(2) أي: على هذا الوجه المقتضي لمعرفة المعنى تفصيلا- حتّى يصحّ استعمال اللفظ فيه- لا يكفي معرفة أنّ «بعت» مرادف .. إلى آخر ما أفاده المصنف قدّس سرّه.

(3) أي: في تعيّن الاحتياط و معرفته بهذا الوجه. وجه النظر عدم الدليل على الاعتبار، بعد كون المجموع في نظر العرف مبرزا للاعتبار النفساني.

______________________________

مقصودا بالعرض، و هو كاف في الاستعمال.

نعم لو كان جاهلا بمضمون الصيغة رأسا فلا يصح الإنشاء بها قطعا، لأنّه حينئذ بمنزلة استعمال كلمة «ضربت و أكلت و شربت» مثلا مكان «بعت».

فالمتحصل: أنه لا دليل على اعتبار معرفة خصوصيات معاني الصيغ، و كون كل خصوصية مدلولا عليها بكلمة خاصة، بل معرفته إجمالا بأنّ مجموع الكلام يدلّ على المعنى المقصود كافية.

ص: 422

[الجهة الثانية: اعتبار الماضويّة]

مسألة (1): المشهور (2) [1] كما عن غير واحد: اشتراط الماضويّة، بل في التذكرة (3):

______________________________

الجهة الثانية: اعتبار الماضويّة

(1) هذه المسألة متكفلة لشرط الهيئة الإفرادية للصيغة، و هي اعتبار الماضوية، و عدمه.

(2) كما في كلام المحقق الأردبيلي قدّس سرّه حيث قال: «لا دليل عليه- أي على عدم انعقاد البيع بغير الماضي- واضحا، إلّا أنّه مشهور» «1». و نحوه المحكي عن مفاتيح الشرائع «2».

(3) لمّا كانت الشهرة تؤذن بوجود المخالف في المسألة تصدّى المصنف قدّس سرّه لنقل

______________________________

[1] الظاهر من الكلمات أنّ في اعتبار الماضويّة قولين:

أحدهما: و هو المنسوب إلى المشهور اعتبارها، استنادا الى وجوه ثلاثة:

أحدها: الإجماع.

ثانيها: صراحة الماضي في الإنشاء، دون غيره من الأمر و المستقبل، لكون الثاني، أشبه بالوعد، و الأوّل استدعاء لا إيجابا. قال المحقق قدّس سرّه: «لأن ذلك أشبه بالاستدعاء و الاستعلام».

ثالثها: أنّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف.

و لكن الكلّ كما ترى، لعدم إحراز كون الإجماع تعبّديّا، مع احتمال استناد المجمعين إلى الوجوه الاعتبارية.

و عدم صراحة الماضي في الإنشاء إن أريد بها الوضع له، بداهة عدم الوضع له، إن لم نقل بوضعه للإخبار. و إن أريد بها الصراحة من ناحية القرينة، فالصراحة حينئذ ثابتة لغير الماضي أيضا.

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 145

(2) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 162

ص: 423

الإجماع على عدم وقوعه بلفظ أبيعك أو اشتر منّي.

______________________________

الإجماع على اعتبار الماضوية حتى لا يتوهم مخالفة أحد فيه. قال العلّامة في عداد شرائط الصيغة- ما لفظه: «الثاني: الإتيان بهما بلفظ الماضي، فلو قال: أبيعك، أو قال:

أشتري، لم يقع إجماعا، لانصرافه الى الوعد» «1».

و في القواعد: «و لا بدّ من صيغة الماضي» «2» و قريب منه عبارة التحرير «3».

و في الدروس: «فلا يقع بالأمر و المستقبل» «4» و ربما يستفاد منه كونه من المسلّمات.

و لكن الأولى الإكتفاء بالشهرة الفتوائية بعد وجود المخالف، و هو القاضي ابن البرّاج كما سيأتي في المتن.

و كيف كان فالمستفاد من المتن وجوه ثلاثة على اعتبار الماضوية في صيغ العقود.

الأوّل: الإجماع المنقول.

الثاني: صراحة الماضي في الإنشاء.

الثالث: انصراف إطلاق أدلة الإمضاء إلى العقود المتعارفة خارجا.

______________________________

و عدم كون التعارف مقيّدا للإطلاقات.

و ثانيهما: عدم اعتبار الماضوية، و جواز الإنشاء بالمضارع و الأمر، لصدق العقد على المنشأ بهما، فتشمله العمومات. و هذا القول منسوب إلى القاضي قدّس سرّه استنادا إلى ما ذكره المصنف قدّس سرّه في المتن.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) قواعد الأحكام، ص 47

(3) تحرير الأحكام، ج 1، ص 164

(4) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191

ص: 424

و لعلّه (1) لصراحته (2) في الإنشاء، إذ المستقبل أشبه (3) بالوعد، و الأمر استدعاء (4) لا إيجاب. مع (5) أنّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف المتعارف.

______________________________

(1) أي: و لعلّ اشتراط الماضوية لأجل صراحة الماضي في الإنشاء، كما ورد في كلام جمع منهم المحقق و الشهيد الثانيان، و أوضحه في المسالك بقوله: «إنّما اعتبر في العقد لفظ الماضي، لأنّ الغرض منه الإنشاء، و هو صريح فيه، لاحتمال الوعد بالمستقبل، و عدم اقتضاء الأمر إنشاء البيع من جانب الآمر، و إنّما أنشأ طلبه. و أمّا الماضي فإنّه و إن احتمل الإخبار، إلّا أنّه أقرب إلى الإنشاء، حيث دلّ على وقوع مدلوله في الماضي، فإذا لم يكن ذلك هو المقصود كان وقوعه الآن حاصلا في ضمن ذلك الخبر. و الغرض من العقود ليس هو الإخبار. و إنّما هذه الصيغة منقولة شرعا من الإخبار إلى الإنشاء، و الماضي ألصق بمعناه» «1».

(2) ليس المراد بالصراحة الوضع اللغوي، ضرورة عدم وضع صيغة الماضي لذلك، بل المراد بها الصراحة في الإنشاء، و منشؤها النقل الشرعي من الحكاية إلى الإيجاد، كما تقدم في عبارة المسالك.

و قال الشهيد قدّس سرّه: «و المأخذ في صراحة هذه- أي صيغ العقود و الإيقاعات- مجيئها في خطاب الشارع لذلك، و شيوعها بين حملة الفقه» «2».

(3) فلا يكون ظاهرا في الإنشاء حتّى يقع به.

(4) يعني: أنّ الأمر استدعاء و طلب لإيجاب البيع، لا إيجاب له.

(5) هذا هو الدليل الثالث على اعتبار الماضوية، و هو مؤلف من مقدمتين:

الأولى: أنّ المتعارف من العقود- بحسب الوجود الخارجي- هو ما ينشأ بلفظ الماضي، لا المضارع و لا الأمر، و لا الجملة الاسمية.

الثانية: أنّ دليل الإمضاء- كوجوب الوفاء بالعقود- منزّل على العقود

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 153

(2) القواعد و الفوائد، ج 1، ص 153، رقم القاعدة: 40، و لاحظ أيضا ص 253

ص: 425

و عن (1) القاضي في الكامل و المهذّب عدم اعتبارها. و لعلّه (2) لإطلاق البيع و التجارة، و عموم العقود (3)،

______________________________

المتعارفة في عصر التشريع، و لا يشمل إنشاءها بغير المتعارف.

و نتيجة المقدمتين: عدم ترتب الأثر على العقود المنشئة بما عدا الماضي.

(1) هذا إشارة إلى القول الآخر في المسألة، و هو عدم إناطة الصحة بالإنشاء بالماضي، فيجوز بالمضارع، كما ذهب إليه القاضي ابن البرّاج، على ما حكي عنه.

قال العلّامة في المختلف: «و قال ابن البرّاج في الكامل: لو قال المشتري: بعني هذا، فقال البائع: بعتك، انعقد» «1» و نحوه كلامه في المهذّب «2».

و استدلّ له المصنف قدّس سرّه بأدلة ثلاثة:

الأول: إطلاق الآيات المباركة.

الثاني: خصوص النصوص الواردة في البيع، المتضمّنة للإنشاء بالمضارع، فإنّها صريحة في المدّعى.

الثالث: فحوى النصوص المجوّزة لإنشاء عقد النكاح بالمضارع، و سيأتي بيانها.

(2) أي: و لعلّ عدم اعتبار الماضوية.

(3) هذا إشارة إلى الدليل الأوّل على صحة الإنشاء بالمضارع، و حاصله: أنّ مقتضى إطلاق آيتي حلّ البيع و التجارة عن تراض، و عموم وجوب الوفاء بالعقود- الشاملين للعقود المنشئة بغير لفظ الماضي- هو نفي اعتبار الماضوية. و التعارف بحسب غلبة أفراد الإنشاء بالماضي غير صالح لتقييد شمول الآيات المباركة.

و دعوى الصراحة في الماضي مجازفة بعد كون إرادة الإنشاء منه خلاف وضعه اللغوي. و إرادة الإنشاء من المضارع على طبق وضعه، لاشتراكه بين الحال و الاستقبال.

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 53

(2) المهذّب، ج 1، ص 350

ص: 426

و ما دلّ (1) في بيع الآبق و اللبن

______________________________

(1) معطوف على «إطلاق البيع» و هذا إشارة إلى الدليل الثاني، و هو الأخبار المتضمّنة لإنشاء البيع بالمستقبل مع تقديم القبول على الإيجاب في بعضها.

فمنها: ما ورد في بيع العبد الآبق مع الضميمة، كصحيحة رفاعة النخّاس، قال:

«سألت أبا الحسن موسى عليه السّلام قلت له: أ يصلح لي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة و أعطيهم الثمن و أطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شراؤها إلّا أن تشتري منهم معها ثوبا أو متاعا، فتقول لهم: أشتري منكم جاريتكم فلانة و هذا المتاع بكذا و كذا درهما، فإنّ ذلك جائز» «1».

و تقريب الدلالة: أنه عليه السّلام علّم رفاعة إنشاء شراء الجارية الآبقة مع ضميمتها، بأن يقول للقوم: «اشتري منكم ..» و ظهور الصحيحة في انعقاد المعاملة بصيغة المضارع ممّا لا ينكر.

و قريب منها معتبرة سماعة «2» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في شراء العبد الآبق.

إلّا أن يخدش في دلالتهما على المدّعى بأنّهما في مقام بيان تجويز بيع الآبق مع الضميمة، لا في مقام بيان ما يتحقق به البيع و الشراء، فتأمّل.

و منها: ما ورد في بيع اللبن في الضّرع من صحّته بصيغة الأمر، كما في موثقة سماعة، قال: «سألته عن اللبن يشترى و هو في الضّرع؟ فقال: لا، إلّا أن يحلب لك منه أسكرّجة، فيقول: اشتر منّي هذا اللبن الذي في الأسكرجة و ما في ضروعها بثمن مسمّى، فان لم يكن في الضّرع شي ء كان ما في الاسكرجة» «3».

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 12، ص 262، الباب 11 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 1

(2) المصدر، ص 263، الحديث: 2

(3) وسائل الشيعة، ج 12، ص 259، الباب 8 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث: 2 و الأسكرّجة «بضمّ السّين و الكاف و الرّاء و التشديد: إناء صغير يؤكل فيه الشي ء القليل من الأدم. و هي فارسية .. و قيل: و الصواب فتح الراء، لأنّه فارسي معرّب» راجع المجمع البحرين، ج 2، ص 310.

ص: 427

في الضّرع (1) من الإيجاب بلفظ المضارع. و فحوى ما دلّ عليه في النكاح (2).

______________________________

و لا يقدح إضمارها، للتصريح بأنّ المسؤول هو الإمام أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام، كما في الفقيه بنقل الوسائل. مضافا إلى عدم قدح الإضمار من مثل زرارة و سماعة كما قرّر في محلّه.

و لا يخفى أنه قد تقدم في (ص 341- 343) نقل جملة من الأخبار التي ورد فيها الإنشاء بصيغة المستقبل إمّا من البائع أو المشتري، فراجع.

(1) قد عرفت أنّ رواية بيع اللبن متضمنة لإيجاب البيع بصيغة الأمر، لا المضارع. و لعلّ المراد عدم خصوصية في صيغة الماضي، سواء أ كانت بلفظ المضارع أم الأمر، و الأمر سهل.

(2) هذا إشارة إلى الدليل الثالث على عدم توقف صحة عقد البيع على الإنشاء بصيغة الماضي، و هو الاستدلال بأولوية جواز إنشاء البيع بالمضارع من جواز إنشاء النكاح به، و قد دلّت أخبار عديدة على صحة انعقاد الزواج المنقطع بالمضارع مع ابتداء الزوج به، كرواية أبان بن تغلب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوّجك متعة على كتاب اللّه و سنّة نبيّه لا وارثة و لا موروثة، كذا و كذا يوما- و إن شئت كذا و كذا سنة- بكذا و كذا درهما، و تسمّي من الأجر [من الأجل] ما تراضيتما عليه قليلا كان أو كثيرا، فإذا قالت: نعم، فقد رضيت، و هي امرأتك و أنت أولى الناس بها» «1».

و لا ريب في ظهور تعليمه عليه السّلام لصيغة النكاح المنقطع في انعقاده بلفظ المضارع.

و قريب منه روايات أخرى من نفس الباب، فراجع.

و تقريب الفحوى: أنّ الشارع الأقدس قد اهتمّ بالنكاح و أمر بالاحتياط فيه.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 14، ص 466، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث: 1

ص: 428

و لا يخلو هذا من قوة [1]

______________________________

فإذا جوّز إنشاءه بصيغة المضارع لزم تجويزه في البيع بطريق أولى، لأن أمر الأعراض أشدّ من الأموال.

______________________________

[1] بل ينبغي الجزم بصحّته بعد وضوح عدم توقف إنشاء مفاهيم العقود و الإيقاعات عرفا على اللفظ، فعموم أدلة العقود يشمل ما ينشأ منها بغير اللفظ مثل ما ينشأ منها باللفظ. و تخصيصه باللفظ- فضلا عن الماضوية- منوط بالدليل، و هو مفقود. و مع الشك فيه يرجع إلى أصالة العموم، إذ هو المرجع في المخصص المجمل المردّد بين الأقل و الأكثر، فإنّه بعد فرض تخصيص عموم وجوب الوفاء بالعقود باللفظ- و أنّ وجوب الوفاء مختص باللفظ- إذا شكّ في اعتبار هيئة خاصة كالماضوية في اللفظ يتمسك في نفي اعتبارها بعموم دليل وجوب الوفاء.

إلّا أن يستشكل في ذلك بعدم صدق مفهوم العقد على ما ينشأ بغير الماضي.

لكنه مندفع بما مرّ من وضوح صدقه عليه، هذا.

فقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ قول القاضي بعدم اعتبار الماضوية هو الأقوى، للعمومات، و معها لا حاجة إلى النصوص المشار إليها، لإمكان المناقشة في بعضها سندا و دلالة، و في الآخر دلالة، لاحتمال ورودها في المقاولة، لا إنشاء المبايعة، أو اختصاصها بموردها كبيع الآبق و اللبن في الضرع، و عدم التعدّي إلى غيره، فيكون الدليل أخص من المدّعى.

نعم روايات النكاح ظاهرة في كون الإنشاء بالمستقبل، إلّا أن الفحوى ممنوعة، لأنّ عظم المفسدة في السّفاح يقتضي التوسعة و التسهيل في النكاح حفظا للأنساب، و صونا لهم عن الوقوع في المفاسد. بخلاف الأموال، فإنّ من الممكن اعتبار بعض الأمور في إنشاء تبديلها.

فالأولى الاستدلال على عدم اشتراط الماضوية في ألفاظ الإيجاب و القبول بالعمومات.

ص: 429

لو فرض (1) صراحة المضارع في الإنشاء على وجه لا يحتاج إلى قرينة المقام، فتأمّل (2).

______________________________

(1) اختار المصنف قول القاضي في جواز الإنشاء بالمضارع، لكن لا مطلقا بل قيّده بما إذا كانت دلالة المستقبل على الإنشاء بنفسه، لا بمعونة قرينة مقامية، و هي كون المتكلم في مقام إيقاع المعاملة، فلو كانت دلالته على الإنشاء بمعونة قرينة مقامية لم يصح، و لا بدّ من الاقتصار على الفعل الماضي.

و الوجه في هذا التقييد هو ما أفاده- في المبحث الأول مما يتعلق بمادة الصيغة- في توجيه كلمات القوم من: أنّ الصيغة إن دلّت بحسب الوضع أو بمعونة قرينة لفظية منضمّة إليها جاز الإنشاء بها. و إن دلت بقرينة مقامية مقارنة لها أو بقرينة لفظية سابقه على الإنشاء بالصيغة غير الصريحة لم يصح.

فعلى هذا لا بد من تقييد جواز الإنشاء بالمضارع بما إذا كانت الدلالة مستندة الى الوضع و لو بضميمة قرينة لفظية، كقرينية التأبيد و عدم البيع و الهبة و الإرث على إرادة الوقف من صيغة «حرّمت».

(2) إشارة إلى: أنّ الصراحة الناشئة عن الوضع- بحيث لا تحتاج إلى قرينة لفظية أو مقامية- مفقودة في الماضي أيضا، ضرورة أنّ فعل الماضي وضع للإخبار لا الإنشاء، فهو صريح في الإخبار، و لا يكون ظاهرا في الإنشاء إلّا بالقرينة. فدعوى:

صراحة الماضي في الإنشاء بدون قرينة المقام في غاية الوهن و السقوط.

هذا بناء على وضع الماضي للإخبار كما هو المشهور عند النحاة. و أمّا بناء على كون الإخبارية و الإنشائية من شؤون الاستعمال- من دون دخلهما في نفس المعنى الموضوع له- فلا وجه أيضا لدعوى الصراحة في الإنشاء أصلا، فلا بدّ من الالتزام بدلالة الماضي مع القرينة على الإنشاء. و حينئذ يكون الأمر و المضارع مع القرينة المقامية دالّين على الإنشاء أيضا.

ص: 430

[الجهة الثالثة شرائط الهيئة التركيبية]
[المبحث الأوّل: تقديم الإيجاب على القبول]

مسألة (1): الأشهر كما قيل (2) لزوم تقديم الإيجاب على القبول،

______________________________

شرائط الهيئة التركيبية المبحث الأوّل: تقديم الإيجاب على القبول.

(1) الكلام من هذه المسألة إلى آخر المقدمة- التي عقدها لألفاظ صيغة البيع- ناظر إلى ما يعتبر في الهيئة التركيبية، و هي الجهة الثالثة من جهات البحث عن شؤون الصيغة، و قد أشرنا في (ص 330) إلى أنّ مباحث هذه الجهة خمسة، أوّلها: اعتبار تقديم الإيجاب على القبول و عدمه.

و لا يخفى أنّ في المسألة أقوالا نشير إليها، و سيأتي تفصيلها في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

الأوّل: اشتراط تقديم الإيجاب على القبول مطلقا، و هو الأشهر.

الثاني: عدم اعتباره كذلك.

الثالث: التفصيل بين النكاح و غيره، بجواز تقديم القبول في النكاح، و اشتراط تقدم الإيجاب في سائر العقود.

الرابع: التفصيل بين كون القبول بصيغة الأمر، فيجوز التقديم سواء في البيع و النكاح و غيرهما، و بين غير صيغة الأمر فلا يجوز التقديم.

الخامس: مختار المصنف قدّس سرّه و هو التفصيل في ألفاظ القبول، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

(2) القائل هو العلّامة في المختلف، قال: «مسألة: و في اشتراط تقديم الإيجاب على القبول قولان، أشهرهما ذلك. اختاره الشيخ في المبسوط» «1».

و نسبه فخر المحققين إلى الشيخ أيضا في محكي شرح الإرشاد. لكن تأمّل السيد الفقيه العاملي في النسبة، و قال: «و الموجود فيه- أي في المبسوط- و إن تقدّم القبول فقال: بعنيه بألف، فقال: بعتك صحّ. و الأقوى عندي أنه لا يصحّ حتى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت. انتهى يعني كلام المبسوط. و لو لم يسمّه قبولا متقدما

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 52

ص: 431

و به (1) صرّح في الخلاف و الوسيلة و السرائر و التذكرة، كما عن الإيضاح و جامع المقاصد (2).

و لعلّه (3) الأصل (4) بعد حمل آية وجوب الوفاء على العقود المتعارفة كإطلاق البيع و التجارة في الكتاب و السّنّة.

و زاد بعضهم (5): أنّ القبول فرع الإيجاب، فلا يتقدّم عليه، و أنّه

______________________________

لأمكن أن نقول: إنّ حكمه بعدم الصحة لمكان الاستيجاب و الاستدعاء كما تقدم، لأنّ محلّ النزاع ما إذا قال المشتري: اشتريت أو نحوه، فيقول البائع: بعت. لكن التسمية المذكورة و تفرقته في المقام بين البيع و النكاح جوّزتا للمصنف- يعني العلّامة- نسبة ذلك إليه» «1».

(1) أي: و بالاشتراط صرّح الشيخ و غيره بناء على ما نسبه إليهم فخر المحققين، حيث قال في الإيضاح: «ذهب الشيخ في المبسوط و ابن حمزة و ابن إدريس إلى الاشتراط» «2».

(2) قال فيه: «و الأصحّ الاشتراط» «3». و لا يخفى أن ظاهر العطف كون المحقق الثاني ناسبا إلى الشيخ و ابني حمزة و إدريس تصريحهم بالاشتراط. و ليس الأمر كذلك، بل الناسب للتصريح هو الفخر فقط.

(3) أي: و لعلّ الاشتراط، و هذا أحد الوجوه التي استدلّ بها على ما يظهر من المتن، و محصّله: جريان الاستصحاب بالتقريب الآتي.

(4) هذا أوّل وجوه هذا القول، و هو استصحاب عدم ترتب الأثر، بعد حمل العقود في الآية على العقود المتعارفة، و تسليم خروج العقد- المقدّم قبوله على إيجابه- عن العقود المتعارفة، و إلّا فلا وجه للتشبّث بالأصل مع الدليل الاجتهادي.

(5) هذا ثاني الوجوه المستدلّ بها على اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول،

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 164

(2) إيضاح الفوائد، ج 1، ص 412 لاحظ: الخلاف ج 3، ص 239 المسألة: 56. الوسيلة لابن حمزة، ص 740 (ضمن الجوامع الفقهية)، السرائر الحاوي، ج 2، ص 243 تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(3) جامع المقاصد، ج 4، ص 60

ص: 432

تابع له، فلا يصح تقدّمه عليه.

و حكى في غاية المراد عن الخلاف (1) الإجماع عليه (2).

و ليس في الخلاف (3) في هذه المسألة إلّا (4) «أنّ البيع مع تقديم الإيجاب

______________________________

و حاصله: تفرّع القبول على الإيجاب و تبعيّته له، و قد نقل المحقق الأردبيلي قدّس سرّه هذا الاستدلال عنهم بقوله: «و أن القبول فرع الإيجاب، فلا معنى لتقديمه» «1».

و الموجود في جامع المقاصد: «فإنّ القبول مبني على الإيجاب، لأنّه رضا به» «2».

(1) قال في الخلاف: «إذا قال بعنيه بألف، فقال: بعتك، لم يصح البيع حتى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت. و قال الشافعي: يصح و إن لم يقل ذلك .. إلى أن قال: دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به، و ما ادّعوه لا دلالة على صحته، و الأصل عدم العقد. و من ادّعى ثبوته فعليه الدلالة» «3».

(2) هذا ثالث الوجوه المحتج بها على القول باشتراط تقدم الإيجاب على القبول، ففي غاية المراد: «و استدل عليه في الخلاف بالإجماع و عدم الدليل على خلافه» «4».

(3) قال في مفتاح الكرامة: «و قد نسب في غاية المراد و المسالك إلى الخلاف دعوى الإجماع. و هو وهم قطعا، لأنّي تتبعت كتاب البيع فيه مسألة مسألة، و غيره حتى النكاح فلم أجده ادّعى ذلك، و إنّما عبارته في المقام توهم ذلك للمستعجل، و هي قوله: دليلنا: انّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به، و ما ادّعوه لا دلالة على صحته، إلّا أن يريد أنّه استدلّ بأنّه مجمع عليه» «5».

(4) هذه العبارة إلى قوله: «فيؤخذ» في محل رفع على أنها اسم «ليس»،

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 145

(2) جامع المقاصد، ج 4، ص 60

(3) الخلاف ج 3، ص 40

(4) غاية المراد، ص 80

(5) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 164

ص: 433

متفق عليه (1)، فيؤخذ به» فراجع.

خلافا (2) للشيخ في المبسوط

______________________________

و هي مضمون كلام شيخ الطائفة في الخلاف. و غرض المصنف الاعتراض على الشهيد قدّس سرّه- في نسبة الإجماع إلى الشيخ بما عرفته من كلام مفتاح الكرامة، لأنّ قيام الإجماع على ثبوت العقد مع تقدم الإيجاب لا يقتضي ثبوت الإجماع على فساد العقد بتأخره عن القبول، لإمكان صحته مع التأخر أيضا و إن لم يكن إجماعيا.

(1) هذا توجيه لدعوى الإجماع، و حاصله: أنّ المراد بالإجماع هنا هو كون العقد المقدّم إيجابه على قبوله متيقّن الصحة، فيؤخذ به و يترك غيره، لعدم الدليل على صحته.

و عبارة غاية المراد المتقدمة آنفا قابلة لهذا التوجيه. لكن عبارة المسالك و هي قوله: «و ذهب جماعة من الأصحاب إلى اعتبار تقديمه بل ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع» «1» لا تقبله، لظهورها في الإجماع المصطلح كما لا يخفى.

لكن الإنصاف أن استظهار الشهيدين قدّس سرّهما من عبارة الشيخ لا يخلو من قوة، لأنّ معقد الإجماع ليس مجرد صحة العقد بتقديم إيجابه على قبوله، بل معقده اشتراط التقديم، لقوله: «دليلنا أن ما اعتبرناه مجمع» و من المعلوم أنّ ما اعتبره شيخ الطائفة هو تقديم الإيجاب على القبول، لا مجرّد صحة العقد بتقديمه حتى يبقى مجال احتمال صحته إذا تقدّم القبول على الإيجاب.

(2) إشارة إلى القول الثاني، و هو عدم اعتبار تقدم الإيجاب على القبول، الّذي اختاره شيخ الطائفة قدّس سرّه في نكاح المبسوط، لالتزامه فيه بصحّة النكاح و البيع عند تقدم القبول.

و لكنّه قدّس سرّه في بيع المبسوط خالف هذه الفتوى، و فصّل بين البيع و النكاح، فاعتبر تقدّم الإيجاب على القبول في خصوص عقد البيع، دون النكاح. فيكون مختاره

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 3، ص 153

ص: 434

في باب النكاح (1) و إن وافق الخلاف في البيع (2)، إلّا أنّه عدل (3) عنه في باب النكاح، بل ظاهر كلامه (4) عدم الخلاف في صحته بين الإمامية، حيث إنّه- بعد ما ذكر أن تقديم القبول بلفظ الأمر في النكاح، بأن يقول الرجل: «زوّجني فلانة» جائز بلا خلاف- قال: «أمّا البيع فإنّه إذا قال: بعنيها، فقال: بعتكها صحّ عندنا و عند قوم من المخالفين. و قال قوم منهم: لا يصح حتى يسبق الإيجاب» «1».

و كيف كان (5) فنسبة القول الأوّل (6) إلى المبسوط مستندة إلى كلامه في باب البيع (7).

______________________________

في عقد البيع موافقا لما اختاره في الخلاف، و سيأتي من المصنف قدّس سرّه نقل كلامه في بيع المبسوط و نكاحه، فانتظر.

(1) فإنّه في باب النكاح قال بعدم اشتراط تقدم الإيجاب على القبول، سواء في عقد النكاح و البيع، خلافا لما فصّله بينهما في بيع المبسوط.

(2) يعني: أنّ رأي شيخ الطائفة في بيع المبسوط موافق لرأيه في الخلاف، في اعتبار تقديم إيجاب البيع على قبوله.

(3) يعني: أنّ شيخ الطائفة قدّس سرّه عدل في نكاح المبسوط عن تفصيله الذي اختاره في بيع المبسوط، و التّعبير بالعدول لأجل تقدّم تحرير البيع على النكاح بحسب ترتيب أبواب الفقه، و إلّا فلا ضرورة إلى تأليف أحدهما قبل الآخر.

(4) يعني: ظاهر كلامه في نكاح المبسوط عدم الخلاف في صحة البيع مع تقدم القبول على الإيجاب، لقوله: «صحّ عندنا» و ظهور هذا اللفظ في الإجماع ممّا لا ينكر.

(5) يعني: سواء تمّ ظهور كلمة «عندنا» في الإجماع على جواز تقديم القبول على الإيجاب، أم لم يتم، فنسبة .. إلخ.

(6) و هو اشتراط عقد البيع بتقديم الإيجاب على القبول.

(7) يعني: في بيع المبسوط، الموافق لكلامه المتقدّم عن الخلاف.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 194

ص: 435

و أمّا في باب النكاح (1) فكلامه صريح في جواز التقديم كالمحقق رحمه اللّه في الشرائع (2) و العلّامة في التحرير «1»، و الشهيدين (3) في بعض كتبهما، و جماعة (4) ممن تأخّر عنهما، للعمومات (5) السليمة عمّا يصلح لتخصيصها.

و فحوى (6) جوازه في النكاح الثابت بالأخبار، مثل خبر أبان بن تغلب الوارد في كيفية الصيغة، المشتمل على صحة تقديم القبول بقوله للمرأة: «أتزوّجك متعة

______________________________

(1) من المبسوط، و قد تقدم كلامه في المتن. و عليه فمراد المصنف من باب البيع و النكاح هو كتاب البيع و النكاح من المبسوط، لا عقد البيع و النكاح.

(2) حيث قال في كتاب البيع: «و هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردّد، و الأشبه عدم الاشتراط» «2». نعم منع المحقق من انعقاد البيع بالاستدعاء، فراجع.

(3) قال الشهيد قدّس سرّه: «و لا ترتيب بين الإيجاب و القبول على الأقرب، وفاقا للقاضي» «3». و قريب منه كلامه في اللمعة.

و قال الشهيد الثاني بعد ذكر أدلة القولين: «و الأقوى الأوّل» «4» أي: عدم الاشتراط.

و لكنه لم يرجّح في شرح اللمعة أحد القولين، فراجع.

(4) كالمحقق الأردبيلي و الفاضل السبزواري قدّس سرّهما «5».

(5) هذا إشارة إلى وجه القول الثاني و هو عدم الاشتراط، و المذكور في المتن وجهان، أوّلهما العمومات السليمة عن المخصص، فإنّها قاضية بعدم اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول، و رافعة للشك في الاعتبار المزبور.

(6) هذا ثاني وجهي القول بعدم اشتراط تقدّم الإيجاب على القبول مطلقا، و حاصله: أنّ بعض الروايات- كخبري أبان بن تغلب و سهل الساعدي الدالّين على

______________________________

(1): تحرير الاحكام، ج 1، ص 164

(2) شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

(3) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191، الرّوضة البهية، ج 3، ص 225

(4) مسالك الافهام، ج 3، ص 154

(5) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 144. كفاية الأحكام، ص 89

ص: 436

على كتاب اللّه و سنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أن قال: فإذا قالت: نعم، فهي امرأتك (1)، و أنت أولى الناس بها» «1».

و رواية سهل الساعدي المشهورة في كتب الفريقين- كما قيل (2) المشتملة

______________________________

جواز تقديم القبول في صيغة النكاح على الإيجاب- يدلّ بالفحوى على جواز ذلك في غير النكاح كالبيع، لأنّ أمر النكاح أشدّ و أهمّ من غيره، فإذا كان تقديم القبول فيه جائزا ففي غيره كالبيع الذي هو دون النكاح في الأهمية يكون التقديم جائزا بالأولوية.

(1) لا يخفى أنّ قوله عليه الصلاة و السلام: «فهي امرأتك ..» قرينة على كون «أتزوّجك» في مقام إنشاء القبول، لا المقاولة، فيكون دليلا على جواز إنشاء القبول بالمضارع، و على جواز تقديم القبول- بلفظ المضارع- على الإيجاب.

(2) القائل هو الشهيد الثاني في مسألة جواز إنشاء النكاح بلفظ الأمر، حيث قال: «كما ورد في خبر سهل الساعدي المشهور بين العامة و الخاصة، و رواه كلّ منهما في الصحيح» «2». و لا يخفى أن المروي مسندا بطرقنا خال عن هبة المرأة نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم تزويجها من رجل آخر، ففي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «جاءت امرأة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: زوّجني، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لهذه؟ فقام رجل، فقال: أنا يا رسول اللّه زوّجنيها، فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شي ء، فقال: لا. قال: فأعادت، فأعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكلام، فلم يقم أحد غير الرّجل، ثم أعادت فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المرة الثالثة: أ تحسن من القرآن شيئا؟ قال: نعم، فقال: قد زوّجتكها على ما تحسن من القرآن، فعلّمها إيّاه» «3».

و دلالتها على إنشاء صيغة النكاح الدائم- الّذي تقدّم القبول فيه على الإيجاب- قويّة جدّا.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 14، ص 466، الباب 18 من أبواب المتعة، الحديث: 1

(2) مسالك الافهام، ج 7، ص 89

(3) الكافي، الفروع، ج 5، ص 380، باب نوادر في المهر، الحديث: 5. رواه عنه الشيخ في التهذيب، ج 7، ص 354، الحديث: 1444

ص: 437

على تقديم القبول من الزوج بلفظ «زوّجنيها» (1).

و التحقيق (2): أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ «قبلت و رضيت» و إمّا أن يكون بطريق الأمر و الاستيجاب نحو: «بعني» فيقول المخاطب «بعتك» و إمّا أن يكون بلفظ: «اشتريت و ملكت- مخفّفا- و ابتعت».

______________________________

(1) و هو بلفظ الأمر، و لذا يستدل برواية سهل على أمرين.

أحدهما: صحة إنشاء النكاح بالأمر.

ثانيهما: عدم اشتراطه بتقدم الإيجاب على القبول.

(2) بعد أن نقل المصنف قدّس سرّه قولين في المسألة شرع في بيان مختاره، في مقامين:

________________________________________

أحدهما: في حكم تقدم القبول على الإيجاب في خصوص عقد البيع.

و ثانيهما: في حكمه في سائر العقود، و سيأتي المقام الثاني بقوله: «ثم إنّ ما ذكرنا جار في كلّ قبول يؤدّى بإنشاء مستقل».

فالكلام فعلا في المقام الأوّل، و قد فصّل بين ألفاظ القبول، و قسّمها إلى ثلاثة أقسام، و هي: أنّ إنشاء القبول يكون تارة بلفظ «قبلت، رضيت، أمضيت، أنفذت» و نحوها ممّا له ظهور في إنشاء تمليك الثمن مع سبق الإيجاب، بحيث لا ظهور له في ذلك بدون سبقه، نظير تحريك الرأس في مقام الجواب عن السؤال.

و يكون أخرى بما هو ظاهر في الاستدعاء كلفظ الأمر، مثل قول المشتري:

«بعني الكتاب الفلاني بألف» فيقول البائع: «بعته إيّاك بكذا».

و يكون ثالثة بلفظ «ملكت أو اشتريت أو ابتعت» و نحوها من الألفاظ الظاهرة في إنشاء التملك و التمليك. فهذه أقسام ثلاثة.

و أمّا حكمها فهو عدم جواز تقديم القبول في القسمين الأوّلين، و جوازه في القسم الثالث.

و سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 438

فإن كان بلفظ «قبلت» فالظاهر (1) عدم جواز تقديمه، وفاقا لما عرفت (2) في صدر المسألة. بل (3) المحكيّ عن الميسيّة و المسالك و مجمع الفائدة: «أنّه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ: قبلت» «1» و هو (4) المحكي عن نهاية الأحكام

______________________________

(1) هذا شروع في بيان حكم القسم الأوّل من ألفاظ القبول، و قد استدلّ له المصنف قدّس سرّه بوجوه ثلاثة.

أوّلها: الإجماع المتضافر نقله.

ثانيها: انصراف أدلة الإمضاء إلى العقود المتعارفة، و هي التي يتأخر قبولها عن إيجابها.

ثالثها: فرعية القبول على الإيجاب، و سيأتي توضيح كلامه.

(2) من القول الأوّل أعني اشتراط تقديم الإيجاب على القبول، حيث قال:

«الأشهر كما قيل: لزوم تقديم الإيجاب على القبول ..».

(3) إشارة إلى وجه عدم جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ «قبلت» و المراد بذلك نفي الخلاف. قال في المسالك: «و موضع الخلاف ما لو كان القبول بلفظ ابتعت أو شريت أو اشتريت أو تملّكت منك كذا بكذا، بحيث يشتمل على ما كان يشتمل عليه الإيجاب. أمّا لو اقتصر على القبول، و قال: قبلت و إن أضاف إليه باقي الأركان لم يكف بغير إشكال».

(4) الضمير راجع إلى عدم جواز تقديم القبول، لا إلى دعوى عدم الخلاف، و ذلك لأنّ المذكور في نهاية العلّامة قدّس سرّه هو قوله: «و لا فرق بين أن يتقدّم قول البائع:

بعت على قول المشتري: اشتريت، و من أن يتقدم قول المشتري: اشتريت، و يصحّ البيع في الحالتين على الأقوى. بخلاف ما لو قدّم: قبلت، فإنّه لا يعدّ قبولا، و لا جزءا

______________________________

(1): الحاكي عن هذه الكتب هو السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165، و لاحظ مسالك الأفهام، ج 3، ص 154، مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 146

ص: 439

و كشف اللثام في باب النكاح «1»، و قد اعترف به (1) غير واحد (2) من متأخري المتأخّرين أيضا.

بل المحكي هناك (3) عن ظاهر التذكرة «2» الإجماع عليه.

______________________________

من العقد، فكان لغوا».

و كذا لا أثر من دعوى الإجماع في كلام الفاضل الأصبهاني في نكاح كشف اللثام، فراجع.

(1) أي: بعدم جواز تقديم القبول.

(2) منهم السيد الطباطبائي قدّس سرّه في الرياض «3».

(3) أي: في باب النكاح. و لكن قال الفقيه المامقاني قدّس سرّه: «و لكنّي قد لاحظت مسألة تقديم الإيجاب على القبول هناك فليس فيها من ذلك أثر. نعم قال بعد ذكر رواية سهل الساعدي و ما في ذيله مما قدمنا ذكره ما لفظه: و قال أحمد: لا يصح العقد إذا قدم القبول، لأنّ القبول إنما يكون للإيجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا، لعدم معناه، فلم يصح كما لو تقدّم بلفظ الاستفهام. و لأنّه لو تأخّر عن الإيجاب بلفظ الطلب لم يصحّ، فإذا قدّم كان أولى كصيغة الاستفهام. و لأنّه لو أتى بالصيغة المشروعة مقدّمة، فقال: قبلت هذا النكاح، فقال الوليّ: زوّجتك ابنتي، لم يصحّ، فلأن لا يصحّ إذا أتى بغيرها كان أولى. و لا بأس بهذا القول. انتهى. فلعلّ من حكى الإجماع عن ظاهرها- أي ظاهر التذكرة- استفاد منها دعواه، من جهة أنّه جعل الصيغة المشروعة الّتي أراد بها بقرينة المثال لفظ: قبلت، مقيسا عليه في مقام الاستدلال، فدلّ

______________________________

(1): الحاكي عنها السيد العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165، لاحظ: نهاية الأحكام، ج 2، ص 448، كشف اللثام، ج 1، كتاب النكاح، ص 7

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 583

(3) رياض المسائل، ج 1، ص 511

ص: 440

و يدل عليه- مضافا إلى ما ذكر (1)، و إلى كونه (2) خلاف المتعارف من العقد- أنّ (3) القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة فرع الإيجاب، فلا يعقل تقدّمه عليه.

______________________________

ذلك على أنّ حكم المقيس عليه مما قام عليه الإجماع» «1».

و الأمر كما أفاده قدّس سرّه لعدم الظفر بالإجماع في هذه المسألة من نكاح التذكرة، و إنّما هو نفي البأس عمّا قاله أحمد. و لم أعثر على حكاية الإجماع في بيع مفتاح الكرامة و الجواهر أيضا، و لم يظهر معتمد المصنف قدّس سرّه في نسبة الإجماع إلى العلّامة قدّس سرّه.

(1) و هو نفي الخلاف المتقدّم بقوله: «بل المحكي عن الميسيّة .. أنه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ: قبلت». و كذا الإجماع المحكي عن التذكرة، بناء على صحة الحكاية.

(2) أي: و إلى كون تقديم القبول على الإيجاب خلاف المتعارف.

(3) هذا في محلّ الرفع على أنه فاعل «يدل عليه» و هذا الوجه الثالث، و هو العمدة في اعتبار تأخّر مثل «قبلت» عن الإيجاب، لكون القبول متفرّعا على الإيجاب و مبنيّا عليه، فلا يتقدم عليه.

و توضيح كلام المصنف قدّس سرّه هو: أنّ القبول العقدي متقوم بأمرين، أحدهما الرّضا بالإيجاب، و الآخر إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب تبعا لنقل الموجب ماله إلى القابل. و بهذه الملاحظة يكون القبول فرع الإيجاب، بمعنى: كون تمليك الثمن تابعا لتمليك المبيع. و هذا المعنى من القبول لا يتحقق إلّا إذا تأخّر عن الإيجاب، فلفظا:

«قبلت و رضيت» إذا تقدّما على الإيجاب لا يحصل المعنى المزبور بهما.

و ببيان أوضح: أنّ القبول- الذي هو أحد ركني العقود المعاوضية- يدلّ بالمطابقة على تملّك مال الموجب، و بالالتزام على تمليك مال نفسه إلى الموجب بعنوان العوضية التي دلّ عليها حرف الباء في «ملّكتك هذا بهذا». و لأجله يعتبر في القبول أمران:

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 244 و 245

ص: 441

و ليس (1) المراد من هذا القبول الذي هو ركن العقد مجرّد الرّضا بالإيجاب حتى يقال: إنّ الرضا بشي ء لا يستلزم تحققه (2) قبله، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقبل. بل المراد منه (3) الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله

______________________________

الأوّل: الرّضا بإيجاب الموجب المقتضي لنقل ماله إلى القابل بعوض.

الثاني: أن ينشئ القابل تمليك ماله للموجب- في حال إنشاء القبول- بعنوان كونه رضا بنقل الموجب.

و على هذا فإن تقدّم الإيجاب اجتمع هذان الأمران في القبول المتأخر، سواء أ كان بلفظ «قبلت» أم بسائر ألفاظه. لأنّ المشتري ينشئ تملكه للمبيع، و ينقل مال نفسه- في حال قبوله- على وجه العوضية إلى الموجب، و يتحقق معنى المعاوضة.

و أمّا إذا تقدّم القبول على الإيجاب فلا يتحقق إلّا الأمر الأوّل، و هو أصل الرّضا بتمليك الموجب ماله للقابل، لإمكان تعلق الرضا بما مضى و بما يأتي و لم يتحقق الأمر الثاني، و ذلك لأنه لم ينتقل بعد الى القابل شي ء حتى يتضمن قبوله تمليك مال نفسه إلى الموجب بعنوان العوضية، فيصير القبول المتقدّم لغوا، إذ لم ينشأ نقل مال إلى القابل حتى ينشئ هو تمليك مال نفسه إلى الموجب. و بهذا تصح دعوى فرعيّة القبول على الإيجاب.

(1) هذا إلى قوله: «بالأمر المستقبل» إشارة إلى دليل القائل بجواز تقدم القبول على الإيجاب، و محصله: أنّ القبول ليس إلّا الرّضا بالإيجاب، و من المعلوم إمكان تعلّق الرضا النفساني المبرز ب «قبلت» بكلّ قول، سواء تحقق في الزمان السابق على الرضا، أم في الحال أم في المستقبل.

(2) أي: تحقق الشي ء المرضي قبل تحقق نفس الرضا الذي هو صفة نفسانية منشأة بقوله: «قبلت».

(3) أي: بل المراد من القبول هو الرّضا بالإيجاب بحيث .. إلخ. و هذا جواب

ص: 442

في الحال (1) إلى الموجب على وجه العوضية، لأنّ (2) المشتري ناقل كالبائع.

و هذا (3) لا يتحقق إلّا مع تأخّر الرّضا عن الإيجاب، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال (4)، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل (5) في الحال ماله إلى الموجب، بخلاف من رضي بالمعاوضة التي أنشأها الموجب سابقا، فإنّه (6) يرفع بهذا الرّضا يده من ماله، و ينقله إلى غيره على وجه العوضية.

و من هنا (7) يتضح فساد ما حكي عن بعض المحققين (8) في ردّ الدليل

______________________________

الاستدلال، و محصله: أنّ القبول رضا متفرع على الإيجاب، لا مطلقا حتى يمكن تحققه قبله.

(1) أي: في حال القبول، يعني: أنّ القبول يدلّ بالمطابقة على تملك مال الموجب، و بالتضمن على تمليك مال نفسه له بعنوان كونه عوضا.

(2) تعليل لدلالة القبول تضمّنا على تمليك العوض للموجب، و أنّه ليس مجرّد تملّك المعوّض، و هذا مفاد قوله: «على وجه يتضمّن».

(3) أي: المعنى المذكور للقبول- أعني المتضمن للنقل و التمليك- لا يحصل إلّا مع تأخّر الرّضا عن الإيجاب.

(4) أي: في حال إنشاء القبول المتقدم على الإيجاب، لعدم حصول المتبوع- و هو نقل الموجب- حال إنشاء القبول حتى يملّكه القابل بعنوان العوضية.

(5) بل سينقل القابل- في المستقبل بعد إنشاء الإيجاب- ماله إلى الموجب.

فلا نقل فعلا في القبول المتقدّم على الإيجاب.

(6) أي: فإنّ القابل يرفع- برضاه بالإيجاب المتقدم- يده عن ماله.

(7) أي: من أنّ القبول هو الرّضا بالإيجاب- على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب- يتضح فساد .. إلخ.

(8) و هو السيد بحر العلوم قدّس سرّه، على ما في مفتاح الكرامة، قال السيد العاملي قدّس سرّه

ص: 443

المذكور- و هو (1) كون القبول فرع الإيجاب و تابعا له- و هو (2): «أن تبعية

______________________________

في تصحيح تقديم القبول على الإيجاب: «أو يقال: إنّ تبعيّة القبول للإيجاب إنّما هي على سبيل الفرض و التنزيل، لا تبعية اللفظ للفظ حتى يمتنع التقديم عقلا، و لا القصد للقصد ..» إلى آخر ما نقله في المتن، ثم قال السيد: «و هذا قد ذكره الأستاد دام ظله منذ سنين. فكان الأقرب عدم الاشتراط» «1».

(1) أي: أنّ الدليل المذكور هو فرعيّة القبول للإيجاب.

(2) أي: و ردّ الدليل المذكور أن تبعية .. إلخ، و هذا تقريب الردّ الذي حكي عن السيد بحر العلوم قدّس سرّه، و المستفاد من كلامه فرض أنحاء ثلاثة لتبعية شي ء لشي ء آخر، و يعتبر تقدّم المتبوع في اثنين منها.

الأوّل: تبعية لفظ للفظ آخر، و هو مخصوص بباب التوابع المذكورة في علم النحو، كتبعية المعطوف للمعطوف عليه، و الصفة للموصوف، و هكذا.

الثاني: تبعية قصد لقصد آخر، مثل ما ذكروه في بحث مقدمة الواجب، من تبعية قصد التقرب بالمقدمة لقصد التوصّل بها إلى ذيها، بناء على اعتبار قصد التوصّل في اتصاف المقدمة بالمقدمية، فلو لم يقصد التوصّل بها إلى ذيها امتنع قصد التقرّب بالمقدمة، لعدم اتّصافها بالمقدمية بدون قصد التوصّل حتى يتقرّب بها.

الثالث: تبعية شي ء لشي ء فرضا لا حقيقة، يعني: أنّ للتابع وجودا مستقلّا غير متقوّم بوجود المتبوع، و لكنه يفرض أحدهما متبوعا و الآخر تابعا.

إذا اتّضحت أنحاء التبعية فاعلم: أنّ تقدّم المتبوع على تابعه معتبر في القسمين الأوّلين، دون القسم الثالث. أمّا تقدم المتبوع في القسم الأوّل فلأن الصفة و الحال و نحوهما تكون بيانا لملابسات متبوعاتها، فلا معنى لذكرها مقدّما على الموصوف و ذي الحال.

و أمّا تقدم أحد القصدين على الآخر في القسم الثاني فلما عرفت من أنّه عقلي.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165

ص: 444

القبول للإيجاب ليس تبعية اللفظ للفظ (1) و لا القصد للقصد حتى يمتنع تقديمه، و إنّما هو على سبيل الفرض و التنزيل، بأن يجعل القابل نفسه متناولا لما يلقى إليه من الموجب، و الموجب مناولا، كما يقول السائل في مقام الإنشاء: أنا راض بما تعطيني، و قابل لما تمنحني، فهو متناول قدّم (2) إنشاءه أو أخّر. فعلى هذا (3) يصح تقديم القبول و لو بلفظ قبلت و رضيت إن لم يقم إجماع (4) على خلافه» انتهى.

______________________________

و أمّا عدم لزوم التقدم في القسم الثالث- و هو تبعية القبول للإيجاب- فلأنّ القابل يفرض نفسه متناولا لما يأخذه من الموجب، و الموجب يفرض نفسه مناولا لما يأخذه القابل، و إلّا فكلّ منهما يعطي شيئا و يأخذ بدله.

و حيث كانت تبعية القابل للموجب بالتنزيل و الادّعاء- لا بالحقيقة- أمكن تقدم إنشاء الرّضا بالإيجاب قبل تحققه خارجا. و نظيره إنشاء السائل رضاه بما سيعطيه المسؤول، فهو يفرض نفسه متناولا قبل أن يناوله المسؤول مالا.

و نتيجة هذا البيان: جواز تقديم القبول على الإيجاب، إذ ليس الإيجاب أصلا حقيقة و القبول فرعا كذلك حتى يمتنع تقدم الفرع على الأصل، إذ الفرعية تكون بمحض الفرض و التنزيل، هذا.

(1) قد عرفت آنفا تبعية اللفظ للفظ، و القصد للقصد، فإذا كانت التبعية حقيقيّة تعيّن تأخر التابع عن متبوعة.

(2) أي: سواء قدّم السائل إنشاء رضاه بما يعطيه المسؤول أم أخّره، فكما أنّ تقديمه لا يصيّره مناولا و معطيا حقيقية بل هو متناول، فكذا في عقد البيع، فلو تقدّم القبول لم يصر القابل مناولا، بل هو متناول على كل حال، و المناول هو الموجب.

(3) أي: بناء على كون تبعية القبول للإيجاب فرضيّة- لا حقيقية- يصح تقديم القبول حتى إذا كان بلفظ «قبلت» إلّا إذا منع من تقديمه الدليل التعبدي كالإجماع.

(4) يعني: فالاستدلال بفرعية القبول باطل، إذ لا أصل و لا فرع حقيقة. و عليه فالمعوّل في منع تقديم القبول هو الإجماع لو تمّ.

ص: 445

و وجه الفساد (1): ما عرفت سابقا من أنّ الرّضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من (2) نقل ماله بإزاء مال صاحبه ليس فيه إنشاء نقل من القابل في الحال، بل هو رضا منه بالانتقال في الاستقبال.

و ليس المراد (3) أنّ أصل الرّضا بشي ء تابع لتحققه في الخارج أوّلا قبل الرّضا به حتى يحتاج إلى توضيحه بما ذكره من المثال (4). بل المراد الرّضا الذي

______________________________

(1) حاصل ما أفاده المصنف في ردّ كلام السيد بحر العلوم قدّس سرّهما هو: منع مقايسة البيع بقبول السائل لما يعطيه المسؤول. و بيانه: أنّ القبول ليس مجرّد الرّضا بالإيجاب حتى يصح تعلّقه بالمستقبل، بل هو الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال بعنوان العوضية. و من المعلوم أنّ القبول- بهذا المعنى- يتوقف على سبق الإيجاب، و لا يصح بدونه. و على هذا فعدم كون القبول تابعا للإيجاب- نظير تبعية الصفة للموصوف- لا يوجب جواز تقدمه عليه.

(2) بيان ل «ما يصدر» يعني: إذا تقدّم القبول لم يكن رضا القابل بنقل ماله إلى الموجب فعليا، بل هو رضاه بنقل ماله إلى الموجب في المستقبل.

(3) يعني: أنّ السيد الأجل بحر العلوم قدّس سرّه فهم من الفرعية- المذكورة في كلمات الأصحاب- تبعية الرّضا بشي ء لتحقق ذلك الشي ء خارجا، و أنّ القبول متفرّع على وجود الإيجاب خارجا، و لذا أورد عليهم بالنقض بما يقوله الفقير المستعطي من رضاه بإعانة من يعينه، حيث إنّ رضاه موجود فعلا مع عدم تحقق المرضيّ بعد.

و ليكن الإيجاب و القبول من هذا الباب.

و لكن يرد على السيد منع هذا الاستظهار، إذ ليس المراد بالرّضا في عقد البيع طبيعيّ الرّضا، بل صنف خاص منه، و هو الرّضا على وجه يتضمّن نقل مال فعلا إلى الموجب بعنوان العوضية، و من المعلوم ترتب هذا الرّضا على الإيجاب و تفرّعه عليه و تبعيته له.

(4) و هو قول السيد: «كما يقول السائل في مقام الإنشاء أنا راض .. إلخ».

ص: 446

يعدّ ركنا في العقد (1).

و مما ذكرنا (2) يظهر الوجه في المنع عن تقديم القبول بلفظ الأمر كما لو قال: «بعني هذا بدرهم، فقال: بعتك» لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة

______________________________

(1) و هو الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال على وجه العوضية.

و بهذا أثبت المصنف قدّس سرّه وجود المقتضي لمدّعاه، و هو امتناع تقديم «قبلت و رضيت» على الإيجاب، و بقي عليه رفع المانع، و المانع هو دليل القائل بجواز تقديم القبول مطلقا على الإيجاب. و لكنّه أخّر بيانه و تعرّض لمنع تقديم القبول في القسم الثاني من ألفاظ القبول، و هو الأمر، هذا.

(2) يعني: يظهر مما ذكرنا من وجه تأخير «قبلت» عن الإيجاب- الوجه في منع تقديم القبول بلفظ الأمر، حيث إنّ القبول هو الرّضا المتضمن لنقل مال بالفعل إلى الموجب على وجه العوضية، و هذا الدليل الجاري في إنشاء القبول بلفظ «قبلت» يجري في إنشائه بصيغة الأمر، و بيانه: أنّ الأمر لا يدلّ على الرّضا بالإيجاب المزبور، إذ طلب المعاوضة لا يدلّ على أزيد من الرّضا بالمعاوضة المستقبلة، و لا يدلّ على الرّضا بالنقل في الحال إلى البائع، فلا ينطبق مفهوم القبول على إنشائه بالأمر، فلا يصح تقديمه على الإيجاب، كما لا يصح إنشاء القبول بالأمر في صورة التأخّر، لأنّه طلب للحاصل.

و بالجملة: فلا يقع القبول بلفظ الأمر مطلقا تقدّم أو تأخّر.

و لا يخفى أنّ قوله: «و مما ذكرنا يظهر الوجه .. إلخ» جملة معترضة بين الوجوه التي استدلّ بها المصنف على عدم جواز تقديم «قبلت و رضيت» و هي من قوله:

«و يدلّ عليه مضافا إلى ما ذكر» الى قوله: «و مما ذكرنا يظهر الوجه» و بين بعضها الآخر، و هو إبطال ما بقي من دليل الجواز، و هو قوله الآتي: «و أمّا فحوى جوازه في النكاح .. إلخ» فتفطّن.

ص: 447

على الرّضا بها، لكن (1) لم يتحقق- بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة- نقل في الحال للدرهم إلى البائع كما لا يخفى.

و أمّا ما يظهر من المبسوط- من الاتفاق هنا (2) على الصحة به- فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه.

و أمّا فحوى (3) جوازه في النكاح ففيها (4)

______________________________

(1) يعني: مع أنّ المعتبر في القبول- الذي هو ركن العقد المعاوضي- إنشاء نقل ماله بالفعل بعنوان العوض، و المفروض عدم تحقق هذا النقل الفعلي إذا كان القبول بلفظ الأمر.

(2) أي: في باب البيع، يعني: و أمّا ما يظهر من المبسوط- من الاتفاق في باب البيع على صحته بأمر المشتري- فموهون بما سيأتي من مصير الأكثر إلى خلافه، فكيف يدّعى الإجماع على الصحة بالأمر؟

و غرضه قدّس سرّه من التعرض لكلام شيخ الطائفة قدّس سرّه الإشارة إلى ما استدلّ به على جواز تقديم القبول إذا كان بصيغة الأمر على الإيجاب، ثم ردّه و التنبيه على ضعفه بعدم تحقق الإجماع، لمصير الأكثر على خلافه. و عليه فالمنع من تقديم القبول في باب البيع إذا كان بصيغة الأمر غير مخالف للإجماع حتّى يشكل المصير إليه.

(3) هذا من الوجوه الدالة على جواز تقديم القبول بصيغة الأمر و المضارع.

و قد تقدم تقريب الاستدلال بالفحوى في (ص 436) عند قوله: «و فحوى جوازه في النكاح .. إلخ» فراجع.

(4) جواب «و أما فحوى» و قد ردّها المصنف قدّس سرّه بوجهين:

الوجه الأوّل: منع الحكم في الأصل- و هو النكاح- لعدم دلالة رواية سهل على تحقق القبول بلفظ الأمر و هو قول الصّحابي: «زوّجنيها» حتى يدلّ على جواز تقديم القبول في غير النكاح بالأولوية. وجه عدم الدلالة: أنّ في رواية سهل احتمالين:

أحدهما: أن يكون قول الصحابي: «زوّجنيها» قبولا مقدّما على إيجاب النكاح

ص: 448

..........

______________________________

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زوّجتكها بما معك من القرآن» و قد أقرّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هذا الاحتمال مبنى استفادة جواز تقديم القبول بلفظ الأمر- في باب البيع- على الإيجاب، من باب الأولوية، لكون الأموال دون الأعراض في الأهمية و الاحتياط.

ثانيهما: أن يكون قول الصّحابي مجرّد استدعاء التزويج بالمرأة فالرّجل طلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يزوّجها منه إن لم يكن لنفسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاجة بها. و من المعلوم أنّ هذا الاستدعاء أجنبي عن تقدم قبول النكاح على إيجابه، بل لا بد أن يكون الصّحابي أنشأ القبول بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زوّجتك أو زوّجتكها».

و يؤيد هذا الاحتمال الثاني ما ذكره جمع من الفقهاء من أنّه لو كان قول الصحابي: «زوّجنيها» قبولا مقدّما على الإيجاب لزم تخلّل الكلام الأجنبي بين الإيجاب و القبول، و هو محاورة النبي مع الرّجل حول الصّداق. و حيث إنّ الموالاة بين الإيجاب و القبول معتبرة في العقود تعيّن حمل رواية سهل على مجرّد الاستدعاء، و يوهن به الاحتمال الأوّل، و لا يبقى موضوع لاستفادة الفحوى.

الوجه الثاني: لو سلّمنا دلالة رواية سهل على صحة النكاح بالقبول المقدّم على الإيجاب قلنا بمنع أولوية البيع- بجواز التقديم- من النكاح، و ذلك لأنّ الترتيب بين الإيجاب و القبول يقتضي تقديم الإيجاب، بلا فرق بين عقد البيع و غيره. لكن الحكمة الخاصة بباب النكاح- و هي أنّ الإيجاب فيه من المرأة، و هي تستحي غالبا من الابتداء- اقتضت توسعة الشارع فيه و ترخيصه في ابتداء الزوج بالقبول. كما وسّع الشارع للمكلّفين في جهات أخرى، فجوّز نكاح الفضول، و المتعة حذرا من الابتلاء بالحرام. و من المعلوم أنّ هذه الحكمة منتفية في باب البيع، فليس هو مساويا للنكاح في هذا الحكم فضلا عن كونه أولى منه في تقديم قبوله على إيجابه.

هذا كله إذا أريد استفادة الفحوى من رواية سهل الساعدي.

و أمّا إذا أريد استفادتها من رواية أبان فسيأتي الإشكال فيها.

ص: 449

- بعد الإغماض (1) عن حكم الأصل (2) بناء (3) على منع (4) دلالة رواية سهل على كون لفظ الأمر هو القبول (5)، لاحتمال (6) تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يؤيّده (7) أنّه لولاه يلزم الفصل الطويل بين الإيجاب و القبول- منع (8) الفحوى. و قصور (9) دلالة رواية أبان من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة:

______________________________

(1) هذا إشارة إلى أوّل الوجهين، و قد تقدّم بقولنا: «الأوّل: منع الحكم في الأصل ..».

(2) أي: النكاح.

(3) و أمّا بناء على تمامية دلالة الرواية على جواز تقديم قبول النكاح على إيجابه لم يتّجه هذا الإشكال الأوّل على شيخ الطائفة، و عليه فالإشكال مبنائيّ.

(4) هذا تقريب الإشكال على حكم النكاح، و حاصله: منع دلالة رواية سهل على كون لفظ الأمر قبولا لعقد النكاح، لاحتمال تحقّق القبول بلفظ «قبلت» مثلا بعد إيجاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثم أيّد ذلك بأنه لو لا تحقق القبول بعد إيجابه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلزم فوات الموالاة بين الإيجاب و القبول، فيبطل العقد.

(5) أي: القبول المقدّم على الإيجاب.

(6) تعليل لمنع دلالة رواية سهل، و قد عرفت توضيحه.

(7) لم يقل: «و يدلّ عليه» لاحتمال كون الرواية دليلا على عدم اعتبار الموالاة في هذا المورد.

(8) مبتدأ مؤخّر لقوله: «ففيها» وجه منع الفحوى: ما أفاده العلّامة- و تبعه من تأخّر عنه- بقوله: «و الجواب: المنع من المساواة بين النكاح و البيع، و إنّما سوّغنا في النكاح، لضرورة لم توجد في البيع، و هي الحياء الحاصل للمرأة، فلا تبادر إلى تقديم الإيجاب، فلهذا جوّزنا تقديم القبول، بخلاف البيع» «1».

(9) معطوف على «منع الفحوى» و غرضه دفع توهّم، حاصل الوهم: أنّ

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 52 و 53

ص: 450

«نعم» في الإيجاب (1).

ثم اعلم (2) أنّ في صحة تقديم القبول بلفظ الأمر

______________________________

المناقشة الأولى في رواية سهل الساعدي لا تجري في رواية أبان بن تغلب الواردة في إنشاء النكاح المنقطع بصيغة المضارع مع تقدّم القبول على الإيجاب.

وجه سلامة هذه الرواية عن المناقشة الأولى هو: أنّ الإمام عليه السّلام علّم أبان كيفية إنشاء المتعة بأن يقول لها: «أتزوّجك متعة .. إلخ» و تقول المرأة بعده: «نعم» و لعلّ هذه الرواية صريحة في جواز تقديم القبول على الإيجاب في باب المتعة.

و الاحتمال المتقدم في رواية سهل- من تحقق القبول بعد إيجاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله:

«زوّجتك»- غير جار في رواية أبان. و عليه يمكن الاستناد إلى هذه الرواية في استفادة الفحوى.

و قد دفع المصنف قدّس سرّه هذا الوهم بما حاصله: قصور دلالة رواية أبان على تقديم قبول النكاح على إيجابه، و ذلك لما ذكره جمع من الفقهاء من أنّ قولها: «نعم» في جواب القبول المقدّم لا يكون إيجابا مؤخّرا «1». و عليه يشكل العمل بظاهر رواية أبان لمخالفتها للقاعدة المسلّمة، و هي توقف العقد على إيجاب و قبول، سواء تقدّم الإيجاب أم تأخّر. ففي رواية سهل الساعدي لا مانع من جعل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زوّجتك إيّاها» إيجابا مؤخّرا، و قول الرّجل: «زوّجنيها» قبولا مقدما، لكون كلتا الصيغتين صريحتين في النكاح. بخلاف قولها: «نعم» في رواية أبان، فإنّه ليس إيجابا. و حيث كانت الرواية.

مخالفة للقاعدة المسلّمة لم يمكن الأخذ بظاهرها فضلا عن استفادة الفحوى منها.

(1) يعني: و الحال أنّ الاقتصار على «نعم» في إيجاب النكاح ممنوع عندهم.

(2) بعد أن اختار ما هو التحقيق عنده من عدم جواز تقديم القبول بصيغة الأمر أراد أن ينبّه على كلمات الأصحاب فيه، و قد تعرّض لجملة منها.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 12، ص 72

ص: 451

اختلافا كثيرا (1) بين كلمات الأصحاب، فقال في المبسوط: «إن قال: بعنيها بألف، فقال: بعتك صحّ. و الأقوى عندي أنّه لا يصح حتى يقول المشتري بعد ذلك:

اشتريت» «1».

و اختار ذلك في الخلاف «2» (2). و صرّح به (3) في الغنية، فقال: «و اعتبرنا حصول الإيجاب من البائع و القبول من المشتري حذرا عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري، و هو أن يقول: بعنيه بألف، فيقول: بعتك، فإنّه لا ينعقد حتى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت» «3».

و صرّح به (4) أيضا في السرائر و الوسيلة «4».

و عن جامع المقاصد (5) «أن ظاهرهم أنّ هذا الحكم اتفاقي» «5».

______________________________

(1) الأولى إسقاط: «كثيرا» إذ ليس في المسألة أزيد من قولين، و التعبير بالاختلاف الكثير إنّما يحسن مع كثرة الأقوال في المسألة، و المفروض أنّه ليس في هذه المسألة إلّا قولان.

(2) تقدّمت عبارة الخلاف في (ص 433) فراجع.

(3) يعني: صرّح السيد أبو المكارم ابن زهرة بعدم صحة البيع عند تقدم القبول على الإيجاب.

(4) أي: صرّح ابنا حمزة و إدريس بعدم الصحة كما صرّح به أبو المكارم.

(5) قال في شرح قول العلامة: «و لا الاستيجاب و الإيجاب» ما لفظه:

«ظاهرهم أنّ هذا الحكم اتفاقي، و ما قيل بجوازه في النكاح مستند إلى رواية ضعيفة».

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 87 و هذه العبارة مذكورة في بيع المبسوط.

(2) الخلاف، ج 3، ص 39، المسألة: 56

(3) غنية النزوع في الأصول و الفروع، ص 522 (الجوامع الفقهية).

(4) الوسيلة لابن حمزة (ضمن الجوامع الفقهية) ص 740، السرائر الحاوي، ج 2، 249 و 250

(5) جامع المقاصد، ج 4، ص 59

ص: 452

و حكي الإجماع (1) عن ظاهر الغنية أيضا أو صريحها «1».

و عن المسالك (2): «المشهور».

بل قيل (3): إنّ هذا الحكم ظاهر كلّ من اشترط الإيجاب و القبول.

و مع ذلك (4) كلّه فقد صرّح الشيخ في المبسوط «2» في باب النكاح بجواز

______________________________

(1) الحاكي هو السيد العاملي، حيث قال: «و الإجماع ظاهر الغنية أو صريحها».

(2) يعني: و حكي عن المسالك أنّ عدم صحة البيع- بتقديم القبول على الإيجاب- هو المشهور، حيث قال فيه- في شرح كلام المحقق: «و لا ينعقد إلّا بلفظ الماضي .. و كذا في طرف القبول»- ما لفظه: «نبّه بذلك على خلاف ابن البرّاج، حيث جوّزه بهما، و المشهور خلافه» «3».

و لا يخفى أنّ الشهيد الثاني ادّعى الشهرة في مسألة جواز الإنشاء بغير الماضي، لا في تقديم الإيجاب على القبول، إلّا أن يدّعى التلازم بين الحكمين، فراجع المسالك.

(3) القائل هو السيد الفقيه العاملي في عدم انعقاد البيع بالاستيجاب و الإيجاب، قال قدّس سرّه: «و الحكم ظاهر كلّ من اشترط الإيجاب و القبول و الماضوية فيهما» «4».

و لعلّ وجه الاستظهار هو دعوى ظهور «الأمر» في غير القبول، فلا يصح إنشاء القبول به. أو دعوى اعتبار الترتيب بينهما في مقام الاشتراط من جهة عطف القبول على الإيجاب في كلماتهم، دون العكس.

(4) أي: و مع هذه الكلمات- الدالة على عدم انعقاد البيع باستدعاء المشتري و قبوله بلفظ الأمر- فقد صرّح الشيخ في باب النكاح بجواز تقديم القبول بصيغة الأمر، و عبارته مشعرة بكون الجواز إجماعيّا.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 161

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 194

(3) مسالك الافهام، ج 3، ص 159

(4) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 161

ص: 453

التقديم بلفظ الأمر بالبيع، و نسبته إلينا (1) مشعرة- بقرينة السياق- إلى عدم الخلاف فيه بيننا، فقال: «إذا تعاقدا، فإن تقدّم الإيجاب على القبول، فقال:

زوّجتك، فقال: قبلت التزويج صحّ. و كذا إذا تقدّم الإيجاب على القبول في البيع صحّ بلا خلاف. و أمّا إن تأخّر الإيجاب و سبق القبول، فإن كان في النكاح فقال الزوج (2): زوّجنيها، فقال: زوّجتكها صحّ، و إن لم يعد الزوج القبول، بلا خلاف، لخبر الساعدي، قال الرجل: زوّجنيها يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال زوّجتكها بما معك من القرآن، فتقدّم القبول و تأخّر الإيجاب. و إن كان هذا في البيع فقال بعنيها، فقال: بعتكها، صحّ عندنا و عند قوم من المخالفين. و قال قوم منهم:

لا يصحّ حتى يسبق الإيجاب» انتهى.

و حكي جواز التقديم بهذا اللّفظ (3) عن القاضي في الكامل.

بل يمكن نسبة هذا الحكم (4) إلى كلّ من جوّز تقديم القبول على الإيجاب بقول مطلق، و تمسّك (5) له في النكاح برواية سهل الساعدي المعبّر فيها عن

______________________________

(1) يعني: قال شيخ الطائفة: «صحّ عندنا و عند قوم من المخالفين» و من المعلوم إشعار «عندنا» بالإجماع عند الخاصة لو لا ظهوره فيه. و حينئذ كيف يمكن الجمع بين دعوى اتفاق الأصحاب- على صحة تقديم القبول بلفظ الأمر بالبيع- مع الكلمات المتقدمة عن جماعة منهم؟

(2) يعني: قال الزوج لوليّ الزوجة: «زوّجنيها» فزوّجها الوليّ منه.

(3) أي: لفظ الأمر، مثل «بعنيها» و حكاه في المختلف عن المهذّب أيضا «1».

(4) و هو جواز التقديم بلفظ «بعنيها» و الوجه في صحة هذه النسبة هو: إطلاق القول بجواز التقديم، إذ من صغريات القبول لفظ الأمر، فتدبر.

(5) معطوف على «جوّز» أي: كلّ من جوّز و تمسّك لجواز تقديم القبول على الإيجاب برواية سهل، إذ هذا التمسك قرينة على أنّ مراده من القبول هنا ما يعمّ الأمر،

______________________________

(1): مختلف الشيعة، ج 5، ص 52

ص: 454

القبول بطلب التزويج (1).

إلّا (2) أنّ المحقق رحمه اللّه- مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب و الإيجاب- صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب.

و ذكر العلّامة قدّس سرّه الاستيجاب و الإيجاب، و جعله خارجا عن قيد اعتبار

______________________________

إذ لو اختص بغير الأمر لما صحّ الاستدلال برواية سهل، فلا بدّ أن يكون كذلك في باب البيع أيضا، لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

(1) بقول الرجل: «زوّجنيها يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

(2) استدراك على قوله: «بل نسبة هذا الحكم» و تضعيف لاستفادة نسبة تجويز تقديم القبول- بلفظ الأمر- إلى كلّ من أطلق جواز تقديم القبول على الإيجاب، و ذلك لأنّ المحقق مع تصريحه بعدم كفاية الاستيجاب و الإيجاب في البيع أطلق جواز تقديم القبول على الإيجاب، حيث قال: «و لا ينعقد إلّا بلفظ الماضي، فلو قال: اشتر أو ابتع أو أبيعك، لم يصح. و كذا في طرف القبول، مثل أن يقول: بعني، لأنّ ذلك أشبه بالاستدعاء أو بالاستعلام. و هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردّد.

و الأشبه عدم الاشتراط» «1».

و العبارة صريحة في عدم صحة البيع بالاستيجاب و الإيجاب، و صحته بتقديم القبول. و كذا العلّامة.

فالجزم بعدم كفاية الاستيجاب و التردّد في شرطية تقديم الإيجاب على القبول- كما في قواعد العلّامة «2»- يكشف عن عدم صحة إنشاء القبول بالأمر حتى يقع البحث عن جواز تقديمه على الإيجاب، و عدمه، فإنّ هذا البحث فرع صحة إنشاء القبول بالأمر في نفسه. و مع عدم صحّته كذلك لا يبقى موضوع للبحث عن جواز تقديم القبول المنشأ بلفظ الأمر، و عدمه.

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

(2) قواعد الأحكام، ص 47 (الطبقة الحجرية).

ص: 455

الإيجاب و القبول كالمعاطاة (1)، و جزم بعدم كفايته، مع أنّه تردّد في اعتبار (2) تقديم القبول.

و كيف كان (3) فقد عرفت (4) أنّ الأقوى المنع في البيع، لما عرفت (5).

بل لو قلنا بكفاية التقديم بلفظ «قبلت» يمكن المنع هنا (6) بناء على اعتبار الماضوية فيما دلّ على القبول (7).

ثم إنّ هذا (8) كلّه بناء على المذهب المشهور بين الأصحاب من عدم كفاية مطلق اللفظ في اللزوم، و عدم القول بكفاية مطلق الصيغة في الملك.

______________________________

(1) يعني: كما أنّ المعاطاة خارجة عن العقد، إذ ليس فيها إيجاب و قبول لفظيان، فكذا الاستيجاب و الإيجاب خارجان عن العقد.

(2) الأولى التعبير بالجواز، إذ ليس الكلام في لزوم تقديم القبول و اعتباره، بل في جوازه كما لا يخفى.

(3) يعني: سواء أ كانت نسبة جواز تقديم القبول بلفظ الأمر- إلى كلّ من جوّز تقديم القبول على الإيجاب- صحيحة بقول مطلق، أم غير صحيحة فقد عرفت .. إلخ.

(4) بقوله: «و مما ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن تقديم القبول بلفظ الأمر ..».

(5) من قوله: «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرضا بها، لكن لم يتحقق بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال للدرهم إلى البائع» يعني: أنّه يعتبر في القبول دلالته على الرّضا بالإيجاب، و على تضمّن النقل في حال القبول، و المفروض قصور صيغة الأمر عن إفادة النقل الضمني.

(6) أي: في إنشاء القبول بالأمر.

(7) يعني: فلا ملازمة بين جواز تقديم القبول بلفظ «قبلت» و بين جوازه بلفظ الأمر. وجه عدم الملازمة: أنّ الماضوية روعيت في «قبلت» و لم تراع في صيغة الأمر، ففي الإنشاء بالأمر إشكال زائد على الإنشاء ب «قبلت» مقدّما على الإيجاب.

(8) أي: أنّ عدم كفاية إنشاء القبول بالأمر مبني على الالتزام بتوقف العقود

ص: 456

و أمّا على ما قوّيناه [ما اخترناه] سابقا في مسألة المعاطاة (1) من أنّ البيع العرفي موجب للملك، و أنّ الأصل في الملك اللزوم، فاللازم الحكم باللزوم في كلّ مورد لم يقم إجماع على عدم اللزوم، و هو (2) ما إذا خلت المعاملة عن الإنشاء باللفظ رأسا، أو كان اللفظ المنشأ به المعاملة ممّا قام الإجماع على عدم إفادتها اللزوم. و أمّا في غير ذلك فالأصل اللزوم.

______________________________

اللازمة على إنشائها بالصيغ الخاصة المأثورة عن الشارع. و أمّا إن قلنا بكفاية المعاطاة في النقل الملكي- لكونها بيعا عرفيا مفيدا للملك، و الأصل في الملك هو اللزوم- اتّجه الالتزام بانعقاد البيع بكلّ ما يكون مصداقا له عرفا.

إلّا أن يقوم دليل مانع عن الأخذ بهذا الالتزام، و المانع هو الإجماع على أحد الأمرين، إمّا على توقف اللزوم على الإنشاء بمطلق اللفظ، و أنّ التعاطي لا يفيد الملك اللّازم. و إمّا على توقف اللزوم على صيغة خاصة، بحيث لا يترتب على مطلق اللفظ الكاشف عن القصد.

فإن تمّ الإجماع على أحد الأمرين أخذ بمقتضاه، و إلّا فلا بدّ من القول باللزوم إذا أنشئ البيع باللفظ، و لكن تقدّم قبوله- بصيغة الأمر- على إيجابه. و المفروض عدم وجود إجماع في البين بعد تصريح شيخ الطائفة قدّس سرّه بانعقاد البيع بأمر المشتري و إيجاب البائع بعده.

(1) حيث إنّه قدّس سرّه أثبت أوّلا إفادة المعاطاة للملك، ثم أثبت أصالة اللزوم في كل ملك.

(2) هذا بيان معقد الإجماع، و هو أحد الأمرين، إمّا خلوّ المعاملة عن اللفظ رأسا، و إما خلوّها عن اللفظ الخاص المأثور عن الشارع. فإذا أنشئت بلفظ كنائي أو مجازي و كانت القرينة مقالية سابقه على الإنشاء، أو مقامية مقارنة له لم تصحّ، لانتفاء الدلالة الوضعية. و أمّا إذا أنشئت بلفظ الأمر فلا إجماع على عدم تأثيره في اللزوم.

ص: 457

و قد عرفت أنّ القبول على وجه طلب البيع قد صرّح في المبسوط بصحته (1)، بل يظهر منه عدم الخلاف فيه بيننا (2)، و حكي عن الكامل أيضا، فتأمّل (3).

و إن كان (4) التقديم بلفظ: «اشتريت أو ابتعت أو تملّكت أو ملكت هذا بكذا» فالأقوى جوازه، لأنّه إنشاء ملكيته للمبيع بإزاء ماله عوضا، ففي الحقيقة

______________________________

(1) يعني: فيفيد الملك، و لا إجماع على عدم لزومه، فالأصل يقتضي لزومه.

(2) حيث قال في عبارته المنقولة في المتن: «صحّ عندنا».

(3) لعلّه إشارة إلى ما تقدم من موهونيّة دعوى الشيخ لنفي الخلاف بمصير الأكثر إلى خلافه حتّى هو قدّس سرّه في بيع المبسوط.

(4) معطوف على ما تقدم في (ص 439) من قوله: «فان كان بلفظ قبلت» و غرضه قدّس سرّه الاستدلال على جواز تقديم ثالث أقسام ألفاظ القبول على الإيجاب.

و توضيح ما أفاده: أنّه لا يعتبر في صدق العقد و المعاوضة عرفا المطاوعة لإنشاء الغير، ضرورة أنّ العقد متقوم بالتزامين مرتبطين مبرزين، و من المعلوم حصول إبرازهما بلفظ «ملكت» قبولا و «بعت» إيجابا، لأنّ معنى «ملكت» و «اشتريت» إنشاء ملكية المبيع بإزاء ماله عوضا، فالمشتري ينشئ المعاوضة حقيقة كالبائع، غاية الأمر أن البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه، و المشتري ينشئ تملّك مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله، فكل منهما يخرج ماله إلى ملك صاحبه، و يدخل مال صاحبه في ملك نفسه.

إلّا أنّ بين الإدخالين فرقا، فالإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض، لأنّ دخول الثمن في ملك البائع يفهم من قول البائع: «بكذا» بعد قوله: «بعت» حيث إنّ «بعت» يدلّ على خروج المال عن ملك البائع، و ذكر العوض يدلّ على دخول الثمن في ملكه بإزاء المبيع. و الإدخال في القبول يفهم من نفس لفظ «ملكت» فإنّ معناه تملّك المبيع بإزاء الثمن، فالمشتري ينشئ بمثل «ملكت، تملّكت، اشتريت» دخول مال البائع

ص: 458

كلّ منهما يخرج ماله إلى صاحبه و يدخل مال صاحبه في ملكه، إلّا (1) أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض (2)، و في القبول مفهوم من نفس الفعل (3)، و الإخراج بالعكس (4). و حينئذ (5) فليس في حقيقة الاشتراء من حيث

______________________________

في ملكه، و البائع ينشئ بقوله: «بعت» خروج المبيع عن ملكه، و بذكر العوض يتملّك الثمن بإزائه.

و الحاصل: أنّ الإدخال في الإيجاب يفهم من ذكر العوض، و في القبول من نفس لفظ «تملكت». و الإخراج بالعكس، لأنّه في الإيجاب يكون بنفس اللفظ الذي ينشأ به الإيجاب، فإنّ معنى «بعت»: أخرجت المبيع عن ملكي. و الإخراج في القبول يكون بذكر العوض. فإذا قدّم المشتري القبول، و قال: «اشتريت هذا الكتاب بدينار» فدلالته على إخراج الدينار عن ملكه تكون بذكر العوض و هو الدينار.

و بالجملة: فما هو المعتبر في القبول من أمرين- أحدهما الرّضا بالإيجاب، و الثاني نقل الثمن في حال القبول- متحقق في هذا القسم الثالث. أمّا الرّضا فواضح.

و أمّا نقل الثمن فلأنّه ينشئ ملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضا. و لا يعتبر في القبول ما عدا هذين الأمرين كالمطاوعة، إذ لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول.

(1) هذا بيان الفارق بين الإدخالين و الإخراجين، و قد تقدم توضيحه بقولنا:

«الّا أنّ بين الإدخالين فرقا .. إلخ».

(2) يعني من قوله: «بدينار» لا من نفس قوله: «بعت».

(3) أي: نفس اللفظ، فإنّ قول القابل: «قبلت» مثلا يدلّ على إدخال المبيع في ملكه، و إخراج الثمن عن ملكه، و «بعت» يدلّ على الإخراج عن الملك، و ذكر العوض يدلّ على الإدخال أي إدخال الثمن في ملكه.

(4) يعني: إخراج الإيجاب يستفاد من نفس «بعت» و إخراج القبول يفهم من ذكر العوض.

(5) يعني: و حين دلالة «اشتريت» على تمليك القابل ماله للموجب بعنوان

ص: 459

هو (1) معنى القبول (2).

لكنه (3) لمّا كان الغالب وقوعه عقيب الإيجاب، و إنشاء انتقال مال البائع إلى نفسه إذا وقع عقيب نقله إليه يوجب (4) تحقق المطاوعة و مفهوم القبول

______________________________

العوضية في حال الإنشاء فليس .. إلخ».

(1) يعني: في نفسه مع الغضّ عن وقوعه عقيب الإيجاب.

(2) حتّى يلزم تأخّره عن الإيجاب من حيث كونه قبولا، كما لزم تأخّر لفظ «قبلت» عن الإيجاب.

(3) هذا دفع دخل يرد على قوله: «فليس في حقيقة الاشتراء معنى القبول» و حاصل الدخل هو: أنّ الاشتراء إن كان دالا على إدخال مال الغير في ملكه و إخراج مال نفسه إلى ملك الموجب كان كالإيجاب الذي هو إخراج و إدخال، و لم يبق وجه لعدّ «اشتريت» من ألفاظ القبول الذي يفهم منه مطاوعة فعل الغير، و من المعلوم اعتبار سبق فعل حتى يمكن مطاوعته.

و عليه فيكون وزان «اشتريت» وزان «قبلت» في اعتبار تأخره عن الإيجاب، إذ القبول إمضاء فعل الغير.

و قد دفعه المصنف بما حاصله: أنّ تسمية «اشتريت» قبولا ليس لأجل اتحاده مفهوما مع «قبلت» حتى يمتنع تقدّمه على الإيجاب، بل لأجل أنّ الغالب من العقود و البيوع الخارجية ينشأ فيها الإيجاب أوّلا، ثم يتبعها القبول، إمّا بلفظ «قبلت أو رضيت أو اشتريت أو ملكت» فيستفاد من كلّ منها المطاوعة و الانفعال، و من المعلوم أنّ هذه الغلبة الوجودية لا تغيّر مدلول اللفظ، فالمطاوعة تستفاد من «قبلت اشتريت» لكنّها في «قبلت» مدلول اللفظ، و في «اشتريت» مستفادة من القرينة المقامية، و هي غلبة تأخّر القبول عن الإيجاب.

(4) خبر قوله: «و إنشاء».

ص: 460

أطلق (1) عليه القبول (2). و هذا المعنى (3) مفقود في الإيجاب المتأخر، لأنّ المشتري إنّما ينقل ماله إلى البائع بالالتزام الحاصل من جعل ماله عوضا، و البائع إنّما ينشئ انتقال الثمن إليه كذلك، لا بمدلول الصيغة.

و قد صرّح (4) في النهاية و المسالك- على ما حكي- «بأنّ اشتريت ليس قبولا حقيقة (5) و إنّما هو بدل، و أنّ الأصل (6) في القبول قبلت، لأن القبول في الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به، و لفظ اشتريت يجوز الابتداء به» «1».

______________________________

(1) جواب «لمّا كان» و ضميرا «وقوعه، عليه» راجعان إلى الاشتراء.

(2) فإطلاق القبول و دلالته على المطاوعة إنّما تكون بقرينة المقام، و هو وقوعه عقيب الإيجاب غالبا. و لا يرد عليه ما في بعض الحواشي من: أنّه إذا لم يدلّ بنفسه على المطاوعة فكيف يدلّ عليها إذا وقع عقيب الإيجاب؟

(3) يعني: تحقق المطاوعة و مفهوم القبول بسبب التأخّر مفقود في الإيجاب المتأخّر، لفقد ما يوجبه و هو إنشاء البائع انتقال الثمن إلى نفسه بالمدلول المطابقي للصيغة، لأنّ الانتقال يكون بالمدلول الالتزامي. كما أنّ نقل المشتري إيّاه إلى البائع- و إن تقدّم- إنّما هو بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية.

(4) غرضه من الاستشهاد بكلام النهاية و المسالك هو: أنّ «اشتريت» ليس من ألفاظ القبول بالأصالة، إذ القبول يعتبر فيه الرّضا بإيجاب الغير و مطاوعته له، لكونه مبنيّا عليه، و حيث إنّ «اشتريت» لا يدلّ على هذه الخصوصية لم يكن أصلا في القبول، بل بدلا عن «قبلت» و «رضيت».

(5) لعدم كون دلالته على القبول بالمطابقة، بل لقرينة مقاميّة، و هي وقوعه عقيب الإيجاب.

(6) بمعنى كون ما يدلّ على الإنشاء الذي لا يجوز الابتداء به- لتفرّعه على إنشاء آخر- هو لفظ القبول، لأنّه وضع للإنشاء المسبوق بإنشاء آخر، بخلاف لفظ

______________________________

(1): نهاية الأحكام، ج 2، ص 448، مسالك الأفهام، ج 3، ص 154.

ص: 461

و مرادهما أنّه بنفسه لا يكون قبولا، فلا ينافي ما ذكرنا من تحقق مفهوم القبول فيه إذا وقع عقيب تمليك البائع. كما أنّ «رضيت بالبيع» ليس فيه إنشاء لنقل ماله إلى البائع إلّا إذا وقع متأخّرا، و لذا منعنا عن تقديمه. فكلّ من «رضيت و اشتريت» بالنسبة إلى إفادة نقل المال و مطاوعة البيع عند التقدّم و التأخر متعاكسان (1).

فإن قلت (2): إنّ الإجماع على اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله:

«اشتريت» حتّى يقع قبولا، لأنّ إنشاء مالكية مال الغير إذا وقع عقيب تمليك الغير له يتحقق فيه معنى الانتقال و قبول الأثر، فيكون «اشتريت»

______________________________

«اشتريت» مثلا، لأنّه مما يمكن الإنشاء به بدون سبق إنشاء عليه، فيسقط بهذا ما عن بعض: من أنّا لا نفهم معنى لكون الأصل في القبول «قبلت».

(1) توضيحه: أنّ «رضيت» يفيد المطاوعة التي بها يكون إنشاء لنقل ماله إلى البائع، و لأجل تأخّر المطاوعة امتنع تقدّم «رضيت» على الإيجاب، فإنشاء النقل مترتب على المطاوعة. بخلاف «اشتريت» فإنّه لا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر عن الإيجاب، لكنّه يدلّ على إنشاء نقل ماله.

و بالجملة: «رضيت» يدلّ على المطاوعة، و لا يدلّ بنفسه على إنشاء النقل إلّا إذا تأخّر، و «اشتريت» يدلّ على إنشاء النقل، و لا يدلّ على المطاوعة إلّا إذا تأخّر، فهما في إفادة المطاوعة و النقل متعاكسان.

(2) هذا إشكال على ما قوّاه من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» و نحوه. و محصّل الإشكال: خلوّ عقد البيع عن القبول، و انحصار الإنشاء في الإيجاب.

و توضيحه: أنّ الإجماع على اعتبار القبول يوجب تأخيره عن الإيجاب حتى يقع قبولا، فدلالة «اشتريت» على القبول إنّما تكون بسبب تأخيره، و إلّا كان إيجابا لا قبولا، إذ إنشاء التملّك لا يجعله قبولا إلّا إذا وقع عقيب تمليك الغير.

و الشاهد على أعمية إنشاء التملّك من القبول العقدي هو صحة تملك الملتقط للقطة، و كذا صحة تملّك الحائز- للمباحات الأصليّة- بالحيازة، مع أنّه لا تمليك من

ص: 462

متأخّرا (1) التزاما بالأثر عقيب إنشاء التأثير من البائع، بخلاف ما لو تقدّم، فإنّ مجرّد إنشاء المالكية لمال لا يوجب تحقق مفهوم القبول، كما لو نوى تملك المباحات أو اللقطة، فإنّه لا قبول فيه رأسا.

قلت (2): المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول من المشتري بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب. و أمّا وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمن للمطاوعة و قبول الأثر فلا.

فقد تبيّن من جميع ذلك (3): أنّ إنشاء القبول لا بدّ أن يكون جامعا لتضمن

______________________________

طرف آخر حتى يقبله الملتقط و الحائز، بل هو تملّك ابتدائي.

و على هذا فدلالة «اشتريت» على القبول منوطة بتأخره عن الإيجاب، إذ تقدّمه لا يلازم التملك القبولي. و حيث إنّ «بعت» المتأخر عنه إيجاب العقد، فيلزم قيام البيع بإيجابين و خلوّه عن القبول، و من المعلوم تقوّم العقود بركنين، إذ هو الفارق بينها و بين الإيقاعات القائمة بإنشاء واحد. و لا مفرّ من هذا المحذور إلّا إنكار تقدم القبول و لو كان بلفظ «اشتريت، تملكت، ملكت، ابتعت».

(1) حال من «اشتريت» و قوله: «التزاما» خبر «فيكون».

(2) هذا جواب الإشكال المزبور، و محصّله: أنّ المتيقن من الإجماع هو الرّضا بالإيجاب، و لا دليل على اعتبار أزيد من ذلك في القبول كالمطاوعة و غيرها.

(3) الظاهر أنّ المشار إليه هو ما أفاده في «قلت: المسلّم من الإجماع هو اعتبار القبول .. إلخ».

و محصله: أن القبول العقدي متقوم بأمرين، أحدهما: الرضا بالإيجاب، و الآخر: الدلالة على إنشاء نقل العوض إلى الموجب، و هذان متحققان في القبول المتقدّم على الإيجاب، إذا كان بلفظ «اشتريت» و أخواته.

و لا يعتبر في القبول أمر ثالث و هو المطاوعة الحقيقية للإيجاب، و لا إنشاء التأثر من تأثير البائع و تمليكه، إذ لو كان هذا دخيلا في القبول امتنع تقديمه في جميع ألفاظه.

ص: 463

إنشاء النقل، و للرّضا بإنشاء البائع، تقدّم أو تأخّر، و لا يعتبر (1) إنشاء انفعال نقل البائع.

فقد تحصّل مما ذكرناه (2) صحة تقديم القبول إذا كان بلفظ «اشتريت» وفاقا لمن عرفت (3).

بل (4) هو ظاهر إطلاق الشيخ في الخلاف «1»، حيث إنّه لم يتعرّض إلّا للمنع

______________________________

(1) حتى يجب تأخيره عن الإيجاب، تحقيقا لمعنى المطاوعة و الانفعال و التأثر.

(2) يعني: مما أفاده من أوّل القسم الثالث إلى هنا، حيث قال: «و إن كان التقديم بلفظ اشتريت .. إلخ». و مقصوده قدّس سرّه إثبات أنّ جواز تقديم القبول بلفظ مثل «اشتريت» و إن كان مقتضى الدليل و الصناعة، إلّا أنّه لم يتفرّد به حتى يستوحش من المصير إليه، بل ذهب جمع من أعيان الفقه إلى جوازه، كما سيأتي ذكرهم.

(3) بقوله في أوائل هذه المسألة: «و أمّا في باب النكاح- من المبسوط- فكلامه صريح في جواز التقديم- أي تقديم قبول البيع على إيجابه- كالمحقق رحمه اللّه في الشرائع، و العلّامة في التحرير، و الشهيدين في بعض كتبهما و جماعة ممّن تأخّر عنهما» راجع (ص 436).

(4) أي: جواز تقديم القبول على الإيجاب ظاهر إطلاق شيخ الطائفة في كتاب الخلاف، حيث إنّه- مع كونه في مقام بيان شرائط الصحة- لم يمنع إلّا عن الانعقاد بالاستيجاب و الإيجاب مثل «بعني، فيقول بعتك» و من المعلوم عدم الملازمة بين المنع عن الاستيجاب و الإيجاب، و بين المنع عن تقديم مثل «اشتريت». وجه عدم الملازمة قصور «بعني» عن الدلالة على القبول المعتبر في العقد من جهة عدم دلالة الأمر على الرضا الفعلي بالإيجاب حتى يملّك القابل ماله بعنوان العوضية للموجب. و هذا بخلاف «اشتريت» و أخواته المتكفلة لهذه الجهة.

______________________________

(1): الخلاف، ج 3، ص 39- 40، المسألة 56

ص: 464

عن الانعقاد بالاستيجاب و الإيجاب. و قد عرفت (1) عدم الملازمة بين المنع عنه و المنع عن تقديم مثل «اشتريت».

و كذا السيد في الغنية «1»، حيث أطلق اعتبار الإيجاب و القبول. و احترز بذلك عن انعقاده بالمعاطاة و بالاستيجاب و الإيجاب (2).

و كذا ظاهر إطلاق الحلبي في الكافي «2»، حيث لم يذكر تقديم الإيجاب من شروط الانعقاد (3).

و الحاصل: أنّ المصرّح بذلك (4)- فيما وجدت من القدماء- الحلّي

______________________________

(1) لعل مراده قدّس سرّه ما تقدّم تارة بقوله: «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها، لكن لم يتحقق بمجرّد الرّضا بالمعاوضة المستقبلة نقل في الحال ..»

و أخرى بقوله: «إلّا أن المحقق مع تصريحه في البيع بعدم كفاية الاستيجاب و الإيجاب صرّح بجواز تقديم القبول على الإيجاب».

و التصريح بجواز تقديم «اشتريت» و إن لم يذكر في العبارتين، إلّا إنّ القدر المتيقّن من جواز تقديم القبول على الإيجاب- عند الكل- هو «اشتريت» و أخواته، دون «قبلت و رضيت».

(2) فيستفاد من إطلاق اعتبار الإيجاب و القبول في عقد البيع شرطيتهما المطلقة سواء تقدم الإيجاب أم تأخّر.

(3) لقوله: «و اشترطنا الإيجاب و القبول، لخروجه من دونهما عن حكم البيع» و لم يشترط تقدم الإيجاب على القبول.

(4) أي: المنع عن تقديم القبول على الإيجاب.

______________________________

(1): غنية النزوع في الفروع و الأصول (ضمن الجوامع الفقهية) ص 524، و قد تقدم كلام السيد في ص 452

(2) الكافي في الفقه، ص 252

ص: 465

و ابن حمزة (1) «1».

فمن التعجب بعد ذلك (2) حكاية الإجماع عن الخلاف «2» على تقديم الإيجاب مع (3) أنّه لم يزد على الاستدلال لعدم كفاية الاستيجاب و الإيجاب «بأنّ (4) ما عداه مجمع على صحته و ليس على صحته دليل» و لعمري أنّ مثل هذا ممّا يوهن الاعتماد على الإجماع المنقول.

و قد نبّهنا على أمثال ذلك (5) في مواردها (6).

______________________________

(1) قال الأوّل: «فإن كان القبول متقدما على الإيجاب فالبيع غير صحيح».

و قال الثاني في عداد شروط صيغة البيع: «و الثامن من تقديم الإيجاب على القبول».

(2) يعني: بعد موافقة جمع، و إطلاق الشيخ في الخلاف، و إطلاق السيد و الحلبي، فإنّه بعد هذه الموافقة تكون دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب على القبول بعيدة جدّا.

(3) غرضه تضعيف الإجماع بما حاصله: أنّه لا دلالة في كلامه على دعوى الإجماع على ذلك، لأنّ مفاده دعوى الإجماع على صحة العقد بغير الاستيجاب و الإيجاب، و أين هذا من دعوى الإجماع على اعتبار تقديم الإيجاب؟ و المجدي إنّما يكون هذه الدعوى، و هي مما لا يدلّ عليه كلام الخلاف.

(4) متعلق بالاستدلال، يعني: استدلّ الشيخ بقوله: «انّ ما عداه .. إلخ».

(5) يعني: أمثال هذا الموهن، و هو مصير جمع كثير إلى ما يخالف الإجماع، إذ يستكشف بهذه المخالفة عدم اتفاق الفقهاء على الحكم حتى يحرز به رأي الامام عليه السّلام.

(6) كما نبّه في بحث الإجماع المنقول على الإشكال العام في الإجماعات المنقولة- بعد توجيه دعاوي الإجماع و نقل كلام المحقق الشوشتري في كشف القناع- بما لفظه:

«و بالجملة: فالإنصاف بعد التأمّل و ترك المسامحة بإبراز المظنون بصورة القطع-

______________________________

(1): السرائر الحاوي، ج 2، ص 243، الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص 740

(2) قد تقدم في ص 433، و الحاكي هو الشهيد في غاية المراد، و الشهيد الثاني في المسالك.

ص: 466

نعم (1) يشكل الأمر بأنّ المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب، و لا فرق بين المتعارف هنا و بينه في المسألة الآتية و هو الوصل بين الإيجاب و القبول، فالحكم (2) لا يخلو عن شوب الإشكال.

ثم إنّ ما ذكرنا (3) جار في كلّ قبول يؤدّى بإنشاء مستقل كالإجارة التي

______________________________

كما هو متعارف محصّلي عصرنا- أنّ اتفاق من يمكن تحصيل فتاواهم على أمر كما لا يستلزم عادة موافقة الإمام عليه السّلام، كذلك لا يستلزم وجود دليل معتبر عند الكلّ من جهة أو من جهات شتّى. فلم يبق في المقام إلّا أن يحصّل المجتهد أمارات أخر من أقوال باقي العلماء و غيرها، ليضيفها إلى ذلك، فيحصل من مجموع المحصّل له و المنقول إليه- الذي فرض بحكم المحصّل من حيث وجوب العمل به تعبّدا- القطع في مرحلة الظاهر باللازم، و هو قول الامام عليه السّلام أو وجود دليل معتبر الذي هو أيضا يرجع إلى حكم الإمام عليه السّلام بهذا الحكم الظاهري المضمون لذلك الدليل .. إلخ» «1»، فراجع.

(1) استدراك على ما قوّاه من جواز تقديم القبول على الإيجاب، و حاصل الإشكال: أنّ المتعارف من الصيغة لمّا كان تقديم الإيجاب على القبول كان هذا التعارف مقيّدا لإطلاق وجوب الوفاء بالعقود، كتقييد تعارف الموالاة بين الإيجاب و القبول لإطلاق الأدلة. و لا فرق بين التعارف في المسألتين، و لا وجه للتفكيك بينهما بأن يكون موجبا لانصراف الإطلاق في مسألة الموالاة، و لا يكون موجبا له في مسألة تقدم الإيجاب على القبول. و لذا يشكل الحكم بجواز تقديم القبول على الإيجاب و إن كان التقديم مقتضى الصناعة.

(2) هذه نتيجة الإشكال في تقديم القبول بلفظ «اشتريت». و بهذا تمّ الكلام في المقام الأوّل و هو حكم تقدم القبول على الإيجاب في خصوص عقد البيع. و سيأتي الكلام في المقام الثاني و هو حكم تقدم القبول في سائر العقود.

(3) من جواز تقديم القبول إذا كان متضمّنا لإنشاء مستقلّ في نفسه، مثل «اشتريت، ابتعت» و نحوهما، و إن لم يكن قبولا بالمعنى الأخصّ، و هذا شروع في

______________________________

(1): فرائد الأصول، ص 63 و 64 (طبعة رحمة اللّه)

ص: 467

يؤدّى قبولها بلفظ «تملّكت منك منفعة كذا، أو ملكت» و النكاح الذي يؤدّي

______________________________

المقام الثاني، و المستفاد من كلامه تقسيم ألفاظ القبول في سائر العقود إلى أقسام، و أنّه يجوز تقديمه على الإيجاب في بعضها، دون بعض. و قبل توضيح الأقسام ينبغي التنبيه على أنّ المصنف قدّس سرّه ذكر وجهين في أقسام ألفاظ القبول.

أحدهما: ما أفاده بقوله: «ثم إنّ ما ذكرنا جار في كل قبول .. إلى قوله: و قد عرفت أنّ قبلت و رضيت مع التقديم لا يدل ..».

و ثانيهما: ما أفاده بقوله: «فتلخّص مما ذكرنا إلى قوله: فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين». و يمكن أن يختلف مفاد الوجهين كما سيأتي ذكره في آخر البحث.

و توضيح الوجه الأوّل هو: أنّه إمّا أن يكون القبول التزاما بنقل مال أو التعهّد بشي ء آخر- غير نقل المال- بعنوان العوضية، و إمّا أن يكون مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون أن يتضمّن نقل مال إلى الموجب، أو التعهّد له بشي ء آخر.

و الأوّل إمّا أن يكون الالتزام القبولي مغايرا للإيجاب، أو مماثلا له. و الثاني إمّا أن يكون القبول مطاوعة للإيجاب، و إمّا أن يكون مجرّد الرضا به، فهذه أقسام أربعة.

أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة و النكاح، فإن أنشئ قبول الإجارة بلفظ «قبلت و رضيت» تعيّن تأخّره عن الإيجاب، لما تقدم في تأخّره عنه في البيع. و إن أنشئ بلفظ «ملكت أو تملكت منفعة الدار بكذا» جاز تقديمه، لدلالته على إنشاء نقل الأجرة بعنوان العوضية للمنفعة، فيكون نظير إنشاء الشراء بلفظ «اشتريت و تملّكت».

و كذا الحال في قبول النكاح، فإن أنشئ بلفظ «قبلت» لزم تأخيره. و إن أنشئ بلفظ «نكحت، تزوّجت» جاز تقديمه على إيجاب الزوجة، لدلالة «تزوّجت» على التعهد بالزوجية و بأحكامها المترتبة عليها، سواء تقدّم على الإيجاب أم تأخّر.

و أمّا القسم الثاني- و هو كون القبول التزاما بشي ء مماثل للإيجاب-

ص: 468

..........

______________________________

فكالمصالحة المعوّضة، كما إذا صالح زيد عمروا على الدار بألف دينار، فكلّ منهما مصالح و متصالح، من جهة إنشائهما التسالم على مبادلة الدار بالألف. و حكمه لزوم تأخير القبول عن الإيجاب، و ذلك لأجل تركّب العقد من إيجاب و قبول. و لمّا كان هذا الصلح قائما بهما على السّوية- و ليس كالبيع و الإجارة- توقف تمييز القابل عن الموجب بأن ينشأ القبول بلفظ «قبلت» دون «صالحت» و إلّا يلزم تركّب العقد من إيجابين، و هو ممنوع، فلا مناص من إنشاء القبول بلفظ «قبلت» و يلزم تأخيره حينئذ عن الإيجاب، لما تقدم في البيع.

و أمّا القسم الثالث- و هو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي ء إلى الموجب، و إنّما هو مجرّد الرضا بالإيجاب- فإن أنشئ بما لا يتضمن المطاوعة جاز تقديمه على الإيجاب، كإنشاء قبول الهبة و القرض بلفظ «ملكت» فإنّه يدلّ على الرضا بتمليك الواهب و المقرض، و لا يفهم منه الانفعال بالإيجاب و المطاوعة له، فلا مانع من تقديمه.

و كذا الحال في الصلح على إسقاط حقّ أو إسقاط دين، كما إذا كان زيد مديونا لعمرو بدينار فصالحه عمرو على إبراء ذمته، فلا مانع من سبق قبول زيد على إيجاب عمرو، لأنّ قبوله محض الرضا بالإيجاب.

و إن أنشئ بما يدلّ على المطاوعة لزم تأخيره عن الإيجاب، كما في إنشاء قبول الرّهن و الهبة و القرض بلفظ «ارتهنت، اتهبت، اقترضت» فإنّ قبول هذه العقود و إن لم يدل على الالتزام بنقل شي ء إلى الموجب، بل هو مجرّد الرّضا بالإيجاب، لكن يمتنع تقديمه من جهة ظهور الهيئة في الانفعال بالإيجاب و المطاوعة له، فلا بد من سبق فعل من الموجب حتى يصح الانفعال به.

هذا توضيح القسم الثالث من ألفاظ القبول. و قد ظهر به القسم الرابع أيضا، لأنّ القبول في عقد واحد كالهبة يختلف حكمه من حيث جواز تقديمه إن لم يدل على

ص: 469

قبوله بلفظ «نكحت و تزوّجت» (1).

و أمّا (2) ما لا إنشاء في قبوله إلّا «قبلت» أو ما يتضمّنه (3) ك «ارتهنت» فقد يقال: بجواز تقديم القبول فيه، إذ لا التزام في قبوله لشي ء، كما كان (4) في قبول

______________________________

المطاوعة، و عدم جوازه إن تضمّن المطاوعة.

هذا تقريب ما أفاده المصنف قدّس سرّه من أقسام القبول، و سيأتي تطبيق المتن عليها.

(1) هذا إشارة إلى القسم الأوّل، و مثاله قبول الإجارة و النكاح إذا كان بلفظ «تملّكت و تزوّجت» لا ما إذا كان بلفظ «قبلت». و حكمه جواز تقديم القبول فيه كجوازه في البيع إذا كان بلفظ «اشتريت». و قد تقدّم توضيحه بقولنا: «أمّا القسم الأوّل فكالقبول في بابي الإجارة و النكاح .. إلخ».

(2) هذا إشارة إلى قسم آخر من ألفاظ القبول في عدة من العقود، و هو القبول الذي لا يدلّ على إنشاء مستقل، لعدم دلالته على التزام بشي ء، على حدّ دلالة «اشتريت» على الالتزام بنقل ماله إلى البائع، فالمنشأ في هذا القسم الثاني ليس إلّا الرّضا بالإيجاب، نظير قبول الرّهن و الهبة و القرض.

و قد يقال بجواز تقديمه على الإيجاب، لما مرّ من أن الرّضا كما يجوز تعلّقه بأمر حاليّ كذلك يجوز تعلقه بأمر استقبالي.

لكن المصنف قدّس سرّه منع من إطلاق هذا، و فصّل بين إنشاء القبول بما يدلّ على مجرّد الرّضا بالإيجاب، و بين ما يدلّ على المطاوعة لإنشاء الغير و الانفعال به. و قد تقدّم توضيحه بقولنا: «و أمّا القسم الثالث و هو عدم تكفل القبول للالتزام بنقل شي ء للموجب .. إلخ».

(3) يعني: يتضمّن القبول نفس الرّضا بالإيجاب، و لا يتضمّن الالتزام بشي ء للموجب.

(4) هذا بيان للمنفي و هو «الالتزام بنقل شي ء».

ص: 470

البيع التزام بنقل ماله إلى البائع، بل لا ينشأ به معنى غير الرّضا بفعل الموجب.

و قد تقدّم (1) أنّ الرّضا يجوز تعلّقه بأمر مترقّب كما يجوز تعلقه بأمر محقّق، فيجوز أن يقول: «رضيت برهنك هذا عندي» فيقول: «رهنت».

و التحقيق (2) عدم الجواز، لأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقق عنوان المرتهن. و لا يخفى (3) أنه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقق الرّهن، لأنّ (4) الإيجاب إنشاء للفعل [للنقل] و القبول إنشاء للانفعال [للانتقال].

و كذا (5) القبول في الهبة و القرض، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيهما التزام بشي ء، و إنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب.

______________________________

(1) حيث قال: «إنّ الرّضا بشي ء لا يستلزم تحققه قبله، فقد يرضى الإنسان بالأمر المستقيل ..» راجع (ص 442).

(2) غرضه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب في هذا القسم الثاني، لأنّ القبول إنشاء للانفعال المترتّب على الفعل الذي هو الإيجاب، فإنّ عنوان «المرتهن، و المقترض» مثلا لا يتحققان إلّا بعد حصول الإيجاب، هذا.

و فيه: أنّ عنوان المرتهن يتحقق بالرّضا بحصول الرّهن، و لا يتوقف على إنشاء القبول بمفهوم يتضمن معنى المطاوعة. و قد تقدم منه قدّس سرّه عدم نهوض دليل على اعتبار إنشاء القبول بمفهوم متضمّن لمعنى المطاوعة.

(3) يعني: و من المعلوم أنّ «الارتهان» يكون على هيئة «الافتعال» الذي أشرب فيه مطاوعة فعل الغير.

(4) تعليل لقوله: «لا يصدق إلّا بعد تحقق الرّهن» و محصله: أنّ إنشاء الرّهن إنشاء للفعل، و قبول الرهن إنشاء لمطاوعة فعل الراهن.

(5) يعني: أنّ القبول في عقدي الهبة و القرض يكون كقبول الرّهن في أنّهما من حيث عدم تضمّنهما إنشاء نقل مال إلى الموجب- ينبغي جواز تقديمهما على الإيجاب، لكن مانع تقديم «ارتهنت» و هو المطاوعة مانع عن تقديم «اتهبت و اقترضت».

ص: 471

و نحوها (1) قبول المصالحة المتضمنة للإسقاط و التمليك بغير عوض.

و أمّا المصالحة (2) المشتملة على المعاوضة فلمّا كان ابتداء الالتزام بها

______________________________

(1) يعني: و نحو القبول في الهبة و الرّهن و القرض قبول الصلح المتضمّن لإسقاط ما في الذمة، أو حقّ، أو المتضمن للتمليك بغير عوض، إذ ليس في قبولها التزام بشي ء، بل ليس إلّا الرّضا بالإيجاب، فيجوز تقديم القبول فيها على الإيجاب.

(2) محصّله: إبداء الفرق بين المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض، و بين المصالحة المشتملة على المعاوضة. و حاصل الفرق بينهما هو: أنّ الالتزام القبولي ليس مغايرا للالتزام الإيجابي، فالبادي منهما لا محالة يتصف بالإيجاب، لصدق الإيجاب- و هو إنشاء التسالم- لغة و عرفا عليه، فلو كان الإنشاء التسالمي المتأخر مثله لتركّب العقد من إيجابين. و الإجماع قام على توقف العقد على القبول، فلا بدّ من إنشاء القبول بلفظ القبول و نحوه ممّا يفيده حتى يتألف العقد من إيجاب و قبول، و من المعلوم اعتبار تأخّر لفظ «قبلت» عن الإيجاب.

و بعبارة أخرى: انّ هنا أمرين يقتضيان إنشاء قبول المصالحة المعوّضة بلفظ «قبلت» و يتعيّن تأخّره عن الإيجاب.

الأوّل: أنّه يجوز لكل واحد من المتصالحين الابتداء بإنشاء الصلح، فكلّ مصالح و متصالح. و وجهه: استواء نسبة عنوان «الصلح» إليهما. و ليست المصالحة كالبيع في كون أحد طرفي المعاملة بائعا و موجبا، و الآخر قابلا و مشتريا، فإذا أرادا المصالحة على الكتاب بدينار جاز لكلّ منهما إنشاء المعاملة، و لا يتعيّن الإيجاب من مالك الكتاب كما كان في البيع.

الثاني: أنّ الإجماع انعقد على توقف عنوان العقد على إيجاب أحد الطرفين و قبول الآخر له، و لا يحصل عقد بإيجابين و إن كانا مرتبطين.

و نتيجة هذين الأمرين: أنّه يتعيّن إنشاء قبول الصلح بلفظ «قبلت» إذ لو أنشأ كلّ منهما بلفظ «صالحت»- بمقتضى جوازه لهما- لزم خلوّ عقد الصلح من قبول،

ص: 472

جائزا من الطرفين و كان نسبتها إليهما على وجه سواء، و ليس الالتزام الحاصل من أحدهما أمرا مغايرا للالتزام الحاصل من الآخر- كان (1) البادي منهما موجبا، لصدق الموجب عليه (2) لغة و عرفا. ثمّ لما انعقد الإجماع [1] على توقف العقد على القبول (3) لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول، إذ لو قال أيضا: «صالحتك» كان إيجابا آخر، فيلزم تركّب العقد من إيجابين (4).

و تحقّق من جميع ذلك (5): أنّ تقديم القبول في الصلح أيضا (6) غير جائز، إذ لا قبول فيه بغير لفظ: «قبلت و رضيت» و قد عرفت (7) أنّ «قبلت و رضيت»

______________________________

و تركّبه من إيجابين، و هو ممنوع. و حيث إنّ لفظ «قبلت» مما يلزم تأخّره عن الإيجاب- لأنّه ليس مطلق الرّضا بالإيجاب، بل هو الرّضا المتضمن للنقل في الحال إلى الموجب- تعيّن تأخره عن إيجاب الصلح.

(1) جواب قوله: «فلمّا كان ..» و قد عرفت وجه تعيّن البادي بالإنشاء في الإيجاب، و المتأخر في القبول.

(2) أي: صدق الموجب على البادي. و وجهه تصدّيه لإنشاء عنوان الصلح بقوله: «صالحتك» فهو المصالح بحسب اللغة، لتلبسه بالعنوان، و كذا بحسب العرف.

(3) يعني: فلا يجوز إنشاء قبول الصلح مقدّما على الإيجاب، لعدم دلالته على نقل العوض في الحال، مع أنّه لا بد في القبول من دلالته عليه.

(4) و من المعلوم عدم كون الإيجابين المنضم أحدهما إلى الآخر عقدا.

(5) المشار إليه قوله: «و أمّا المصالحة المشتملة على المعاوضة» إلى قوله: «فيلزم تركّب العقد من إيجابين».

(6) يعني: كما لا يجوز في كل عقد معاوضي ينشأ قبوله بلفظ «قبلت و رضيت».

(7) يعني قبوله: «لأنّ المشتري ناقل كالبائع، و هذا لا يتحقق إلّا مع تأخّر

______________________________

[1] لا يخفى أنّه قد تقدم منه قدّس سرّه قريبا كون المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول بالمعنى الشامل للرّضا بالإيجاب، و من المعلوم حصول هذا بلفظ «صالحتك» أيضا.

ص: 473

مع التقديم لا يدلّ على إنشاء لنقل العوض في الحال.

فتلخص ممّا ذكرنا (1): أنّ القبول في العقود على أقسام، لأنّه إمّا أن يكون التزاما بشي ء من القابل كنقل مال عنه، أو زوجيّة، و إمّا أن لا يكون فيه سوى الرّضا بالإيجاب.

و الأوّل (2) على قسمين، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة، أو متغايرا كالاشتراء.

و الثاني (3) أيضا على قسمين، لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان (4) و الاتّهاب و الاقتراض، و إمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من

______________________________

الرّضا عن الإيجاب، إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال ..» راجع (ص 443).

(1) يعني: ممّا ذكرناه من قولنا: «و التحقيق أنّ القبول إمّا أن يكون بلفظ قبلت .. إلخ» و هذا التلخيص وجه ثان لبيان أقسام ألفاظ القبول في جميع العقود، سواء أ كانت عهدية- معاوضية و غير معاوضية- أم إذنية.

و محصّل هذا التفصيل: أنّ القبول على أربعة أقسام، لأنّه إمّا التزام يغاير الالتزام الإيجابي كما في الشراء و الإجارة و النكاح، و إمّا موافق له كالصلح المعاوضي، و إمّا رضا بالإيجاب مع المطاوعة، أو بدونها.

(2) و هو ما يكون القبول فيه التزاما بشي ء من القابل، في قبال التزام الموجب.

(3) و هو ما يكون القبول فيه مجرّد الرّضا بالإيجاب.

(4) لا يخفى أنّ المصنف قدّس سرّه فرّق في الوجه الأوّل بين الرّهن و بين الهبة و القرض، حيث حكم بتأخير قبول الرهن من جهة اعتبار المطاوعة في «ارتهنت و قبلت» و لكن مقتضى تعليله في الهبة و القرض بأنّه «لا يحصل من إنشاء القبول منهما التزام بشي ء، و إنّما يحصل به الرّضا بفعل الموجب» و كذا تنظير الصلح على الإبراء- أو التمليك بغير عوض- بالهبة هو جواز تقديم قبول الهبة و القرض على الإيجاب، و حينئذ يختلف الوجهان المذكوران في حصر ألفاظ قبول العقود، فمقتضى

ص: 474

الرّضا بالإيجاب كالوكالة و العارية و شبههما (1)، فتقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني (2) من كلّ من القسمين (3).

______________________________

الوجه الأوّل جواز تقديم القبول في الهبة و القرض. و مقتضى الوجه الثاني لزوم تأخير قبولهما، هذا.

أقول: لا يبعد أن يكون مقصود المصنف قدّس سرّه من تجويز تقديم القبول في الهبة و القرض في الوجه الأوّل هو إنشاء قبولهما بغير لفظ «اتهبت و اقترضت» كما إذا أنشأ المتهب و المقترض ب «ملكت و تملكت» فإنّه لا مانع من تقديم هذا القبول، لأنّه مجرّد الرّضا بالإيجاب، بلا دلالة على المطاوعة.

و مقصوده قدّس سرّه في الوجه الثاني من امتناع تقديم قبول الهبة و القرض هو إنشاؤه بما يدلّ على المطاوعة، كقول المتهب و المقترض «اتهبت، اقترضت» فإنّه من جهة ظهوره في الانفعال بالإيجاب يتعيّن تأخّره عنه كتأخر «قبلت».

و بهذا لا يبقى منافاة بين الوجهين، و إن كان الوجه الثاني أوفى بيانا لأقسام قبول العقود، و لذا تعرّض فيه لتقديم قبول العقود الإذنية كالوكالة، و لم يتعرض له في الوجه الأوّل.

(1) كالوديعة من العقود الجائزة.

(2) و هو ما أشار إليه بقوله: «أو متغايرا كالاشتراء» و حاصله: كون الالتزام القبولي مغايرا للالتزام الإيجابي، فإنّ الالتزام الإيجابي البيعيّ في اعتبار العرف هو نقل المال على أن يكون معوّضا عن مال الغير، و الالتزام الشرائي في اعتبارهم هو نقل ماله على أن يكون عوضا عن مال الغير.

(3) قد عرفت الوجه الثاني من وجهي القسم الأوّل. و أمّا الوجه الثاني من وجهي القسم الثاني فهو كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون اعتبار المطاوعة فيه. و قد أشار إليه بقوله: «و إمّا إن لا يثبت فيه اعتبار أزيد من الرضا بالإيجاب .. إلخ».

ص: 475

ثم (1) إنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفيّ، فكلّ من التزم بنقل ماله على وجه العوضية لمال آخر يسمّى مشتريا، و كلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالا من آخر يسمّى بائعا.

و بعبارة أخرى: كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع، و كلّ من ملك (2) مال غيره بعوض ماله فهو المشتري، و إلّا (3) فكلّ منهما في الحقيقية يملّك ماله غيره بإزاء مال غيره، و يملك مال غيره بإزاء ماله.

______________________________

(1) غرضه قدّس سرّه من هذه العبارة إلى آخر البحث- بعد تقسيم العقود بلحاظ جواز تقديم القبول على الإيجاب- هو تمييز البائع عن المشتري حتى يظهر أنّ قبول البيع إن كان بلفظ «قبلت» لم يصح تقديمه، و إن كان بلفظ «اشتريت» جاز تقديمه.

و هذا المطلب قد سبق بيانه في موضعين، أحدهما: في ثالث تنبيهات المعاطاة، و الآخر في هذا المبحث في جواز تقديم «اشتريت» على الإيجاب، حيث قال: «لأنّه- أي القبول- إنشاء ملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضا، ففي الحقيقة إنشاء المعاوضة كالبائع، إلّا أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه، و المشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله .. إلخ».

و على هذا فحاصل ما أفاده هنا هو: أنّ الالتزام بالنقل و التمليك متحقق في كلّ من الإيجاب و القبول، فلا فرق بحسب الدّقة بينهما، و لكن الفارق بينهما في مقام الإثبات موكول الى العرف، فمن التزم بنقل ماله إلى الغير على أن يكون عوضا عمّا ملّكه الغير سمّي مشتريا، و من التزم بنقل ماله على أن يكون عوضه مال الآخر سمّي بائعا.

(2) أي: تملّك مال الغير بعوض مال نفسه.

(3) أي: مع الغضّ عن الاعتبار العرفي يصدق عنوان «البائع و المشتري» على كلّ واحد منهما، لأنّ البيع «مبادلة مال بمال» و الشراء هو «ترك شي ء و أخذ آخر» و من المعلوم انطباق التعريفين على كلا المتبايعين.

ص: 476

..........

______________________________

هذا تمام الكلام في توضيح كلمات المصنف قدّس سرّه في بحث تقديم الإيجاب على القبول [1].

______________________________

[1] لا يخفى أنّ البحث في هذه المسألة يقع في مقامين:

الأوّل: في الاحتمالات و الأقوال المتطرقة فيها.

و الثاني: فيما ينبغي المصير إليه و الاعتماد عليه.

أمّا المقام الأوّل: فنخبة الكلام فيه: أنّ في المسألة احتمالات خمسة، بل أقوالا كذلك.

الاحتمال الأوّل: و هو الأشهر- كما في المختلف- لزوم تقديم الإيجاب على القبول مطلقا. و في التذكرة في شرائط الصيغة: «تقديم الإيجاب على الأقوى» و نحوه ما في الإيضاح و عن التنقيح. و في جامع المقاصد و عن صيغ عقوده: «و الأصح الاشتراط» «1».

و عن تعليقه على الإرشاد: «انه الأظهر» بل في غاية المراد و المسالك «ادّعى عليه الشيخ في الخلاف الإجماع» «2» و في النسبة منع كما في مفتاح الكرامة.

و كيف كان فالدليل على هذا القول أمور ثلاثة، و هي بين دليل عقلي و نقلي.

أحدها: أصالة عدم ترتب الأثر بدون تقديم الإيجاب على القبول، بعد البناء على اختصاص عموم أدلة الصحة بهذه الصورة، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى إذ لا منشأ لهذا الاختصاص إلّا غلبة تقدّم الإيجاب على القبول، و هي لا تصلح للتخصيص، و الانصراف المسبّب عنها أيضا لا ينهض لتخصيص العمومات. و تمسّك الأصحاب بتلك العمومات في دفع ما يشك في اعتباره في العقد أقوى شاهد على عدم سقوط عمومها- بالانصراف- عن الاعتبار.

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 4، ص 60

(2) غاية المراد، ص 81، مسالك الأفهام، ج 3، ص 153

ص: 477

______________________________

الثاني: دلالة العقل على كون القبول فرع الإيجاب، و الفرع لا يتقدّم على الأصل، و إلّا يلزم الخلاف، هذا. و سيأتي البحث فيه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: الإجماع الذي حكاه الشهيدان قدّس سرّهما في غاية المراد و المسالك عن الشيخ في الخلاف.

لكن فيه أوّلا: أنّ إرادة الإجماع المصطلح من عبارة الخلاف مشكلة، لظهورها في إرادة القدر المتيقن، كتيقّن الطهارة مع الامتزاج في تطهير المياه. و تيقّن صحة الصلاة مع التسبيحات الأربع ثلاث مرات، فإنّ التيقن في مقام تحصيل العلم بالصحة غير الإجماع على اعتبار ما شكّ في اعتباره، كما لا يخفى.

إلّا أنّ الإنصاف ظهور كلام الشيخ في الإجماع لا في القدر المتيقّن، و ذلك بقرينة قوله: «ان ما اعتبرناه مجمع» كما ذكرناه في التوضيح في (ص 434).

و ثانيا: أنّ الإجماع مع اختلاف الفقهاء و تعدّد الأقوال غير حاصل.

و ثالثا:- بعد تسليم الإجماع- أنّه ليس بحجة، لكونه من الإجماع المنقول كما ثبت في محله.

و رابعا: بعد تسليم حجية المنقول- أنّه يكون حجة إذا لم يكن مدركيا، و في المقام يحتمل أن يكون مستند المجمعين أصالة الفساد، أو تفرّع القبول على الإيجاب.

و مع هذا الاحتمال لا يكون إجماعا تعبديّا كاشفا قطعيا عن السّنة، هذا.

الاحتمال الثاني في المسألة: عدم اعتبار التقدّم مطلقا، و هو خيرة الشيخ في نكاح المبسوط، و المحقق في الشرائع، حيث قال فيه: «و هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ فيه تردد، و الأشبه عدم الاشتراط» «1». و العلّامة في التحرير، قال فيه: «و الأقرب عدم اشتراط تقديم الإيجاب» «2». و الشهيدين في بعض كتبهما كاللّمعة و الرّوضة، حيث

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 2، ص 13

(2) تحرير الأحكام، ج 1، ص 164

ص: 478

______________________________

قالا فيهما: «و لا يشترط تقديم الإيجاب على القبول و إن كان تقديمه أحسن» «1».

و قال في الدروس: «و لا ترتيب بين الإيجاب و القبول على الأقرب وفاقا للقاضي رحمه اللّه» «2».

و جعله الشهيد الثاني في المسالك هو الأقوى «3».

و في الكفاية: «و هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول؟ الأقرب العدم» «4».

و في مجمع البرهان «أنّه الأظهر» «5».

و قال الشيخ قدّس سرّه في نكاح المبسوط: «و أمّا ان تأخّر الإيجاب فسبق القبول، فإن كان في النكاح صحّ بلا خلاف، لخبر الساعدي. و إن كان هذا في البيع فقال: بعنيها، فقال:

بعتكها صحّ عندنا و عند قوم من المخالفين» «6».

و الوجه في هذا القول أمران:

أحدهما: الإطلاقات السليمة عن المقيّد، و قد عرفت في وجوه القول الأوّل عدم صلاحية تلك الوجوه لتقييد الإطلاقات، و من المعلوم صدق البيع و التجارة و العقد على ما تقدّم فيه القبول على الإيجاب، فتشمله العمومات و الإطلاقات، هذا.

ثانيهما: الروايات الواردة في باب النكاح الدالة على جواز تقديم القبول تارة بلفظ المضارع، كما في خبر أبان المتقدم المتضمن لقول الرّجل: «أتزوّجك على كتاب اللّه و سنّة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» الحديث. و أخرى بصيغة الأمر كما في خبر سهل بن سعد

______________________________

(1): الروضة البهية، ج 3، ص 225

(2) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191

(3) مسالك الأفهام، ج 3، ص 154

(4) كفاية الأحكام، ص 89

(5) مجمع الفائدة و البرهان، ج 8، ص 144

(6) المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 194

ص: 479

______________________________

الساعدي: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاءت إليه امرأة فقالت: يا رسول اللّه انّي قد وهبت نفسي لك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا إربة لي في النساء. فقالت: زوّجني بمن شئت من أصحابك، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه زوّجنيها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل معك شي ء تصدقها، فقال و اللّه ما معي إلّا ردائي هذا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن أعطيتها إيّاه تبقى و لا رداء لك، هل معك شي ء من القرآن؟ فقال: نعم سورة كذا و كذا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: زوّجتكها على ما معك من القرآن «1».

بناء على كون القبول فيهما هو قول أبان: «أتزوّجك» و قول ذلك الصحابي:

«زوّجنيها» و الإيجاب قول المرأة: «نعم» و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد فصل طويل: «زوّجتكها على ما تحسن» أو «على ما معك من القرآن» و إلّا لا يصحّ الاستدلال بهما كما لا يخفى.

و إشكال اختصاصهما بالنكاح مندفع بأولوية غير النكاح منه، و بدعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي و المضارع و الأمر، و أنّ كلّ من قال بجواز التقديم في الأمر قال به في الماضي. بخلاف العكس، لأنّ بعض من قال بالجواز في الماضي قال بالعدم في الأمر، بل هذا أحد الأقوال في المسألة كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى.

أقول: العمدة في إثبات القول الثاني- أعني به عدم الاشتراط مطلقا- هو الوجه الأوّل أي الإطلاقات، لما تقدم من منع أولوية غير النكاح منه. كما أنّ دعوى الجزم بعدم الفرق بين الماضي و غيره ممنوعة، إذ لا منشأ لها مع احتمال دخل الخصوصية كما لا يخفى. فالأولى الاقتصار على الوجه الأوّل، و هو كاف في إثبات المدّعى.

الاحتمال الثالث: في المسألة هو التفصيل بين النكاح و غيره، بالجواز في الأوّل مطلقا و إن كان بغير الأمر، و العدم في الثاني و إن كان بالأمر.

و لعلّ وجهه بالنسبة إلى الجواز في النكاح منع الإطلاق في الأدلّة العامة في النكاح و غيره، لكونها في مقام التشريع، لا لبيان خصوصيات العقود، و اختصاص دليل الجواز كروايتي أبان و سهل المتقدمتين بالنكاح، فالمرجع في غيره من سائر العقود

______________________________

(1): عوالي اللئالي، ج 3، ص 312، الحديث: 144

ص: 480

______________________________

أصالة الفساد المقتضية لعدم الجواز.

و أمّا وجه التعميم إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلعلّه دعوى القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره، و لا أقلّ من التساوي، هذا.

و فيه: أمّا بالنسبة إلى الجواز في النكاح فلمنع عدم الإطلاق في الأدلة العامة، و مقتضاه جواز تقديم القبول على الإيجاب مطلقا، من دون حاجة إلى التمسّك بدليل خاص كروايتي أبان و سهل المتقدمتين، حتّى يقال باختصاص جواز تقديم القبول حينئذ بالنكاح، و العدم في غيره لأصالة الفساد. بل مقتضى الإطلاقات عدم الفرق بين النكاح و غيره.

و أمّا بالنسبة إلى جهة تعميمه إلى جميع ألفاظ القبول في النكاح فلمنع القطع بأولوية الماضي بالجواز من غيره، بعد احتمال دخل خصوصية المضارع و الأمر في النكاح.

الاحتمال الرابع: التفصيل بين كون القبول بصيغة الأمر، فيجوز مطلقا، و بين كونه بغيرها، فلا يجوز مطلقا. و لعلّ وجهه في العقد الإيجابي هو اختصاص دليل الجواز بالأمر، و يتعدّى عن مورده- أعني به النكاح- إلى غيره بالأولوية، فيجوز تقديم القبول بلفظ الأمر في غير النكاح أيضا.

و في العقد السلبي- أعني به عدم الجواز بغير الأمر في النكاح و غيره- هو قصور الإطلاقات، لانصرافها إلى العقود المتعارفة، فيرجع في غير النكاح- الذي هو مورد النص و ما يلحق به بالفحوى- إلى أصالة الفساد القاضية ببطلان العقد المقدّم قبوله بغير الأمر على إيجابه، هذا.

و فيه ما لا يخفى، إذ في الأوّل أوّلا: أنّ دليل النكاح لا يختصّ بالأمر- بعد تسليم كون الأمر، و هو قول الصحابي: «زوّجني» في مقام إنشاء القبول، لا المقاولة- لورود المضارع أيضا في رواية أبان المتقدمة.

ص: 481

______________________________

و ثانيا: منع أولويّة غير النكاح من النكاح حتى يتعدّى إلى غير النكاح كما تقدّم آنفا.

و في الثاني: منع قصور الإطلاقات و انصرافها إلى العقود المتعارفة كما عرفت أيضا. فالإطلاق محكّم، و مقتضاه جواز تقديم القبول- مطلقا- على الإيجاب بعد صدق العقد العرفي، هذا.

الاحتمال الخامس: الذي اختاره المصنف قدّس سرّه هو التفصيل بين ألفاظ القبول، و الظاهر أنّه أوّل من فصّل في المقام.

و محصّل ما أفاده هو: أنّ إنشاء القبول تارة يكون بلفظ «ملكت أو تملّكت أو اشتريت أو ابتعت» و نحوها من الألفاظ الظاهرة في إنشاء التملّك و التمليك التبعي.

و أخرى يكون بلفظ «قبلت أو رضيت أو أمضيت أو أنفذت» و نحوها ممّا له ظهور في إنشاء التمليك مع سبق الإيجاب، بحيث لا ظهور له في ذلك بدون سبقه، نظير تحريك الرأس في مقام الجواب عن السؤال.

و ثالثة يكون بما هو ظاهر في الاستدعاء كلفظ الأمر، مثل قول المشتري: «بعني الكتاب الفلاني بألف» و قول البائع له: «بعته إياك بكذا».

أمّا القسم الأوّل: فيجوز تقديمه على الإيجاب. و الوجه فيه عدم اعتبار عنوان القبول و المطاوعة في صدق مفهوم العقد العرفي، ضرورة أنّ العقد متقوم بالتزامين مرتبطين مبرزين، و من المعلوم حصول إبرازهما بلفظ: «ملكت» قبولا، و «بعت» مثلا إيجابا، لأنّ معنى «ملكت و اشتريت» و نحوهما ممّا تقدّم هو إنشاء ملكية المبيع بإزاء ماله عوضا، فالمشتري ينشئ المعاوضة حقيقة كالبائع، غاية الأمر أنّ البائع ينشئ ملكية ماله لصاحبه بإزاء مال صاحبه، و المشتري ينشئ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله. فكلّ منهما يخرج ماله إلى صاحبه، و يدخل مال صاحبه في ملكه، إلّا أنّ الإدخال في الإيجاب مفهوم من ذكر العوض، و الإدخال في القبول يفهم من نفس اللفظ و هو

ص: 482

______________________________

«ملكت» و نحوه، فإنّ معناه ملكت المبيع بإزاء الثمن بذكر العوض و هو الدينار.

و بالجملة: فما هو المعتبر في القبول- من الرّضا بالإيجاب، و نقل الثمن في الحال- متحقق. أمّا الرّضا فواضح. و أمّا الثاني فلأنّه أنشأ ملكيّة المبيع بإزاء ماله عوضا، و لا يعتبر في القبول ما عدا هذين الأمرين كالمطاوعة، فإنّه لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول.

لا يقال: إنّ «التاء» في «اشتريت و ابتعت و تملكت» يدلّ على مطاوعة الفاعل لغيره، و قبوله لأثره، فالتاء في «اشتريت» يدل على مطاوعة فاعله لفاعل «شريت» فلا فرق بين «قبلت و اشتريت» إلّا أنّ دلالة الأوّل على المطاوعة تكون بالمادة، و الثاني بالهيئة.

فإنّه يقال: لا تدلّ «تاء» المطاوعة على لزوم صدور مدخولها من فاعل غير فاعل الفعل، بل يكفي فيه مجرّد الصلاحية لذلك، فيصحّ أن يقال: «اكتسى زيد أو اهتدى» و إن لم يكن له كاس و هاد.

نعم لعلّ الغالب صدور مدخول تاء المطاوعة من فاعل غير فاعل الفعل. لكنّه لا يوجب اعتبار ذلك فيه، فلا دليل على اعتبار المطاوعة في مفهوم القبول، هذا.

و قد أورد على ما أفاده المصنف قدّس سرّه- من جواز تقديم القبول إذا كان بلفظ اشتريت و نحوه- بوجوه.

الأوّل: ما عن المحقق النائيني قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه الشريف، و محصّله: أنّه يعتبر في القبول- بأيّ لفظ كان- مطاوعة الإيجاب و الانفعال و التأثّر منه، و إلّا كان أجنبيا عن الإيجاب و غير مرتبط به، و كان إيقاعا لا عقدا، فلا بدّ من الارتباط بين الإيجاب و القبول بمطاوعة الثاني له، فالمطاوعة معتبرة في مفهوم القبول، سواء أ كان بلفظ «قبلت أم اشتريت» و نحوه. و عليه فلا بدّ من تقديم الإيجاب على القبول، و إلّا فمع التقديم لا يسمّى قبولا، بل إيجابا، هذا «1».

و أجيب عنه تارة بعدم اعتبار شي ء في القبول سوى الرّضا بالإيجاب، و من

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 110

ص: 483

______________________________

المعلوم أنّه لا يمنع عن جواز التقديم.

و فيه ما لا يخفى، لأنّ مجرّد الرضا بالإيجاب ليس قبولا للإيجاب. و دعوى كونه قبولا لا شاهد عليها.

و أخرى- بعد تسليم اعتبار المطاوعة- أنّ المعتبر منها هي الإنشائية القابلة للتقدم دون الحقيقية غير القابلة له، هذا.

الثاني: ما في المتن من الإجماع على اعتبار القبول في العقد، و هو متضمن لمعنى المطاوعة حتى يقع قبولا.

و فيه ما قيل من: أنّ المتيقن من الإجماع هو اعتبار القبول الشامل للرّضا بالإيجاب.

لكنّه ممنوع بأنّ المتيقن اعتبار المطاوعة أيضا في القبول، فبدونها يشكّ في ترتب الأثر على العقد، و مقتضى أصالة الفساد عدمه، فتدبّر.

الثالث: ما في حاشية المحقق الأصفهاني قدّس سرّه من: «أنّ مفهوم الاشتراء أو الابتياع متضمن لاتّخاذ المبدء، فإن كان بعنوان اتخاذه من الغير فلا محالة يكون مطاوعة قصديّة، و إلّا كان من إنشاء بيع مال الغير فضولا، لا إنشاء الملكية قبولا» «1»، هذا.

و قد أجيب تارة: بأنّ المطاوعة الإنشائية لا تمنع من التقديم.

و أخرى: بأنّ صيغة الافتعال ليست كصيغة الانفعال متضمنة للمطاوعة دائما، هذا.

و أنت خبير بما فيهما. إذ في الأوّل: أنّه لا فرق بين المطاوعة الحقيقيّة و الإنشائية في لزوم التأخّر، إذ المفروض ترتبها على فعل الفاعل، كما في الانكسار المترتب على الكسر، و الانتقال المترتب على النقل، فتقدّم القبول الإنشائي ينافي اعتبار المطاوعة.

و الحاصل: أنّه لا فرق في المطاوعة الاعتبارية و الحقيقية، لأنّ تقديم القبول على الإيجاب خلاف ما فرض فيه من المطاوعة. نظير ما قيل في دفع إشكال الشرط المتأخر من: أنّ الممتنع هو تأخّر الشرط في العلل التكوينية دون الاعتبارية التي يمكن اعتبارها قبل حصول ماله دخل فيها، فإنّك خبير بأنّ اعتبار الملكيّة مثلا قبل إجازة

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 69

ص: 484

______________________________

المالك مناف لفرض دخل الإجازة فيه، و يكون ذلك خلفا كما لا يخفى.

و في الثاني: أنّ ظهور باب الافتعال في المطاوعة ممّا لا سبيل إلى إنكاره، و لا يصار إلى خلافه إلّا بالقرينة، أو عدم قابلية المورد للمطاوعة كالإحتطاب و الاحتشاش و نحوهما، فتدبّر.

الرابع: ما أوجب تردّد المصنف قدّس سرّه من قوله: «نعم يشكل الأمر بأن المعهود المتعارف من الصيغة تقديم الإيجاب. و لا فرق بين المتعارف هنا و بينه في المسألة الآتية و هو الوصل بين الإيجاب و القبول، فالحكم لا يخلو عن شوب الإشكال».

و فيه: أنّ التعارف لا يقيّد الإطلاق. و فرق بين المقام و بين الموالاة، حيث إنّ فوات الموالاة مخلّ بالمعاقدة عرفا، فاعتبار الوصل بين الإيجاب و القبول دخيل في صدق العقد العرفي، بخلاف تقديم الإيجاب على القبول، فإنّه إذا ثبت كان بالتعبّد كما لا يخفى.

أو يقال في الفرق بين المقامين: بأنّ التعارف هنا من قبيل الغالب المتخلّف في بعض الموارد، بشهادة ما ورد في بعض نصوص عقد النكاح من قول الزوج: «أتزوّجك و قول الزوجة: نعم». و هذا بخلاف التعارف في الموالاة، إذ لم يعرف تخلّف له.

و التعارف على النحو الأوّل- و هو المتخلّف في بعض الموارد- لا يقيّد الإطلاق، بخلاف التعارف على النحو الثاني، فإنّه يقيّده، فمع فرض صدق العقد العرفي على الإيجاب و القبول المنفصلين لا يشمله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لفوات الموالاة المعتبرة في العقود المقيّدة لإطلاق أدلة الصحة، هذا.

و أمّا القسم الثاني:- و هو أن يكون القبول بلفظ «قبلت و رضيت» و نحوهما- فقد ذهب إلى عدم الجواز. و الوجه في ذلك- على ما في المتن- أمور ثلاثة:

الأوّل: الإجماع المحكي عن التذكرة.

و الثاني: أنّ العقد المتقدم قبوله على إيجابه خلاف المتعارف، فلا يشمله عموم

ص: 485

______________________________

أَوْفُوا بِالْعُقُودِ بعد انصرافها إلى العقود المتعارفة.

و الثالث: أنّ القبول- الذي هو أحد ركني العقد المعاوضي- فرع الإيجاب، لأنّه عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب عوضا، إذ المشتري كالبائع ناقل، فلا بدّ من تقدم الإيجاب عليه، و إلّا لم يكن معنى للقبول.

نعم لو كان القبول عبارة عن مجرد الرّضا بالإيجاب توجّه تقديم القبول عليه، لأنّ مجرد الرّضا يتعلّق بالشي ء الماضي و الحال و المستقبل.

و بالجملة: فلا يدلّ «قبلت و رضيت» على إنشاء نقل الثمن في حال التكلم إلّا مع تأخّرهما عن الإيجاب الدال على نقله عن المشتري تبعا، هذا.

و في الكل ما لا يخفى إذ في الأوّل: عدم ثبوت الإجماع، و عدم صحة نسبته إلى التذكرة كما تقدم في التوضيح. و على تقدير ثبوته يحتمل أن يكون مدركيا، لاحتمال استناد المجمعين إلى بعض الوجوه كالفرعية، فراجع.

و في الثاني: عدم صلاحية التعارف لتقييد الإطلاقات.

و في الثالث: أنّ المراد بالفرعية إن كان فرعية المعلول للعلة في الوجود، ففيه: أنّ فساده أوضح من أن يذكر، إذ لازمه وجود القبول قهرا بمجرّد وجود الإيجاب، كما هو شأن المعلولات الحقيقية.

و إن كان فرعيّته للعلّة في التأثير لا أصل الوجود ففيه أوّلا: أنّه ليس أولى من العكس.

و ثانيا: أنّه أجنبي عن مورد البحث الذي هو جواز تقديم القبول من حيث الوجود الإنشائي، و مقتضى الفرعية المذكورة عدم جوازه من حيث التأثير، و هو لا يدلّ على لزوم تأخير القبول بوجوده الإنشائي.

و إن كان فرعيّة العرض للمعروض في قيام القبول بالإيجاب- بأن يقال: إنّ القبول كسائر الأفعال المتوقف تحقّقها على وجود مفعول به قبلها كالأكل و الشرب المتعلقين

ص: 486

______________________________

بالمأكول و المشروب- ففيه: أنّه إن أريد من وجود الإيجاب قبل القبول حتّى يرد عليه القبول وجوده الإنشائي الخارجي فهو مصادرة، لأنّه عين محل النزاع.

و إن أريد منه مطلق وجوده- و لو كان ذهنيا- فهو ممّا لا إشكال فيه، لكنه لا يثبت المقصود، و هو عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب الإنشائي الخارجي.

و بعبارة أخرى: الأفعال من حيث الاحتياج إلى وجود المتعلق- المعبّر عنه بالمفعول به تارة، و بالموضوع أخرى، و بمتعلّق المتعلّق ثالثة- تكون على أقسام.

أحدها: احتياجها إلى خصوص الوجود الخارجي كالأكل و الشرب.

ثانيها: احتياجها إلى خصوص الوجود الذهني كالطلب، إذ لو تعلّق بالوجود الخارجي لزم طلب الحاصل المحال.

ثالثها: احتياجها إلى مطلق الوجود كالقبول، فإنّه يتعلّق بالإيجاب الموجود خارجا أو ذهنا، كالرّضا المتعلّق بإيجاب يوجد في المستقبل، فليتأمّل.

و إن كان فرعية الانفعال للفعل ففيه: أنّ ترتب الانفعال على الفعل و تأخره عنه إنّما هو في الفعل و الانفعال الحقيقيّين كالكسر و الانكسار، دون الفعل و الانفعال الإنشائيّين، لصحة الانفعال الإنشائي و إن لم يكن هناك فعل، لا واقعا و لا إنشاء، حيث إنّ الانفعال الإنشائي ليس إلّا إنشاء لمفهومه، و استعمال اللفظ فيه بقصد تحققه. فالقبول و المطاوعة الإنشائيّان لا يتوقّفان على وجود الإيجاب لا خارجا و لا إنشاء، و إنّما يتوقفان بوجودهما الواقعي على وجود الإيجاب.

و الحاصل: أنّ للقبول و المطاوعة أنحاء من الوجود الذهني و الخارجي و الإنشائي، و محلّ البحث هنا هو وجودهما الإنشائي الذي لا يتوقف على وجود الإيجاب قبله، فيصح إنشاء القبول و المطاوعة قبل الإيجاب.

ثم إنّه على فرض التنزّل- و الالتزام بتوقف وجودهما الإنشائي أيضا على وجود الإيجاب- يمكن القول بجواز تقديم القبول على الإيجاب أيضا. بيانه: أنّ عدم الجواز

ص: 487

______________________________

حينئذ مبني على كون القبول العقدي انفعالا متضمنا لمعنى المطاوعة. و ذلك ممنوع، لأنّ الانفعال- الذي هو التأثر- في قبال الفعل و هو التأثير، و إحداث الأثر لا يتصوّر في القبول العقدي، لأنّ مورد التأثّر إمّا هو المال، لعروض الانتقال عليه، فيتأثر المال بالابتياع و الانتقال. و إمّا هو القابل، فكأنّ الموجب بنقل ماله إلى المشتري بعوض يؤثّر في المشتري، و هو يتأثّر به.

إذ يلزم على الأوّل أن يكون القبول العقدي صفة للمال دون المشتري، فلا يصحّ جعل المشتري قابلا، بل القابل هو المال. و من البديهي أنّ القابل هو المشتري لا المال، كما أنّ الموجب هو البائع لا المبيع، فإنّ الموجب و القابل وصفان للمتعاملين لا العوضين. كما لا يخفى.

و يلزم على الثاني أن يصحّ إنشاء القبول بلفظ «انفعلت و تأثّرت» و فساده بمكان من الوضوح.

إلّا أن يقال: إنّ عدم صحة إنشاء القبول بلفظ «انفعلت و تأثّرت» يحتمل أن يكون تعبّدا محضا.

لكن فيه: أنّه لم يثبت تعبّد هنا، فلاحظ.

و الذي يشهد بعدم كون القبول العقدي انفعالا: أنّه لا يستعمل شي ء من ألفاظ القبول إلّا متعدّيا، و من المعلوم أنّ التعدّي ينافي معنى الانفعال، فليس القبول العقدي- و إن كان بلفظه- انفعالا للإيجاب، بل هو عبارة عن مجرّد الرّضا بالإيجاب الذي هو نقل الموجب ماله إلى المشتري أصالة، و نقل مال المشتري إليه تضمنا.

و بعبارة أخرى: التأثير و هو تمليك المبيع أصالة، و التأثّر و هو تملّك مال المشتري تبعا كلاهما مستند إلى الموجب، و ناش من إيجابه، و لا يصدر من المشتري إلّا صرف الرّضا بهذين التأثير و التأثر. و حيث إنّ هذا الرّضا قائم بالصورة الذهنية كالطلب فلا يتوقف على وجود الإيجاب خارجا فعلا، بل يكفي وجود الإيجاب خارجا

ص: 488

______________________________

في المستقبل في تعلق القبول بمعنى الرّضا المزبور به، و لا يحتاج إلى تقدم الإيجاب عليه في الخارج. و سيأتي في المقام الثاني إن شاء اللّه تعالى مزيد بيان لإثبات كون القبول مجرّد الرّضا بالإيجاب، فانتظر.

و أمّا القسم الثالث- و هو أن يكون القبول بصيغة الأمر- فقد ذهب المصنف قدّس سرّه إلى منع تقديمه على الإيجاب، لأنّ الأمر لا يدلّ إلّا على طلب المعاوضة و الرضا بها، و لا يدلّ على نقل الثمن إلى البائع في الحال عوضا عن المبيع، إذ المفروض عدم تحقق الإيجاب قبله. و دعوى الاتفاق على صحة تقدم القبول بلفظ الأمر على الإيجاب كما في المبسوط موهونة بمصير الأكثر إلى خلافه، فلا إجماع أصلا.

________________________________________

ثم إنّه ينبغي تحرير محل النزاع في الأمر، فنقول و به نستعين: إنّ استعمال الأمر في مقام المعاملة يتصوّر على ثلاثة أقسام:

أحدها: مجرّد الطلب، و الدلالة على رضائه بالمعاملة لو اتّفق معه البائع، من دون قصد الطالب للقبول به، بل غرضه طلب المعاملة من البائع. و لا ينبغي الإشكال في عدم كفايته عن القبول، كما لا ينبغي نسبة القبول بصحّة العقد به- إذا لحقه الإيجاب من دون اتباعه بالقبول المعتبر- إلى أحد من فقهائنا، لفقدان قصد القبول مع تقوّم القبول به.

ثانيها: مجرّد الدلالة على الرّضا بالمأمور به و هو البيع من دون قصد إلى الطلب، من باب استعمال اللفظ الموضوع للازم في الملزوم، فتدلّ صيغة الأمر حينئذ على مجرّد الرّضا بما يوجبه الموجب في المستقبل، و لا تدلّ على الرّضا بنقل الثمن في الحال إلى البائع. و هذا أيضا لا يتحقق به القبول، لعدم كونه رضا بنقل الثمن في الحال، و المفروض أنّ القبول على مذهب المصنف قدّس سرّه عبارة عن الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل الثمن في الحال إلى الموجب، فلا يكون هذا الأمر قبولا حتّى يلتئم العقد بلحوق القبول- الذي هو ركن- بالإيجاب.

ثالثها: الدلالة على معنى «اشتريت» من باب استعمال اللّفظ الموضوع للملزوم في اللازم، إذ من لوازم طلب البيع قبوله و القيام بالاشتراء، فاستعملت صيغة الأمر في

ص: 489

______________________________

إنشاء هذا اللازم.

و هذا ممّا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع، دون الأوّلين، لوضوح عدم كفايتهما في تحقق العقد، لما عرفت من عدم دلالتهما على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله إلى الموجب في الحال، و من المعلوم أنّ هذا المعنى هو القبول العقدي، و المفروض عدم حصوله بهما. بخلاف المعنى الأخير، لحصول القبول العقدي به، غاية الأمر أنّ دلالة الأمر على هذا اللازم تكون على سبيل المجاز، للقرينة المقاليّة أو المقامية، فيصح استعماله على مذهب المحقق الثاني قدّس سرّه فيصير حاله حال «اشتريت» فإن جوّزنا تقديم القبول بصيغة الأمر فهو و إلّا فلا.

و من هنا يظهر: أنّ منع المصنف قدّس سرّه عن تقديمه على الإيجاب ناش عن حمل الأمر على المعنى الأوّل، و هو الدلالة على مجرّد الطلب كما هو صريح كلامه: «لأنّ غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة على الرّضا بها .. إلخ».

و أنت خبير بأنّ الأمر بالمعنى الذي أفاده المصنف قدّس سرّه لا يصلح لأن يكون قبولا عقديّا حتى يقع محلّا للنزاع في جواز تقديمه على الإيجاب، إذ لا يدلّ بهذا المعنى على القبول العقدي أصلا، فلا يصحّ إنشاء القبول به و إن تأخّر عن الإيجاب.

فالحقّ أن يقال: إنّ الأمر إذا دلّ على القبول العقدي بالقرينة فهل يجوز تقديمه على الإيجاب أم لا؟ فإنّ هذا ينبغي أن يقع موردا للنزاع في جواز تقديم القبول بصيغة الأمر، كالنزاع في تقديمه إذا كان بصيغة الماضي، و يأتي ما هو مقتضى التحقيق إن شاء اللّه تعالى.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل أعني به: الاحتمالات و الأقوال في مسألة اعتبار تقدم الإيجاب على القبول و عدمه.

و أمّا المقام الثاني:- أعني به الحقّ الذي ينبغي الاعتماد عليه- فتنقيحه منوط بتقديم أمور:

ص: 490

______________________________

الأوّل: أنّه لا ريب في تركّب العقد من الإيجاب و القبول، و أنّ مجموعهما موضوع لحكم الشارع أو العقلاء من الأمر الاعتباري كالملكية و الزوجية و نحوهما.

و الفارق بين العقد و بين الإيقاع هو كون موضوع الأمر الاعتباري بسيطا في الإيقاع غير محتاج إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول كباب التحرير و النذر و غيرهما من الإيقاعات، و مركّبا في العقد أي محتاجا في ترتب الأثر إلى إنشاء آخر يسمّى بالقبول. و نتيجة هذا الأمر أنّ الإنشاءين المقوّمين للعقد العرفي موجودان مع تقدم القبول على الإيجاب.

الثاني: أنّه لا بدّ في الأدلّة اللّبّيّة- كالإجماع- من الأخذ بالمتيقن، إذ لا إطلاق لها حتى يؤخذ به، و هذا بخلاف الأدلّة اللفظية، فإنّها على قسمين:

أحدهما: أن تكون مجملة، كما إذا كانت في مقام التشريع فقط، كقوله تعالى أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ.

و الآخر: أن يكون لها إطلاق أو عموم، كما إذا كانت في مقام البيان من سائر الجهات أيضا غير جهة التشريع.

الثالث: أنّ الإيجاب و القبول المعتبرين في العقود لا حقيقة شرعية لهما، فلا بدّ في تحقيق مفهومهما من الرّجوع إلى العرف.

الرابع: أنّ النزاع في اعتبار تقدّم الإيجاب على القبول إنّما هو مع انحفاظ عنوان القبول مع تقدّمه على الإيجاب، و إلّا فلا معنى للنزاع في تقدم القبول مع خروجه عن عنوانه، و تبدّله بعنوان الإيجاب.

الخامس: أنّه لا ريب في صدق العقد العرفي على العقد المتقدم إيجابه على قبوله، فلا يتقوّم مفهوم العقد عرفا بتقدم الإيجاب على القبول، فاعتبار تقدمه لو قيل به لا بدّ أن يكون بدليل شرعي.

و الغرض من هذا الأمر هو: أنّ الارتباط المقوّم لعقدية الإنشاءين موجود مع تقدم القبول على الإيجاب.

ص: 491

______________________________

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم: أنّ المتيقن من الإجماع القائم على اعتبار القبول في العقد هو كون القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب و تقريره و تثبيته. و اعتبار المطاوعة و الانفعال خصوصية زائدة لا دليل على اعتبارها في مفهوم القبول، فإنّ المتيقّن من الإجماع الدالّ على اعتبار القبول في العقد هو الرّضا بالإيجاب. و اعتبار قيد زائد فيه- كالانفعال و المطاوعة و إنشاء نقل- مما لا دليل على اعتباره، بعد وضوح صدق مفهوم العقد العرفي على العقد الذي يكون قبوله رضا بالإيجاب من دون خصوصية أخرى معه. و لو شك في اعتبارها شرعا ينفى بعموم وجوب الوفاء بالعقود.

فوزان القبول وزان «جزاكم اللّه خيرا» لمن عمل عملا، و شأنه تقرير عمل الموجب. كما أنّ المناسب للفظ القبول عرفا هو هذا المعنى، فإنّه قبول لإيجاب الموجب و رضا به، فليس شأن القبول إنشاء نقل مثلا في قبال إنشاء الموجب، و إلّا كان العقد مركّبا من إيجابين، لا إيجاب و قبول، كما إذا قال المشتري بعد قول البائع: بعتك هذا المتاع بدينار: «نقلت الدينار إليك بهذا المتاع» فإنّ هذا الكلام من المشتري إيجاب لا قبول.

و الحاصل: أنّ تمام ماهية البيع توجد بإيجاب البائع و قبول المشتري لهذا الإيجاب، و لا تحتاج إلى إيقاع المشتري ملكية المبيع أو البائع ملكية الثمن، لأنّ الإيجاب متضمّن لذلك، و المحتاج إليه في ترتب الأثر هو قبول المشتري، و رضاه بما أوقعه الموجب، فليس القبول نقلا و انتقالا جديدا، بل الإنشاء الصادر من المشتري ليس إلّا رضا بالإيجاب.

فما أفاده المصنف قدّس سرّه من اعتبار تضمّن القبول للنقل و للرّضا بالإيجاب لا يخلو من غموض.

إذ فيه أوّلا: عدم الدليل على اعتبار النقل في القبول، كما عرفت.

و ثانيا: منافاته لما اختاره قدّس سرّه في ثاني تنبيهات المعاطاة من كفاية الإعطاء من

ص: 492

______________________________

طرف واحد في تحقق البيع المعاطاتي. وجه المنافاة أنّه لا يتحقق حينئذ فعل من المشتري حتّى يكون نقلا للثمن، بل يحصل منه أخذ، و هو متمّم لفعل المعطي، و ليس إنشاء لنقل الثمن كما لا يخفى.

كما أنّ ما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه الشريف: «من أنّ كلّا من الموجب و القابل في عقود المعاوضة ينشئ أمرين، أحدهما بالمطابقة، و ثانيهما بالالتزام، فالموجب ينقل ماله إلى ملك المشتري مطابقة، و يتملّك مال المشتري عوضا عن ماله التزاما، و القابل بعكس ذلك» «1» لا يخلو أيضا من غموض.

لما فيه أوّلا: من منافاته لتحقق البيع المعاطاتي بإعطاء واحد كما عرفت آنفا، فتأمّل.

و ثانيا: أنّ تمليك الثمن بالقبول لا بدّ أن يكون مقصودا للمشتري، لتبعية العقد للقصد، كسائر الأمور القصدية المتقومة بالقصد، و من المسلّم فقدانه في غالب البيوع، لجهل المشتري باعتبار قصد نقل الثمن، فيلزم بطلان كثير منها، و هو كما ترى.

و ثالثا: يلزم تركب العقد من إيجابين: تمليك البائع للمبيع، و تمليك المشتري للثمن، و هذا غير الإيجاب و القبول المقوّمين للعقد.

و رابعا: يلزم أن يكون مفهوم القبول- الذي هو أحد ركني العقد في العقود المعاوضية- مغايرا لمفهوم القبول في سائر العقود، و لازم هذا تعدّد الوضع للقبول على حسب تعدد أنواع العقود، و لا أظنّ التزام أحد بذلك، هذا.

و قد ظهر أيضا مما ذكرناه ما في تفصيل المصنف قدّس سرّه بين ألفاظ القبول، بجواز التقديم إذا كان بلفظ «اشتريت» و نظائره مما هو ظاهر في التملّك و التمليك التبعي و بعدمه إذا كان بلفظ «قبلت» و نحوه مما هو ظاهر في مطاوعة فعل الموجب، أو كان بصيغة الأمر، بدعوى: أن «اشتريت» و نحوه يدلّ على الرّضا بالإيجاب على وجه يتضمّن

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 109

ص: 493

______________________________

النقل في الحال، فيجوز تقديمه. و أنّ لفظ «قبلت» متفرع على الإيجاب، و لم يحصل بعد، فلا يجوز. و كذا لفظ الأمر، فإنّه يدلّ على الرّضا بالمعاملة، و لا يدلّ على الرّضا بالنقل في الحال، فالأمر إذن في إيقاع البيع، لا قبول للإيجاب، هذا.

و ذلك لما عرفت من أنّ القبول العقدي ليس إلّا الرّضا بفعل الموجب، سواء حصل الإيجاب أم لم يحصل بعد، ضرورة أنّ الرّضا كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي. و لا يعتبر في القبول النقل في الحال، لما مرّ من عدم دخله في شي ء من العقود شرعا و لا عرفا. و لو كان إنشاء النقل دخيلا في مفهوم القبول لما كان التقديم جائزا بأيّ لفظ كان، لامتناع اتصاف القبول بهذا المعنى إلّا مع التأخر، لأنّ نقل الثمن لازم تملّك المبيع، و بدون تملّكه لا ينشأ تمليك الثمن. و لو لم يكن دخيلا في مفهومه جاز تقديم القبول بأيّ لفظ كان.

فهذا النزاع الراجع إلى مقام الإثبات غير مناسب، لأنّ مفهوم القبول إمّا يقبل التقديم و إمّا لا يقبله. فعلى الأوّل يجوز مطلقا، و على الثاني لا يجوز كذلك، و إن كان بلفظ: اشتريت و ابتعت.

و لو سلّم اعتبار المطاوعة في القبول فلا مانع من إنشائه مقدّما على الإيجاب بأحد نحوين، إمّا بنحو الاشتراط، كأن يقول: «إن بعتني هذا المتاع بكذا قبلت» نظير الواجب المشروط، فيتحقق القبول الحقيقي المتمّم لموضوع الأمر الاعتباري بعد الإيجاب. و إمّا بنحو الواجب التعليقي، فيقبل الإيجاب في موطن تحققه، كإيجاب الصلاة في الغد، فالإنشاء فعلي و المنشأ استقبالي.

و على التقديرين لا مانع من إنشاء القبول قبل الإيجاب سواء أ كان بلفظ: «اشتريت أم قبلت» أم الأمر. و الفرق بينها إنّما هو في كيفية الدلالة، فإنّ دلالة «قبلت و رضيت» على القبول و هو الرّضا بالإيجاب إنّما تكون بالمطابقة، و على النقل و التملّك بالالتزام، و دلالة

ص: 494

______________________________

«اشتريت» و نحوه على القبول- بالمعنى المزبور- إنّما تكون بالالتزام، و على النقل و التملك بالمطابقة. و دلالة الأمر على القبول إنّما تكون بالكناية، لأنّ مطلوبية البيع الذي هو مادة الأمر يلزمها الرّضا بإيجابه.

لكن هذا الفرق ليس بفارق في جهة البحث و هي تقدّم القبول على الإيجاب.

و لو نوقش في دلالة بعض الألفاظ على القبول مع تقدّمها على الإيجاب، فإنّما هو مناقشة صغروية لا تقدح في البحث الكبروي، و هو تقدم القبول على الإيجاب، بعد كون القبول هو الرّضا بالإيجاب، و عدم اعتبار شي ء آخر- كالنقل في الحال- فيه.

و بالجملة: فالحقّ جواز تقديم القبول مطلقا و لو كان بلفظ الأمر، إن كان مفهوم القبول بسيطا و هو الرّضا بالإيجاب، لما عرفت من جواز تعلّق الرّضا بإيجاب استقبالي كتعلّقه بإيجاب حاليّ، و عدم جواز التقديم إن كان مفهومه مركّبا من الرّضا بالإيجاب و النقل في الحال، و إن كان بلفظ «اشتريت و ابتعت و ملكت». فمناط جواز التقديم و عدمه هو بساطة مفهوم القبول و تركّبه من غير دخل لدلالة الألفاظ من حيث الصراحة و عدمها في ذلك، كما لا يخفى.

كما أنّه قد ظهر مما ذكرنا أيضا غموض تفصيل آخر، و هو ما أفاده المصنف قدّس سرّه أيضا من الفرق بين أنواع العقود، و ملخّصه: أنّ القبول في العقود على أقسام، لأنّه إمّا التزام بشي ء كالالتزام بنقل ماله إلى الغير عوضا عن ماله كما في العقود المعاوضيّة كالبيع و الإجارة، و ما بحكمهما كالنكاح، فإنّ القابل و هو الزوج يلتزم بالزوجيّة. و هذا القسم يتصور على وجهين:

أحدهما: كون الالتزام الحاصل من القابل نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة المعاوضية، حيث إنّ كلّا منهما يتسالم صاحبه على المال.

ثانيهما: كونه مغايرا له كالاشتراء، إذ الملحوظ فيه عوضيّته لمال آخر.

ص: 495

______________________________

و إمّا مجرد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي ء. و هذا القسم يتصور أيضا على وجهين:

الأوّل: أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان و الاتهاب و الاقتراض.

و الثاني: أن لا يعتبر فيه أزيد من الرّضا بالإيجاب كالوكالة و العارية و الوديعة، فإنّ القبول فيها يحصل بمجرّد الرضا بإيجاب التوكيل و الإعارة و الإيداع، و ليس فيه إنشاء التزام.

و تقديم القبول على الإيجاب إنّما يكون في صورتين:

إحداهما: كون القبول التزاما مغايرا للإيجاب كالاشتراء.

ثانيتهما: كون القبول مجرّد الرّضا من دون اعتبار المطاوعة فيه، كالقبول في المصالحة المتضمنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض، و في الوكالة و العارية و الوديعة لأنّ في هاتين الصورتين ينبغي أن ينازع في جواز تقديم القبول على الإيجاب و عدمه، حيث إنّ تقديمه فيهما على الإيجاب لا يخرجه عن معنى القبول.

بخلاف الصورتين الأخريين- و هما كون القبول التزاما نظير التزام الموجب كالمصالحة المعاوضية. و كون القبول الرضا بالإيجاب مع اعتبار المطاوعة فيه- فإنّ التقديم في الأولى يوجب تركب العقد من إيجابين، و في الثانية يوجب فوات المطاوعة المعتبرة في مفهوم القبول. هذا محصل ما يستفاد من كلام المصنف قدّس سرّه.

و الإشكال فيه يظهر مما أسلفناه، إذ القبول العقدي في جميع أنواع العقود ليس له معنى متعدّد و وضع كذلك. و الوجه في اعتبار القبول في العقد إمّا العرف، لتركب العقد عندهم من الإيجاب و القبول، فالقبول حينئذ مقوّم للعقد العرفي. و إمّا الإجماع على اعتبار القبول في العقد.

و على التقديرين لا وجه لاعتبار أزيد من الرّضا بالإيجاب في ظرف تحققه، إذ لا يحكم العرف بأزيد منه. و كذا الإجماع، لأنّ المتيقن منه هو اعتبار مجرّد الرّضا

ص: 496

______________________________

بالإيجاب، و لا دليل على اعتبار المطاوعة- أو فعليّة الإيجاب حين القبول- في مفهوم القبول أو في تأثيره.

فالتحقيق: أنّ القبول في جميع العقود بمعنى واحد، و هو الرّضا بالإيجاب مطلقا، سواء تقدّم أم تأخّر، لما عرفت من صحة الرّضا بشي ء مستقبل كالحالي.

و أمّا الالتزام بالشي ء في بعض العقود- كالالتزام بالنقل في البيع و بالزوجية في النكاح- فليس دخيلا في مفهوم القبول، و إنّما هو من لوازمه، حيث إنّ الرّضا بالإيجاب يختلف مقتضاه بحسب اختلاف أنحاء الإيجاب، فإنّ إيجاب الزوجية يستلزم أن يكون الرّضا به التزاما بالزوجية، و الرّضا بتسالم زيد مثلا على مال يكون قبولا للصلح.

و بالجملة: ففي جميع أنواع العقود ليس القبول فيها إلّا مجرّد الرّضا بما أوجبه الموجب من غير فرق في ذلك بين العقود اللازمة المعاوضية و الإذنية و المجانيّة.

هذا مضافا إلى ما في بعض أمثلة التفصيل المزبور من المناقشة، حيث إنّه قدّس سرّه جعل قبول القرض مجرّد الرّضا بالإيجاب من دون التزام بشي ء، مع أنّ من الواضح التزام المقترض بضمان العين المقترضة مثلا أو قيمة.

و كيف كان فمقتضى التحقيق جواز تقديم القبول بأيّ لفظ كان على الإيجاب في أيّ عقد كان، فتدبّر.

و مما ذكرنا تعرف ما في كلمات المصنف قدّس سرّه من الاضطراب، هدانا اللّه تعالى إلى حقائق أحكامه بحق محمد و عترته سادة أوليائه صلوات اللّه عليهم إلى يوم لقائه.

ص: 497

[المبحث الثاني: شرطية الموالاة بين الإيجاب و القبول]

و من جملة شروط العقد: الموالاة (1) بين إيجابه و قبوله.

ذكره الشيخ في المبسوط في باب الخلع (2)،

______________________________

المبحث الثاني: شرطية الموالاة بين الإيجاب و القبول

(1) هذا هو المبحث الثاني من مباحث الجهة الثالثة المتكفلة لشرائط الصيغة من حيث الهيئة التركيبية. و البحث في هذه المسألة عن شرطية الموالاة بين الإيجاب و القبول، و إخلال الفضل بينهما- بالأجنبي. و قد يعبّر عن هذا الشرط بالفورية في كلام بعضهم، كما في حاشية الفقيه المامقاني قدّس سرّه «1». و سيأتي تصريح شيخ الطائفة باعتبار الفورية في الخلع.

و في الجواهر: «و أمّا الاتّصال فعن جماعة منهم الفاضل في النهاية و الشهيد و المقداد و المحقق: أنّه يشترط أن لا يتأخّر القبول بحيث لا يعدّ جوابا، و لا يضرّ تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» «2».

و في مفتاح الكرامة- بعد حكاية الاشتراط عن الجماعة المذكورين-: «قلت:

هو مما لا ريب فيه» «3».

(2) ذكره شيخ الطائفة في خصوص الخلع، و لم يذكره على وجه القضية الكلية الجارية في سائر العقود. قال في المبسوط: «إذا طلّقهما بألف أو على ألف، فقد طلّقهما

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 251

(2) جواهر الكلام، ج 22، ص 255

(3) مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165

ص: 498

ثمّ العلّامة (1) و الشهيدان (2)

______________________________

طلاقا بعوض ألف. و يقتضي أن يكون جوابه على الفور، فإن تراخى لم يصحّ أن يطلّقهما على ما طلبتا، فإن طلّق كان ابتداء طلاق من جهته، و يكون رجعيا» «1» انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

(1) قال قدّس سرّه في بيع النهاية: «و يشترط أن لا يطول الفصل بين الإيجاب و القبول، و لا يتخلّلهما كلام أجنبي عن العقد، إذا خرج بذلك عن القبول عرفا» «2».

و اعتبر في نكاح القواعد «3» وحدة مجلس الإيجاب و القبول.

و جوّز في نكاح التذكرة التراخي، فقال: «إنّما يصح العقد إذا صدر في مجلس واحد و لم يتشاغلا بينه بغيره و إن تراخى أحدهما عن الآخر، إذا عدّ الجواب جوابا للإيجاب .. إلخ» «4» فراجع.

و على هذا فإن أمكن استفادة الفورية من اشتراط وحدة المجلس فهو، و إلّا فتنحصر نسبة شرطية الفورية إلى العلّامة في صراحة عبارة النهاية.

(2) قال الشهيد قدّس سرّه في شرائط الوقف: «و رابعها: القبول المقارن للإيجاب، إذا كان- أي الوقف- على من يمكن فيه القبول» «5».

و يستفاد اعتبار الموالاة أيضا من مفهوم قوله في شرائط عقد البيع:

«و لا يقدح تخلّل آن أو تنفّس أو سعال» «6».

و رجّح الشهيد الثاني في الرّوضة اشتراط الوقف بالقبول- إذا كان الوقف على من يمكن في حقه القبول- ثم قال: «فعلى هذا يعتبر فيه ما يعتبر في العقود اللازمة من

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 4، ص 362

(2) نهاية الأحكام، ج 2، ص 450

(3) قواعد الأحكام، ص 147 (الطبعة الحجرية)

(4) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 583

(5) الدروس الشرعية، ج 2، ص 264

(6) الدروس الشرعية، ج 3، ص 191

ص: 499

و المحقّق الثاني (1) و الشيخ المقداد «1».

قال الشهيد في القواعد (2): «الموالاة معتبرة في العقد و نحوه (3)، و هي (4)

______________________________

اتصاله بالإيجاب عادة» «2».

(1) كما في موضعين من جامع المقاصد، أحدهما: في عقد البيع، حيث قال:

«و يشترط وقوع القبول على الفور عادة من غير أن يتخلّل بينهما كلام أجنبي» «3».

ثانيهما: في عقد النكاح، حيث شرط العلّامة اتحاد المجلس، و استظهر منه المحقق الثاني الموالاة، فقال: «و كذا يشترط اتحاد مجلس الإيجاب و القبول، فلو تعدّد- كما لو قالت الزّوجة: زوّجت نفسي من فلان، و هو غائب، فبلغه، فقبل- لم يصحّ، لأنّ العقود اللازمة لا بدّ فيها من وقوع القبول على الفور عادة، بحيث يعدّ جوابا للإيجاب.

و كذا لو تخلّل بينهما كلام آخر أجنبي» «4».

و تعرّض العلّامة قدّس سرّه في التذكرة لفرعين، أحدهما: اتحاد المجلس كما نقلناه آنفا، و الآخر: تأخر القبول عن الإيجاب بما لا يتعارف، كما إذا كان غائبا عن مجلس الإيجاب. و يظهر من عقد فرعين تعددهما موضوعا، فراجع التذكرة «5».

(2) استند الشهيد قدّس سرّه في اعتبار الموالاة إلى فتاوى فقهائنا قدّس سرّهم في مسائل خمس، و نقل فتوى بعض العامة في مسألة تخلّل التحميد و التصلية بين إيجاب عقد النكاح و قبوله.

(3) ممّا يعدّ فيه الشيئان أو الأشياء واحدا، أو يعدّ أجزاء المركّب واحدا كالصلاة.

(4) أي: الموالاة. توضيحه: أنّ الملحوظ في اعتبار الاتصال بين الإيجاب

______________________________

(1): التنقيح الرائع، ج 2، ص 24

(2) الروضة البهية، ج 3، ص 165

(3) جامع المقاصد، ج 4، ص 59

(4) جامع المقاصد، ج 12، ص 78

(5) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 582

ص: 500

مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى و المستثنى منه (1). و قال بعض العامة (2):

______________________________

و القبول هي تبعية القبول له كتبعية المستثنى للمستثنى منه، فكأنّ ملاك الاتصال في الاستثناء- و هو التبعية- جار في جميع التوابع، فتعدّوا من باب الاستثناء إلى كلّ ما لوحظ فيه التبعية، و ترتّب عليها الآثار الشرعية. و جعلوا العقد من الموارد الملحوظ فيها التبعية، حيث إنّ القبول تابع للإيجاب، فيعتبر الاتّصال و الموالاة بين الإيجاب و القبول كاعتبارهما بين المستثنى و المستثنى منه.

و الحاصل: أنّ تبعية المستثنى للمستثنى منه و شدّة ارتباطه به لمّا كانت في غاية الوضوح- بحيث كان الاستثناء من النفي إثباتا و من الإثبات نفيا، و كان موجبا لقلب المستثنى منه من المدح إلى الذم، و من الصدق إلى الكذب، و من الإيمان الى الكفر، و من الإقرار إلى الإنكار، و بالعكس- كان اعتبار الموالاة بينهما في غاية الوضوح، و جعل مأخذا و أصلا لاعتبار الموالاة في سائر الأمور المتّصلة كالعقود.

(1) فلو أقرّ بقوله: «لزيد عليّ خمسون دينارا» و بعد ساعة قال: «إلّا خمس دنانير» لم يسمع منه هذا الاستثناء حتى يكون إقراره بخمس و أربعين، بل يحمّلونه الخمسين، و يجعلون استثناء الخمس إنكارا لإقراره بالخمسين، و من المعلوم عدم العبرة بالإنكار بعد الإقرار. و هذا بخلاف ما لو اتّصل المستثنى بالمستثنى منه، فإنّه يقبل منه الاعتراف بخمس و أربعين.

و عليه فسماع الاستثناء عند الاتّصال بالمستثنى منه- و عدم سماعه عند الفصل الماحي لوحدة الكلام- دليل قطعي على اعتبار الوحدة بين أجزاء الكلام الواحد، و كذا بين أجزاء كل مركّب اعتباري.

(2) في الفقه على المذاهب الأربعة في شروط عقد النكاح: «و اشترط الشافعية و المالكية الفور، و اغتفروا الفاصل اليسير الذي لا يقطع الفور عرفا» «1».

______________________________

(1): الفقه على المذاهب الأربعة، ج 4، ص 24

ص: 501

لا يضرّ (1) قول الزوج بعد الإيجاب: الحمد للّه و الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبلت نكاحها.

و منه (2) الفوريّة في استتابة المرتدّ، فيعتبر في الحال. و قيل: إلى ثلاثة أيّام (3).

و منه (4) السكوت في أثناء الأذان، فإن كان كثيرا أبطله.

______________________________

(1) و هو يضرّ بناء على ما سمعته من جامع المقاصد من قوله: «و كذا لو تخلّل بينهما بكلام آخر أجنبي».

(2) أي: و من اعتبار الاتصال و التوالي: ما ذكروه في توبة المرتد من حيث اعتبار الفورية فيها عقيب استتابته من طرف الحاكم الشرعي. فلو لم يتب فورا قتل، هذا بناء على ما نسب إلى المشهور.

و أمّا بناء على إمهاله ثلاثة أيّام لم تكن هذه المسألة من فروع الموالاة، لأجنبيّتها عنها.

و يدلّ على فوريّة إجابة المرتد بعد الاستتابة عدة نصوص:

منها: ما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام في حديث، قال: «قلت:

فنصرانيّ أسلم ثم ارتدّ؟ قال: يستتاب، فإن رجع، و إلّا قتل» «1». و ظهورها في وجوب الرجوع فورا و عدم إمهاله ممّا لا ينكر.

(3) و هو مرويّ أيضا، مثل ما رواه مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: المرتدّ عن الإسلام تعزل عنه امرأته، و لا تؤكل ذبيحته، و يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب، و إلّا قتل يوم الرابع» «2».

(4) أي: و من اعتبار التوالي: حكمهم بقدح السكوت في أثناء الأذان.

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 18، ص 547، الباب 3 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث: 1، و نحوه الحديث 2 و 3 و 4

(2) المصدر، ص 548، الحديث: 5

ص: 502

و منه (1) السكوت الطويل في أثناء القراءة، أو قراءة غيرها خلالها (2).

و كذا التشهّد (3).

و منه (4) تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع، فإن تعمّدوا أو نسوا حتى ركع فلا جمعة.

و اعتبر بعض العامّة تحريمهم معه قبل الفاتحة (5).

______________________________

و استدلّ في الجواهر على اعتبار الموالاة بين فصول الأذان بوجوه ثلاثة:

الأصل، و فعلهم عليهم السّلام، و الاستفادة من الأدلّة الخالية عن المعارض «1».

و الكلّ مخدوش، إذ في الأوّل عدم معارضته للإطلاق الدالّ على عدم الاعتبار.

و في الثاني: الإجمال. و الاستفادة من الأدلة على خلافه.

فالتحقيق أنّ المعتبر هو عدم انمحاء الصورة عند المتشرعة بسكوت طويل أو أعمال أجنبية، كانمحاء صورة الصلاة على ما ثبت في محله. فالموالاة بالمعنى المقصود هنا غير معتبرة في الأذان.

(1) أي: و من اعتبار التوالي: حكمهم بقدح السكوت الطويل الماحي للهيئة الكلامية المعتبرة في صحة كونه كلاما، و كذا الكلام الأجنبي الماحي.

لكنك خبير بأنّه أجنبي عن الموالاة المعتبرة في شي ء، مع انخفاظ عنوانه، ضرورة أنّ الماحي مخلّ بعنوان القراءة، لا بالفورية فقط.

(2) الضميران راجعان إلى القراءة.

(3) فإنّ التشهّد عنوان واحد لا يتحقق إلّا باتصال أجزائه.

(4) أي: و من اعتبار التوالي. و غرضه- ظاهرا- هو: أنّ ما دلّ على اعتبار العدد في الجمعة يقتضي اعتبار دخولهم في الصلاة قبل الركوع على وجه يعدّ تمام الصلاة فعلا لجميعهم.

(5) و هذا أولى من سابقه، لأنّه أمسّ بالموالاة.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 9، ص 92

ص: 503

و منه (1) الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنّه تكرار. و الموالاة في سنة التعريف (2)، فلو رجع (3) في أثناء المدة استؤنف ليتوالى» «1» انتهى.

______________________________

(1) أي: و من اعتبار التوالي: الموالاة في التعريف. و لعلّ المراد بهذا التعريف هو تعريف اللقطة في أوّلها، يعني تعتبر الموالاة بين التقاطها و بين تعريفها، بحيث لا يتخلّل زمان معتدّ به بين الالتقاط و بين التعريف الأوّل.

و كذا يعتبر التوالي بين التعريفات أثناء سنة واحدة، إذ لو تخلّل زمان طويل بين التعريفات لم يتذكّر السامع أن التعريف الثاني و الثالث تكرار للتعريف الأوّل، و احتمل أنّه تعريف للقطة أخرى غير اللقطة الأولى التي عرّفها مرّة مثلا. و على هذا يعتبر التوالي بين التعريفات حتى لا تصير اللقطة نسيا منسيا. قال الشهيد قدّس سرّه:

«و الضابط أن يتابع بينها بحيث لا ينسى اتصال الثاني بمتلوّه» «2».

(2) أي: تعريف اللقطة في أثناء السّنة.

(3) أي: فلو رجع عن التعريف في أثناء السنة استأنف التعريف. و بيانه: أنّه- بناء على اعتبار التتابع في التعريف في حول كامل- إذا عرّف الملتقط اللّقطة شهرا مع التتابع المعتبر كتعريفها في كلّ أسبوع مرّة مثلا، ثم ترك التعريف شهرين، وجب عليه تعريفها سنة كاملة بعد الشّهر الثالث، و ذلك لأنّ التعريف في الشهر الأوّل قد انقطع أثره بفوات الموالاة و التكرار في الشهر الثاني و الثالث، فلو شرع في التعريف في الشهر الرابع لم يكن متابعة للتعريف في الشهر الأوّل. و حيث إنّه يجب التعريف حولا كاملا وجب عليه أن يعرّفها من الشهر الرابع، و أن يجعله مبدأ سنة التعريف مع رعاية الموالاة بين الدفعات. و لو لم يكن التوالي معتبرا لم يسقط التعريف في الشهر الأوّل عن الأثر، و لم يقدح تخلّل شهرين بدون التعريف، و كان يكفيه إلحاق تسعة أشهر بما تقدم حتى يتمّ الحول.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 234، رقم القاعدة: 73، و تمام كلام الشهيد هذا: «ليتوالى الانجاش- أي الإعلان- و قيل: يبني».

(2) الدروس الشرعية، ج 3، ص 88

ص: 504

أقول: حاصله (1) أنّ الأمر المتدرّج شيئا فشيئا إذا كان له صورة اتصالية في العرف، فلا بدّ في ترتب الحكم المعلّق عليه في الشرع من اعتبار صورته الاتّصالية. فالعقد المركّب من الإيجاب و القبول- القائم بنفس المتعاقدين- بمنزلة (2) كلام واحد مرتبط بعضه ببعض، فيقدح تخلّل الفصل المخلّ بهيئته (3) الاتصالية. و لذا (4) لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

و انضباط ذلك (5) إنما يكون بالعرف، فهو في كل أمر بحسبه، فيجوز الفصل بين كلّ من الإيجاب و القبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما، و يجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف، كما في الأذان و القراءة.

و ما ذكره (6) حسن لو كان حكم الملك و اللزوم في المعاملة منوطا بصدق

______________________________

(1) قد تقدّم في (ص 501) تقريب هذا الحاصل، فراجع.

(2) خبر قوله: «فالعقد المركب» و قوله: «القائم» صفة للعقد.

(3) متعلّق ب «يقدح» و الضمير راجع إلى العقد.

(4) أي: و لأجل قدح تخلّل الفصل المزبور لا يصدق المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد.

(5) يعني: و ضبط الفصل المفرط- المخلّ بالهيئة الاتصالية- موكول إلى العرف، و لا حدّ معيّن له، فتختلف مراتب الفصل بحسب قصر الزمان و طوله، فالفصل بالسعال و العطاس بين حروف كلمة واحدة و بين مثل المضاف و المضاف إليه قادح في صدق الكلمة و شبهها. و الفصل بين المبتدأ و الخبر بالعطاس مثلا ربما لا يكون مخلّا بالهيئة التركيبية. و السكوت دقيقة أو أكثر ربما يكون ماحيا لصورة قراءة السورة مثلا، و هكذا.

(6) أورد المصنف على كلام الشهيد قدّس سرّهما بوجوه ثلاثة:

أوّلها: يتعلق بما أفاده من اعتبار الموالاة بين الإيجاب و القبول، من جهة توقف صدق العقد على التوالي بينهما.

ص: 505

العقد عرفا، كما هو مقتضى (1) التمسّك بآية الوفاء بالعقود، و بإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك. أمّا لو كان (2) منوطا بصدق البيع

______________________________

ثانيها: يتعلّق بما أفاده من جعل مبنى شرطيّة الموالاة الرّبط بين المستثنى منه و المستثنى.

ثالثها: في الفروع الّتي فرّعها الشهيد على شرطية الفورية و التتابع.

أمّا الإشكال الأوّل فتقريبه: أنّ ما أفاده الشهيد قدّس سرّه حسن لو كان دليل الملك و اللزوم الآية المباركة الآمرة بالوفاء بالعقود، حيث إنّها أناطت ترتب الملك و اللزوم بعنوان «العقد» و لا يحرز صدقه إذا انفصل القبول عن الإيجاب بما لا يتسامح عرفا فيه. و أمّا لو كانا مترتبين على عنوان «البيع» أو «التجارة عن تراض» لم يقدح عدم صدق العقد على الإيجاب و القبول، المنفصل أحدهما عن الآخر، و ذلك لكفاية صدق «البيع و التجارة» عليه، حيث إنّهما موضوعان- في آيتي: (حلّ البيع و التجارة عن تراض) للصحة و اللزوم.

و عليه فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه، لعدم دوران الصحة و اللزوم مدار عنوان العقد حتى نلتزم باعتبار الموالاة فيه. هذا توضيح الإشكال الأوّل.

و أمّا الإشكال الثاني و الثالث فسيأتي بيانهما إن شاء اللّه تعالى.

(1) يعني: أنّ ما أفاده الشهيد قدّس سرّه من دوران الملك و اللزوم مدار صدق العقد مستند إلى وجهين. أحدهما: ظهور الآية المباركة في أنّ ما يجب الوفاء به هو العقد.

ثانيهما: إطلاق كلمات الأصحاب، حيث حكموا بترتب الإباحة على المعاطاة، و قالوا: «إنّها ليست بيعا و لا عقدا» و من المعلوم أنّ إطلاق «العقد» محمول على العقد العرفي غير الصادق على ما إذا لم يتصل القبول بالإيجاب فورا.

(2) هذا هو إشكال المصنف على الشهيد قدّس سرّهما، و حاصله- كما عرفت- عدم انحصار دليل الإمضاء في الأمر بالوفاء بالعقود.

ص: 506

أو التجارة عن تراض فلا يضرّه (1) عدم صدق العقد.

و أمّا جعل المأخذ في ذلك (2) اعتبار الاتّصال بين الاستثناء و المستثنى منه

______________________________

(1) يعني: أنّ عدم صدق العقد لا يضرّ الملك و اللزوم. و وجه عدم الإضرار عدم التلازم بين العقد و البيع و التجارة، فيمكن صدقهما و عدم صدق العقد.

(2) أي: اعتبار الموالاة. و هذا هو الإشكال الثاني على كلام الشهيد. و مقصود المصنف قدّس سرّه تحقيق استدلاله على اعتبار الموالاة بقوله: «و هي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين الاستثناء و المستثنى منه» و بيانه: أنّه لا ريب في اعتبار الاتصال في الاستثناء، لكن الكلام في شرطية الاتصال و الموالاة في مطلق المركّبات كالعقد و الصلاة، و كذا غير المركبات، كما في التتابع في تعريف اللقطة في الحول، و من المعلوم أنّ الاستثناء جزئي من جزئيات هذه المسألة، و مجرّد اعتبار الموالاة في هذا الجزئي لا يكفي في تأسيس قاعدة كليّة بعنوان شرطيّة الموالاة في أجزاء الكلام الواحد، و كذا في غير الكلام ممّا له صورة اتصالية. و وجه عدم الكفاية أنّه استقراء ناقص لا يعوّل عليه في ضرب القانون.

و لا ينحصر استدلال الشهيد- بتتبع حال بعض الأفراد على تأسيس الأصل- بالمقام، بل تكرّر منه في كتاب القواعد: «أنّ الأصل كذا» مع أنّه قدّس سرّه لم يظفر بدليل عام، و إنّما توصّل إليه بملاحظة بعض الأفراد، فاصطاد منها أصلا عاما و قاعدة كلية.

و لكن الانتقال من باب الاستثناء إلى اعتبار الموالاة في العقد و غيره لا يخلو من شي ء.

ثم تصدّى المصنف قدّس سرّه لتوجيه استفادة الفورية و الموالاة من باب الاستثناء ببيان آخر، و محصله: أنّ ارتباط المستثنى بالمستثنى منه أشدّ و آكد من ربط سائر التوابع و الملابسات بمتبوعاتها، لما عرفت في تقريب كلام الشهيد من دوران صدق الإخبار على إلحاق المستثنى بالمستثنى منه فورا، بحيث لو لم يلحقه أو لحقه بالتراخي كان المراد الاستعمالي هو المستثنى منه خاصة، و كان هو مدار الصدق و الكذب، كما إذا قال: «ما دخل في الدار أحد» مع دخول زيد فيها، فإن لم يتصل به قوله: «إلّا زيد»

ص: 507

فلأنّه منشأ الانتقال إلى هذه القاعدة (1)، فإنّ أكثر الكليّات إنّما يلتفت إليها من التأمّل في مورد خاص (2). و قد صرّح (3) في القواعد مكرّرا بكون الأصل في هذه القاعدة كذا.

______________________________

حكم العرف بكذب الخبر. و هذا الربط الوثيق غير معتبر في سائر التوابع كالحال و ذيه، فإذا قال: «جاء زيد» و لم يقل «راكبا» كان صادقا في إخباره.

و لمّا كان الرّبط في جملة الاستثناء أقوى منه في اللواحق الأخرى جعلوه مبنى حكمهم باعتبار الموالاة في مطلق التابع سواء أ كان من مقولة اللفظ أم أمرا آخر مما يتوقف صدق العنوان على الهيئة الاتصالية بين أجزائه كتعريف اللّقطة في سنة واحدة.

هذا توضيح توجيه المصنف لجعل الاستثناء أساسا لشرطية التوالي مطلقا، و لكنه قدّس سرّه جعله وجها بعيدا، و سيأتي تقريبه.

(1) و هي اعتبار الموالاة بين الإيجاب و القبول.

(2) يعني: أنّ كثيرا من القواعد الشرعية تستنبط من حكم الشارع في قضية شخصية، كما أنّ كثيرا منها وردت بلسان ضرب القانون و الحكم العام.

(3) غرضه الاستشهاد بخصوص كلمات الشهيد قدّس سرّه في القواعد على الالتفات إلى الحكم الكلّي من تتبع بعض جزئياته، و قد تكرّر قول الشهيد: «الأصل كذا».

كقوله: «الأصل أنّ كلّا من الواجب و الندب لا يجزي عن صاحبه، لتغاير الجهتين».

و قوله: «الأصل في الأسباب عدم تداخلها إلّا في مواضع».

و «أنّ الأصل في العقود الحلول ..».

و «الأصل أنّ كلّ أحد لا يملك إجبار غيره إلّا في مواضع».

و «الأصل عدم تحمل الإنسان عن غيره ما لم يأذن له إلّا في مواضع» و غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع في قواعده قدّس سرّه.

و على هذا فقوله في مسألتنا: «الموالاة معتبرة في العقود، و هي مأخوذة .. إلخ»

ص: 508

و يحتمل بعيدا (1) أن يكون الوجه فيه: أنّ الاستثناء أشدّ ربطا بالمستثنى منه من سائر اللّواحق، لخروج (2) المستثنى منه معه عن حدّ الكذب إلى الصدق، فصدقه (3) يتوقف عليه، فلذا كان طول الفصل هناك (4) أقبح، فصار أصلا في اعتبار الموالاة بين أجزاء الكلام، ثم تعدّى (5) منه إلى سائر الأمور المرتبطة بالكلام لفظا (6) أو معنى (7)

______________________________

مبني على استفادة شرطية التوالي- في العقود و غيرها- من الرّبط الموجود في مورد خاصّ و هو المستثنى منه و المستثنى.

(1) وجه البعد: أنّ اعتبار الاتصال في ما كان الرّبط فيه أشدّ- كالاستثناء- لا يلازم ثبوته في ما كان الرّبط فيه أخفّ. مع أنّ الشهيد قدّس سرّه جعل الاستثناء منشأ لاعتبار الاتصال و التوالي في موارد أخرى مع عدم كون الرّبط فيها بمثابة الاستثناء، و من المعلوم أنّه لا أولوية و لا مساواة في البين حتّى يتّجه التعدّي من الأشد إلى الأخف.

(2) يعني: أنّ الحاجة إلى المستثنى لأجل خروج الخبر عن الكذب إلى الصدق، و هذا بخلاف سائر التوابع كالحال و الصفة و التأكيد، فإنّ إهمالها في الكلام لا يؤثّر في صدق الخبر و كذبه أصلا.

(3) يعني: فصدق المستثنى منه يتوقف على وصل المستثنى به فورا.

(4) أي: الفصل بين المستثنى و المستثنى منه أقبح من الفصل بين مثل الحال و ذي الحال، فإذا كان وصل الحال بذيه لازما كان وصل المستثنى بالمستثنى منه ألزم و آكد. و لأجل هذه الآكدية جعل الشهيد الاستثناء منشأ لشرطية الموالاة في العقود و غيرها. و الضمير المستتر في «صار» راجع إلى كون طول الفصل أقبح في باب الاستثناء.

(5) يعني: تعدّى الشهيد قدّس سرّه من باب الاستثناء إلى التوابع و نحوها.

(6) كالتأكيد اللفظي، فإنّه- مع تخلّل زمان معتدّ به بين المؤكّد و المؤكّد- يخرج الكلام عن ضابط التأكيد اللفظي.

(7) كالمحمول، فإنّ الفصل الطويل بينه و بين الموضوع يمنع عن حصول الرّبط

ص: 509

أو من (1) حيث صدق عنوان خاصّ عليه، لكونه عقدا أو قراءة، أو أذانا، و نحو ذلك.

ثم (2) في تطبيق بعضها على ما ذكره خفاء، كمسألة توبة المرتدّ، فإنّ غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه: إنّ المطلوب في الإسلام الاستمرار، فإذا انقطع فلا بدّ من إعادته (3) في أقرب الأوقات.

و أمّا مسألة الجمعة (4) فلأنّ هيئة الاجتماع في جميع أحوال الصلاة من

______________________________

المعنوي بينهما.

(1) معطوف على قوله: «لفظا» أي: سائر الأمور المرتبطة بالكلام من حيث صدق عنوان على الكلام، كعنوان العقد و القراءة و الأذان، و الدعاء بالمأثور ممّا له عنوان خاص، و التشهّد، و غيرها من صنوف الكلام.

(2) هذا هو الإشكال الثالث على الشهيد قدّس سرّه، و هو ناظر إلى تطبيق شرطية الموالاة على بعض الموارد، و محصل الإشكال: أنّ المرتدّ و إن وجبت عليه التوبة- بعد الاستتابة- فورا، لكنه ليس بلحاظ اعتبار الموالاة بين الاستتابة و التوبة، بل بلحاظ مطلوبية الإسلام من المرتدّ في كل حال حتى حال الاستتابة و قبلها و بعدها، فيجب عليه الرجوع إلى الدين الحنيف من هذه الجهة، لا من جهة رعاية الموالاة بين استتابته و توبته.

هذا لو لم يؤخذ بالأخبار التي تمهله ثلاثة أيّام، ثم يقتل بعدها لو لم يتب فيها. و أمّا بناء على الأخذ بها فلا يبقى مجال لاعتبار التوالي عرفا بين الاستتابة و التوبة، لوضوح أنّ الفصل بثلاثة أيّام مخلّ بالتوالي و الاتصال قطعا.

(3) أي: إعادة الإسلام في أوّل الأزمنة، فليست المسألة من فروع الموالاة.

(4) هذا مورد ثان جعله المصنف قدّس سرّه أجنبيا عن عموم اعتبار الموالاة بين أجزاء مركّب واحد عنوانا، و حاصله: أنّ انعقاد صلاة الجمعة بتحريم المأمومين قبل الركوع ليس لأجل اعتبار الاتّصال و الموالاة بين تحريم الإمام و تحريمهم، بل لأجل

ص: 510

القيام و الرّكوع و السجود مطلوبة، فيقدح الإخلال بها (1).

و للتأمّل في هذه الفروع (2) و في صحة تفريعها على الأصل المذكور مجال (3).

ثم إنّ (4) المعيار في الموالاة موكول

______________________________

مطلوبية القدوة في جميع أحوال الصلاة من القيام و الركوع و السجود و التشهد و غيرها، فالإخلال بها قادح في تحقق الجماعة، و أين هذا من اشتراط الجمعة بالموالاة؟

(1) أي: بهيئة الاجتماع، يعني: أنّ عدم تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع مخلّ بهيئة الاجتماع، المطلوبة في جميع أحوال الصلاة.

(2) يعني: لو سلّمنا اعتبار الهيئة الاتصالية في القراءة و فصول الأذان و نحوهما لم يكن ذلك متفرّعا على شرطية الموالاة، بل لدليل خاص، كما تقدّم في مطلوبية التديّن بالإسلام في كل حال، و مطلوبية هيئة الاجتماع في صلاة الجماعة، فلو لا هذا الدليل الخاص لأمكن نفي شرطية الاتصال بأصالة البراءة.

(3) مبتدأ مؤخّر لقوله: «للتأمّل» و وجه مجال التأمل هو ما أفاده في قوله:

«و يحتمل بعيدا أن يكون الوجه فيه» الذي حاصله: أنّ اعتبار الاتصال في باب الاستثناء- لشدّته و آكديته- لا يقتضي اعتباره في مطلق التابع و المتبوع مع عدم وثاقة الرّبط بينهما.

(4) غرضه من هذا الكلام إلى آخر البحث تعيين المرجع في تحقق التوالي بين شيئين أو أشياء، و أنّ ما ذا يكون مناط الفصل بينهما أو بينها؟ و قد أفاد أوّلا: أنّ الموالاة لا حقيقة شرعية لها، فالمرجع في تشخيص مفهومها هو العرف، و من المعلوم أنّها تختلف باختلاف مواردها، فالموالاة في قراءة كلمات آية أضيق دائرة من الموالاة في آيات سورة واحدة.

ثم أفاد ثانيا: أنّ المستفاد من خبر سهل الساعدي- الوارد في تزويج امرأة بالصحابي- جواز الفصل بين إيجاب النكاح و قبوله بكلام طويل أجنبي عن صيغة

ص: 511

إلى العرف (1) كما في الصلاة و القراءة و الأذان و نحوها.

و يظهر (2) من رواية سهل الساعدي المتقدّمة في مسألة تقديم القبول جواز الفصل بين الإيجاب و القبول بكلام طويل أجنبي (3)، بناء (4) على ما فهمه الجماعة من أنّ القبول فيها قول ذلك الصحابي: «زوّجنيها» و الإيجاب قوله بعد فصل طويل: «زوّجتكها بما معك من القرآن» (5).

و لعلّ هذا (6)

______________________________

النكاح، بناء على ما اختاره جمع منهم الشهيد الثاني قدّس سرّه من أن قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«زوّجتكها» إيجاب مؤخّر، و قول الرجل: «زوّجنيها» قبول مقدّم.

و أمّا بناء على ما اختاره آخرون من توجيه الخبر، و عدم الأخذ بظاهره تعيّن الرجوع إلى العرف في سعة مفهوم الموالاة و ضيقها في كل مورد.

(1) كما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه أيضا، حيث قال: «قلت: المدار في هذه الموالاة على العرف، فإنّه الحافظ للهيئة المتعارفة سابقا في العقد الذي نزّلنا الآية عليه، فإنّ الظاهر عدم تغيّرها» «1».

(2) مقصوده من الاستشهاد برواية سهل التوسعة في مفهوم الموالاة تعبدا، و عدم الاقتصار على تحديدها عرفا.

(3) المراد بالأجنبي هو الكلام غير المرتبط بالصيغة و متعلّقاتها من صداق و شرط في ضمن العقد و نحوهما.

(4) و أمّا بناء على ما فهمه جمع- من عدم كون قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زوّجتكها» إيجابا مؤخّرا، و لا قول الرجل: «زوّجنيها» قبولا مقدّما- كان الخبر أجنبيا عن إلغاء الموالاة بين القبول المقدّم و الإيجاب المؤخّر.

(5) إذ لو لم يكن قول الصحابي: «زوّجنيها» قبولا- بأن تحقّق منه القبول بعد الإيجاب بلا فصل- كان التوالي محقّقا.

(6) يعني: و لعلّ لزوم الفصل الطويل بين الإيجاب و القبول- بناء على ما

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 255

ص: 512

موهن آخر (1) للرواية، فافهم (2) [1].

______________________________

فهمه الأصحاب من كون قول الصحابي: «زوّجنيها» قبولا بلفظ الأمر مقدّما على الإيجاب من دون وقوع قبول آخر عقيبه- موهن آخر للرواية، و مسقط لها عن الاعتبار.

(1) أشار به إلى موهن آخر تقدّم في بحث تقدم القبول- إذا كان بصيغة الأمر- بقوله: «و أمّا ما يظهر من المبسوط من الاتفاق هنا على الصحة به فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر على خلافه» فإنّ مصير الأكثر إلى خلاف مضمون الرواية يوهن اعتبارها، و يرفع الوثوق بها، لأنّه إعراض عنها.

(2) إشارة إلى: أنّ هذه الرواية إن دلّت على جواز الفصل بين الإيجاب و القبول لزم العمل بها، لا أنّه موهن لها، كيف؟ و لم يقم دليل تام على اعتبار الموالاة حتى يكون ذلك موهنا لهذه الرواية، بل لو لم تنهض هذه الرواية على جواز الفصل كان مقتضى الأصل جوازه.

نعم يمكن أن يكون الموهن ضعف السند.

إلّا أن يقال: إنّه يكفي في الوثوق بها توصيف الشهيد الثاني قدّس سرّه لها في المسالك بكونها «مشهورة بين العامة و الخاصة، و أنّه رواها كل منهما في الصحيح».

مضافا إلى: أن بمعناها رواية موصوفة بالصحة، هدانا اللّه تعالى إلى أحكامه.

______________________________

[1] قد عرفت ذهاب جمع إلى اشتراط صحة العقد بالموالاة المعبّر عنها في بعض الكلمات بالفوريّة، و المراد بها العرفية، بمعنى عدم تخلّل الفصل بما يخلّ بوحدة الموجود التدريجي فيما إذا أخذ بقيد وحدته موضوعا لآثار، و إلّا فلا تتصور الموالاة الحقيقية بين أجزاء الموجود التدريجي المتشابك مع العدم، لتقومه بالأخذ و الترك. هذا بالنسبة إلى موجود واحد و تدريجي.

و أمّا الموجودان المستقلّان كالالتزامين القائمين بشخصين أو الكلامين كذلك فمعنى اتصالهما هو عدم تخلّل زمان بينهما حقيقة أو عرفا. و حيث إنّ المدار على صدق العقد العرفي فلا بدّ من عدم التخلّف بين إيجابه و قبوله، لتقوّم العقد المعنوي و اللفظي

ص: 513

______________________________

المبرز له بعدم تخلّل زمان معتدّ به عرفا بين جزئية، فاعتبار الموالاة حينئذ لكونها مقوّمة لعنوان العقد لا للتعبّد.

و التحقيق: أنّ هنا عناوين عديدة:

أحدها: العهد، و هو الالتزام القلبي أو الجعل المعاملي.

ثانيها: العقد، و هو ربط أحد الالتزامين بالآخر، فحيثية العهد غير حيثية العقد، لأنّ العهد بمنزلة الموضوع للعقد، حيث إنّ الرّبط بين الشيئين متفرّع عليهما، و ربط أحد الالتزامين بالآخر ليس كارتباط لفظ بلفظ و كلام بكلام حتى يقال: إنّ الارتباط مساوق للاتصال المتقدم و هو الوصل من حيث الزمان.

بل مناط العقدية في مقام السببية إنّما هو بارتباط مدلول أحد الكلامين بالآخر، بحيث يصلح أن يتسبّب به إلى مبادلة خاصة، و يكون الآخر قبولا لذلك التسبيب لا لأمر آخر. و ربط أحد الالتزامين بالآخر إنّما هو بلحاظ ورودهما على أمر واحد، و هو كون أحد المالين بإزاء الآخر في الملكية مثلا. فالجامع الرابط بين الالتزامين هو وحدة الملتزم به. و من المعلوم أنّ هذا المعنى من الارتباط لا يناط بعدم تخلّل الزمان بين الكلامين الدالّين على المدلولين، بل يناط ببقاء الالتزام الإيجابي على حاله إلى أن يلحقه القبول، و إن تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب و القبول، إذ لا يتحقق الرّبط بين موجود و معدوم، و لذا لو أوجب البيع و لم يقبل القابل إلّا بعد مضيّ زمان من الإيجاب- و وعظه الموجب بأنّ هذا البيع ينفعك، و بيّن منافعه و مصالحه حتى قبل المشتري- لم يكن مانع من صحة هذا البيع.

نعم لو ألغى الموجب التزامه الإيجابي لغا القبول، لانتفاء الإيجاب.

فغاية تقريب الموالاة بين الإيجاب و القبول هي: أنّ الإيجاب و القبول لمّا كانا قائمين بأثر واحد فلهما بنظر العرف جهة وحدة، فكأنّهما كلام واحد يترتب عليه أثر واحد. و من المعلوم أنّ الاتصال العرفي المساوق للوحدة منوط بعدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب و القبول.

ص: 514

______________________________

ثالثها: البيع و نحوه من العناوين الإنشائية، فيمكن أن يقال: إن كان دليل الصحة و اللزوم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فلا يشمل البيع و التجارة حتى يقال بكونهما من العقود التي تعتبر فيها الموالاة، إذ لم يؤخذ في موضوع دليل الصحة و اللزوم عنوان العقد، هذا.

لكن فيه ما لا يخفى، ضرورة أنّ البيع و الصلح و الإجارة و نحوها من العقود العرفية بلا إشكال.

نعم يمكن أن لا تكون التجارة عقدا كالتملك بالحيازة، فتأمّل. لكنه نادر.

فلا فرق في اعتبار الموالاة بين كون دليل الصحة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و بين كونه أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ و تجارة عن تراض، هذا.

ثم إنّه لا بأس بالإشارة إلى الوجوه المستدلّ بها على اعتبار الموالاة في العقد، و هي بين ما ظاهره كون دخل الموالاة في العقد عرفيا بمعنى تقوّم العقد بالموالاة، و بين ما ظاهره كون الدخل تعبّديّا، و بين ما ظاهره كون الدخل عقليّا.

الأوّل: ما عن ابن إدريس و غيره من قاعدة توقيفيّة ألفاظ العقود.

و فيه ما لا يخفى، إذ الإطلاقات تقضي بعدم اعتبار الموالاة و عدم التوقيفية، إلّا ما خرج.

الثاني: ما نقله المصنف عن الشهيد قدّس سرّهما. و حاصله: أنّ الموجود التدريجي- المركّب من أمرين أو أمور- إذا كان له عنوان واحد كالصلاة فلا بدّ في ترتيب الحكم المعلّق عليه من اعتبار صورته الاتصالية الحافظة لوحدته المقوّمة لعنوانه. و العقد المركّب من الإيجاب و القبول من هذا القبيل، فإنّه و إن كان قائما بشخصين و موجودا بوجودين، لكنهما لوحدة أثرهما بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه ببعض، فيقدح في صدق العنوان تخلّل الفصل المخلّ بهيئته الاتصالية، و لذا لا تصدق المعاقدة إذا كان الفصل بين الإيجاب و القبول كثيرا جدّا، كسنة أو أزيد.

و الحاصل: أنّ دخل الموالاة في العقد بناء على هذا التقريب عرفي و مقوّم لمفهومه العرفي. كما أنّ الوجه الأوّل المنسوب إلى ابن إدريس رحمه اللّه ناظر إلى كون دخل

ص: 515

______________________________

الموالاة في العقد تعبديّا، هذا.

و فيه ما عرفت آنفا من: أنّ العقد هو الربط بين الالتزامين، و لا يناط ذلك الرّبط بعدم تخلّل زمان بينهما، إذ الربط غير الاتصال الزماني، هذا.

و أمّا ما أجاب به المصنف عن هذا الدليل بأن ما أفاده الشهيد قدّس سرّه حسن لو كان دليل الملك و اللزوم مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مما أناطهما بعنوان العقد العرفي. أمّا لو كانا منوطين بصدق البيع أو التجارة عن تراض، فلا يضرّه عدم صدق العقد، لكفاية صدق البيع و التجارة عليه، فلا موجب حينئذ لاعتبار الموالاة فيه، لعدم إناطة الصحة و اللزوم بعنوان «العقد» حتّى يلتزم باعتبار الموالاة فيه.

ففيه أوّلا: أنّ البيع و الصلح و غيرهما من العقد العرفي، لاشتمالها على الإيجاب و القبول اللّذين يتقوم بهما كل عقد.

نعم قد لا يصدق العقد على التجارة كتملّك المباحات، فإنّه تجارة غير عقد كما قيل.

لكن فيه: عدم صدق التجارة عليه، بل الصادق عليه هو الفائدة، فصدق العقد على البيع و التجارة على حدّ سواء.

إلّا أن يقال: إن تملّك العامل للجعل في باب الجعالة تجارة أيضا، مع عدم كون الجعالة عقدا، بل هي إيقاع، فتأمّل.

و ثانيا: أنّ العقد هو الرّبط بين الالتزامين. و قد عرفت عدم توقف الربط العقدي على عدم تخلّل زمان معتدّ به بين الإيجاب و القبول، و من المعلوم أنّ تخلل زمان بين الإيجاب و القبول الحاكيين عن ذلك الرّبط لا يوجب انفصام الالتزامين القائمين بالنفس، كما لا يخفى.

و دعوى: وحدة الإيجاب و القبول اللفظيّين الحاكيين عن الالتزامين المرتبطين، كما ترى، حيث إنّ مورد اعتبار الموالاة هو العقد لا الكلامان الحاكيان عنه، فمن ناحية

ص: 516

______________________________

العقد العرفي لا يمكن الحكم باعتبار الموالاة في العقد.

مع أنّه لو كان التوالي معتبرا في العقد من حيث إنّه عقد عرفي لزم اعتباره في جميع أنواع العقود من اللازمة و الجائزة- كما هو مقتضى إطلاق كلام الشهيد في القواعد- إذ اللزوم و الجواز من أحكام العقد لا من مقوّماته. مع أنّ الشهيد الثاني لم يعتبر الموالاة في الوديعة التي هي من العقود الجائزة، و قال في أوّل وديعة الروضة: «و كيف كان لا تجب مقارنة القبول للإيجاب قوليّا كان أو فعليا» «1».

فلو كان الوجه في اعتبار الموالاة عنوان العقدية فلا بدّ من الالتزام باعتبارها في كل عقد لازما كان أو جائزا.

و كيف كان فقد أورد المحقق النائيني قدّس سرّه على ما عرفته من جواب المصنف عن الدليل المذكور- الذي استدلّ به الشهيد قدّس سرّه- بوجوه:

أحدها: أن البيع و الصلح و التجارة و النكاح ليست إلّا العقود المتعارفة، فلا بدّ من الموالاة فيها قضية لعقديّتها.

و فيه: أنّ التعارف لا يوجب انصراف الإطلاق إلى خصوص العقود المتعارفة، حتى يقال: إنّ دليلي البيع و التجارة بمنزلة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ في كون الموضوع عنوان العقد.

ثانيها: أنّه لا يصح التمسّك بإطلاق دليلي البيع و التجارة لنفي اعتبار الموالاة، لعدم كونهما في مقام البيان من جميع الجهات، هذا.

و فيه أوّلا: أنّ التمسك بالإطلاق المزبور لإمضاء الأسباب يكشف عن ورودهما في مقام بيان الجهات.

و ثانيا: أنّ الشك في ورودهما في مقام البيان كاف في الإطلاق، للأصل العقلائي على ما قرّر في محله.

______________________________

(1): الروضة البهية، ج 4، ص 230

ص: 517

______________________________

ثالثها: أنّه لا يمكن التفكيك بين الصحة و اللزوم إلّا بدليل خارجي من الإجماع و نحوه، من جعل الشارع الخيار للمتعاقدين، أو جعلهما لأنفسهما أو لأجنبي، فهذه المعاملة و هي الإيجاب و القبول- اللذان تخلّل الفصل بينهما- لا يشملها أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الذي هو دليل اللزوم، و لأجل ذلك لا يحكم بلزومها، فلا بدّ من البناء على فسادها أيضا، لما عرفت من عدم التفكيك بين الصحة و اللزوم إلّا بدليل على عدم اللزوم، و ذلك الدليل مفقود هنا، فلا محيص عن الحكم بفسادها، هذا.

و فيه أوّلا: عدم انحصار دليل لزوم البيع ب أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لدلالة قوله تعالى:

لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلّٰا أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ على اللزوم، حيث إنّ الأكل بالفسخ ليس تجارة عن تراض، فيكون من الأكل بالباطل كما تقدّم تفصيله في أدلّة لزوم المعاطاة.

و ثانيا: عدم دليل على التلازم بين الصحة و اللزوم.

و ثالثا: أنّ عدم شمول أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لا يدلّ على عدم اللزوم حتى يحكم- بضميمة عدم الفصل- بالفساد، إذ يمكن أن يقال: بكفاية دليل الصحة- بضميمة عدم الفصل بين الصحة و اللزوم- في الحكم باللزوم، هذا.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقق النائيني قدّس سرّه على ما في تقرير بحثه الشريف من:

«أنّ في المعاملة خلعا و لبسا، حيث إنّ البائع يخلع ثوب الملكية عن نفسه و يلبسه شخصا آخر، فتخلّل الفصل بين الإيجاب و القبول يوجب تحقق الخلع مع عدم ثبوت اللّبس و يلزم منه تحقق الإضافة بلا مضاف إليه. أو أنّ في المعاملة إيجاد علقة، و مع الفصل بين الإيجاب و القبول يلزم تحقق العلقة بلا محل. و كلاهما باطل، فلا بد من اتّصال القبول بالإيجاب» «1»، هذا.

و فيه أوّلا: النقض بالزمان القصير المتخلل بين الإيجاب و القبول في جميع

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 111

ص: 518

______________________________

الموارد، إذ لا فرق في هذا المحذور العقلي- و هو لزوم قيام الإضافة و العلقة بذاتهما و بلا محلّ و بغير مضاف إليه- بين قصر الزمان و طوله.

و ثانيا:- بعد تسليمه- أنّه لا يبقى مجال للتردّد و الإشكال في اعتبار الموالاة في بعض العقود، و هو العقود العهدية غير المشتملة على المعاوضة كالهبة و الرهن، لأنّ اللّبس و الخلع موجودان في الهبة أيضا، إذ إضافة الملكية تخلع من الواهب، و يكتسيها المتّهب، فإذا تخلّل الفصل بين الإيجاب و القبول لزم الخلع بلا لبس مدّة من الزّمان.

و ثالثا: أنّ الخلع و اللّبس الإنشائيين يتحققان بالإيجاب من دون حاجة إلى القبول أصلا، فالموجب ينشئ تمام ماهية البيع و يملّك المبيع و يتملك الثمن، و القابل ينفّذ هذا الإيجاب، فلا ينفصل اللّبس عن الخلع. و أمّا الخلع و اللبس الاعتباريان اللذان يحكم بهما الشرع أو العقلاء فلا يحصلان إلّا بالقبول، فبوجوده يتحققان معا في آن واحد من دون تخلّل لحظة بينهما، فلا يلزم المحذور العقلي و هو تحقق الإضافة بلا محل، فابتناء اعتبار الموالاة في العقد على هذه المسألة العقلية ليس في محله.

الوجه الرابع: ما يظهر من حاشية المحقق الإيرواني قدّس سرّه و هذا نصّه: «و كأنّ اعتبار التوالي ناش من اعتبار المطابقة بين الإيجاب و القبول، بتوهم: عدم حصول المطابقة مع التأخّر، لأنّ الإيجاب أفاد النقل من الحين، فإذا تأخّر القبول فإمّا أن يكون قبوله قبولا لتمام مضمون الإيجاب، فيلزم من صحّته حصول النقل من حين الإيجاب كما في الإجازة على القول بالكشف، فيكون النقل حاصلا قبل حصول تمام العقد، و ذلك باطل.

أو يكون قبولا لبعض مضمون الإيجاب أعني النقل من حين تحقق القبول، فيلزم عدم المطابقة بين الإيجاب و القبول. و هذا المحذور و إن كان يعمّ صورة التوالي أيضا، لتحقق الفصل هناك أيضا و لو بيسير، لكن هذا المقدار من التخلف لا يضر بالمطابقة العرفية، فلا يوجب الحكم بالفساد» «1».

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 90

ص: 519

______________________________

و فيه أوّلا: أنّ الالتزام بصحة العقد من حين الإيجاب بأن يكون القبول كاشفا عن صحته كذلك حقيقة أو حكما ممّا لا مانع عنه، لما مرّ مرارا من أنّ الموجب ينشئ تمام ماهية العقد، فالقبول كاشف- كالإجازة في الفضولي- فيكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

هذا ما أفيد، لكنه لا يخلو من تأمّل، وجهه: أنّ جعل القبول كاشفا لا جزء السبب المؤثّر في المسبب خلاف مقتضى العقد، لأنّ مقتضاه كون كلا الإنشائين سببا، لا كون القبول واسطة إثباتية، و إلّا كان إيقاعا لا عقدا.

و ثانيا: أنّ مضمون الإيجاب ليس إلّا مجرّد التمليك أو التبديل بين المالين، من دون دخل للزمان فيه بأن يكون التبديل مقيّدا بزمان الإيجاب، إلّا أنّ ترتب الأثر عليه عرفا و شرعا منوط بضم القبول إليه.

و بعبارة أخرى: الزمان ظرف لتحقق المسبّبات لا قيد لها، فالقبول- بعد ضمّه إلى الإيجاب- يؤثّر في الأمر الاعتباري العقلائي و الشرعي، فمضمون الإيجاب هو النقل الإنشائي، و أمّا الأمر الاعتباري فهو يترتب على القبول الذي هو قبول لتمام المضمون في الصورتين، و هما: كون مضمون الإيجاب النقل من الحين، أو كون مضمونه مجرّد النقل الإنشائي، و العلقة الاعتبارية تترتب على القبول، ففي كلتا الصورتين يكون القبول قبولا لتمام مضمون الإيجاب من دون محذور.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أمور:

الأوّل: أنّ العقد و البيع و التجارة و الإجارة و الصلح و غيرها من أنواع العقود أسام للمسبّبات التي ليست هي من الأمور التدريجية الوجود، و لا من مقولة الألفاظ حتى تلاحظ فيها الموالاة المقوّمة للهيئة الاتصالية، فليس العقد هو السبب أعني الإيجاب و القبول حتى يكون مركّبا تدريجيا اعتبر فيه الموالاة، إذ لازمه انتفاء العقد بوجود القبول، لانعدام الألفاظ، و لا معنى لوجود العقد مع انعدامها. و قد تقدّم أنّ العقد هو نفس الرّبط

ص: 520

______________________________

بين الالتزامين، و من المعلوم كونه بسيطا لا مركّبا حتى تلاحظ الموالاة بين أجزائه. نعم يعتبر في صحة العقد بقاء الالتزام الإيجابي إلى زمان تحقق الالتزام القبولي.

الثاني: أنّ قياس العقد على القراءة و التشهد و الأذان و غيرها- كما في عبارة الشهيد المتقدمة- في غير محله، لأنّها من الأمور المتدرجة الوجود، بخلاف العقد الذي هو دفعي الوجود، لبساطته.

و بالجملة: فلا موضوع للموالاة في العقود حتى يبحث عن اعتبارها و عدمه.

نعم هذان الإشكالان مبنائيّان، لأنّ الشهيدين جعلا ألفاظ المعاملات أسامي للأسباب على ما تقدم مشروحا في محلّه «1».

الثالث: أنّه لا فرق في العقود بين أنواعها في عدم موضوع لاعتبار الموالاة فيها، لكون مفهوم العقد في جميع أنواعه واحدا غير قابل لتطرّق بحث الموالاة فيه، هذا.

ثم إنّه لو سلّم كون العقد من مقولة اللفظ حتى يندرج في الأمر التدريجي- القابل لجريان بحث الموالاة فيه- فنقول: إنّه لا دليل على اعتبار الموالاة فيه، لإطلاق أدلة الإمضاء، و معه لا تصل النوبة إلى أصالة عدم ترتب الأثر.

نعم لمّا كان الإيجاب و القبول بمنزلة السؤال و الجواب كانت الموالاة المعتبرة بينهما بمثابة لا يخرج القبول عمّا هو بمنزلة الجواب. و أمّا الموالاة على حدّ الموالاة المعتبرة في الأذان و الصلاة و القراءة و نحوها فهو ممّا لا يساعده دليل.

بل ربما يستدل على عدم اعتبار الموالاة في العقود بما دلّ على إهداء مارية القبطية، حيث إنّه وقع بين إيجابه و قبوله فصل طويل. و ذلك لأنّ النجاشي ملك الحبشة- بعد تشرفه بالإسلام- بعث إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهدايا، و بعث إليه مارية القبطية أمّ إبراهيم عليه السّلام، و بعث إليه بثياب و طيب كثير و فرس.

و يدلّ أيضا على عدم اعتبار الموالاة فحوى ما ورد في قول الصّحابي: «زوّجنيها»

______________________________

(1): راجع الجزء الأول عن هذا الشرح، ص 289 إلى 296

ص: 521

______________________________

و الإيجاب بعد فصل طويل «زوّجتكها».

و ما في تقريرات المحقق النائيني قدّس سرّه من توجيه الاتصال و الموالاة في الهدايا المرسلة من الأمكنة البعيدة بقوله: «و لكن الحق اعتبار الاتصال فيها أيضا. و إرسال الهدايا من البلاد البعيدة لا يدل على جواز الانفصال، فإنّ تحقق الأفعال مختلف، فمنها ما لا يحتاج إلى زمان ممتدّ، كما لو وقعت في حضور المتعاطيين. و منها ما يحتاج إليه كالهدايا المرسلة من الأماكن البعيدة، فإنّ الفعل لا يتحقق إلّا بوصولها إلى يد المهدي إليه.

و جميع هذه الأفعال الصادرة من الواسطة كأنّها صادرة من الموجب، فهو بمنزلة من كان في المشرق، و كانت يده طويلة تصل إلى المغرب، فمدّ يده و أعطى شيئا لمن كان في المغرب، فإنّ فعله يتم في زمان وصول يده إلى المغرب، فتأمّل جيّدا» «1».

لا يخلو من غموض، للفرق الواضح بين ما نحن فيه و بين المثال المزبور، و ذلك لأنّ المهدي من المكان البعيد ربما يغفل عن هديّته حين وصولها إلى المهدي إليه، فلا يمكن تنزيل فعل الرسول منزلة فعل المرسل. و هذا بخلاف المثال، فإنّ المهدي في ذلك هو المرسل الذي يكون بنفسه متصديا لإنشاء العقد من دون فصل بين إيجابه و قبوله، لعدم كون طول اليد مخرجا للفعل الواحد عن وحدته كما لا يخفى.

و يدل أيضا على عدم اعتبار الموالاة قيام السيرة بين التجار المتدينين على المعاملة بالكتابة و البرقية مع تخلّل فصل طويل بين إيجابها و قبولها، مع عدم مناقشة أحد في صحتها.

فالمتحصل: أنّ العقد- بناء على كونه المسبّب- لا معنى لاعتبار الموالاة فيه. و بناء على كونه السبب و هو الإيجاب و القبول- كما هو ظاهر الشهيدين قدّس سرّهما- يتصور فيه التوالي، لكن لا دليل على اعتبار أزيد من الموالاة الرابطة للجواب بالسؤال، فقياس العقد

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 112

ص: 522

______________________________

من ناحية الموالاة على الصلاة و أشباهها في غير محله.

بقي الكلام فيما أفاده الشهيد قدّس سرّه بقوله: «و هي مأخوذة من اعتبار الاتصال بين المستثنى و المستثنى منه .. إلخ» و الظاهر أنّ مراده كون الاستثناء منشأ للانتقال إلى اعتبار الموالاة في العقد و غيره مما يعتبر فيه الاتصال، و ذلك لأنّ تبعية المستثنى للمستثنى منه أوجبت اعتبار الاتصال و الموالاة بينهما، ففي جميع موارد التبعية لا بدّ من مراعاة الموالاة.

و الإيجاب و القبول في العقود من هذا القبيل، حيث إنّ القبول تابع للإيجاب، فالتبعية تقضي باعتبار الاتصال بينهما أيضا، هذا.

و أنت خبير بما فيه، حيث إنّ منشأ اعتبار الاتصال بين المستثنى و المستثنى منه هو تقوّم معنى كلمة «إلّا» الذي هو معنى حرفي بالطرفين، فلا محيص عن اعتبار الاتصال بين المستثنى و المستثنى منه حتى يتحقق تلك النسبة و الربط. و هذا بخلاف العقد بمعنى الإيجاب و القبول، فإنّهما بمنزلة السؤال و الجواب، و من المعلوم عدم اعتبار الفورية العرفية بينهما، و إنّما المعتبر فيهما عدم تخلّل زمان معتدّ به بينهما بحيث يخرجان عن السؤال و الجواب.

و كذا ما هو بمنزلتهما كالسّلام و ردّه، و الورود في المسجد و صلاة تحيّته.

و أمّا العقد بالمعنى البسيط- أعني به المسبّب- فقد عرفت امتناع جريان نزاع اعتبار الموالاة و عدمه فيه. فعلى التقديرين لا وجه لجعل الموالاة في باب الاستثناء أصلا لاعتبار الموالاة في العقد، هذا.

ص: 523

[المبحث الثالث: اعتبار التنجيز]

و من جملة الشروط التي ذكرها جماعة: التنجيز (1) في العقد، بأن (2) لا يكون معلّقا على شي ء بأداة الشرط، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود

______________________________

المبحث الثالث: اعتبار التنجيز

(1) هذا ثالث المباحث المتعلقة بالجهة الثالثة المتكفلة لشروط الهيئة التركيبية لصيغ العقود، و هو ما ذكره جماعة من شرطيّة التنجيز أو مانعية التعليق، و قد تعرّض المصنف قدّس سرّه في هذا البحث لمقامات أربعة:

الأوّل: في معنى التنجيز.

الثاني: في نقل كلمات الأصحاب حتى يظهر منها أنّ اعتباره ثابت عندهم، و أن التنجيز شرط أو التعليق مانع.

الثالث: في دليل اعتبار هذا الشرط.

الرابع: في تحقيق المسألة موردا و دليلا، و سيأتي الكلام في كلّ منها بالترتيب.

(2) هذا إشارة إلى المقام الأوّل، و هو معنى التنجيز المبحوث عنه في صيغ العقود، و محصله: أنّ التنجيز عبارة عن الإرسال و عدم إناطة الإنشاء بشي ء من أدوات الشرط، و في مقابله التعليق الذي هو إناطة العقد بشي ء من أداة الشرط، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود ذلك الشرط، كما إذا قال: «بعتك هذا الكتاب بدينار إن جاء زيد في هذا اليوم» و قال المشتري: «قبلت هكذا» أي القبول كالإيجاب مشروط بمجي ء زيد، فقصدهما للبيع منوط بمجيئه، بحيث لا يقصدان البيع في صورة عدم ذلك الشرط، فالتنجيز حينئذ عبارة عن قصدهما البيع بدون الإناطة بالشرط.

ص: 524

ذلك الشي ء، لا في غيرها (1).

و ممّن (2) صرّح بذلك (3) الشيخ و الحلّي (4) و العلّامة (5) و جميع من تأخّر

______________________________

(1) يعني: في غير صورة وجود ذلك الشي ء الذي أنيط العقد به، من شرط أو صفة.

(2) هذا إشارة إلى المقام الثاني، و هو أقوال الفقهاء في اعتبار التنجيز في العقود.

(3) أي: باشتراط التنجيز، قال شيخ الطائفة قدّس سرّه في الخلاف: «إذا قال- أي الموكّل- إن قدم الحاج أو رأس الشهر فقد وكّلتك في البيع، فإنّ ذلك لا يصحّ .. دليلنا أنّه لا دليل على صحة هذا العقد، و عقد الوكالة يحتاج إلى دليل» «1».

و قال في المبسوط: «و أما الوقف فلا يدخله الخياران- يعني خياري المجلس و الشرط- لأنّه متى شرط فيه لم يصحّ الوقف» «2».

(4) قال في وقف السرائر: «و شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ذهب إلى أنّ دخول الشرط في الوقف يبطله. ذكر ذلك في المبسوط و في مسائل خلافه في كتاب البيوع، لأنّ عقد الوقف لازم من الطرفين، مثل عقد النكاح» «3» و المستفاد من التعليل أنّ كل عقد لازم من الطرفين حكمه التنجيز، و عدم صحة دخول الشرط فيه.

(5) قال في التذكرة: «يشترط في الوقف التنجيز، فلو علّقه على شرط أو صفة لم يجز، مثل أن يقول: إذا جاء زيد فقد وقفت داري. أو يقول: إذا جاء رأس الشهر وقفت عبدي، كما لا يصح تعليق البيع و الهبة» «4».

و قال في الهبة: «و أن يكون العقد منجّزا، فلو علّقه على شرط لم يصح، كالبيع» «5».

______________________________

(1): الخلاف، ج 1، ص 655 (الطبعة الثانية 1377).

(2) المبسوط في فقه الإمامية، ج 1، ص 81

(3) السرائر الحاوي: ج 3، ص 158 و 159

(4) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 433

(5) المصدر، ص 415

ص: 525

عنه كالشهيدين (1)

______________________________

و قال في هبة القواعد: بعد اعتبار التنجيز: «و لا يصح تعليق العقد».

و في نكاحه: «و يشترط التنجيز، فلو علّقه على شرط لم يصح» و في وقفه:

«و يشترط تنجيزه، فلو علّقه بصفة أو بشرط لم يقع» «1».

(1) قال الشهيد في الدروس في شرائط الوقف: «و خامسها: التنجيز، فلو علّق بشرط أو وصف بطل، إلّا أن يكون واقعا، و الواقف عالم بوقوعه كقوله: وقفت إن كان يوم الجمعة» «2».

و في اللمعة و شرحها في شرائط الوقف: «و شرطه- مضافا إلى ما سلف- التنجيز» إلى آخر ما في الدروس، و أضاف قوله: «و كذا في غيره من العقود اللازمة» «3».

و اشترط المحقق التنجيز في صحة الوقف، و فرّع عليه قوله: «و لو قال: وقفت إذا جاء رأس الشهر، أو: إن قدم زيد، لم يصحّ» «4».

و علّق عليه الشهيد الثاني بما لفظه: «هذا تفريع على اشتراط التنجيز .. و نبّه بالمثالين على أنّه لا فرق بين تعليقه بوصف لا بدّ من وقوعه كمجي ء رأس الشهر، و هو الذي يطلق عليه الصفة، و بين تعليقه بما يحتمل الوقوع و عدمه كقدوم زيد، و هو المعبّر عنه بالشرط. و اشتراط تنجيزه مطلقا موضع وفاق كالبيع و غيره من العقود، و ليس عليه دليل بخصوصه» «5».

و قال أيضا في مسألة «إن كان لي فقد بعته» ما لفظه: «إنّ التعليق ينافي الإنشاء

______________________________

(1): قواعد الأحكام، ص 110، 147، ص 107 (الطبعة الحجرية)

(2) الدروس الشرعية، ج 2، ص 264

(3) الرّوضة البهية، ج 2، ص 169

(4) شرائع الإسلام، ج 2، ص 217

(5) مسالك الأفهام، ج 5، ص 357

ص: 526

و المحقّق الثاني (1) و غيرهم (2) قدس اللّه أرواحهم.

و عن فخر الدّين في شرح الإرشاد في باب الوكالة: «أنّ تعليق الوكالة على الشرط لا يصحّ عند الإمامية، و كذا غيره من العقود لازمة كانت أو جائزة» «1».

و عن تمهيد القواعد: دعوى الإجماع عليه «2».

و ظاهر المسالك في مسألة اشتراط التنجيز في الوقف: الاتّفاق عليه «3».

و الظاهر عدم الخلاف (3)

______________________________

في العقود و الإيقاعات حيث يكون المعلّق عليه مجهول الحصول» «4».

(1) قال في شرائط الوقف: «أحدها: تنجيزه، فلو علّق بشرط أو صفة ..

لم يصحّ، لعدم الجزم به، كما لا يصح تعليق البيع و الهبة» «5».

و قال في بطلان عقد الهبة بالتعليق: «لأنّه مع التعليق لا جزم بإنشاء التمليك» «6».

و قال في النكاح: «يشترط في عقد النكاح التنجيز قطعا، لانتفاء الجزم بدونه، فيبطل لو علّقه بأمر محتمل أو متوقع الحصول» «7».

(2) منهم الفاضل المقداد في التنقيح و السيد الطباطبائي في وقف الرياض و وكالته.

(3) لكن تأمّل جمع في اعتبار التنجيز في الوكالة كالمحقق الأردبيلي و الفاضل

______________________________

(1): حكاه السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 7، ص 526

(2) حكاه السيد الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة، ج 4، ص 165، تمهيد القواعد، ص 117، و ليس فيه دعوى الإجماع: و لعلّ السيد حكاه عن موضع آخر.

(3) مسالك الأفهام، ج 5، ص 357 الحدائق الناضرة، ج 22، ص 10 و 11

(4) مسالك الأفهام، ج 5، ص 276

(5) جامع المقاصد، ج 9، ص 14 و 15

(6) جامع المقاصد، 9، ص 143

(7) جامع المقاصد، ج 12، ص 77

ص: 527

فيه كما اعترف به غير واحد و إن لم يتعرّض الأكثر في هذا المقام (1).

و يدل عليه (2) فحوى فتاواهم و معاقد الإجماعات في اشتراط التنجيز في الوكالة، مع كونه من العقود الجائزة التي يكفي فيها كلّ ما دلّ على الإذن، حتّى أنّ العلّامة (3) ادّعى الإجماع

______________________________

السبزواري و المحدّث البحراني، فراجع كلماتهم «1».

بل عن المحقق القمي قدّس سرّه التصريح بأن التعليق في الوكالة لا يضرّ بصحتها «2».

(1) يعني: أنّ أكثر الفقهاء لم يتعرّضوا لشرطية التنجيز في خصوص عقد البيع، و لكن يستفاد من كلماتهم في أبواب متفرّقة- كالوقف و الهبة و النكاح و الوكالة و غيرها- تسالمهم على الاشتراط.

(2) أي: على اشتراط التنجيز، و هذا إشارة إلى المقام الثالث و هو بيان الدليل على توقف صحة العقد على عدم تعليقه على شرط أو صفة، و قد تعرّض المصنف قدّس سرّه أوّلا لكون المسألة إجماعية، و ثانيا للوجه الذي استند إليه المجمعون.

أمّا أصل اتفاقهم على الاشتراط في باب البيع فيستفاد من فحوى شرطيته عندهم في عقد الوكالة مع كونه من العقود الإذنية التي لا يعتبر في إنشائها ما يعتبر في إنشاء العقود اللازمة كالماضوية و الموالاة بين الإيجاب و القبول، فإذا توقّفت صحة الوكالة على تنجيزها كان توقّف صحة البيع و النكاح- و نحوهما من العقود اللازمة- عليه بالأولوية القطعية.

و أمّا وجه الاشتراط فهو منافاة التعليق للجزم حال الإنشاء، و سيأتي بيانه.

(3) مقصوده قدّس سرّه من الاستشهاد بكلام العلّامة قدّس سرّه إثبات وضوح شرطية التنجيز- و مبطلية التعليق- في عقد الوكالة التي يكفي فيها كلّ ما دلّ على الإذن.

و بيانه: أنّ تعليق الوكالة مبطل، بخلاف تعليق الموكّل فيه، مع اشتراكهما في الإناطة

______________________________

(1): مجمع الفائدة و البرهان، ج 9، ص 533 و 534، كفاية الأحكام، ص 128، الحدائق الناضرة، ج 22، ص 10 و 11

(2) جامع الشتات، ج 1، ص 307

ص: 528

على ما حكي (1) عنه على عدم صحة أن يقول الموكّل: أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي و على صحة قوله: أنت وكيلي، و لا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة مع كون المقصود واحدا (2)

______________________________

و التوقف، فإذا قال: «أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي» كان باطلا، لعدم فعلية التوكيل، لفرض توقفه على حلول يوم الجمعة، و هو معدوم حال الإنشاء.

و إذا قال: «أنت وكيلي، و لا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة» صحّ، لفعلية التوكيل و إن كان التصرّف الموكّل فيه استقباليا.

و الفارق بين المثالين- مع اشتراكهما في التعليق- أنّ المعلّق في الأوّل هو أصل مضمون العقد و هو التوكيل و الإذن، و المفروض اشتراط العقود بالتنجيز. و هذا بخلاف المثال الثاني، فإنّ المعلّق ليس أصل التوكيل، بل الموكّل فيه. و لو لا دخل التنجيز تعبّدا في العقود لكان اللازم التسوية بين المثالين بصحتهما معا أو بطلانهما كذلك. إلّا أن الدخل التعبدي اقتضى بطلان الأوّل و صحة الثاني.

(1) الحاكي لهذه العبارة عن العلّامة جمع منهم الشهيد الثاني و المحقق الأردبيلي و السيد الفقيه العاملي قدّس سرّهم «1» و هو حكاية بالمعنى، لا لنصّ كلامه، قال في التذكرة:

«لا يصحّ عقد الوكالة معلّقا بشرط أو وصف، فإن علّقت عليهما بطلت، مثل أن يقول:

إن قدم زيد، أو: إذا جاء رأس الشهر فقد وكّلتك، عند علمائنا .. و الفرق ظاهر بين تنجيز العقد و تعليق التصرف، و بين تعليق العقد. إذا ثبت هذا فلا خلاف في تنجيز الوكالة و تعليق العقد، مثل أن يقول: وكّلتك في بيع العبد و لا تبعه إلّا بعد شهر، فهذا صحيح» «2».

(2) و هو الإذن في إنشاء البيع يوم الجمعة.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 5، ص 240، مجمع الفائدة و البرهان، ج 9، 533، مفتاح الكرامة، ج 7، ص 527

(2) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 114

ص: 529

و فرّق (1) بينهما جماعة بعد الاعتراف بأنّ هذا في معنى التعليق «بأنّ (2) العقود لمّا كانت متلقّاة من الشارع أنيطت بهذه الضوابط، و بطلت فيما خرج عنها و إن أفادت فائدتها» فإذا كان الأمر كذلك (3) عندهم في الوكالة فكيف الحال في البيع؟

و بالجملة: فلا شبهة في اتفاقهم على الحكم (4).

و أمّا الكلام (5) في وجه الاشتراط، فالذي صرّح به العلّامة في التذكرة «أنّه مناف للجزم حال الإنشاء (6)» بل (7) جعل الشرط هو الجزم، ثمّ فرّع عليه عدم جواز التعليق.

______________________________

(1) هذا الفارق مذكور في المسالك، قال قدّس سرّه بعد نقل المثالين عن التذكرة:

«و هذا و إن كان في معنى التعليق، إلّا أنّ العقود لمّا كانت متلقّاة من الشارع أنيطت بهذه الضوابط .. إلخ». و قد تقدّم بيان الفارق بين بطلان تعليق الوكالة، و صحة تعليق التصرف الموكّل فيه.

(2) متعلّق بقوله: «فرّق» و هذا كلام الشهيد الثاني قدّس سرّه.

(3) يعني: فإذا كان التعليق مبطلا في عقد جائز مثل الوكالة فكيف لا يكون مبطلا في عقد لازم كالبيع؟

(4) أي: بطلان العقد بالتعليق يكون متّفقا عليه بينهم.

(5) مقصوده من هذا الكلام: أن اعتبار التنجيز و إن كان إجماعيا، لاتفاقهم عليه، لكن اشتراطه ليس تعبّدا محضا، بل من جهة إناطة الإنشاء بالجزم، و هو منوط بتجريده عن التعليق.

(6) هذا نقل بالمعنى، إذ الموجود في عبارة التذكرة «الجهل بثبوتها- أي المشيّة- حال العقد» «1». نعم في عبارة المسالك الآتية في المتن التصريح بمنافاة التعليق للإنشاء.

(7) الوجه في الإضراب واضح، إذ لو كان مستند اعتبار التنجيز مجرّد منافاة

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

ص: 530

قال: «الخامس من الشروط: الجزم، فلو علّق العقد على شرط لم يصحّ و إن كان الشرط المشيّة، للجهل بثبوتها حال العقد، و بقائها (1) مدّته. و هو أحد قولي الشافعي، و أظهرهما عندهم الصّحة، لأنّ هذه صفة يقتضيها إطلاق العقد، لأنّه لو لم يشأ لم يشتر» «1» انتهى كلامه.

و تبعه على ذلك الشهيد رحمه اللّه في قواعده (2)، قال: «لأنّ الانتقال بحكم الرّضا (3)، و لا رضا إلّا مع الجزم، و الجزم ينافي التعليق» «2» انتهى.

______________________________

التعليق للجزم كان ظاهرا في مانعية التعليق، لا في شرطية التنجيز. و هذا بخلاف ما لو كان التنجيز شرطا، فإنّ بطلان العقد بالتعليق يستند إلى فقد الشرط، لا إلى وجود المانع، و من المعلوم تقدّم رتبة الشرط على عدم المانع.

و عليه فيظهر من عبارة التذكرة أمران:

أحدهما: كون التنجيز- المعبّر عنه بالجزم- هو الشرط، لا كون التعليق مانعا.

و الآخر: كون اعتبار التنجيز على طبق القاعدة، و أنّه ليس من باب التعبد.

(1) أي: بقاء المشيّة مدّة العقد في ما لو علم ثبوتها قبل العقد، و جهل بقاءها حال العقد.

(2) ذكره الشهيد في قاعدة عنونها بقوله: «التكاليف الشرعية بالنسبة إلى قبول الشرط و التعليق أربعة أقسام» إلى أن قال: «الثالث: ما يقبل الشرط دون التعليق على الشرط، كالبيع و الصلح و الإجارة و الرّهن، لأن الانتقال .. إلخ».

(3) توضيحه: أنّ الانتقال و ترتّب الأثر على العقد إنّما هو لأجل الرّضا فعلا بالانتقال، و لا رضا بالانتقال مع التعليق، لأنّه رضا تقديري لا فعلي، و لا يحرز الرّضا الفعليّ- الذي أنيط به نفوذ المعاملة- إلّا بالجزم بالإنشاء.

و بالجملة: لا يحرز الرّضا الفعلي- المحكوم بالعدم بالأصل- إلّا بالجزم، فالتعليق ينافيه.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) القواعد و الفوائد، ج 1، ص 65، رقم القاعدة: 35

ص: 531

و مقتضى ذلك (1) أنّ المعتبر هو عدم التعليق على أمر مجهول الحصول (2) كما صرّح به (3) المحقق في باب الطلاق.

و ذكر المحقق و الشهيد الثانيان في الجامع و المسالك في مسألة إن كان لي فقد بعته «أنّ التعليق إنّما ينافي الإنشاء في العقود و الإيقاعات

______________________________

(1) يعني: و مقتضى منافاة التعليق للجزم هو اختصاص بطلان العقد بما إذا كان المعلّق عليه مجهول الحصول. و غرض المصنف قدّس سرّه التنبيه على أنّ استدلال الشهيد قدّس سرّه على مبطليّة التعليق بقوله: «و لا رضا إلّا مع الجزم ..» و إن كان مقتضيا- بإطلاقه- لمبطليّة التعليق سواء أ كان المعلّق عليه مجهول الحصول أم معلومة، إلّا أنّ الشهيد قدّس سرّه صرّح في كلامه الآتي بأنّه لا مانع من تعليق العقد على أمر معلوم الحصول سواء أ كان حاليا أم استقباليا، فالحالي كما إذا قال المالك: «إن كان لي فقد بعته» و الاستقبالي كما إذا قال: «بعتك إن قدم يوم الجمعة» فالتعليق فيهما غير قادح، لفعلية رضاه بالبيع.

و عليه يختص البطلان بما إذا كان المعلّق عليه مجهول الحصول، كقوله: «بعتك إن قدم زيد من السّفر» مع عدم إحراز مجيئه.

(2) إذ مع العلم بحصوله يكون التعليق صوريّا، فالرّضا الفعلي محرز.

(3) يعني: صرّح المحقق بأنّ المعتبر هو عدم التعليق على أمر مجهول الحصول، قال قدّس سرّه في كتاب الطلاق: «و يشترط في الصيغة تجريدها عن الشرط و الصفة في قول مشهور، لم أقف فيه على مخالف منّا» إلى أن قال: «تفريع: إذا قال: أنت طالق في هذه الساعة إن كان الطلاق يقع بك، قال الشيخ قدّس سرّه: لا يصح، لتعليقه على الشرط. و هو حق إن كان المطلق لا يعلم. أمّا لو كان المطلق يعلمها على الوصف الذي يقع معه الطلاق فينبغي [ينبغي] القول بالصحة، لأنّ ذلك ليس بشرط، بل أشبه بالوصف و إن كان بلفظ الشرط» «1».

______________________________

(1): شرائع الإسلام، ج 3، ص 18 و 19

ص: 532

حيث (1) يكون المعلّق عليه مجهول الحصول (2)» «1».

لكن (3) الشهيد في قواعده ذكر في الكلام المتقدم «أنّ الجزم ينافي التعليق

______________________________

(1) ظرف لقوله: «انما ينافي» و هذا تقريب المنافاة و موردها، و حاصله: أنّ منافاة التعليق للإنشاء إنّما تكون في التعليق على أمر مجهول الحصول، لأنّه مع العلم بحصوله لا تعليق حقيقة و إن كان تعليقا صورة.

(2) فإذا كان المعلّق عليه معلوم الحصول- و لو في المستقبل- لم يقدح في صحة الإنشاء.

و الأولى نقل جملة من كلام الشهيد الثاني في شرح قول المحقق «و طريق التخلّص أن يقول الموكّل: إن كان لي فقد بعته من الوكيل، فيصح البيع، و لا يكون هذا تعليقا للبيع على الشرط، و يتقاصّان» فقال في المسالك: «إنّما لم يكن ذلك شرطا- مع كونه بصيغته- لأنّ الشرط المبطل ما أوجب توقف العقد على أمر يمكن حصوله و عدمه. و هذا أمر واقع يعلم الموكّل حاله، فلا يضرّ جعله شرطا. و كذا القول في كل شرط علم وجوده، كقول البائع يوم الجمعة مع علمه به: إن كان اليوم الجمعة فقد بعتك بكذا».

و المستفاد منه صحة التعليق في ما كان المعلّق عليه متحقّقا خارجا، مثل كون المبيع مملوكا له.

(3) غرضه من هذا الاستدراك التنبيه على اختلاف الشهيدين قدّس سرّهما في مورد منافاة التعليق للجزم، فالشهيد الأوّل جوّز التعليق في مورد واحد، و هو كونه معلوم الحصول حال الإنشاء، كما في مثل: «إن كان لي فقد بعته» مع كونه مملوكا له، فلو كان المعلّق عليه معلوم الحصول في المستقبل لم يصحّ.

و لكن ظاهر الشهيد الثاني صحّته إذا علم وجوده، حيث قال في عبارته المتقدّمة آنفا: «و كذا القول في كل شرط علم وجوده». لكن عموم هذه العبارة

______________________________

(1): جامع المقاصد، ج 8، ص 305، مسالك الأفهام، ج 5، ص 276

ص: 533

لأنّه بعرضة عدم الحصول- و لو قدّر العلم بحصوله كالتعليق على الوصف (1)- لأن (2) الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه (3)، فاعتبر المعنى العام (4) دون خصوصيات الأفراد».

ثم قال: «فإن قلت: فعلى هذا (5) يبطل قوله في صورة إنكار التوكيل: إن كان لي فقد بعته منك بكذا.

______________________________

للشرط غير الموجود فعلا محل تأمّل.

(1) عبارة القواعد هكذا: «و لو قدّر علم حصوله كالمعلّق على الوصف ..».

(2) تعليل لمنافاة التعليق للإنشاء و إن كان المفروض العلم بحصوله كالتعليق على الوصف. و حاصل تقريبه: أنّ جنس الشرط بحسب الوضع الأوّلي- مع الغضّ عن الخصوصيات الخارجية المنوّعة الموجبة للتفصيل في منافاة الشرط للإنشاء بين الوجود و العدم- ينافي الجزم المعتبر في الإنشاء.

و بعبارة أخرى: اعتبار عدم التعليق في العقد إنّما هو بلحاظ جنس الشرط بمعناه العام الساري في جميع الأفراد، لا الشرط بلحاظ خصوصياته النوعية و الشخصية، فأداة الشرط تخرج الإنشاء عن الإرسال و تجعله منوطا بشي ء، مهما كان المعلّق عليه.

(3) المراد بأنواع الشرط هو معلوم الحصول في الحال أو في الاستقبال، و مجهوله كذلك، فإنّ الشرط في جميع موارده محتمل الحصول و العدم. نعم إذا كان معلوم التحقق حال الإنشاء صحّ، لكون التعليق صوريّا لا جدّيا.

(4) يعني: أنّ المعتبر هو مانعية الشرط و منافاته للجزم- بما هو شرط- مع الغضّ عن كون المعلّق عليه حاصلا حين الإنشاء أم لا.

(5) أي: فبناء على تقدير كون المناط في مبطلية التعليق جنس الشرط يلزم بطلان العقد حتى في قوله في صورة إنكار التوكيل: «إن كان لي فقد بعته منك» ممّا كان التعليق على أمر معلوم الوجود في ظرف الإنشاء. و الحال أنّه صحيح، فيستكشف من ذلك أنّ المدار على خصوصيات الشرط لا جنسه، إذ المفروض وجود الجنس.

ص: 534

قلت (1): هذا تعليق على واقع، لا متوقع الحصول، فهو (2) علّة للوقوع أو مصاحب له (3)، لا معلّق عليه الوقوع.

و كذا نقول (4) لو قال في صورة إنكار وكالة التزويج، و إنكار التزويج

______________________________

و أمّا كون التعليق هنا على أمر معلوم الوجود فلقوله في الجواب: «إنّ هذا تعليق على واقع» يعني على أمر يعلمان أنّه واقع في ظرف الإنشاء، ضرورة أنّ مجرّد وقوعه في ظرف الإنشاء في الواقع- بدون العلم به- لا يمنع عن الترديد، و معه يبقى التنافي- بين التعليق عليه و بين الجزم- على حاله.

(1) محصّل هذا الجواب: أنّ التعليق هنا صوري لا حقيقة له، لأنّ التعليق الحقيقي منوط بعدم العلم بتحقق المعلّق عليه حين الإنشاء، فمرجع قوله: «إن كان لي فقد بعته» إلى قوله: «لمّا كان لي فقد بعته».

و الحاصل: أنّ العبرة بجنس الشرط، لكن يعتبر فيه الجهل بتحقق المعلّق عليه و ترقّب حصوله، و هنا لا ترقّب، إذ لا جهل.

(2) يعني: أنّ وجود المعلّق عليه واقعا علّة لوقوع المنشإ- أي البيع- الذي أنشأه بقوله: «إن كان لي فقد بعته» فمملوكية المبيع فعلا علّة لوقوع البيع بهذا الإنشاء المزبور.

(3) معطوف على «علّة» يعني: أنّ مملوكية المال ليست علّة لوقوع البيع، و إنّما تكون مصاحبة للعلّة، إذ العلّة هي إرادة البيع، و يصحبها مملوكية المال.

(4) يعني: يصح التعليق في مثالين آخرين، أحدهما: إذا تنازع رجل و امرأة في الزوجية، فادّعتها المرأة و أنكرها الرجل، فتنحلّ المرافعة بأن يقول الرّجل: «إن كانت زوجتي فهي طالق» فيقع الطلاق- على تقدير تحقق الزوجية واقعا- مع كونه معلّقا.

و لا يقدح هذا التعليق، لأنّ المعلّق عليه- و هو الزوجية- متحقق في وعاء الاعتبار، و ليس متوقع الحصول كما في قدوم زيد من السفر. هذا إذا كان أصل التزويج ثابتا.

و أمّا إذا لم تكن بينهما علقة كان الطلاق المزبور لغوا، من جهة انتفاء الموضوع.

ص: 535

حيث تدّعيه (1) المرأة: إن كانت زوجتي فهي طالق» «1» انتهى كلامه رحمه اللّه.

و علّل العلامة في القواعد صحّة- إن كان لي فقد بعته- «بأنه (2) أمر واقع يعلمان وجوده، فلا يضرّ جعله شرطا. و كذا كلّ شرط علم وجوده، فإنّه (3) لا يوجب شكّا في البيع، و لا وقوفه (4)» انتهى «2».

و تفصيل الكلام (5): أنّ المعلّق عليه إمّا أن يكون معلوم التحقّق، و إمّا

______________________________

ثانيهما: إذا تنازع الرّجل و المرأة، فادّعت أنّ الرّجل وكّل شخصا في أن يزوّجني منه، و قد تزوّجت به، و أنكر الرّجل هذه الوكالة، فيصحّ أن يقول: «إن كانت زوجتي فهي طالق» على ما تقدّم في المثال الأوّل.

(1) بأن ادّعت التزويج أو التوكيل فيه.

(2) هذا نقل بالمعنى، و إلّا فعبارة القواعد هكذا: «فإن قال: إن كانت الجارية لي فقد بعتكها، أو قال الموكّل: إن كنت أذنت لك في شرائها بألفين فقد بعتكها، فالأقرب الصحة، لأنّه أمر واقع يعلمان وجوده ..» الى آخر ما في المتن.

(3) يعني: أنّ الشرط المعلوم وجوده لا يوجب شكّا و لا ترديدا في إنشاء البيع.

(4) يعني: لا يوجب هذا التعليق توقّف البيع على ذلك المعلّق عليه، إذ العلم بحصوله حال البيع يوجب كون التعليق صوريّا لا حقيقيّا.

(5) بعد أن أشار المصنف قدّس سرّه إلى جملة من كلمات الفقهاء و ما استدلّوا به على شرطية التنجيز تعرّض للمقام الرابع المتكفّل لتحقيق المسألة موضوعا و محمولا، و أفاد فيه مطالب ثلاثة:

الأوّل: في ذكر أقسام التعليق بالنظر إلى المعلّق عليه، و بيان حكم كلّ منها.

الثاني: في تحقق الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز.

الثالث: في حكم تردّد المنشئ و عدم جزمه بتحقق شرط الصحة، و سيأتي تفصيل الأخيرين بتبع المتن. فنقول و به نستعين و بوليه صلوات اللّه و سلامه عليه و آله نستجير:

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 66

(2) قواعد الأحكام، ص 105 (الطبعة الحجرية)

ص: 536

يكون محتمل التحقق. و على الوجهين فإمّا أن يكون تحقّقه- المعلوم أو المحتمل- في الحال أو المستقبل.

______________________________

المطلب الأوّل في أقسام التعليق، و محصله: أنّ المعلّق عليه إمّا معلوم الحصول، أو مشكوك الحصول، و على كلّ منهما فإمّا أن يكون المعلّق عليه ممّا يتوقف عليه صحة العقد شرعا، أو يكون أجنبيا عن العقد، فالمجموع ثمانية أقسام.

أمّا التعليق على مصحّح العقد- كشرائط العوضين و المتعاقدين بالنسبة إلى البيع- فكالموارد الأربعة التي ذكرها في المتن.

أوّلها: قابلية المبيع للتملّك و للبيع شرعا، بأن لا يكون ساقطا عن المالية كالخمر و الخنزير.

ثانيها: قابلية المبيع للإخراج عن ملك البائع بعد الفراغ عن ملكيته، كعدم كون الأمة أمّ ولد، و عدم كونه وقفا و لا رهنا.

ثالثها: قابلية المشتري للتملّك، بأن لا يكون عبدا مملوكا لا يقدر على شي ء.

رابعها: قابلية المشتري للمعاملة معه- بعد كونه مالكا- بأن لا يكون صبيّا.

فإذا قال: «بعتك هذا بشرط أن لا يكون خمرا» أو «بعتك هذه الأمة على أن لا تكون أمّ ولد» أو «بعتك هذا على أن تكون حرّا» أو «بعتك على أن لا تكون صغيرا» كان المعلّق عليه ممّا يتوقف صحة العقد عليه. و في كل واحد من هذه الأمثلة تقادير أربعة، إذ المعلّق عليه إمّا معلوم الحصول في الحال أو في الاستقبال، و إما مجهول الحصول كذلك.

و أمّا الصور الأربع التي يصرّح فيها بالتعليق و لم يكن المعلّق عليه دخيلا في صحة العقد، فقد ظهرت مما تقدّم عند نقل الأقوال، كما إذا باع ماله معلّقا على مجي ء زيد أو طلوع الشمس، فإن المجي ء و الطلوع ليسا من شرائط صحة البيع، فإذا علّق البيع عليهما فإمّا أن يكونا معلوم الحصول حال الإنشاء، و إمّا في الاستقبال، و إمّا أن يشك في الحصول في الحال أو في الاستقبال. فهذه صور أربع.

هذا كلّه في صور التصريح بالتعليق. و زاد المصنف قدّس سرّه ما إذا كان التعليق لازما

ص: 537

و على التقادير فإمّا أن يكون الشرط ممّا يكون مصحّحا للعقد، ككون (1) الشي ء ممّا يصحّ تملّكه شرعا، أو ممّا (2) يصحّ إخراجه عن الملك كغير أمّ الولد و غير الموقوف و نحوه (3)، و كون (4) المشتري ممّن يصح تملكه شرعا، كأن لا يكون عبدا، و ممّن يجوز العقد معه (5) بأن يكون بالغا.

______________________________

للكلام و إن لم يصرّح فيه بأداة الشرط، كما إذا قال: «بعتك هذا يوم الجمعة» بأن يكون ظرف حصول الملكية للمشتري هو يوم الجمعة، فيجري فيه ما تقدّم من أنّ الإنشاء إن كان في يوم الجمعة فالمعلّق عليه محرز الحصول في الحال، و إن كان يوم الخميس فالمعلّق عليه محرز الحصول في الاستقبال.

هذا إجمال صور التعليق، و سيأتي بيان أحكامها عند شرح كلمات المصنف قدّس سرّه إن شاء اللّه تعالى.

(1) قد عرفت أنّ المذكور في المتن- من شرائط الصحة- أمور أربعة.

أوّلها: قابلية المبيع للتملّك، و عدم إلغاء ماليّته العرفية، بأن لا يكون خمرا و لا خنزيرا، فإذا قال: «بعتك هذا على أن لا يكون خمرا» كان المعلّق عليه ممّا يتوقف صحة العقد عليه شرعا.

(2) هذا ثاني الأمور التي تتوقف صحة العقد عليها شرعا.

(3) ممّا لا يكون المال ملكا طلقا لأحد المتبايعين، كبيع الراهن العين المرهونة بدون إذن المرتهن، كأن يقول: «بعتك هذا على أن لا يكون رهنا».

(4) معطوف على «كون» في قوله: «ككون الشي ء» و هذا ثالث الأمور، و هو قابلية المشتري للتملّك بأن لا يكون عبدا و لا كافرا حربيّا.

(5) هذا رابع الأمور المعتبرة شرعا في البيع، و هو بلوغ المتعاقدين، فإنّ الصبي مسلوب العبارة، بأن يقول البائع: «بعتك على أن تكون بالغا».

و نظير هذه الأمور الأربعة الدخيلة في الصحة ما تقدّم من تعليق الطلاق على زوجية المرأة، كما إذا قال: «إن كانت هند زوجتي فهي طالق» و أنه من التعليق على واقع لا على متوقّع.

ص: 538

و إمّا (1) أن لا يكون كذلك (2).

ثمّ التعليق إمّا مصرّح به (3)، و إمّا لازم من الكلام، كقوله: «ملّكتك هذا بهذا يوم الجمعة» و قوله في القرض و الهبة: «خذ هذا بعوضه (4)» أو «خذه بلا عوض يوم الجمعة (5)» فإنّ التمليك (6) معلّق على تحقق الجمعة في الحال أو في

______________________________

(1) معطوف على قوله: «فإما أن يكون الشرط ممّا يكون مصحّحا للعقد».

(2) بأن يكون أجنبيا عن المصحّح للعقد، كأن يقول: «بعتك هذا المتاع إن صلّيت صلاة الليل» فإن هذا الشرط ليس من شروط صحة البيع.

(3) قد عرفت صور صراحة التعليق، و أمّا التعليق المستفاد من الدلالة الالتزامية فالمستفاد من المتن أنّ له صورتين:

إحداهما: أن يتضمّن الإنشاء ظرفا، مثل «اليوم، و عند، و حين» و نحوها، كما إذا قال: «بعتك هذا بهذا يوم الجمعة» فإنّ البيع معلّق على تحقق يوم الجمعة إمّا في الحال كما إذا كان زمان الإنشاء يوم الجمعة، أو في الاستقبال كما إذا كان الإنشاء يوم الخميس.

ثانيتهما: أن يكون لا يتضمّن الإنشاء ظرفا، و إنّما يستفاد التعليق من توقف صحة البيع على أمر واقعي كالملكية، كما إذا باع الولد مال والده بظنّ موته حتى ينتقل إليه، و يخرج عن الفضول، فيقول: «بعتك هذا بكذا» فإنّ توقف صحة البيع على مملوكية المبيع- أو ملك أمر البيع- أمر واقعي سواء علّق الإنشاء عليه بأن يقول: «بعتك إن كان لي» أم لم يعلّق عليه.

(4) أي: «خذ هذا بعوضه يوم الجمعة» و هذا تعليق القرض- بالدلالة الالتزامية- على يوم الجمعة، و هو من التعليق على أمر معلوم الحصول في الحال إن كان ظرف الإنشاء يوم الجمعة، أو في الاستقبال إن كان الإنشاء قبل الجمعة.

(5) هذا مثال تعليق الهبة بما ليس صريحا.

(6) يعني: فإنّ التمليك- بالقرض أو بالهبة- و إن كان منجّزا، لعدم التصريح بأداة

ص: 539

الاستقبال. و لهذا (1) احتمل العلّامة في النهاية و ولده في الإيضاح بطلان بيع الوارث لمال مورّثه بظنّ موته، معلّلا «بأنّ العقد و إن كان منجّزا في الصورة، إلّا أنّه معلّق، و التقدير: إن مات مورّثي فقد بعتك» «1».

________________________________________

فما كان منها معلوم الحصول (2) حين العقد فالظاهر أنّه غير قادح، وفاقا

______________________________

الشرط، لكنه معلّق واقعا على تحقق الجمعة في الحال أو في الاستقبال.

(1) أي: و لأعمية التعليق من الصريح و الضمني احتمل العلّامة و ولده قدّس سرّهما بطلان بيع الوارث مال مورّثه بظنّ موته. قال العلّامة: «و لو باع مال أبيه بظنّ أنّه حيّ و هو فضولي، فبان أنّه كان ميّتا حينئذ، و أنّ المبيع ملك للعاقد، فالأقوى الصحة، لصدوره من المالك» ثم فرّق قدّس سرّه بين إخراجه زكاة فيبطل، و بيعه فيصح، لعدم توقف البيع على النيّة، ثم قال: «و يحتمل البطلان، لأنّه و إن كان العقد منجّزا في الصورة، إلّا أنّه في المعنى معلّق، و تقديره: إن مات مورثي فقد بعتك. و لأنّه كالعابث عند مباشرة العقد، لاعتقاده أنّ المبيع لغيره» و نحوه كلام فخر المحققين، فراجع.

هذا تمام الكلام في ذكر صور التعليق، و سيأتي بيان أحكامها إن شاء اللّه تعالى.

(2) يعني: معلوم الحصول مطلقا سواء توقف عليه صحة العقد أم لا. و هذا شروع في بيان حكم الأقسام المتقدمة، فأفاد عدم قدح التعليق في صورتين، و يجمعهما كون المعلّق عليه معلوم التحقق حين العقد مطلقا، سواء أ كان من قبيل ما هو مصحّح للعقد أم لا، كما إذا قال: «إن كان لي فقد بعتك» مع كونه ملكا له أو قال: «بعتك إن كان اليوم الجمعة» مع كون يوم الإنشاء الجمعة.

و الوجه في صحة العقد: ما تقدّم في كلام جمع من أن التعليق فيها صوري، و أنّه تعليق على واقع لا على متوقّع، فشرط الصحة- و هو الجزم بالإنشاء- متحقق بالفعل.

______________________________

(1): نهاية الأحكام، ج 2، ص 476 و 477، إيضاح الفوائد ج 1، ص 420

ص: 540

لمن عرفت كلامه كالمحقّق و العلّامة و الشهيدين و المحقق الثاني و الصيمري (1).

و حكي (2) أيضا عن المبسوط و الإيضاح في مسألة ما لو قال: إن كان لي فقد بعته «1».

بل لم يوجد في ذلك (3) خلاف صريح. و لذا (4) ادّعى في الرّياض في باب

______________________________

(1) ظاهر العطف أنّ المصنف قدّس سرّه نقل كلاما عن الصيمري كما نقل عن المحقق و العلّامة و الشهيدين و غيرهم، فأحال بقوله: «وفاقا لمن عرفت» على ما سبق نقله عنهم.

لكن لم نجد في المتن من أوّل بحث التنجيز إلى هنا تصريحا بكلام الصيمري.

و لعلّ مراد المصنف بقوله: «وفاقا لمن عرفت» أعمّ ممّن صرّح باسمه و من أدرجه في عموم: «و جميع من تأخّر عنه كالشهيدين و المحقق الثاني و غيرهم قدّس سرّهم» فتصحّ نسبة عدم القدح إلى هذه الجماعة حتّى الصيمري.

و كيف كان فهو- كما في مقدمة المقابس و الذريعة- الشيخ مفلح بن الحسن [الحسين] الصيمري من تلامذة ابن فهد الحلّي قدّس سرّه، و له كتاب غاية المرام في شرح شرائع الإسلام «2»، و نقل السيد العاملي عنه في كتاب الوكالة اعتبار التنجيز، فراجع «3».

(2) يعني: و حكي عدم القدح- في التعليق على ما هو معلوم الحصول حين العقد- عن المبسوط و الإيضاح، و سيأتي في المتن نقل كلام المبسوط، و مورده و إن كان معلوم التحقق حال الإنشاء، لكنه مختص بمصحّح النقل لا مطلقا.

(3) أي: في عدم قادحية التعليق على الشرط المعلوم حصوله حال العقد.

(4) أي: و لأجل عدم وجود الخلاف الصريح- في جواز التعليق على معلوم الحصول- ادّعى السيد الطباطبائي عدم الخلاف في الصحة، قال قدّس سرّه في وقف الرياض:

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 385، إيضاح الفوائد، ج 2، ص 360

(2) مقابس الأنوار، المقدمة، ص 18، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 16، ص 20

(3) مفتاح الكرامة، ج 7، ص 526

ص: 541

الوقف: عدم الخلاف فيه صريحا (1).

و ما كان معلوم الحصول في المستقبل و هو المعبّر عنه بالصفة (2) فالظاهر أنّه (3) داخل في معقد اتّفاقهم على عدم الجواز،

______________________________

«و يشترط فيه التنجيز، فلو علّقه على شرط متوقع أو صفة مترقبة، أو جعل له الخيار في فسخه متى أراده من دون حاجة بطل بلا خلاف فيه، و في الصحة لو كان المعلّق عليه واقعا، و الواقف عالم بوقوعه كقوله: وقفت إن كان اليوم الجمعة. و كذا في غيره من العقود. و بعدم الخلاف صرّح جماعة» «1».

و المقصود من نقل كلام السيد أنّه ادّعى عدم الخلاف في الصحة، كما حكاه عن جماعة، و به يقوى نقل الإجماع على عدم مانعية التعليق على الشرط المعلوم وقوعه حال الإنشاء. هذا حكم التعليق على معلوم الحصول في الحال.

(1) هذا بيان حكم قسم آخر، و هو التعليق على معلوم التحقق في الاستقبال كطلوع الشمس و مجي ء الجمعة إذا كان الإنشاء قبلهما، و هو مبطل للإنشاء، لكونه داخلا في معقد إجماعهم على عدم جواز التعليق. فالمعوّل في البطلان هو الاتفاق المزبور.

فان قلت: إنّ تعليل اعتبار التنجيز في بعض الكلمات «باشتراط الجزم»- كما تقدّم في عبارة التذكرة- يقتضي جواز التعليق على ما يعلم بحصوله بعد الإنشاء، لتحقق الجزم بالإنشاء عند العلم بحصول المعلّق عليه في المستقبل.

قلت: نعم، لكن لمّا كان مستند شرطية التنجيز هو الإجماع تعيّن الحكم بالبطلان في هذا القسم.

(2) في قبال التعليق على الشرط، و هو ما لا يقين بحصوله في المستقبل كقدوم زيد.

(3) أي: أنّ معلوم الحصول في المستقبل مشمول للإجماع على بطلان التعليق عليه.

______________________________

(1): رياض المسائل، ج 2، ص 18

ص: 542

و إن كان (1) تعليلهم للمنع باشتراط الجزم لا يجري فيه كما اعترف به (2) الشهيد فيما تقدم عنه (3)، و نحوه الشهيد الثاني فيما حكي عنه (4).

بل يظهر من عبارة المبسوط في باب الوقف كونه (5) ممّا لا خلاف فيه بيننا، بل بين العامة، فإنّه قال: «إذا قال الواقف: إذا جاء رأس الشهر فقد

______________________________

(1) مقصوده من هذه الجملة: أنّ المجمعين استندوا إلى منافاة التعليق للجزم بالإنشاء، و مقتضاه جواز التعليق على معلوم الحصول في المستقبل، لفعلية الجزم و الرّضا حال الإنشاء. إلّا أنه مع ذلك يحكم ببطلان هذا التعليق، لأجل الإجماع.

(2) يعني: كما اعترف الشهيد قدّس سرّه بدخول الشرط المعلوم الحصول في المستقبل في معقد اتفاقهم على عدم الجواز.

(3) حيث قال: «إنّ الجزم ينافي التعليق، لأنّه بعرضة عدم الحصول و لو قدّر العلم بحصوله كالتعليق على الوصف لأن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه .. إلخ» و قد تقدّم كلامه في (ص 530).

(4) حيث قال: «من شرط الوكالة وقوعها منجّزة عند علمائنا، فلو علّقها على شرط متوقّع، و هو ما يمكن وقوعه و عدمه، أو صفة و هي ما كان وجوده في المستقبل محقّقا كطلوع الشمس .. لم يصح» «1».

(5) يعني: يظهر من عبارة المبسوط: كون عدم جواز التعليق على معلوم التحقق في المستقبل ممّا لا خلاف فيه عند الكلّ. و الوجه في الإتيان بكلمة «بل» هو أنّ المصنف استظهر أوّلا شمول معقد الإجماع لهذا القسم، من جهة الإطلاق. و لكن عبارة المبسوط صريحة في الإجماع على بطلان الوقف بالتعليق على معلوم الحصول في المستقبل، و معه لا يبقى مجال توهّم الجواز، بأن يقال: إنّ الإجماع دليل لبّي يقتصر على المتيقن منه، فلا يبطل التعليق على ما يعلم تحققه بعد الإنشاء.

______________________________

(1): مسالك الأفهام، ج 5، ص 239

ص: 543

وقفته (1) لم يصحّ الوقف بلا خلاف، لأنّه مثل البيع و الهبة. و عندنا مثل العتق أيضا» «1» انتهى، فإنّ ذيله (2) يدلّ على أنّ مماثلة الوقف للبيع و الهبة غير مختص بالإمامية (3). نعم مماثلته للعتق مختصة بهم.

و ما كان منها مشكوك الحصول (4)- و ليس صحة العقد معلّقة عليه في الواقع كقدوم الحاج- فهو المتيقّن من معقد اتّفاقهم.

______________________________

(1) عبارة المبسوط هكذا: «فقد وقفت هذه الدار على فلان لم يصح .. إلخ».

(2) يعني: فإنّ ذيل قول الشيخ: «لأنّه مثل البيع و الهبة .. إلخ» يدلّ على اتفاق المسلمين على اشتراط التنجيز في الوقف و البيع و الهبة. و أمّا العتق، فاشتراطه بالتنجيز من مختصّات الفرقة المحقّة أيّدهم اللّه تعالى.

(3) إذ لو كانت مماثلة الوقف للبيع و الهبة مختصّة بالإمامية لنبّه الشيخ عليها كما نبّه عليها في العتق فقال: «و عندنا مثل العتق» فكان المناسب أن يقول: «لأن الوقف مثل البيع و الهبة و العتق عندنا» فتفرقته قدّس سرّه في المماثلة- بين البيع و الهبة و بين العتق- كاشفة عن اتفاق جميع المسلمين على بطلان البيع و الهبة و الوقف بالتعليق على ما يعلم حصوله في المستقبل.

(4) هذا بيان حكم قسم آخر من أقسام التعليق، و هو كون المعلّق عليه مشكوك الحصول و لم يكن مصحّحا للعقد، سواء أ كان ظرف تحققه حال الإنشاء أم بعده، كما إذا قال: «بعتك إن قدح الحاج» و شكّ في قدومهم حال العقد و في المستقبل.

و حكم هذا القسم البطلان، لكونه القدر المتيقن من معقد إجماعهم على شرطية التنجيز، فلو نوقش في إطلاق المعقد بالنسبة إلى القسم السابق- و هو معلوم الحصول في المستقبل- لم يكن مجال للمناقشة في بطلان هذا القسم، لكونه المتيقن من مورد اتّفاقهم على قدح التعليق.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 3، ص 299

ص: 544

و ما كان صحة العقد معلّقة عليه (1) كالأمثلة المتقدمة (2) فظاهر إطلاق كلامهم يشمله.

إلّا أنّ (3) الشيخ في المبسوط حكى في مسألة: «إن كان لي فقد بعته» قولا

______________________________

(1) هذا حكم قسم رابع، و هو التعليق على مصحّح العقد، و قد تقدّم أنّ المذكور في المتن أمور أربعة يتوقف عليها صحة البيع شرعا، و هي ماليّة المبيع شرعا بأن لا يكون خمرا، و قابليته للبيع بأن يكون ملكا طلقا، و قابلية المشتري للتملّك بأن لا يكون عبدا، و قابليته للمعاقدة معه بكماله بالبلوغ و العقل.

و التعليق على كل واحد منها إمّا بالتصريح بأداة الشرط، و إمّا بالدلالة الالتزامية. و حكم هذا القسم- بماله من الصور- لا يخلو من بحث، فذهب المصنف أوّلا إلى البطلان، لإطلاق معقد الإجماع على قادحيّة التعليق، ثمّ نقل- ثانيا- عن شيخ الطائفة ما يقتضي تجويزه. ثمّ تأمّل فيه ثالثا، و سيأتي بيانها بالترتيب إن شاء اللّه تعالى.

(2) هذا ما أبداه أوّلا، و هو بطلان التعليق على مصحّح العقد.

(3) مقصود المصنف قدّس سرّه من نقل كلام شيخ الطائفة المناقشة في تحقق الإجماع على بطلان الإنشاء بتعليقه على ما يكون دخيلا في صحّته. و بيانه: أنّه إذا اشترى الوكيل جارية بعشرين دينارا، و خالفه الموكّل، أمّا لإنكار أصل الوكالة، و إمّا لدعواه بأنّ التوكيل كان في شرائها بعشرة لا بعشرين، فترافعا إلى الحاكم، فقال قوم بأنّه يأمر الموكّل بأن يبيعها للوكيل، و يأمر الوكيل بالقبول، فيقول الموكّل: «إن كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتك إيّاها بعشرين» و يقبله الوكيل. فإن أجاب الموكّل أمر الحاكم و باعها من وكيله تملّكها الوكيل ظاهرا و باطنا، و يثبت للموكّل على ذمته العشرون دينارا، كما يثبت العشرون له على ذمة الموكّل، لأنّ الوكيل اشتراها بماله، فيتقاصّان في الثمن.

و في هذا الفرض قال الشيخ بعد ما نقل إيجاب الموكّل: «فمن الناس من قال:

لا يصحّ، لأنّه علّقه بشرط، و البيع بشرط لا يصحّ. و منهم من قال: يصحّ، لأنّه لم يشرط إلّا ما يقتضيه إطلاق العقد، لأنّه إنّما يصحّ بيعه لهذه الجارية من الوكيل إن

ص: 545

من بعض الناس بالصحة، و أنّ الشرط لا يضرّه، مستدلا (1) «بأنّه لم يشترط إلّا ما يقتضيه إطلاق العقد، لأنّه إنّما يصحّ البيع لهذه الجارية من الموكّل (2) إذا كان أذن له في الشراء (3)، فإذا اقتضاه (4) الإطلاق لم يضرّ إظهاره و شرطه،

______________________________

كان قد أذن له في الشراء بعشرين، فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضرّ إظهاره و شرطه، كما لو شرط في البيع تسليم الثمن و تسليم المثمن، و ما أشبه ذلك» «1».

و الجملة الأخيرة و هي قوله: «لأنّه إنّما يصح بيعه .. فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضرّ إظهاره» هي محطّ نظر المصنف من نقل عبارة المبسوط، لأنّ الشيخ قدّس سرّه لم يناقش في دليل بعض الناس، و لم يحكم ببطلان بيع الموكّل من جهة التعليق.

و مقتضاه صحة البيع المعلّق على شرط صحّته.

(1) حال من «بعض الناس».

(2) يعني: يكون بائع الجارية هو الموكّل، و المشتري لها هو الوكيل.

(3) إذ لو لم يكن أذن للوكيل في شراء الجارية بعشرين لم يصحّ بيع الموكّل، لكونه أجنبيّا عن الجارية. فقوله: «بعتك إن كانت لي» تعليق على ما يتوقف صحة البيع عليه، و لا مانع من هذا التعليق.

(4) الضمير راجع الى الشرط، و المقصود بالإطلاق هو إطلاق البيع و عدم تعليقه على «إن كان لي» و مقصود بعض الناس من هذه الجملة: أنّ بيع الموكّل للجارية يتوقف على أن تكون ملكا له، إذ لو لم يكن المبيع ملكا للبائع- أو بحكم الملك- لم يترتب الأثر شرعا على الإنشاء. و حيث اعتبرت الملكية فيه كانت صحة البيع منوطة بها، سواء صرّح بهذا الاشتراط بأن يقول: «بعتك الجارية إن كانت لي بكذا» أم لم يصرّح به، كما إذا قال: «بعتكها بكذا» فإنّ التعليق على الملكية ثابت في الواقع و نفس الأمر، و لا يختلف حكمه من حيث الإظهار و الإطلاق.

______________________________

(1): المبسوط في فقه الإمامية، ج 2، ص 385

ص: 546

كما (1) لو شرط في البيع تسليم الثمن أو تسليم المثمن أو ما أشبه ذلك (2)» انتهى.

و هذا الكلام (3) و إن حكاه عن بعض الناس، إلّا أنّ الظاهر ارتضاؤه له.

و حاصله (4): أنّه كما لا يضرّ اشتراط بعض لوازم (5) العقد المترتبة عليه، كذلك لا يضرّ تعليق العقد بما هو معلّق عليه (6) في الواقع، فتعليقه ببعض مقدّماته كالإلزام (7) ببعض غاياته، فكما لا يضرّ الإلزام بما يقتضي العقد

______________________________

(1) يعني: أنّ التعليق على شرط صحة البيع و مقدماته الشرعية غير قادح، كما لا يقدح تعليق البيع على لوازمه و آثاره الشرعية، بأن يقول: «بعتك هذا المال بكذا إن قبضته و أقبضت الثمن»، وجه عدم القدح: أنّ العقد الصحيح يجب الوفاء به بتسليم المبيع و الثمن، بلا فرق بين التصريح به في العقد و إهمال ذكره.

(2) مثل كون تلف المبيع قبل قبضه من مال البائع.

(3) أي: القول بالصحّة- في التعليق على شروط الصحة التي يقتضيها إطلاق العقد- و إن حكاه شيخ الطائفة عن بعض الناس، لكن ظاهر سكوته ارتضاؤه له، و بهذا الارتضاء لا وجه لدعوى الإجماع على بطلان التعليق في هذا القسم.

(4) يعني: و حاصل هذا الكلام، و مقصود المصنف قدّس سرّه تقريب كلام بعض الناس الذي اختاره الشيخ أيضا، و محصّله التسوية في جواز التعليق بين كون المعلّق عليه مصحّحا للعقد و دخيلا في ترتب الأثر عليه، و بين كونه من آثار صحته و لوازمه المترتبة عليه. و الوجه في التسوية تقيّد العقد واقعا بما علّق عليه، سواء صرّح به أم لا، فلا فرق بين قوله: «بعتك إن كان لي» و قوله: «بعتك إن سلّمت المبيع».

(5) قد عرفت المراد بكلّ من لوازم العقد و مقدّماته.

(6) مثل كون المبيع ملكا للبائع، و ممّا يجوز بيعه، و قابلية المشتري للتملّك، و قابليته للخطاب.

(7) خبر قوله: «فتعليقه» و المراد بغايات العقد آثاره و أحكامه المترتبة على صحته.

ص: 547

التزامه (1)، كذلك التعليق بما كان الإطلاق معلّقا عليه و مقيّدا به.

و هذا الوجه (2) و إن لم ينهض لدفع محذور التعليق في إنشاء العقد،

______________________________

(1) مثل إلزام المشتري بدفع الثمن، لأنّ إطلاق العقد يقتضي هذا الإلزام و إن لم يصرّح به في الإنشاء.

(2) الّذي نقله في المبسوط و ارتضاه. و غرض المصنف قدّس سرّه من هذا الكلام أنّ حكم شيخ الطائفة قدّس سرّه بصحة البيع المعلّق على مملوكية المبيع و إن كان مانعا عن انعقاد الإجماع على مبطلية التعليق في هذا القسم، إلّا أن أصل هذا الوجوه الذي اعتمد عليه بعض الناس- لإثبات عدم منافاة التعليق هنا للجزم بالإنشاء- غير سديد، و بيانه: أنّ في البيع مرحلتين:

إحداهما: الإنشاء القائم بالبائع، و هو لا يتوقف على أزيد من اعتبار النقل الملكي و إيجاده بالصيغة المعهودة، أو إبرازه بها، على الخلاف في حقيقة الإنشاء. و هذا هو البيع بالمعنى المصدري، و يتمشّى من غير المالك أيضا، خصوصا بناء على القول بأنّ صحة عقد الفضول تكون على طبق القاعدة، على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء اللّه تعالى.

ثانيتهما: إمضاء الشارع و حكمه بالملكية المماثلة لما أنشأه المتبايعان، و هذا هو البيع المسببي أو الاسمي. و كلّ شرط اعتبره الشارع في موضوع حكمه فهو دخيل في هذه المرحلة مثل كون المبيع ملكا طلقا للبائع، و بلوغ المتعاقدين، و أهلية المشتري للتملّك، و غيرها.

و من المعلوم أنّ البيع بمعناه المصدري الذي هو فعل البائع غير معلّق على شي ء من الشرائط الشرعية، بل هي أمور خارجة عن الإنشاء، و إنّما تكون دخيلة في البيع الاسمي.

و عليه فإذا قال الموكل: «بعتك الجارية بعشرين إن كانت لي» كان الإنشاء معلّقا، و لم يحصل الجزم المعتبر في العقد. و لا يمكن تصحيحه «بأن المعلّق عليه مما يقتضيه إطلاق العقد» حتى يكون التعليق صوريا.

ص: 548

لأنّ (1) المعلّق على ذلك الشرط في (2) الواقع هو ترتّب الأثر الشرعي على العقد، دون إنشاء مدلول الكلام الذي (3) هو وظيفة المتكلّم، فالمعلّق (4) في كلام المتكلم غير معلّق في الواقع على شي ء، و المعلّق (5) على شي ء ليس معلّقا في كلام المتكلم

______________________________

وجه عدم الإمكان: أن المعلّق عليه- و هو ملكية المبيع- ليس ممّا يقتضيه إطلاق العقد، و ذلك لعدم توقف إنشاء البيع على ملكية المبيع حتى يكون العقد- بحسب طبعه- مقتضيا لها، و إنّما يكون المعلّق على هذا الشرط هو البيع بمعناه الاسمي، و المفروض أن الملكية الشرعية أمر خارج عن فعل العاقد، و ليس مما يقتضيه إنشاء البيع.

و الحاصل: أنّ مدلول العقد لا تعليق فيه واقعا على ملكية المبيع لعدم كونها شرطا للإنشاء كما عرفت. و ما فيه التعليق- و هو إمضاء الشارع و ترتيب الأثر على العقد- ليس من كلام المتكلّم، إذ المنشئ إنّما يتمكّن من اعتبار الملكية و النقل في نظر نفسه، لا في نظر الشارع، فالملكية الشرعية لم ينشئها البائع أصلا حتى تكون معلّقة أو منجّزة.

(1) تعليل لعدم النهوض، و قد عرفته آنفا.

(2) و هو ملكية المبيع.

(3) صفة ل «إنشاء» و المراد بالكلام الإنشائي هو «بعت» يعني: دون إنشاء هو مدلول الكلام الإنشائي الذي هو صفة المتكلم في مقام الإنشاء. و عليه فإضافة «الإنشاء» إلى «مدلول الكلام» بيانية، و لا يراد بالمدلول الملكية الاعتبارية المنشئة.

(4) و هو البيع المصدري، فإنّه غير معلّق على ملكية المبيع، و لا على غيرها من الشرائط الشرعية.

(5) و هو إمضاء الشارع و حكمه بترتيب الأثر على العقد، فإنّه معلّق على ملكية المبيع، سواء صرّح بهذا التعليق أم لم يصرّح به.

ص: 549

على شي ء، بل و لا منجّزا (1)، بل هو شي ء خارج عن مدلول الكلام (2).

إلّا (3) أنّ ظهور ارتضاء الشيخ له كاف في عدم الظّن بتحقق الإجماع عليه (4).

مع أنّ (5) ظاهر هذا التوجيه- لعدم قدح التعليق- يدلّ على أنّ محلّ

______________________________

(1) لعدم كون الأثر الشرعي ممّا أنشأه البائع حتى يتمكن من إنشائه منجزا تارة و معلّقا أخرى، و من المعلوم أنّ المعلّق و المنجّز وصفان للإنشاء الذي هو فعل المنشئ، فالملكية الشرعية لا تقبل التعليق و لا التنجيز.

(2) و هو «بعت». و وجه خروج الأثر الشرعي عن الإنشاء هو كون وضعه و رفعه بيد الشارع لا البائع.

(3) استدراك على قوله: «و إن لم ينهض» و حاصله- كما عرفت- أنّ الوجه المنقول في المبسوط و إن كان مخدوشا، لكن ارتضاء شيخ الطائفة له يمنع عن تحقق الإجماع على مبطلية التعليق في هذا القسم، و هو ما إذا كان المعلّق عليه مصحّح العقد و كان مشكوك الحصول.

(4) أي: على قدح التعليق على ما يكون صحة العقد متوقفا عليه.

(5) هذه الجملة إلى قوله: «فلا وجه لتوهم اختصاصه بصورة العلم» ليست إشكالا آخر على ما حكاه شيخ الطائفة قدّس سرّه عن بعض الناس و ارتضاه، بل هي متمّمة لقوله: «إلّا أن ظهور ارتضاء الشيخ له كاف في عدم الظن بالخلاف» فكأنه قال:

«إلّا أن ارتضاء الشيخ له يفيد أمرين، أحدهما عدم الظن بانعقاد الإجماع على قدح التعليق على مصحّح العقد. ثانيهما: أنّ دعوى بعض الناس و توجيهه يقتضيان صحة التعليق- إذا كان المعلّق عليه ممّا يقتضيه إطلاق العقد- سواء أ كان العاقد عالما بتحققه حال الإنشاء أم شاكّا فيه».

و مقصود المصنف قدّس سرّه من قوله: «مع أن .. إلخ» هو أنّ التعليل المتقدم في عبارة المبسوط- لو تمّ في نفسه و سلم عن الإشكال- يقتضي صحّة العقد المعلّق على ما يقتضيه إطلاقه، كملكية المبيع في قول الموكّل: «بعتك هذه الجارية بعشرين

ص: 550

الكلام فيما لم (1) يعلم وجود المعلّق عليه و عدمه، فلا وجه لتوهّم اختصاصه بصورة العلم (2).

______________________________

إن كانت لي» سواء أ كان عالما واقعا بملكيّتها- و يكون إنكار الوكالة في الظاهر- أم شاكّا فيها كما إذا عرض النسيان عليه، و لم يتذكر التوكيل.

و الوجه في اقتضاء التعليل إطلاق الجواز لصورتي العلم و الشك هو كون المعلّق عليه مما يتوقف عليه تأثير العقد، حتى أنّ إنشاء الموكّل لو كان منجزا كان تنجيزه صوريّا، لكون البيع معلّقا بحسب الواقع و نفس الأمر على الملكية.

و عليه ينبغي أن يكون شيخ الطائفة قائلا بجواز التعليق- في ما يقتضيه إطلاق العقد- في قسمين أحدهما: أن يكون المعلّق عليه معلوم الحصول. ثانيهما: أن يكون مشكوك الحصول.

فكما يحصل الظن بعدم الإجماع على البطلان في صورة العلم بحصول الشرط، فكذا يحصل الظن بعدم الإجماع في صورة الشك في حصوله. و لا موجب لاختصاص نظر الشيخ بالعلم بالحصول كما توهّمه بعضهم.

هذا ما استفاده المصنف قدّس سرّه من أصل دعوى بعض الناس و من تعليله، ثمّ أيّد المصنف هذا التعميم بكلام الشهيد قدّس سرّه و سيأتي.

(1) ظاهر العبارة اختصاص مورد النزاع بالشك في وجود المعلّق عليه، مع أنّ غرضه قدّس سرّه أعمية التعليل من العلم و الشك، و لذا فالأولى أن يقال: «إنّ محل الكلام أعمّ ممّا لم يعلم وجود المعلّق عليه .. إلخ» و ذلك بقرينة قوله بعده: «بصورة العلم».

(2) لم أقف على من خصّ صحة التعليق- المذكور في كلام الشيخ- بصورة العلم، لكن يظهر من تعبير جمع كالمحقق و الشهيد الثانيين الاختصاص، لما تقدّم عنهما من: «أن التعليق إنّما ينافي الإنشاء حيث يكون المعلّق عليه مجهول الحصول. أمّا مع العلم بوجوده فلا، لانتفاء الشك حينئذ في الإنشاء» و مفروض كلامهما تعليق البيع على ملكية الجارية، فراجع.

ص: 551

و يؤيّد ذلك (1) أنّ الشهيد في قواعده جعل الأصحّ صحّة تعليق البيع على ما هو شرط فيه، كقول البائع: بعتك إن قبلت «1».

و يظهر منه (2) ذلك أيضا (3) في آخر القواعد.

______________________________

(1) يعني: و يؤيّد أنّ محلّ النزاع أعمّ- من صورة علم العاقد بالمعلّق عليه، و شكّه فيه- ما يستفاد من موضعين من قواعد الشهيد قدّس سرّه، ففي الموضع الأوّل حكم بصحّة تعليق البيع على شرط صحة العقد، كانضمام القبول إلى الإيجاب، فإذا قال:

«بعتك هذا بكذا إن قبلت» صحّ، مع أن عقديّة العقد متوقفة على لحوق القبول، فصحّة تعليق الإيجاب على تحقق القبول- مع الجهل بتحققه- تقتضي أولوية صحة ما تقدم في كلام المبسوط، حيث إن المعلّق عليه- فيه- ليس شرط أصل العقد، بل شرط ترتب الآثار الشرعية عليه.

قال الشهيد قدّس سرّه: «و منه تعليق البيع على الواقع، أو على ما هو شرط فيه.

و الأصح انعقاده مثل: بعتك إن كان لي، أو: بعتك إن قبلت. و يحتمل البطلان».

و في الموضع الثاني حكم الشهيد قدّس سرّه بصحة تعليق البيع على مشيّة المشتري، و هو- كالتعليق على القبول- شرط صحة نفس الإنشاء، لا شرط ترتب الأثر الشرعي عليه، قال: «أمّا لو علم الوجود فإنّ العقد صحيح، و لا شرط و إن كان بصورة التعليق .. و لو قال: بعتك بمائة إن شئت، فهذا تعليق بما هو من قضاياه، إذ لو لم يشأ لم يشتر» «2».

(2) يعني: يظهر من الشهيد صحة تعليق العقد على ما هو شرط فيه- و هو مشكوك الحصول- كقبول المشتري و مشيّته.

(3) يعني: كما ظهر جواز التعليق في أوائل القواعد.

هذا تمام الكلام في أقسام التعليق الصريح، و أحكامها.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 155 و 156. رقم القاعدة: 41

(2) القواعد و الفوائد، ج 2، ص 237، رقم القاعدة: 238

ص: 552

ثم إنّك (1) قد عرفت أنّ العمدة في المسألة هو الإجماع.

و ربما يتوهم أنّ الوجه في اعتبار التنجيز هو (2) عدم قابلية الإنشاء للتعليق.

______________________________

و أما التعليق الذي يكون لازم الكلام فسيأتي حكم بعض أقسامه في (ص 565) بقوله: «ثم إن القادح هو تعليق الإنشاء .. إلخ» فانتظر.

(1) هذا شروع في المطلب الثاني الذي تعرّض له في المقام الرابع، و هو تحقيق الوجوه التي استدل بها الفقهاء على اعتبار التنجيز. فالدليل الأوّل- و هو المعتمد- الإجماع الذي حكاه عن جمع، كالشيخ و ابن إدريس و العلّامة و غيرهم، و قد تقدمت كلماتهم في المقام الثاني، فراجع.

(2) هذا إشارة إلى ثاني الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز، و قد تقدم نقله- في أوّل المسألة- عن تذكرة العلّامة قدّس سرّه من منافاة التعليق للجزم، و تقدّم بيانه إجمالا هناك، و يأتي مزيد توضيح له في التعليقة إن شاء اللّه تعالى.

و أورد المصنف قدّس سرّه عليه بأنّ المراد بالإنشاء- الذي ينافي التعليق للجزم به- إمّا هو إيجاد المعنى باللفظ، و إمّا هو المنشأ أي البيع المسبّبي المفسّر بالمبادلة و التمليك و النقل. فإن أريد التنافي للإنشاء- بالمعنى الأوّل- قلنا باستحالة التعليق فيه، و ذلك لأنّ الإنشاء من قبيل الإيجاد الحقيقي في عدم القابلية حينئذ للإناطة و التعليق، لأنّ الإنشاء- بهذا المعنى- عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى، و إخطار المعنى بسببه، و من المعلوم ترتب هذا الإخطار على إلقاء اللّفظ فقط.

و إن أريد بالإنشاء ما هو محلّ الكلام- أعني به المنشأ- بأن يكون المعلّق على الشرط هو الأمر الاعتباري كالملكية في باب البيع فلا مانع من تعليقه، بل هو واقع كما يظهر من نظائره سواء في باب الأوامر و المعاملات. أمّا في الأوامر فكتعليق وجوب الإكرام بالمجي ء في قوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» حيث إنّ المجي ء قيد للمنشإ و هو الوجوب المستفاد من الهيئة. و أما في المعاملات فكالوصية التمليكية، فإنّ

ص: 553

و بطلانه واضح (1)، لأنّ المراد بالإنشاء إن كان هو مدلول الكلام (2) فالتعليق غير متصوّر فيه، إلّا أنّ الكلام ليس فيه (3).

و إن كان الكلام (4) في أنّه- كما يصحّ إنشاء الملكية المتحققة على كلّ تقدير- فهل يصحّ إنشاء الملكية المتحققة على تقدير دون آخر كقوله: «هذا لك إن جاء زيد غدا» و «خذ (5) المال قرضا أو قراضا إذا أخذته من فلان» و نحو

______________________________

الموصى ينشئ ملكية المال للموصى له، و لكنها معلّقة على موته.

و عليه فالإنشاء بالمعنى الثاني يكون تعليقه واقعا شرعا و عرفا فضلا عن إمكانه، فلا وجه لما قيل من «منافاة التعليق للجزم بالإنشاء» لحصول الجزم بالملكية على تقدير، كحصوله في الملكية على كل تقدير، هذا.

(1) قد اتضح وجه البطلان بقولنا: «و أورد المصنف قدّس سرّه عليه بأنّ المراد بالإنشاء .. إلخ».

(2) قد عرفت بما ذكرناه في توضيح الإيراد أنّ الأولى أن يقال: «إن كان هو الكلام» أي تعليق نفس اللفظ، و ذلك بقرينة الشقّ الثاني الذي هو من تعليق المنشأ.

و يمكن أن تكون الإضافة بيانية، فتأمّل.

(3) يعني: أنّ مراد العلامة و غيره من منافاة التعليق للجزم بالإنشاء ليس منافاته لنفس الكلام و الصيغة.

(4) الأنسب- بقرينة المقابلة- أن يقال: «و إن كان المراد تعليق المنشأ كالملكية .. إلخ» فإذا قال: «بعتك هذا بهذا إذا قدم الحاج» يراد به تعليق الملكية- الحاصلة من البيع- على قدوم الحاج، فلا بيع قبل قدومهم.

(5) بأن يكون معناه: تحقق الملكية بالاقتراض على تقدير أخذ مال المقرض ممّن هو عنده، فلو لم يأخذه منه فلا قرض. و كذا الحال في إنشاء عقد المضاربة على تقدير أخذ رأس المال ممّن بيده المال.

ص: 554

ذلك (1) فلا ريب (2) في أنّه أمر متصوّر (3) واقع في العرف و الشرع كثيرا في الأوامر (4) و المعاملات من العقود و الإيقاعات.

و يتلو هذا الوجه (5) في الضعف ما قيل من: أنّ ظاهر ما دلّ على سببية

______________________________

(1) كالوصية التمليكية، و النذر و السبق و الرّماية و الجعالة.

(2) جزاء الشرط في قوله: «و إن كان الكلام».

(3) يعني: أنّ الملكية التعليقية ممكنة في نفسها، و واقعة في الخطابات الشرعية و العرفية.

(4) كتعليق وجوب الحج و الزّكاة مثلا على الاستطاعة و النّصاب، و غيرهما من سائر الواجبات المشروطة.

(5) أي: عدم قابلية الإنشاء للتعليق. و هذا إشارة إلى ثالث الوجوه المستدلّ بها على اعتبار التنجيز. و هو ما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه- بعد إبطال عدم قابلية الإنشاء للتعليق- بقوله: «بل لمنافاته- أي: التعليق- ما دلّ على سببية العقد، الظاهر في ترتب مسبّبه عليه حال وقوعه، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين دون الشارع معارض لذلك، بل هو شبه إثبات حكم شرعي من غير أهله. و للشك في شمول الآية و نحوها له .. إلخ» «1». و كذا منع قدّس سرّه من التعليق في بحث الشروط «2»، و في باب الطلاق «3»، فراجع.

و حاصله: أنّ ظاهر أدلة الإمضاء و الصحة هو ترتيب الآثار المقصودة من حين العقد، و ذلك منوط بإطلاق العقد و تنجيزه حتى تترتب عليه فعلا، فمع تعليقه لا تشمله الأدلّة من حينه، و مع عدم شمولها له من زمان صدوره لا تشمله بعده أيضا، فالعقود المعلّقة غير مشمولة لأدلّة الصحة لا حدوثا و لا بقاء أي بعد حصول المعلّق عليه، فمع عدم الدليل على الصحة يرجع إلى أصالة الفساد، هذا.

و أورد المصنف قدّس سرّه عليه بوجوه خمسة أو ستة:

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 22، ص 253

(2) جواهر الكلام ج 23، ص 198

(3) جواهر الكلام، ج 32، ص 78 و 79

ص: 555

العقد ترتّب مسبّبه عليه حال وقوعه، فتعليق أثره بشرط من المتعاقدين مخالف لذلك (1).

و فيه- بعد الغضّ عن عدم (2) انحصار أدلّة الصّحة و اللّزوم في مثل قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لأنّ (3) دليل حلّية البيع و تسلّط الناس على أموالهم

______________________________

الأوّل: أنّه لو سلّمنا اقتضاء الأمر بالوفاء بالعقود لترتيب الأثر الشرعي على كلّ عقد من حين الإنشاء، قلنا بعدم انحصار دليل صحة البيع في هذه الآية المباركة حتى يقال ببطلان العقد المعلّق، فيمكن القول بصحّته، و ذلك بعد تمامية مقدمتين:

الأولى: أنه قد تقدم في أدلة مملكية المعاطاة و لزومها دلالة آيتي (حلّ البيع) و (التجارة عن تراض) على صحّة كلّ ما هو بيع- بالحمل الشائع- بنظر العرف.

و كذلك استدلّ صاحب الجواهر قدّس سرّه على مشروعية بعض أقسام المعاطاة بحديث السلطنة.

الثانية: أنّ تعليق بعض أفراد البيع على الشرط واقع عرفا و شرعا، و لا تترتّب الملكية فيه على نفس العقد، ففي بيع الصرف لا يفيد نفس الإنشاء الملكية الشرعية، بل تتوقف على القبض.

و بعد تمامية هذه الكبرى و الصغرى يظهر أنّ إطلاق «حلية البيع» يقتضي صحة كل بيع عرفي سواء أ كان منجّزا أم معلّقا، فإن كان منجّزا ترتب المسبّب من حين إنشاء السبب. و إن كان معلّقا توقّف ترتب المسبّب على حصول المعلّق عليه، و لا محذور في تأخر المسبب عن سببه و انفكاكه عنه بعد إطلاق دليل الإمضاء.

هذا توضيح الإيراد الأوّل، و سيأتي بيان سائر المناقشات.

(1) أي: لترتب المسبّب حال وقوع سببه و هو العقد.

(2) هذا إشارة إلى أوّل إيرادات المصنف على صاحب الجواهر قدّس سرّهما، و قد عرفته آنفا.

(3) تعليل لقوله: «عدم انحصار».

ص: 556

كاف في إثبات ذلك (1)- أنّ (2) العقد سبب لوقوع مدلوله فيجب الوفاء به على

______________________________

(1) أي: في إثبات صحة البيع و لزومه، سواء أ كان منجّزا أم معلّقا.

و لا يخفى أن عدّ حديث السلطنة من أدلة الصحة و اللزوم مبني على اعتراف صاحب الجواهر قدّس سرّه بكونه مشرّعا، إذ على هذا يتجه إشكال المصنف قدّس سرّه عليه بأنّ الحديث يدلّ- كآية حلّ البيع- على نفوذ تصرف المالك في ماله بالبيع و الوقف و الهبة و نحوها، سواء أ كانت أسبابها منجّزة أم معلّقة.

و بهذا يظهر عدم المجال للإشكال على المصنف بأنّ الحديث غير مشرّع أصلا أو لخصوص الأسباب، فلا وجه لعدّه من أدلة الصحة و اللزوم.

وجه عدم المجال ما عرفت من توجيه الإيراد على ما يعترف به صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه.

(2) هذا هو الإشكال الثاني على كلام الجواهر، و مقصود المصنف منع ما استفاده صاحب الجواهر من آية وجوب الوفاء بالعقود حتى لو كان دليل الإمضاء منحصرا فيها.

و توضيحه: أن الآية الشريفة و إن دلّت على سببية العقد لترتب المسبّب عليه، إلّا أنّها قاصرة عن إثبات ترتب المسبّب من حين الإنشاء، و ذلك لأنّ المراد بالعقود التي يجب الوفاء بها هو العهود على ما ورد تفسيرها بها في معتبرة عبد اللّه بن سنان «1» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و من المعلوم أنّ العهد يصدق حقيقة على العهد المعلّق كصدقه على المنجّز، فإن كان مدلول العهد منجّزا وجب الوفاء به فورا، و إن كان مدلوله معلّقا على أمر مترقب الحصول- كما في غالب موارد النذر- وجب الوفاء به معلقا على حصول الشرط.

و على هذا فليس مفاد «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» عدم ترتب الأثر على العقود المعلّقة على ما يتوقّع حصوله، بل مفادها وجوب العمل بمقتضى العقد، فإن كان منجّزا

______________________________

(1): تفسير القمي، ج 1، ص 160

ص: 557

طبق مدلوله (1). فليس مفاد أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إلّا مفاد أَوْفُوا بِالْعَهْدِ في (2) أنّ العقد كالعهد إذا وقع على وجه التعليق فترقّب تحقّق المعلّق عليه- في تحقق المعلّق- لا يوجب (3) عدم الوفاء بالعهد.

و الحاصل (4): أنّه إن أريد بالمسبّب هو مدلول العقد (5) فعدم تخلّفه عن إنشاء العقد من البديهيات التي لا يعقل خلافها. و إن أريد به (6) الأثر الشرعي

______________________________

ففورا، و إن كان معلّقا فعند حصول المعلّق عليه.

هذا إذا كان المراد بالأثر الذي يجب ترتيبه على العقد و العهد هو حكم الشارع، كالملكية الشرعية في البيع، و الزوجية كذلك في النكاح، و هكذا.

و إمّا إذا كان المراد بالأثر ما يعتبره نفس العاقد- مع الغضّ عن إمضائه شرعا- فهو يترتب على الإنشاء معلّقا كان أو منجّزا، و يستحيل انفكاكه عنه. فإنّ النسبة بين الإنشاء و المنشأ- بهذا المعنى- نسبة الإيجاد و الوجود، لا يعقل انفكاكهما، لا نسبة الإيجاب و الوجوب.

(1) فإن كان مدلول العقد منجّزا ترتب المسبّب عليه من حينه، و إن كان معلّقا وجب الوفاء به عند تحقق الشرط.

(2) هذا وجه اتّحاد مفاد الوفاء بالعقد و بالعهد.

(3) خبر قوله: «فترقب» و قوله: «إذا وقع» قيد للعهد.

(4) هذا الحاصل و إن كان متينا، لكن المصنف لم يتعرّض قبله لاستحالة تخلّف المسبّب عن الإنشاء، كالملكية التي يعتبرها البائع مع الغضّ عن إمضاء الشارع، كما يعتبر الفسّاق ملكية الخمر و نحوه مما أسقط الشارع ماليّته. فهذه لا تتخلّف عن العقد أصلا مع فرض التفات العاقد و قصده.

و كيف كان فقد تقدم توضيح كلا الشقّين.

(5) أي: مضمونه العرفي، لكن مع قطع النظر عن تقرير الشارع و تصحيحه.

(6) أي: و إن أريد بالمسبب الأثر الشرعي- كما هو ظاهر كلام الجواهر، لأنّه

ص: 558

- و هو ثبوت الملكية- فيمنع (1) كون أثر مطلق البيع الملكية المنجّزة، بل (2) هو مطلق الملك، فإن كان البيع غير معلّق (3) كان أثره الشرعي الملك غير المعلّق، و إن كان معلّقا (4) فأثره الملكية المعلّقة.

مع أنّ (5) تخلّف الملك عن العقد كثير جدا.

______________________________

الذي قد ينفك عن العقد، فيتخيّل عدم وجوب الوفاء به فيمنع كون .. إلخ.

(1) جزاء الشرط في قوله: «و إن أريد» و قد تقدّم وجه المنع.

(2) يعني: بل المسبّب الذي هو الأثر الشرعي يكون مطلق الملك أعم من المنجّز و المعلّق. و الدليل على هذه الأعمية صدق «العقد و العهد» على كلّ من الإنشاء المنجّز و المعلّق، و لا مقيّد في البين حتى تختصّ الصحة بالمنجّز.

(3) كما إذا قال: «بعتك هذا الكتاب بدينار» فقبل المشتري، فيجب الوفاء به فورا.

(4) كما إذا قال: «بعتك هذا الكتاب بدينار إن كان لي، أو: إن جاء زيد» فقبل المشتري.

(5) ظاهر السّياق- كما استفاده بعض أجلّة المحشين كالفقيه المامقاني قدّس سرّه «1»- أنّه إشكال ثالث على استدلال صاحب الجواهر قدّس سرّه، فيكون المقصود منع اختصاص مفاد الآية المباركة بما إذا كان العقد سببا تامّا حتى يترتب الأثر عليه حال وقوعه كي تختص الصحة بالعقد المنجّز.

وجه المنع: أنّ الشارع حكم بصحة عقود كثيرة مقتضية للملكيّة، و يتوقف تمامية السبب على تحقّق أمر آخر، فلو اختصّت الآية بالعقود التي تكون تمام السبب في التأثير لزم التخصيص الكثير، أو عدم كون الآية دليلا على صحتها.

فمنها: بيع الصّرف، فتتخلّف الملكية عن الإنشاء حتى القبض.

و منها: بيع المعاطاة بناء على الإباحة، لتوقف الملك- عند القائل به- على

______________________________

(1): غاية الآمال، ص 260

ص: 559

مع (1) أنّ ما ذكره لا يجري في مثل قوله: «بعتك إن شئت، و: إن قبلت، فقال: قبلت» فإنّه لا يلزم هنا تخلّف أثر العقد عنه.

______________________________

طروء الملزم.

و منها: بيع الفضولي بناء على النقل، فالملكية متوقفة على لحوق الإجازة.

و منها: الهبة، فإنّ انتقال العين إلى المتّهب منوط بالقبض.

و منها: الوقف على الذّرّيّة، فإنّ البطون المتأخّرة تتلقّى الملكية من الواقف، مع ما بين الإنشاء و التملّك من الفصل الكثير.

و منها: الوصية، فالعين الموصى بها تنتقل إلى الموصى له بعد موت الموصى.

و منها: المضاربة، فإنّ العامل يتملّك الحصّة بعد ظهور الرّبح، لا بنفس العقد.

و منها: عقد المساقاة، فإنّ العامل يتملّك حصّته من الثمرة بعد ظهورها.

و منها: عقد السبق و الرّماية، لتوقف تملّك السّبق على تقدّم أحدهما على الآخر.

و منها: غير ذلك من موارد تخلّف الملك عن العقد. و يستكشف من مجموعها عدم كون العقد سببا تامّا لحصول الملك في جميع الموارد، فكيف ادّعى صاحب الجواهر حصر مفاد الآية في ترتب المسببات على الإنشاءات حال وقوعها؟ هذا.

و لا يخفى أنّه يمكن أن تكون العبارة متمّمة للإشكال الثاني، و تقريبه: أنّ المصنف قدّس سرّه جعل مفاد الآية الشريفة وجوب الوفاء بمضمون العقد، فإن كان منجزا فمنجّزا، و إن كان معلّقا فمعلّقا. و لكنّه لم يأت بشاهد على هذه الدعوى، فكان لصاحب الجواهر قدّس سرّه منعها، و حصر المدلول في وجوب الوفاء بالعقود منجّزا.

و حينئذ يمكن جعل قول المصنف قدّس سرّه: «مع أن تخلف الملك عن العقد كثير جدّا» دليلا على منع الحصر، و أنّ العقود المملّكة التي يتخلّف أثرها عنها كثير كما عرفت، فتكون الآية دليلا على صحة كلا القسمين، و الوفاء في كلّ منهما بحسبه، و عليك بالتأمّل في المتن ليتبيّن لك حقيقة الأمر.

(1) هذا رابع ما أورده المصنف على صاحب الجواهر قدّس سرّهما، و محصّله: أخصّيّة الدليل من المدّعى، و هو مبطليّة مطلق التعليق، و بيانه: أنه لو كان مفاد وجوب الوفاء بالعقود ترتيب الأثر الشرعي على سببه- و هو العقد- فورا كان مقتضاه قدح

ص: 560

مع (1) أنّ هذا (2) لا يجري في الشرط المشكوك المتحقق في الحال، فإنّ العقد حينئذ (3) يكون مراعى (4)

______________________________

التعليق في بعض الأقسام، أعني ما إذا كان المعلّق عليه استقباليا، فلو كان مقارنا للعقد فلا بد من صحته، إذ لا يلزم حينئذ تخلّف الأثر عن المؤثّر، كما إذا علّقه البائع على قبول المشتري أو على مشيّته، فقال: «بعتك إن قبلت، أو: إن شئت» فقال المشتري:

«قبلت» فإنّ النقل لا ينفك عن هذا الإنشاء كما هو واضح. مع أن مقصود صاحب الجواهر منع التعليق مطلقا مهما كان المعلّق عليه.

(1) هذا خامس ما أورده على كلام الجواهر، و محصله أيضا أخصّيّة الدليل من المدّعى، و غرض المصنف قدّس سرّه: أنّ دليل صاحب الجواهر قدّس سرّه- على فرض تماميته- يقتضي صحة التعليق على شرط متحقق واقعا، و لكنه مشكوك الحصول بنظر المتعاقدين، كما إذا قال البائع: «بعتك إن كان لي، أو: بعتك إن كان هذا اليوم يوم الجمعة» فتبيّن كونه مالكا للمبيع و كون يوم الإنشاء الجمعة.

و الوجه في الصحة: أنّ محذور تخلّف المسبب عن السبب- الّذي اعتمد عليه صاحب الجواهر في اعتبار التنجيز- لا يلزم في المثالين، غايته أنّ المتبايعين لا يعلمان بترتب الأثر الشرعي على العقد، للجهل بحصول المعلّق عليه، فإذا انكشف لهما تحققه حال الإنشاء تبيّن لهما موضوعية العقد لوجوب الوفاء به. هذا مقتضى دليل صاحب الجواهر قدّس سرّه، مع أنّه جعله وجها لبطلان العقد المعلّق مطلقا حتى فيما كان المعلّق عليه حاصلا حال العقد، و كان مشكوك الحال بنظر المتعاقدين.

(2) أي: ما استدل به صاحب الجواهر- من اقتضاء الآية الشريفة ترتب الأثر على العقد فورا- لا يجري .. إلخ.

(3) يعني: حين كون الشرط- المشكوك تحقّقه- موجودا في حال الإنشاء.

(4) حتّى ينكشف حال الشرط، فإن كان موجودا حال الإنشاء كان العقد

ص: 561

لا موقوفا (1).

مع (2) أنّ ما ذكره لا يجري في غيره من العقود التي قد يتأخّر مقتضاها عنها، كما لا يخفى.

______________________________

صحيحا من حينه، و إن كان معدوما كان العقد باطلا، لمحذور تخلّف الأثر عن المؤثّر.

(1) يعني: حتى يلزم التخلّف، إذ الموقوف هو العقد المتخلّف مقتضاه عن نفس العقد، لتوقّفه على ما لا وجود له فعلا.

(2) هذا إيراد سادس على كلام الجواهر، و محصله: أخصيّة الدليل من المدّعى، و ذلك لأمرين مسلّمين:

الأوّل: أنّ البحث عن شرطيّة التنجيز لا يختص بالبيع، بل عام لجميع الإنشاءات من العقود و الإيقاعات، فإن نهض دليل على الاشتراط لم يختص بباب دون آخر، و إن لم ينهض فكذا، أي يجوز تعليق الإنشاء مطلقا.

و الوجه فيه: أنّ ما استدلّ به على الاعتبار- كالإجماع و ما تقدّم من كلام الجواهر- لا يختص بالبيع. و عليه فاللّازم القول بالاشتراط مطلقا، أو بالعدم كذلك، و لا وجه للتفصيل بين العقود.

الثاني: أن سببيّة العقود لترتب مسبباتها عليها مختلفة، فمنها ما يكون بمقتضى طبعه سببا تامّا، و لا ينفك مسبّبه عنه كالبيع و الإجارة و الصلح و غيرها. و منها ما لا يكون كذلك، بل يتخلّف الأثر عن العقد كالوصية التمليكية و الوقف و الهبة و المضاربة و المساقاة و نحوها، فالعقد يكون جزء السبب، و الجزء الآخر هو الأمر المتأخر كالموت في باب الوصية، و القبض في الهبة و الوقف، و هكذا.

و بناء على هذين الأمرين نقول: إنّ الآية الشريفة التي استدلّ بها صاحب الجواهر- لو تمّ دلالتها- تقتضي شرطية التنجيز في القسم الأوّل من العقود، مع أنّ المدّعى اعتباره مطلقا. و بيانه: أنّ الآية تدلّ على ترتب المسبّب على السبب- أي العقد- مباشرة و بلا فصل، و من المعلوم عدم كون جميع العقود مقتضية لترتيب الأثر فورا، لما عرفت من أنّ جملة منها ليست أسبابا تامّة لمسبّباتها، بل هي مشروطة

ص: 562

و ليس الكلام (1) في خصوص البيع، و ليس على هذا الشرط في كل عقد دليل على حدة.

ثم الأضعف (2) من الوجه المتقدم: التمسّك (3) في ذلك بتوقيفية الأسباب الشرعية الموجبة لوجوب الاقتصار فيها على المتيقن، و ليس (4) إلّا العقد العاري عن التعليق.

______________________________

بأمور متأخرة عن العقد كالقبض في بيع الصرف، و ظهور الرّبح في المضاربة، و هكذا.

فيلزم جواز تعليق هذا القسم بأن يقول الموصى: «أوصيت بهذا المال لزيد إن قدم الحاج» و وجه الجواز واضح، لفرض اختصاص مدلول الآية بالعقود التي تكون أسبابا تامّة، لا مقتضية.

مع أنّ الالتزام بهذا التفصيل ممّا لا وجه له، لما عرفت من أنّ هذا البحث لا يختص ببعض العقود، و لا دليل آخر على شرطية التنجيز في سائر العقود، فلو قيل ببطلان مثل الوصية بالتعليق كان قولا بغير علم.

(1) قد تقدم توضيح هذا آنفا بقولنا: «الأوّل: أن البحث عن شرطية التنجيز ..».

(2) الجمع بين تعريف صيغة التفضيل و «من» لا يساعده القواعد الأدبية.

(3) هذا رابع الوجوه المستدل بها على اعتبار التنجيز، و هو مذكور في مفتاح الكرامة، لكنه منعه بقوله: «و فيه ما فيه» و تقدم في كلام المحقق و الشهيد الثانيين «أن العقود لمّا كانت متلقاة من الشارع نيطت بهذه الضوابط، و بطلت في ما خرج عنها» و ينسب هذا الوجه إلى جماعة من القدماء كالقاضي في جواهره. و أشار إليه صاحب الجواهر قدّس سرّه في عبارته المتقدمة أيضا. و حاصله: أنّ الإنشاءات أسباب حكم الشارع بتأثيرها في مسبّباتها، فإذا شك في جواز التسبّب بالإنشاء- المعلّق على شي ء- للأثر تعيّن الاقتصار على المتيقن، و هو العقد العاري عن التعليق، إذ لو علّقه لم يندرج في دليل الصحة، فيرجع فيه إلى أصالة الفساد.

(4) يعني: و ليس المتيقن من الأسباب الشرعية إلّا العقد العاري عن التعليق.

ص: 563

إذ فيه (1): أنّ إطلاق الأدلة مثل حلّيّة البيع، و تسلّط الناس على أموالهم، و حلّ التجارة عن تراض، و وجوب الوفاء بالعقود، و أدلة (2) سائر العقود كاف (3) في التوقيف.

و بالجملة (4): فإثبات هذا الشرط في العقود- مع عموم أدلتها و وقوع كثير منها في العرف (5) على وجه التعليق-

______________________________

(1) هذا ردّ الاستدلال المزبور، و حاصله: أنّ إطلاق الأدلة المصحّحة للعقود كاف في التوقيف، فمع الصدق العرفي على العقد المعلّق يتشبّث بتلك الإطلاقات، و معها لا مجال للاقتصار على المتيقّن الذي يكون مورده إجمال الدليل. و قد سبق هذا المطلب في أوّل ما أورده المصنف على صاحب الجواهر قدّس سرّهما.

(2) معطوف على «الأدلة» يعني: إطلاق أدلة العقود، كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «النكاح سنّتي، و الصلح جائز بين المسلمين» و نحوهما أدلة صحة الإجارة و القرض و المضاربة و غيرها، فإنّ إطلاقها مسوق لإمضاء المتعارف منها. و لمّا كان المتعارف إنشاءها منجّزا تارة و معلّقا اخرى كان مقتضى إطلاق الأدلة صحة كلا القسمين.

و عليه تكون العقود التعليقية توقيفية أيضا، لكفاية الإطلاق في إثبات صحتها شرعا.

(3) خبر قوله: «أنّ إطلاق» يعني: أنّ توقيفيّة الأسباب المعلّقة- كالمنجّزة- ثابت بالإطلاق، و لا وجه لحصر الأسباب الممضاة شرعا في خصوص المنجّزة منها.

(4) هذا ملخّص ما أفاده بقوله: «و ربما يتوهّم أن الوجه في اعتبار التنجيز ..»

إلى هنا. يعني: أنّ المعتمد من الوجوه المستدل بها على شرطية التنجيز هو الإجماع، لا سائر الوجوه التي عرفت ضعفها.

(5) غرضه من هذه الجملة أنّه لا مجال لتوهم انصراف إطلاق الأدلة إلى خصوص المنجزة- لشيوعها و ندرة المعلّقة- كما هو حال سائر الإطلاقات المنصرفة عن أفرادها النادرة. وجه عدم المجال ما تقدّم من منع ندرة العقود المعلّقة، بل المتعارف كلا القسمين.

ص: 564

بغير (1) الإجماع محقّقا أو منقولا (2) مشكل (3).

ثمّ إن القادح هو تعليق الإنشاء (4). و أمّا إذا أنشأ من غير تعليق صحّ

______________________________

(1) متعلّق ب «إثبات».

(2) ظاهر العبارة تسليم أصل الإجماع و تردّده بين المحصّل و المنقول.

لكن في مفتاح الكرامة و الجواهر ما ظاهره الجزم بتحصيل الإجماع فضلا عن نقله، ففي الأوّل: «و الدليل على ذلك بعد الإجماع نقلا و تحصيلا: أنّ الأصل عدم جواز الوكالة، خرجت المنجّزة بالإجماع و بعض الأخبار، و بقي الباقي» «1».

و في الثاني: «و شرطها- أي الوكالة- أن تقع منجّزة كغيرها من العقود، بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه» «2».

(3) لأنّ رفع اليد عن العمومات- المقتضية للصحة- بدون المخصّص مشكل جدّا.

(4) هذا هو المطلب الثالث الذي تعرّض له في المقام الرابع، و غرضه من هذا الكلام إلى آخر المسألة بيان حكم ما إذا كان الإنشاء منجّزا صورة، و لكن تردّد المنشئ في تحقق شرط عرفي أو شرعي ممّا يتوقف عليه الأثر، و هذا قسم من أقسام التعليق غير الصريح، بل هو لازم الكلام، على ما سبق منه في (ص 541) من التنظير بما إذا باع شخص مال مورّثه بظنّ موته، و قد نقل هناك عن العلّامة احتمال بطلانه لكونه معلّقا واقعا و إن كان منجّزا صورة.

و كيف كان فمحصّل ما أفاده قدّس سرّه: أنّ ما دلّ على بطلان الإنشاء بالتعليق- كالإجماع- يقتضي الاختصاص بإناطة الإنشاء بشرط أو صفة. و أمّا إذا كانت الصيغة منجّزة و لكن تردّد المنشئ في ترتب الأثر عليها- للشك في تحقق شرط صحتها عرفا أو شرعا- كانت صحيحة و خارجة عن مورد مبطلية التعليق، كما

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 7، ص 526

(2) جواهر الكلام، ج 27، ص 352

ص: 565

العقد (1) و إن كان المنشئ متردّدا في ترتب الأثر عليه شرعا أو عرفا، كمن ينشئ البيع و هو لا يعلم أنّ المال له (2)، أو أنّ المبيع مما يتموّل (3)، أو أنّ المشتري راض حين الإيجاب (4) أم لا، أو غير ذلك ممّا يتوقف صحة العقد عليه

______________________________

إذا باع شيئا و هو متردّد في ماليّته العرفية أو الشرعية، أو شكّ في رضا المشتري جدّا بالإيجاب، و غير ذلك من الأمثلة المذكورة في المتن.

و وجه الصحة في الجميع- يعني سواء أ كان الشرط المشكوك تحقّقه مقوّما للعنوان عرفا أم مأخوذا فيه تعبّدا- هو تجرّد الإنشاء عن أداة الشرط، و لا دليل على اعتبار جزم المنشئ.

هذا ما ذكره المصنف قدّس سرّه في مطلع كلامه، و لكنه استدرك عليه بالفرق بين كون المشكوك فيه مقوّما، فيبطل الإنشاء، و غيره فيصح، و سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

(1) هذا مبني على الاستناد إلى الإجماع. و أمّا بناء على ما حكاه عن العلّامة من اعتبار الجزم في الإنشاء فيبطل في هذا القسم أيضا، كما احتمله هو و فخر المحققين في بيع مال المورّث بظنّ موته، فراجع.

(2) هذا مثال للشرط الذي له دخل شرعا في ترتب الأثر على الإنشاء، و لا دخل له فيه عرفا.

(3) هذا مثال للشرط المصحّح للعقد عرفا، فإنّ البيع عندهم «مبادلة مال بمال» فمع عدم ماليّة المبيع لا يقع البيع العرفي حتى يمكن إمضاؤه شرعا، فإذا شكّ البائع في أنّ المبيع ممّا يتموّل، لم يكن جازما بالبيع و المبادلة، و مع ذلك يصحّ إنشاؤه، لخلوّه عن الشرط.

(4) هذا أيضا لو كان شرطا مصحّحا للعقد كان بالتعبّد، لا لدخله عرفا في العقد.

ص: 566

عرفا (1) أو شرعا (2).

بل (3) الظاهر أنّه لا يقدح اعتقاد عدم ترتب الأثر (4) عليه إذا تحقّق القصد إلى التمليك العرفي.

و قد صرّح بما ذكرنا (5) بعض المحققين (6)، حيث قال: «لا يخلّ زعم فساد المعاملة ما لم يكن سببا لارتفاع القصد».

______________________________

(1) كالشك في رضا المشتري بالإيجاب و كراهته له، فإنّ المعاهدة الاختيارية متوقفة عرفا على الرّضا.

(2) كجملة من شرائط المتعاقدين و العوضين، فالبلوغ شرط تعبدي، و كذا عدم سقوط العوضين عن المالية، فمبادلة الخمر و الخنزير عقد عرفي، لكن نهى الشارع عنها، لعدم قابلية العوض للتملّك شرعا. و العقل و قابلية الخطاب شرط عرفي.

(3) غرضه الإضراب- عن عدم قدح تردّد المنشئ- إلى أنّ اعتقاد عدم ترتّب الأثر شرعا لا يقدح أيضا في الصحة إذا اجتمعت الشرائط العرفية المقوّمة للمعاملة، و كان عدم إمضاء الشارع لأجل فقد شرط تعبدي كبلوغ المتعاقدين، فلا مانع من تمشّي القصد إلى البيع إذا كان المشتري صبيّا مميّزا.

(4) يعني: الأثر الشرعي. و أمّا الأثر العرفي فيمتنع القصد إليه عند العلم بعدم ترتبه.

(5) من صحة الإنشاء غير المعلّق، و لكن اعتقد المنشئ بعدم إمضائه شرعا.

(6) و هو المحقق صاحب المقابس، في مسألة اشتراط البيع بالقصد، حيث قال:

«و لا يعتبر أيضا علمه بصحّة العقد، و لا يخلّ زعمه فساده ما لم يتسبّب لارتفاع قصده من الأصل، و إلحاقه باللعب و الهزل» «1».

و الظاهر أنّ مورد كلامه اعتقاد الفساد الناشئ من اختلال الشرائط الشرعية، فيقصد البيع العرفي، و لا ينقاد للأحكام التعبدية.

______________________________

(1): مقابس الأنوار، كتاب البيع، ص 12

ص: 567

نعم (1) ربما يشكل الأمر في فقد الشروط المقوّمة، كعدم الزوجية، أو الشّك فيها في إنشاء الطلاق، فإنّه لا يتحقق القصد إليه منجّزا من دون العلم بالزّوجية. و كذا الرّقية في العتق (2). و حينئذ (3) فإذا مسّت الحاجة إلى شي ء من

______________________________

(1) هذا استدراك على قوله: «و أما إذا أنشأ من غير تعليق صحّ العقد و إن كان المنشئ متردّدا».

و محصّله: أنّ ما ذكرناه- من صحة العقد المنجّز مع تردّد المنشئ، بل مع اعتقاده بالفساد شرعا- لا يمكن تسليم إطلاقه، سواء أ كان الشرط المشكوك تحقّقه مقوّما عرفيا للمعاملة أم شرعيّا، بل ينبغي التفصيل بينهما، و نقول ببطلان العقد في الشرط المقوّم عرفا، سواء أ كان مقطوع الانتفاء أم مشكوكا فيه، كما إذا طلّق امرأة يشكّ في زوجيّتها، فقال: «هي طالق».

و الوجه في البطلان عدم تمشّي القصد الجدّي إلى الطلاق- الذي هو فكّ علقة الزوجية- مع الشكّ في موضوعه، فيكون كإنشاء الهازل و العابث في عدم ترتب الأثر عليه.

و كذا الحال في إنشاء العتق مع الشك في كون المعتق مملوكه، أو مع العلم بعدم مملوكيته له.

(2) لتقوّم العتق بالرّقّية، كتقوّم الطلاق بالزوجية، و الزوجية بأجنبية المرأة، و هكذا.

ثم لا يخفى انّ مقصود المصنف قدّس سرّه من «عدم تحقق القصد إليه منجّزا» هو القصد الجدّي. فلا يمكن التسبّب بصيغتي الطلاق و العتق عند عدم إحراز الزّوجية و الرّقية. و أمّا إيجادهما رجاء فلا مانع منه، كما نبّه عليه بقوله: «فإذا مسّت الحاجة ..»

و سيأتي.

(3) يعني: و حين انتفاء القصد المنجّز- في فقد الشرط المقوّم- فإذا مسّت .. إلخ، و غرضه قدّس سرّه بيان طريق الاحتياط فيما لو شك في تحقق الشرط المقوّم، كما إذا شك في زوجيّة المرأة- إمّا للشك في محرميّتها بالرّضاع أو لفقد بعض ما يشكّ شرطيته في الصيغة أو لغير ذلك- جاز له التخلّص منها بأحد طريقين:

ص: 568

ذلك للاحتياط (1)- و قلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه (2)- فلا بدّ (3) من إبرازه بصورة التنجّز و إن كان في الواقع معلّقا (4)، أو يوكّل غيره الجاهل (5) بالحال بإيقاعه.

______________________________

الأوّل: أن ينشئ- بنفسه- صيغة الطلاق منجّزا، فيقول لها: «أنت طالق» و لا يعلّقه على قوله: «إن كنت زوجتي» فيصحّ الطّلاق، لكونه منجّزا صورة و إن كان برجاء تحققه.

الثاني: أن يوكّل من يكون جاهلا بالشبهة التي حصلت للزوج، فيطلّقها الوكيل منجّزا أيضا. و بكلا الطريقين يتحقق الاحتياط، و تبين المرأة منه.

فإن قلت: إن في كلا الوجهين جهة مشتركة مصحّحة للطلاق، و هي الإنشاء منجّزا، و ذلك لأنّ توكيله لغيره منجّز صورة و معلّق حقيقة، إذ لو لم تكن الزوجية متحققة واقعا كانت الوكالة صورية أيضا، فلا يبقى فرق بين طلاق الزوج و طلاق وكيله.

قلت: نعم و إن كان التوكيل في الطلاق معلّقا واقعا على تحقق الزوجية، فيبطل على تقدير انتفاء الزوجية، إلّا أنّ أصل الإذن في الطلاق باق بحاله، و يتمشّى من الوكيل القصد إلى الطلاق، فيقع صحيحا. هذا في تقوم الطلاق بالزوجية.

و كذا الحال في مثال العتق، كما إذا تردّد الوارث في أنّ مورّثه أعتق عبده أم لا، فيمكنه الاحتياط بإجراء الصيغة بنفسه، فيقول: «أنت حرّ» أو بتوكيل الغير الجاهل بشبهة موكّله.

(1) متعلق ب «الحاجة» يعني: احتاج الى الاحتياط لينجو من الشبهة.

(2) إذ لو قلنا بجواز تعليق الإنشاء على مصحّحه لم يكن وجه للتوكيل، بل يطلّقها معلّقا بقوله: «أنت طالق إن كنت زوجتي».

(3) جزاء قوله: «فإذا مسّت».

(4) هذا هو الطريق الأوّل، و قوله: «أو يوكّل» إشارة إلى الطريق الثاني.

(5) تقييد الغير بالجاهل لأجل أنه يتمشّى منه الجزم بالإنشاء، إذ لو كان عالما

ص: 569

و لا يقدح فيه (1) تعليق الوكالة واقعا على كون الموكّل مالكا للفعل (2)، لأنّ (3) فساد الوكالة بالتعليق لا يوجب ارتفاع الإذن.

إلّا (4) أنّ ظاهر الشهيد في القواعد الجزم بالبطلان فيما لو زوّج امرأة يشكّ في أنّها محرّمة عليه، فظهر حلّها. و علّل ذلك بعدم الجزم حال العقد، قال:

______________________________

بشبهة موكّله كان مثله في عدم القصد الجدّي.

(1) أي: و لا يقدح في التوكيل في الطلاق كونه معلّقا واقعا على موضوعه و هو الزوجية، و قد تقدم توضيحه بقولنا: «إن قلت ..».

(2) المراد بالفعل هنا هو الطلاق أي يكون أمره بيد الزّوج، و كذا أمر العتق بيد السّيّد.

(3) تعليل لقوله: «لا يقدح» و تقدم توضيحه بقولنا: «قلت ..».

(4) هذا استدراك على قوله: «فلا بدّ من إبرازه بصورة التنجّز» يعني: أنّ ما ذكرناه من صحة الإنشاء منجّزا- مع التردّد في الشرط المقوّم- يشكل بما أفاده الشهيد قدّس سرّه من الجزم بالبطلان في مسائل ثلاث:

الأولى: تزويج المرأة المشكوك كونها محرما حتى يبطل نكاحها، و أجنبية حتى يحلّ، مع أنّ إحراز أجنبية المرأة مقوّم لإنشاء النكاح، ثم تبيّن بعد العقد كونها ممّن يحلّ نكاحها.

الثانية: طلاق امرأة أو مخالعتها مع الشك في زوجيّتها، ثم تبيّن كونها زوجة، مع تقوّم القصد الجدّي إلى الطلاق بإحراز زوجيّتها.

الثالثة: تولية نائب الإمام عليه السّلام شخصا للقضاء بين الناس، مع شكّه في أهليّته، ثم تبيّن كونه أهلا، مع وضوح توقف إنشاء هذا المنصب الشامخ على إحراز أهليّة المنصوب.

و يظهر من تعليل البطلان في هذه الفروع الثلاثة «بانتفاء الجزم» مخالفة الشهيد لما أفاده المصنف من الصحة، و كفاية خلوّ الإنشاء عن أداة الشرط و إن كان

ص: 570

«و كذا الإيقاعات، كما لو خالع امرأة أو طلّقها و هو شاكّ في زوجيّتها، أو ولّى نائب الإمام عليه السّلام قاضيا لا يعلم أهليّته و إن ظهر أهلا» «1» (1).

ثم قال: «و يخرج من هذا (2) بيع مال مورّثه لظنّه حياته، فبان ميّتا، لأنّ الجزم هنا (3) حاصل،

______________________________

المنشئ متردّدا.

(1) العبارة منقولة بتصرّف يسير غير قادح في المعنى، فراجع القواعد.

(2) أي: و يخرج من الجزم بالبطلان بيع ..، و الأولى أن يقال: «و ليس من هذا القبيل بيع ..» لعدم مناسبة الخروج مع التعليل بعدم الجزم.

و كيف كان فاستثنى الشّهيد من عموم حكمه بالبطلان- لأجل تردّد المنشئ- مسألتين، و احتمل صحّتهما شرعا.

الأولى: أن يبيع شخص مال مورّثه ظنّا بحياته، فتبيّن بعد البيع انتقال المال إلى البائع بالإرث. و الوجه في الصحّة تحقّق الجزم بالبيع، غايته كونه فضوليّا. و تردّد المالك بين البائع و المورّث غير قادح في الجزم بنفس المعاملة.

و يحتمل البطلان أيضا كالفروع الثلاثة المتقدّمة، و ذلك لانتفاء القصد إلى الخصوصية و هي بيع المال بما أنّه ملكه، فإنّ الظن بحياة المالك يوجب تردّده في مالكية نفسه، فلو قصد البيع لنفسه كان غير جازم حال الإنشاء.

الثانية: أن يزوّج الولد مملوكة أبيه ظنّا بحياته حتى يكون العقد عليها تصرّفا في ملك الغير، فتبيّن بعده انتقالها إليه، و أنّه زوّج أمة نفسه. و وجه الصحة و البطلان كما تقدّم في المسألة الأولى، هذا.

(3) أي: في هذا المثال، لإمكان القصد إلى البيع و إن لم يكن مالكا، كما في بيع الفضولي، فالتمليك غير معلّق، و خصوصية المالك مشكوكة.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 2، ص 238، القاعدة: 238

ص: 571

لكنّ خصوصية البائع (1) غير معلومة. و إن قيل بالبطلان أمكن، لعدم القصد إلى نقل ملكه. و كذا لو زوّج أمة أبيه فظهر ميّتا» «1» انتهى.

و الظاهر (2) الفرق بين مثال الطلاق و طرفيه (3) بإمكان الجزم فيهما، دون مثال الطلاق، فافهم (4).

______________________________

(1) الأولى تبديله ب «المالك» لأنّ خصوصيّته مشكوكة، و إلّا فخصوصية البائع- و هو المنشئ للبيع- معلومة. إلّا أن يكون مراد الشهيد قدّس سرّه من البائع من يبيع بوصف كونه مالكا لا مجرّد المنشئ، و من المعلوم عدم العلم بخصوصية البائع بوصف مالكيته.

(2) مقصوده قدّس سرّه المناقشة في ما ادّعاه الشهيد قدّس سرّه من الجزم بالبطلان- في المسائل الثلاث المتقدمة أوّلا- بالفرق بين مسألة الطلاق و مسألتي التزويج و التولية، و الفارق إمكان الجزم فيهما، فيصحّان، دون الطلاق فيبطل. أمّا صحة التزويج مع المرأة المشكوك حلّها و حرمتها فلأنّ كون المرأة أجنبية غير مقوّم لمفهوم التزويج لا لغة و لا عرفا، و إنّما تكون معتبرة في صحته شرعا، فيتمشّى القصد الجدّي إلى التزويج.

و أمّا صحة التولية- مع الشك في عدالة المنصوب و أهليّته- فلأنّ العدالة شرط شرعي، و ليس مقوّما لعنوان «القاضي» عرفا.

و أمّا بطلان الطلاق فلأنّه مزيل لعلقة الزوجية، و اعتبر في تحقق مفهومه الزوجية، و لا يتحقق بدونها، و لذا لا يمكن الجزم فيه و لو تشريعا. و هذا بخلاف التزويج و التولية، فإنّه يمكن الجزم و لو بعنوان التشريع.

(3) و هما مسألتا التزويج و التولية.

(4) لعلّه إشارة إلى أنّ الإنشاء خفيف المئونة، فمجرّد إناطة التسبّب به شرعا إلى حصول الأمر الاعتباري كالزّوجيّة و الحرّية و الطلاق لا يمنع عن الإنشاء معلّقا على الأجنبية و الرّقية و الزوجية.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 367، رقم القاعدة: 143

ص: 572

و قال في موضع آخر: «و لو طلّق بحضور خنثيين فظهرا رجلين أمكن الصحة (1). و كذا بحضور من يظنّه فاسقا فظهر عدلا. و يشكلان في العالم بالحكم، لعدم قصده إلى طلاق صحيح (2)» «1» انتهى.

______________________________

(1) هذا أيضا من الفروع التي رتّبها الشهيد قدّس سرّه على زعم فقد شرط الصحة الشرعية، فتبيّن بعد الإنشاء تحقّقه حاله. و قد ذكر قدّس سرّه في القواعد فروعا عديدة، إلّا أنّ المنقول منها في المتن اثنان:

الأوّل: أن يطلّق الزوج أو وكيله بحضور شخصين ظنّ أنّهما خنثيان، فتبيّن كونهما رجلين.

الثاني: أن يطلّق بحضور رجلين يظنّ فسقهما، فظهرت عدالتهما. فحكم قدّس سرّه بصحة الطلاق- مع كون المطلق متردّدا حال الإنشاء- و ذلك لأنّ مفهوم الطلاق عرفا لا يتوقف على كون الشاهدين رجلين، فيمكن إنشاؤه و لو مع عدم حضورهما.

غاية الأمر أنّ ترتب الأثر شرعا منوط بحضور عدلين، فإن تحقّق ذلك لأثّر الطلاق، و إلّا فلا. و كذا الحال في الظن بفسقهما و ظهور عدالتهما.

(2) لا حاجة إلى قصد عنوان الصحيح بحيث يكون شرطا لصحة العقد، بل المدار على قصد المعاملة العرفية و لو مع العلم بانتفاء الأثر الشرعي، لانتفاء شرطه كما في بيع الغاصب [1].

______________________________

[1] تنقيح البحث في هذه المسألة منوط بالتعرض لجهات:

الأولى: في معنى التنجيز.

و الثانية: في نقل كلمات الأصحاب حتى يظهر أنّ اعتباره ثابت عندهم، و أنّ التنجيز شرط أو أنّ التعليق مانع.

و الثالثة: في مورد اعتباره.

و الرابعة: في دليل اعتبار هذا الشرط.

______________________________

(1): القواعد و الفوائد، ج 1، ص 367، رقم القاعدة: 143

ص: 573

______________________________

أمّا الجهة الأولى فملخّصها: أنّ التنجيز عبارة عن الإرسال، و عدم إناطة الإنشاء بشي ء، في مقابل التعليق الذي هو الإناطة بشي ء.

و أمّا الجهة الثانية: فتقف عليها بالمراجعة إلى ما حرّرناه في الحاشية التوضيحية.

و ظاهر عباراتهم كون التنجيز شرطا، حيث إنّهم جعلوا مبطليّة التعليق متفرعة على اعتبار التنجيز، فقالوا: «التنجيز شرط في صحة العقد، فلو علّقه على شرط أو صفة لم يصح» فلاحظ كلماتهم. و تظهر الثمرة في حال الشك، فعلى شرطية التنجيز لا أصل لإحرازه، بخلاف مانعية التعليق، فإنّه يجري فيه أصالة عدم تحققه.

و الحاصل: أنّ الشرط لا بدّ من إحرازه، لكونه وجوديّا، و لا يحرز بالأصل، لكونه مسبوقا بالعدم. بخلاف المانع، فإنّ عدمه المساوق لوجود الممنوع يحرز بالأصل، فلو اشتملت عبارة الإنشاء على شي ء يشكّ في كونه موجبا للتعليق أمكن نفي التعليق بالأصل، بأن يقال: إنّ الكلام قبل وجود ما يشكّ في إيجاد تعليق العقد لم يكن معلّقا قطعا، و بعد وجوده يستصحب عدم تعليقه.

و كيف كان فكلماتهم في المقام مضطربة جدّا، لظهور بعضها- كعبارة فخر الإسلام المتقدمة- في كون التعليق مبطلا للعقود و الإيقاعات مطلقا لازمة كانت أو جائزة. و ظهور إطلاق بعضها كعبارة المحقق و الشهيد الثانيين المتقدمة أيضا في التعميم للعقود اللازمة و الجائزة، مع التقييد بكون المعلّق عليه مجهول الحصول. و صراحة بعضها في إبطال التعليق مطلقا للعقود اللّازمة من الطرفين، كعبارة السرائر المتقدمة أيضا.

و بالجملة: فعباراتهم مضطربة بالنسبة إلى المعلّق عليه من حيث كونه معلوم الحصول و مجهول الحصول، و حاليّا و استقباليا، و ممّا يتوقف صحة العقد عليه شرعا كالقبض في الهبة و بيع الصرف و القدرة على التسليم، أو مما يتوقف عليه حقيقة المنشأ كالقبول في البيع و الزوجية في الطلاق. و كذا بالنسبة إلى المعلّق من حيث كونه عقدا مطلقا أو لازما من الطرفين.

ص: 574

______________________________

و لهذا الاضطراب أوضح المصنف قدّس سرّه هذه المسألة بتقسيم المعلّق عليه على أقسام ثمانية، بأنّ المعلّق عليه إمّا معلوم التحقق و إمّا محتملة، و على التقديرين إمّا يكون أمرا حاليّا أو استقباليا، و على التقادير الأربعة إمّا يتوقف عليه صحة العقد شرعا، و إمّا لا يكون كذلك، فالأقسام ثمانية.

و لكن في تقريرات بحث السيد المحقق الخويي قدّس سرّه: «الأولى جعل الأقسام اثني عشر، فإنّ المعلّق عليه على التقادير الأربعة إمّا يتوقف عليه حقيقة العقد و مفهومه كتوقف البيع على القبول أو الطلاق على الزوجية. و إمّا يتوقّف عليه صحته شرعا كالقبض في الهبة، و القدرة على التسليم في بيع السلم. و إمّا لا يكون شي ء من ذلك، فالأقسام اثني عشر» «1»، هذا.

و لكن الحق صحة تقسيم المصنف و عدم الحاجة إلى إدراج ما علّق عليه مفهوم العقد في التقسيم، لأنّ مورد البحث هو تعليق العقد، فتعليق مفهوم العقد خارج عن محل البحث، لأنّ التعليق يعرض العقد، فقبل تحققه لا عقد حتى يقال: إنّه منجّز أو معلّق.

إلّا أن يتسامح و يقال: إنّ المراد بالمعلّق أعم من العقد و جزئه حتى يشمل تعليق الإيجاب فقط، كقوله: «بعتك هذا المتاع بكذا إن قبلت» فإنّ القبول مقوّم للعقد، و لا يتحقق العقد إلّا به، و مع ذلك يصح تعليق العقد- أي الإيجاب- به.

أو يقال: إنّ مفهوم العقد ينشأ بالإيجاب فقط، و ليس القبول إلّا تنفيذا له، فيصح أن يعلّق العقد و هو الإيجاب على القبول، فتأمّل.

و بالجملة: فمع فرض تقوّم العقد بالقبول لا يعقل تعليق العقد به، لأنّه من التعليق على نفسه، فينحلّ قوله: «بعتك هذا المتاع بكذا بشرط أن تقبل» إلى: إنشاء البيع على تقدير تحققه. و المفروض أنّ العقد أسام للمسبّبات، و هي بسيطة لا تتحقق إلّا بعد حصول القبول. فمرجع هذا الشرط إلى: أنّ إنشاء البيع متوقف على وجوده، و ليس هذا

______________________________

(1): محاضرات في الفقه الجعفري، ج 2، ص 135

ص: 575

______________________________

إلّا توقف الشي ء على نفسه.

فلعلّ الأولى في التقسيم أن يلاحظ كلّ من الشرط و المشروط و المشروط به، بأن يقال: إنّ الشرط إمّا صريح و إمّا ضمني، و المشروط به إمّا ماضوي كمجي ء زيد في الأمس و إمّا حالي و إمّا استقبالي.

ثمّ إنّه على التقادير الستة إمّا معلوم العدم و إمّا معلوم الوجود و إمّا مشكوكه، فالأقسام ثمانية عشر، و من ضربها في كون المشروط به مقوّما لمفهوم العقد أو لصحته أو أجنبيّا عن المفهوم و الصحة معا تنتهي الصور إلى أربع و خمسين، ثم بضرب هذه الصور في كون التعليق في الإنشاء و المنشأ مادّة و هيئة تنتهي الصور إلى مائة و اثنتين و ستّين.

أمّا صور التعليق في الإنشاء بجملتها- من كون المعلّق عليه ماضويّا أو حاليّا أو استقباليا، و كونه معلوم الوجود أو العدم، أو مشكوك الوجود و العدم، و كونه مقوّما لمفهوم العقد أو لصحته أو أجنبيّا عنهما، و كون الشرط صريحا أو ضمنيا، و كون المعلّق عقدا بأنواعه أو إيقاعا فهي ساقطة عن التقسيم، لأنّ الإنشاء- سواء أ كان استعمال اللفظ في المعنى بقصد إيجاده، و حاصله إيجاد المعنى باللفظ، في قبال الإخبار الذي هو استعمال اللّفظ في معناه بقصد الحكاية عنه، أم كان إبرازا للاعتبار النفساني باللّفظ- لا يعقل تعليقه بشي ء، لأنّ الإنشاء نظير الإيجاد التكويني، فكما لا يعقل الإيجاد التكويني كالضرب معلّقا على شي ء، ضرورة أنّه يوجد في الخارج و إن علّقه على كون المضروب شخصا معيّنا، فإنّ الضرب يوجد و إن لم يكن المضروب ذلك الشخص بل غيره، فكذلك لا يعقل تعليق الإيجاد الإنشائي، فإنّ الإنشاء بعد كونه من شؤون استعمال اللّفظ في المعنى كالإخبار- و المفروض تحقّق الاستعمال- فلا محالة يوجد الإنشاء، لتقوّمه باستعمال اللفظ في المعنى، و هو معلوم الحصول. و سيأتي مزيد توضيح لذلك ان شاء اللّه تعالى.

ص: 576

______________________________

و أمّا الجهة الثالثة- و هي مورد اعتبار التنجيز- فيظهر من كلماتهم أنّ مورده كلّ إنشاء سواء أ كان عقدا أم إيقاعا، كما يظهر من بعض الوجوه التي أقاموها على اعتبار هذا الشرط، كمنافاة التعليق للإنشاء.

و أمّا الجهة الرابعة- و هي الدليل على اعتبار التنجيز المعبّر عنه أحيانا بالجزم- فنخبة الكلام فيها: أنّهم استدلّوا على اعتباره بوجوه:

الأوّل: دعوى الإجماع على ذلك، و لذا فرّعوا عليه مبطليّة التعليق، حيث إنّه رافع للشرط أعني به التنجيز، فبطلان العقد يستند إلى فقدان شرطه، لا إلى وجود المانع. و قد عرفت في الجهة الثانية دعوى جماعة الاتّفاق على ذلك.

لكن فيه: أنّ المحتمل قويّا كونه مدركيّا، و أنّ مستند المجمعين الوجوه الاعتبارية التي استند إليها الفقهاء، فلم يثبت كونه إجماعا تعبديّا كاشفا قطعيّا عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره عليه السّلام.

الثاني: ما عن جماعة من القدماء كالقاضي في جواهره، حيث إنّه استدلّ على المنع عن المضاربة بغير الدرهم و الدينار، فكان عدم الدليل عندهم دليلا على العدم.

و محصّل هذا الوجه هو: أنّ العقود و الأسباب الشرعية توقيفية لا بدّ فيها من الاقتصار على المتيقن، و هو العقد الخالي عن التعليق.

و فيه: أنّ الأخذ بالمتيقن إنّما يصح إذا لم يكن هناك إطلاق أو عموم يدلّ على مشروعية كل عقد عرفي، فإنّ مقتضى القاعدة حينئذ التمسّك بذلك، و الحكم بصحة كل ما يصدق عليه العقد. و المفروض وجود العمومات و الإطلاقات الدالة على صحة كلّ عقد، فلا مجال للأخذ بالمتيقن. نعم له مجال إن كان دليل صحة العقود لبيّا كالإجماع، لكنه ليس كذلك، هذا.

الثالث: ما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه من: انصراف أدلة صحة المعاملات عن العقود المعلّقة، لأنّها خلاف ما تعارف بينهم من تنجيز العقود و عدم

ص: 577

______________________________

تعليقها، فأدلّة الصحة منصرفة إلى العقود المتعارفة، و هي المنجّزة. و عليه فلا دليل حينئذ على صحة العقد المعلّق، و مقتضى أصالة الفساد بطلانه «1»، هذا.

و فيه: ما مرّ مرارا من عدم صلاحية التعارف للتقييد.

مضافا إلى وقوع التعليق كثيرا في العقود، فكون التعليق فيها غير متعارف ممنوع.

الرابع: ما أفاده صاحب الجواهر قدّس سرّه في عبارته المنقولة في التوضيح، و حاصله:

أنّ ظاهر أدلة الصحة هو ترتيب الآثار من حين العقد، و ذلك منوط بإطلاق العقد، فمع تعليقه لا تشمله الأدلة من حينه، و مع عدم شمولها له من زمان صدوره لا تشمله بعده أيضا، فالعقود المعلّقة غير مشمولة لأدلة الصحة لا حدوثا و لا بقاء أي بعد حصول المعلّق عليه. فمع عدم الدليل على الصحة يرجع إلى أصالة الفساد، هذا.

و فيه: أنّ العقد إن كان عبارة عن الإيجاب و القبول و ما يتعلّق بهما من الشرائط و القيود فوجوب الوفاء به بمعنى ترتيب آثار الصحة عليه منوط بتماميّته، كما هو شأن كل موضوع و حكم. و من المعلوم أنّ موضوع وجوب الوفاء لا يتمّ إلّا بحصول المعلّق عليه، و مقتضى جعل الحكم على نحو القضية الحقيقية هو توقف فعليّة الحكم على فعليّة موضوعه، فلا موضوع لوجوب الوفاء قبل حصول المعلّق عليه، حتى لا يشمله دليل وجوب الوفاء.

و إن كان عبارة عن ربط الالتزامين الواردين على مورد واحد فوجوب الوفاء به- بمعنى عدم نقضه و حلّه- لا يترتب أيضا إلّا على تمامية سببه، لأنّ العقد المسبّبي لا يحصل إلّا بتحقق جميع ما له دخل في سببه.

و الحاصل: أنّ وجوب الوفاء مترتب على موضوعه- سواء أ كان منجّزا أم معلّقا- فإمضاء الشارع للعقد تابع لجعل المتعاقدين، فإن كان العقد منجّزا أي مطلقا فأثره الشرعي الملكيّة المنجّزة غير المشروطة، و إلّا كان أثره الملكيّة المعلّقة، و لا يجب الوفاء

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 113

ص: 578

______________________________

إلّا بعد حصول المعلّق عليه كما هو الحال في النذر و العهد و نحوهما، و لا يتخلّف عنه، و إلّا يلزم الخلف و المناقضة كما حقق في محلّه. و لا يلزم التخلف المزبور في المقام أصلا، سواء أ كان العقد أمرا بسيطا دائرا بين الوجود و العدم أم مركّبا من الإيجاب و القبول، هذا.

و قد أجاب عنه المصنف قدّس سرّه بوجوه:

أحدها: أنّ دليل الصحة و اللزوم غير منحصر بأوفوا بالعقود، لأنّ دليل حلّية البيع، و تسلّط الناس على أموالهم كاف في إثبات ذلك، هذا.

و فيه أوّلا: أنّه أخص من المدّعي الذي هو أعم من البيع، لاختصاصه بالبيع، فيبقى غيره من العقود التعليقية خاليا عن دليل الإمضاء. و أمّا دليل السلطنة ففيه: أنّه ليس مشرّعا كما تقدم عن المصنف قدّس سرّه في مباحث المعاطاة. هذا ما أفيد.

و يمكن منعه بأن إشكال المصنف ناظر إلى ما ارتضاه صاحب الجواهر من مشرّعية قاعدة السلطنة للأسباب. و عليه يتجه الاستدلال بقاعدة السلطنة على صحة العقد المعلّق كالمنجّز.

و ثانيا: أنّ ما ادّعاه المستدلّ- من ظهور آية وجوب الوفاء بالعقد في ترتب الأثر من حين وقوع العقد- جار في آية حلّ البيع، و دليل السلطنة أيضا، فهما يدلّان على ترتب الملكية من حين تحقق البيع أو عقد آخر، و لا يدلّان على صحة العقود المعلّقة من البيع و غيره.

ثانيها: أنّه ينتقض بالعقود التي يتخلّف مقتضاها بالتأخر عن نفس تلك العقود كبيع الصرف و السلم و الوصية و المعاملات المعاطاتية بناء على إفادتها الإباحة مع قصد الملكية، فإنّ بيع الصّرف مثلا لا يترتب أثره إلّا بعد القبض في المجلس. بل و كذا البيع الخياري، إذ البيّعان بالخيار ما لم يفترقا، فالأثر اللزومي لا يترتب إلّا بعد الافتراق.

و فيه: أنّ القياس مع الفارق، لكون التعليق فيها ثابتا بالدليل الخاص، فلا وجه

ص: 579

______________________________

للنقض، هذا ما قيل.

لكن الصواب أن يقال: إنّه لا يلزم التخلّف المزبور أصلا، لما عرفت من أنّ وجوب الوفاء لا ينفك عن موضوعه، و من المعلوم أنّ الحكم لا يترتّب إلّا على موضوعه الّذي يتقوّم وجوده بما علّق عليه، فإذا كان بيع الصرف منوطا بالقبض فالقبض يكون جزء أو شرطا في البيع، فما لم يتحقق القبض لا يتم موضوع وجوب الوفاء، هذا.

ثالثها: أنّه أخص من المدّعي الذي هو مبطليّة التعليق مطلقا سواء أ كان المعلّق عليه خارجا عن حقيقة العقد كقدوم الحاج أم داخلا في حقيقته كتعليق البيع على القبول، كما إذا قال البائع: «بعتك هذا الكتاب بدينار إن قبلت» فإنّ مثل هذا التعليق داخل في محل النزاع، مع عدم لزوم تأخّر مقتضى العقد عن وجوده، فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على عدم صحة التعليق مطلقا و لو لم يلزم تأخّر الأثر زمانا عن العقد.

الخامس: ما عن العلّامة في التذكرة من: أنّ التعليق ينافي الجزم بالإنشاء، إذ الإنشائية كالإخبارية من وجوه استعمال اللّفظ، و لا يعقل تعليقهما على شي ء، بل هما إمّا توجدان و إمّا لا توجدان، فوجودهما معلّقا غير معقول. فالوجود الإنشائي كالتكويني- كالضرب على شخص- غير قابل للتعليق، بداهة وقوع الضرب عليه و إن لم يكن المضروب ذلك الشخص المقصود.

و هذا وجه عقلي لاستحالة التعليق في الإنشاء، لاستلزام التعليق للتناقض، كما عن المحقق النائيني قدّس سرّه «1»، حيث إنّ لازم التعليق عدم وجود المعلّق- و هو الإنشاء- قبل تحقق المعلّق عليه، فوجود الإنشاء قبله مناقض له، فيلزم أن يكون الإنشاء قبل حصول المعلّق عليه موجودا و معدوما، و هذا محال. فلا بدّ أن يكون تعليق الإنشاء خارجا عن مورد البحث، فمورد اعتبار التعليق هو المنشأ، لا الإنشاء، هذا.

و فيه: ما في المتن من أنّ مورد التعليق ليس هو الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 112

ص: 580

______________________________

باللفظ، لأنّ ذلك حاصل بمجرّد إلقاء اللّفظ، فلا يقبل الفرض و التعليق كالإيجاد التكويني، فيمتنع تقييده و تعليقه، و بنفس امتناع التقييد يمتنع الإطلاق أيضا، لما قرر في محله من كون التقابل بينهما تقابل العدم و الملكة.

و الإخبار كالإنشاء في امتناع تعليقه، فإنّه يحصل بمجرّد إلقاء اللفظ بقصد الحكاية و إن كان المخبر به معلّقا، كالإخبار بفساد العالم إذا تعدّدت الآلهة، فإن الأخبار فعليّ، و المخبر به تعليقي.

بل محلّ الكلام هو المنشأ كالمبادلة أو التمليك في البيع، كأن يقول: «بعتك إن جاء زيد» و كقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» فإنّ المجي ء قيد للمنشإ و هو الوجوب المستفاد من الهيئة، فنفس البيع معلّق على المجي ء، كتعليق الوجوب الذي هو المنشأ على المجي ء، فتعليق المنشأ- كالبيع- نظير الوجوب المشروط، فمصبّ النزاع في اعتبار التنجيز هو المنشأ، و من المعلوم قابليّته للتعليق كالوصية التمليكية، فإنّ الملكية معلّقة على الموت، هذا.

و فيه أوّلا: أنّ الإنشاء ليس مجرّد إلقاء اللفظ لإخطار المعنى حتى يمتنع تعليقه و يكون كالإيجاد التكويني غير القابل للتعليق، بل هو نفس الإيجاد التكويني، لأنّ اللفظ الموجود بالتلفظ موجود تكويني لا إنشائي اعتباري. بل الإنشاء نحو خاصّ من استعمال اللفظ و إلقاء المعنى به، فالإنشاء متقوم بتلك الخصوصية بحيث لا يوجد في الوعاء المناسب له إلّا بوجود تلك الخصوصية. ففرق واضح بين الإيجاد الإنشائي و التكويني، فإنّ الثاني لا يقبل التعليق و الإناطة، بخلاف الأوّل، لأنّ إنشاء الأمور الاعتبارية غير إنشاء الأمور التكوينية، إذ الأوّل متقوم بقصد حصول المنشأ، بخلاف الثاني، إذ الإيجاد و الوجود متّحدان ذاتا مختلفان اعتبارا، و الوجود عين التحقق، و هو ينافي الفرض و التعليق، فالإنشاء إيجاد اعتباري قابل للتعليق، و الإيجاد الحقيقي غير قابل له.

و ثانيا: أنّ الإنشاء لو كان مجرّد إلقاء مدلول الكلام لزم صدقه على الكلام الصادر من النائم و الساهي، و من المعلوم عدمه، لأنّ الإنشائية خصوصية قصديّة من خصوصيات الاستعمال متقوّمة بالقصد، و الإنشائية و الإخبارية خارجتان عن حريم

ص: 581

______________________________

مدلول اللفظ.

فالإنشاء في الأمور الاعتبارية قابل للتعليق، لأنّه عبارة عن إلقاء المعنى باللّفظ بكيفية خاصّة، بحيث يتقوّم الإنشاء بها، فإنشاء الملكية مثلا تارة لا يعلّق على شي ء، كأن يقول: «بعتك هذا المتاع بكذا» و أخرى يعلّق على شي ء، كأن يقول: «بعتك إذا قدم الحاج» فإنّ إنشاء الملكية حينئذ معلّق على قدوم الحاج، بحيث لا تتحقق الملكية إلّا إذا قدم الحاج.

و المراد بتعليق الإنشاء هو هذا المعنى، و هذا التعليق هو الذي أنكره في الأصول على ما حكي عنه، حيث أنكر رجوع القيود إلى الهيئة، و أرجعها إلى المادة كالفصول، فالتزم بالواجب المعلّق دون المشروط لأحد وجوه:

من خصوص المعنى الحرفي غير القابل للتقييد.

و من كونه إيجاديّا غير قابل للحاظ و التعليق، لكون الإيجاد كالوجود يمتنع تعليقه.

و من كون المعنى الحرفي- الذي يكون معنى الهيئات منه- آليّا غير قابل للحاظ الاستقلالي، لتضادّ الآلية و الاستقلالية، فيمتنع لحاظهما في شي ء واحد.

و لكن قد ثبت في الأصول بطلان هذه الوجوه، و بنينا على إمكان تقييد الهيئة و صيرورة الوجوب مشروطا. فلو قال: «إذا دخل الوقت فصلّ» أو: «بعتك هذا إذا جاء زيد» كان الشرط قيدا للوجوب و إنشاء البيع، بحيث لا يكون إنشاء للوجوب و النقل إلّا في ظرف تحقق الشرط، فبدونه لا وجوب و لا نقل. فالوصية التمليكية من قبيل الواجب المشروط، و الإجارة بالنسبة إلى منفعة السنة الآتية تكون من قبيل الواجب المعلّق، لكون الملكية حاصلة بالفعل، و المنفعة المملوكة متأخرة زمانا.

و بالجملة: إذا قال: «بعتك هذا المتاع بدينار إذا قدم الحاج» فهنا أمور:

أحدها: الألفاظ المذكورة.

ثانيها: معانيها الإفرادية.

ص: 582

______________________________

ثالثها: معانيها التركيبية.

رابعها: الأثر الشرعي أو العرفي المترتب على هذه الألفاظ.

أمّا الأوّل فهو أجنبي عن الإنشاء، لأنّ وجود الألفاظ تكويني، لا اعتباري.

و أمّا الثاني فوجودها حين استعمال الألفاظ- كوجودها قبله- ذهني، و يعرضها الوجود اللفظي عناية، و إلّا فالوجود اللفظي حقيقة لنفس الألفاظ.

و أمّا الثالث فهو كالثاني في إحضار المعاني التركيبية في الذّهن، فوجود اللفظ تكويني و المعنى ذهني، فالموجود الاعتباري الإنشائي لا بدّ أن يترتّب على قصد خصوصية، و هي قصد تحقق المعنى في وعاء الاعتبار، فما لم يقصد ذلك لا يتصف الكلام بالإنشاء، فمجرّد التلفظ بلفظ و استعماله في معناه لا يكون إنشاء.

و قصد إيجاد المعنى في صقع الاعتبار تارة يكون مطلقا، كقوله: «بعتك هذا بكذا» فإنّ القائل يوجد البيع- الذي هو المبادلة مثلا- في عالم الاعتبار بلا شرط، فالإنشاء مطلق لا معلّق. و أخرى يكون معلّقا كالمثال المزبور، فإنّ البائع ينشئ البيع في عالم الاعتبار معلّقا على قدوم الحاج، بحيث لا يوجد البيع الاعتباري إلّا حين قدوم الحاج، فقبله لا إنشاء و لا منشأ، و حينه يوجد الإنشاء و المنشأ، فالايجاد و الوجود غير منفكّين، نظير «إن بنيت مسجدا فصلّ فيه» فإنشاء الوجوب يكون بعد بناء المسجد، و قبله لا وجوب و لا إنشاء، فالتعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عند الشارع و العرف.

فدعوى «امتناع التعليق في الإنشاء، و إرجاعه إلى المنشأ» في غاية الغرابة. و لعلّ المدّعي خلط بين اللفظ الذي هو موجود تكويني يمتنع تعليقه كغيره من الموجودات التكوينية، و بين الإنشاء الذي هو أمر اعتباري كالإيجاب، فزعم أنّ الإنشاء هو اللفظ الذي يمتنع تعليقه.

فتلخص مما ذكرنا: أنّ التعليق في الإنشاء من الأمور المتداولة عرفا و شرعا، و لا يعقل التفكيك بين الإنشاء و المنشأ في التعليق، و لا معنى لتعليق الإنشاء و تنجيز المنشأ، فإنّهما كالإيجاب و الوجوب و الإيجاد و الوجود من الاتّحاد الذاتي

ص: 583

______________________________

و الاختلاف الاعتباري. ففي المثال يكون إيجاب الصلاة و وجوبها بعد بناء المسجد، فلا إيجاب و لا وجوب قبله.

نعم آلة الإنشاء- و هي اللفظ الخاص مثل «بعت»- توجد فعلا وجودا تكوينيّا، و هذا الوجود أجنبي عن الإيجاد الاعتباري الذي هو مفاد الإنشاء.

و قد ظهر مما ذكرنا- من كون الإنشاء إيجادا اعتباريّا تابعا لاعتبار المعتبر من الإطلاق و التقييد و التنجيز و التعليق- فساد قياس الإيجاد الإنشائي بالإيجاد التكويني، كإيجاد الأكل و الشّرب و اللّبس و الضرب و غيرها من الأفعال الخارجية، فإنّ إيجادها لا يقبل التعليق، فإنّ الأكل يتحقق و لو لم يكن المأكول ما قصده الآكل، كما إذا أكل شيئا معلّقا على كونه حنطة ثم تبيّن أنّه شعير، فإنّ الأكل تحقق. فالوجود التكويني غير قابل للتعليق، بخلاف الوجود الاعتباري، فإنّه قابل لذلك في إنشاء الأمور الاعتبارية كالملكية و الزوجية.

و الحاصل: أنّ حقيقة الإنشاء إيجاد المعنى في وعاء الاعتبار، لا إيجاد المعنى باللفظ الذي هو مقوّم الاستعمال. و من المعلوم أنّ الإيجاد الاعتباري تابع لكيفية اعتبار معتبرة، فإن علّقه على شي ء توقّف وجوده في وعاء الاعتبار على وجود ذلك الشي ء، فلا وجه لاستحالة تعليق الإنشاء، كما عن المحقق النائيني قدّس سرّه، و لا منافاته للجزم حال الإنشاء كما عن العلّامة في التذكرة، لعدم اعتبار الجزم في الإنشاء. بل هو أمر ممكن و واقع في العرفيات و الشرعيات كالوصية و التدبير و النذر، فإنشاء العقود معلّقا مما لا مانع عنه، لصدق العقد عرفا مع التعليق و بدونه على نسق واحد، فاعتبار التنجيز محتاج إلى الدليل.

بل يمكن أن يقال: إنّ الجزم في الإنشاء المعلّق كالإخبار المعلّق موجود، فإنّ الأخبار بفساد العالم على فرض تعدّد الآلهة جزمي لا ترديد فيه. و كذا الإنشاء، فإنّ الإنشاء في قوله: «بعتك إن جاء زيد» جزمي، إذ لا ترديد له في البيع على تقدير مجي ء زيد.

ص: 584

______________________________

و على فرض كون مثل هذا الإنشاء خاليا عن الجزم نمنع الكبرى و هو اعتبار الجزم في الإنشاء، لصدق العقد و الإيقاع عرفا مع الجزم، فلو قال شاكّا في كون شخص عبده أو امرأة فلانية زوجته: «أنت حرّ لوجه اللّه» و «أنت طالق» فأصاب، صدق في العرف عتق عبده و طلاق زوجته.

و كذا الحال إذا قال: «بعتك هذا المال» برجاء كونه ماله- و كان في الواقع ماله- صدق عرفا أنّه باع ماله، فلا يعتبر الجزم في الصدق العرفي، فاعتبار الجزم مع هذا الصدق لا بدّ أن يكون تعبّدا محضا.

و بالجملة: فالتعليق في الإنشاء خال عن المحذور.

بل لا وجه لرجوع القيد إلى المنشأ في بعض الموارد، كما إذا أنشأ بالفعل الملك يوم الجمعة، فإنّ لازمه جواز إنشاء الملك لشخص آخر يوم السبت، و لثالث يوم الأحد، نظير باب الإجارة، فيكون الجميع مالكا بالفعل كلّ ملكية قطعة من الزمان، مع أنّ الملك ليس متكثّرا بتكثّر الزمان، و ليس المملوك متعددا في المملوكية كالمنافع في كل يوم.

فالصواب رجوع القيد إلى الإنشاء، و بطلان رجوعه إلى المنشإ، لعدم تعدّد المملوك حتى ينتقل في زمان إلى شخص، و في غيره إلى شخص آخر. بل المملوك نفس الشي ء، و الزمان ظرف له.

و أمّا إذا رجع إلى الهيئة فالتمليك لنفس الطبيعة لا مقيّدة بيوم الجمعة، إذ المقيّد حينئذ هو نفس التمليك، فكأنّه قال: «أوجدت يوم الجمعة ملكية المتاع الفلاني لك» فإنشاء التمليك معلّق على يوم الجمعة، فقبله لا عقد و لا إنشاء.

و السّر في ذلك: أنّ القيد إن رجع إلى الهيئة كانت الطبيعة مطلقة. ففي المثال تكون الملكيّة مطلقة، و التمليك مقيّدا بيوم الجمعة. فالنتيجة: أنّ في يوم الجمعة صار المتاع ملكا للمشتري، فطبيعة المتاع صارت مملوكة له في يوم الجمعة، فالتمليك و الإنشاء معلّق على يوم الجمعة، فقبله لا تمليك و لا عقد.

ص: 585

______________________________

و إن رجع إلى المادّة و المنشأ كان التمليك، بلا قيد و الإنشاء بلا تعليق، فلا بدّ من تحققه و من وجود الملكية فعلا، لامتناع انفكاك المنشأ عن الإنشاء. لكن الملكيّة مقيّدة بيوم الجمعة، لا مطلقة، لأنّ مقتضى هذا العقد هو وجود الملكيّة المقيّدة بيوم الجمعة لا الطبيعة المطلقة، فللمتاع المزبور ملّاك متعددة حسب اقتضاء القيود الراجعة إلى المادة.

و هذا كما ترى.

و لازم رجوع القيد إلى المادّة أيضا تمامية العقد فعلا، و عدم جواز الرجوع من المتعاقدين قبل حصول القيد و المعلّق عليه. بخلاف ما إذا رجع إلى الهيئة، إذ العقد إنّما يكون على تقدير حصول القيد، فبدونه لا عقد، بل إنشاء معلّق، و لا يصير عقدا إلّا بعد حصول المعلّق عليه.

فالمتحصل: أنّه لا وجه لاعتبار الجزم في الإنشاء لا عقلا و لا عرفا من باب تقوّم عنوان العقد أو الإيقاع عرفا بالإنشاء المنجّز، حتى يقال: إنّ التنجيز مقوّم لمفهوم العقد العرفي أو الإيقاع كذلك. فلا بدّ أن يكون اعتباره بدليل نقلي، و هو مفقود أيضا، لأنّ الإجماع غير ثابت أوّلا، لما عرفت من تصريح المحقق القمي قدّس سرّه بصحة الوكالة مع التعليق.

مضافا إلى: أنّ المسألة لم تكن معنونة، و إنّما استندوا فيها إلى باب الوكالة و الوقف و نحوهما.

و ثانيا: بعد تسليمه- لا يكون إجماعا تعبديّا، لاستناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة، فيكون مدركيا. و لا أقلّ من صيرورته محتمل المدركية، فيسقط عن الاعتبار.

و كذا الحال في سائر أدلتهم التي عرفت ضعفها، فلا دليل على مبطلية التعليق ليخصّص به عموم أدلة صحة العقود، فالمرجع هو العمومات و الإطلاقات، و بها يدفع احتمال مانعية التعليق أو شرطية التنجيز.

فتلخص: من جميع ما ذكرناه أمور:

الأوّل: أنّ التعليق لا ينافي الإنشاء أصلا، سواء أ كان عقدا أم إيقاعا.

ص: 586

______________________________

الثاني: أنّه لا فرق في القيود بين دخلها في قوام العقد أو الإيقاع كتزويج من يشكّ في أنوثيّته، و طلاق من يشكّ في زوجيّتها، و بين دخلها في الصحة كالطلاق بحضور رجلين يشكّ في عدالتهما، و بيع ما يشكّ في كونه ممّا يتموّل، لما عرفت من عدم منافاة التعليق للإنشاء. و بين ما لا يكون دخيلا في شي ء منهما.

الثالث: أنّه لا فرق في القيود بين الحاليّة و الاستقباليّة، و بين معلوم الحصول و مشكوكه، و بين كونها صريحة و ضمنية، و بين كون صيغة العقد جملة اسمية و بين كونها جملة فعلية- كما في حاشية الفاضل الشهيدي قدّس سرّه- بزعم «صحة التعليق في الاولى، و بطلانه في الثانية، استنادا إلى عدم المانع عن الصحة في الأولى، لعدم دلالتها على الزمان، لأنّها تدلّ على مجرّد ثبوت المحمول للموضوع، فهي تقبل التقييد بالزمان المستقبل و بمقابليه. بخلاف التعليق في الثانية أي الجملة الفعلية، حيث إنّ التعليق فيه ينافي مدلول الفعل ماضيا كان أو مضارعا، أمّا في الماضي فلأنّ مدلوله صدور الفعل قبل حصول القيد، و قضية التعليق صدوره بعده. و كذا الكلام في المضارع فيما إذا قصد به الإنشاء.

و لا مجال للتصرف في أحد الطرفين بقرينة الآخر، للزوم محذور فوات الإنشاء على تقدير محذور فوات التعليق على آخر. نعم يصح فيه إذا كان المعلّق عليه أمرا حاليا معلوم الحصول» «1».

و ذلك لأنّ الجملة الفعلية الدالة على الزمان- على ما عن النحاة- لا بدّ أن تنسلخ عن الزمان إذا استعملت في مقام الإنشاء، فحينئذ تكون كالجملة الاسمية في انسلاخها عن الزمان، فتصلح للتقييد بالقيود. و عليه فلا فرق بين الجملة الفعلية و الاسمية في جواز تعليق الإنشاء بها و عدمه.

الرابع: أنّه لا فرق في جواز التعليق بين كون المعنى الذي يراد إنشاؤه في حدّ

______________________________

(1): هداية الطالب إلى أسرار المكاسب، ص 198

ص: 587

______________________________

ذاته متقوّما بمعنى آخر بحيث يمتنع إنشاؤه بدون ذلك الشي ء كالرّهن، فإنّه متقوم بالدّين، و بدونه لا يعقل إنشاء الرهن، لأنّه وثيقة للدّين. و كالطلاق و العتق، فإنّهما متوقفان حقيقة على الزوجية و الرّقية، لأنّ الأوّل إزالة علقة الزوجية، و من المعلوم توقف ذلك على الزوجية، و الثاني فكّ الرقية، فبدونها لا معنى للعتق. و بين عدم كونه متقوّما بغيره و إن توقّف تأثيره عرفا أو شرعا على شي ء كإناطة زوجية المرأة بأجنبيّتها و كقضاوة من لا أهلية له، إذ مفهوم الزوجيّة غير متقوّم بالأجنبيّة، و كذا مفهوم القضاوة بالأهليّة، بل الأجنبيّة و الأهلية شرطان شرعا لهما.

فالتفكيك بين القسمين بدعوى: «عدم تحقق الجزم بالإنشاء في الأوّل دون الثاني، إذ مع عدم العلم بالزوجية و الرّقية لا يعقل حصول الجزم بالإنشاء. بخلاف الثاني، لحصول الجزم بالإنشاء فيه و لو مع عدم القطع بالأجنبيّة و عدم الأهلية، بل و مع العلم بالعدم، إذ المفروض عدم تقوم مفهومهما بذلك» ممّا لا وجه له، لما عرفت من عدم مانع عن الإنشاء معلّقا، لصدق الطلاق على قول من قال لامرأته: «أنت طالق إن كنت زوجتي». و صدق العتاق على قول من قال: «أنت حرّ إن كنت عبدي» فتبيّن كون المرأة زوجته، و الرجل عبده كما لا يخفى.

الخامس: أنّه قد ظهر مما ذكرنا: أنّ التنجيز- على تقدير اعتباره- يكون من شرائط المعنى المنشأ، لا من شرائط الصيغة كالعربية و الماضوية كما هو ظاهر المحقق النائيني قدّس سرّه، حيث قال: «لا ينحصر التعليق في أداة الشرط، بل كل ما كان في معنى التعليق و لو بغير الأداة» «1». خلافا للمصنف قدّس سرّه، حيث يظهر منه كونه شرطا للصيغة، لأنّه قال: «فإذا مسّت الحاجة إلى شي ء من ذلك للاحتياط، و قلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرط فيه فلا بدّ من إبرازه بصورة التنجيز».

و إن أمكن أن يقال بعدم ظهور عبارته في كون التنجيز من شرائط الصيغة، و أنّ إبرازه بصورة التنجيز لأجل كون الصيغة حاكية عن المعنى المنشأ.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 113

ص: 588

______________________________

و كيف كان فالأقوى ما ذكرناه من كون التنجيز بعد تسليم اعتباره شرطا للمعنى المنشأ، هذا.

و قد ظهر من هذا البيان جريان بحث اعتبار التنجيز و عدمه في المعاطاة أيضا، لأنّ مقتضى عدم كونه من شرائط الصيغة- بل من شرائط المعنى الإنشائي- تطرّقه في المعاطاة أيضا، فيقال: إنّه يعتبر في الإنشاء سواء أ كان باللفظ أم بالفعل أن يكون منجّزا.

لكن الأصحّ على ما تقدم عدم اعتبار التنجيز في الإنشاء، فيصح بداعي احتمال حصول المسبّب به، فله إنشاء مفهوم الطلاق بهذا الوجه، فيقع طلاقا حقيقيّا إذا كانت المرأة زوجته واقعا، و إلّا يقع لغوا.

و الحاصل: أنّ الجزم في المعاملات كالجزم في العبادات، فكما لا يعتبر ذلك في العبادات على الصحيح، فكذلك في المعاملات، و اللّه تعالى هو العالم بالأحكام.

تكملة: الظاهر أنّ توقيت البيع بمنزلة التعليق، إذ لا فرق- على ما تقدم- بين كون المعلّق عليه زمانا و زمانيا. فعلى القول باعتبار التنجيز في البيع كان التوقيت مبطلا، و إلّا فلا، فإذا قال: «بعتك هذا بعد شهر مثلا» صحّ، بناء على عدم اعتبار التنجيز، و بطل بناء على اعتباره.

لكن حكي الإجماع على بطلانه، فإن ثبت ذلك فلا كلام، و إلّا فمقتضى عدم اعتبار التنجيز في العقود هو الصحة، كما قيل بصحة الإجارة مع التوقيت، كما إذا قال:

«آجرتك هذه الدار بكذا بعد شهر».

قال في مفتاح الكرامة: «و يشترط في البيع أن لا يكون موقّتا، لأنّه لا يقبل التوقيت كما تقبله الإجارة، فإنّه يصح أن يؤجرهم بعد سنة، و لا يصح أن يبيعه كذلك» «1».

هذا بعض الكلام فيما يتعلق بالتنجيز في الإنشاءات العقدية و الإيقاعية.

______________________________

(1): مفتاح الكرامة، ج 4، ص 166

ص: 589

[المبحث الرابع: التطابق بين الإيجاب و القبول]

و من جملة شروط العقد: التطابق بين الإيجاب و القبول (1).

______________________________

المبحث الرابع: التطابق بين الإيجاب و القبول

(1) هذا هو المبحث الرابع من مباحث الهيئة التركيبية في صيغة البيع، و قد اشترطوا مطابقة القبول للإيجاب، ففي التذكرة: «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» «1».

و في القواعد: «و لا بدّ من التطابق بين الإيجاب و القبول. فلو قال: بعتك هذين بألف، فقال: قبلت أحدهما بخمسمائة، أو: قبلت نصفها بنصف الثمن، أو قال: بعتكما هذا بألف، فقال أحدهما: قبلت نصفه بنصف الثمن لم يقع» «2».

و قال في الجواهر- بعد نقل تصريح غير واحد من الأصحاب باعتبار هذا الشرط- ما لفظه: «لكن على معنى المطابقة بينهما بالنسبة إلى المبيع و الثمن، لا مطلق التطابق، لاتّفاق على صحة الإيجاب ببعت و القبول باشتريت. بل الظاهر صحة قبلت النكاح مثلا لإيجاب زوّجتك، كما عن جماعة التصريح به. بل المراد المطابقة التي مع انتفائها ينتفي صدق القبول لذلك الإيجاب و بالعكس .. إلخ» «3».

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 462

(2) قواعد الأحكام، ص 47 (الطبعة الحجرية).

(3) جواهر الكلام، ج 22، ص 255

ص: 590

فلو (1) اختلفا في المضمون بأن أوجب البائع البيع على وجه خاصّ من حيث خصوص المشتري أو المثمن أو الثمن، أو توابع العقد من الشروط، فقبل المشتري على وجه آخر لم ينعقد.

و وجه هذا الاشتراط واضح، و هو (2) مأخوذ من اعتبار القبول، و هو الرّضا بالإيجاب، فحينئذ لو قال: «بعته من موكّلك بكذا» فقال: «اشتريته لنفسي» لم ينعقد. و لو قال: «بعت هذا من موكّلك» فقال الموكّل غير المخاطب:

«قبلت» صحّ (3).

______________________________

(1) هذا متفرّع على اعتبار التطابق، و يستفاد منه أنّ المراد بالمطابقة هو المطابقة في المضمون و المعنى دون اللّفظ، فلا يلزم أن يكون قبول البيع- الذي أنشئ إيجابه بلفظ «بعت» أو إيجاب النكاح بلفظ «أنكحت»- ابتعت، أو: قبلت النكاح. بل لو قال «اشتريت» و في الثاني «قبلت التزويج» صحّ، لتطابق الإيجاب و القبول في المعنى.

(2) أي: اشتراط التطابق مأخوذ .. إلخ. توضيحه: أنّ منشأ اعتبار التطابق هو اعتبار القبول في العقد، حيث إنّ القبول عبارة عن الرّضا بالإيجاب كما تقدّم سابقا، فلا بدّ في تحقق القبول من كونه رضا بالإيجاب، و لا يحصل ذلك إلّا بتطابق القبول و الإيجاب في المعنى الإنشائي، بأن يتحقق الرّضا بالإيجاب على النحو الذي حصل، إذ بدون التطابق لا يكون القبول رضا بالإيجاب، و لا يرتبط به، و لا يعدّ قبولا- أي رضا بالإيجاب- بل يكون شيئا آخر، فلا يتحقق الرّبط بين الالتزامين.

و إن شئت فقل: إنّ نفس المعاهدة و المعاقدة تتقوّم بالتطابق بين الإيجاب و القبول، إذ مع التخالف لا تصدق المعاقدة على شي ء واحد، فإنّ المعاهدة على أمر لا تتحقق إلّا بوحدة المورد الذي تعاقدا عليه.

(3) لوجود التطابق، فإنّ قول الموكّل: «قبلت» يكون رضا بالإيجاب.

ص: 591

و كذا (1) لو قال: «بعتك» فأمر المخاطب وكيله بالقبول، فقبل.

و لو قال: «بعتك العبد بكذا» فقال: «اشتريت نصفه بتمام الثمن» أو نصفه (2) لم ينعقد (3).

و كذا (4) لو قال: «بعتك العبد بمائة درهم» فقال: «اشتريته بعشرة دنانير».

و لو قال للاثنين: «بعتكما العبد بألف» فقال أحدهما: «اشتريت نصفه بنصف الثمن» لم يقع (5). و لو قال كلّ منهما ذلك لا يبعد الجواز (6).

و نحوه لو قال البائع: «بعتك العبد بمائة» فقال المشتري: «اشتريت كلّ نصف منه بخمسين» و فيه إشكال (7).

______________________________

(1) لصدق تطابق الإيجاب و القبول حينئذ.

(2) بالجرّ معطوف على «تمام الثمن» أي: يقول المشتري: «اشتريت نصفه بنصف الثمن».

(3) لعدم المعاقدة على ذلك، فإنّ مضمون الإيجاب شي ء غير مضمون القبول، فلا تتحقق المعاقدة المتقوّمة بربط الالتزامين، المنوط بوحدة الملتزم به.

(4) لعدم صدق المعاقدة أيضا على ذلك، فإنّ القبول ليس مرتبطا بالإيجاب، لاختلافهما في الثمن، فلا تتحقق المعاهدة على مبادلة العبد بمائة.

(5) لاختلاف الإيجاب و القبول في الثمن و المثمن، إذ المبيع تمام العبد بألف، لا نصفه بخمسمائة.

(6) إذ لا اختلاف بينهما إلّا في العبارة، فإنّ البيع ينحلّ حقيقة إلى بيعين، أحدهما: بيع نصفه من أحدهما بخمسمائة، و الآخر: كذلك أيضا.

(7) و هو: أنّ الإيجاب إنّما وقع على بيع المجموع، بحيث يكون انتقال كلّ نصف من العبد إلى المشتري ضمنيّا، و القبول إنّما وقع على الرّضا بانتقال كل نصف بالاستقلال، فلا يتحقق التطابق بين الإيجاب و القبول، هذا.

ص: 592

..........

______________________________

لكن فيه تأمّل، لأنّ مقتضى الإيجاب انحلاله إلى إيجابين بالنسبة إلى بيع النصفين، فقبول أحدهما قبول لأحد الإيجابين، فالتطابق بين أحد الإيجابين مع قبوله موجود، فلا بأس بالصحة بالنسبة إليه، و إن كان الخيار ثابتا، لتخلّف الإيجاب الآخر عن قبوله، فليتأمّل [1].

______________________________

[1] قد عرفت أنّهم عدّوا من شرائط العقد التطابق بين الإيجاب و القبول، و المراد به هو التطابق على إنشاء المعنى المقصود لهما، لا التطابق في جميع الجهات حتّى اللفظ كي لا يصحّ القبول مثلا بلفظ «قبلت» فيما إذا كان إيجاب البيع بلفظ «بعتك» و إيجاب النكاح بلفظ «أنكحت».

قال في نكاح التذكرة: «لا يشترط اتفاق اللفظ من الموجب و القابل، فلو قال الموجب: زوّجتك، فقال الزوج: أنكحت، أو قال الموجب: أنكحتك، و قال الزوج:

تزوّجت، صحّ العقد إجماعا» «1».

و في نكاح القواعد- بعد اشتراط اتّحاد المجلس-: «فلو قالت زوّجت نفسي من فلان، و هو غائب، فبلغه فقبل، لم ينعقد. و كذا لو أخّر القبول مع الحضور بحيث لا يعدّ مطابقا للإيجاب» «2».

لكن ذلك معنى آخر ينطبق على اعتبار الموالاة بين الإيجاب و القبول. و قد عرفت في التوضيح عبارة الجواهر الدالة على اعتبار المطابقة بين الإيجاب و القبول في المبيع و الثمن، لا مطلق المطابقة.

و كيف كان يكون تعبير المصنف أولى، لكونه أجمع من تعبير الجواهر.

______________________________

(1): تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 582

(2) قواعد الأحكام، ص 147 (الطبعة الحجرية)

ص: 593

______________________________

و تنقيح المقام يتوقف على البحث عن جهات:

الاولى: في كون التطابق من شروط الصيغة أم من شروط مضمونها أعني به العقد الذي هو الالتزامان المرتبطان.

الثانية: في أنّ موردها جميع الخصوصيات المذكورة في الإيجاب، أو خصوص ما يتحقّق به عنوان العقد، و هو المطابقة لما يتقوّم به الإيجاب.

الثالثة: في الدليل على اعتباره.

أمّا الجهة الأولى فملخّصها: أنّ الإيجاب و القبول لا يراد بهما إلّا مضمونهما، فإنّ إيجاب البيع ليس إلّا تبديل مال بمال مثلا، و ليس للفظ خصوصية حتى يقال: إنّ التطابق شرط للصيغة على حذو شرطية العربية و الماضوية لها، فليس القبول إلّا رضا بهذا المضمون. و من هنا صحّ اختلاف ألفاظ الإيجاب و القبول، فيصح أن يقول قابل عقد النكاح: «قبلت التزويج» مع كون الإيجاب بلفظ «أنكحت» و أن يقول قابل البيع:

«اشتريت أو تملّكت» مع كون الإيجاب بلفظ «بعت».

و قد عرفت تصريح التذكرة بعدم اشتراط اتفاق اللّفظ من الموجب و القابل. و قد مرّ تصريحه أيضا في التذكرة بأنّه «لا بدّ من التطابق في المعنى بين الصيغتين» فعباراتهم مشتملة على اعتبار التطابق بين الإيجاب و القبول مطلقا كما في القواعد، أو «التطابق في المعنى بين الصيغتين» كما في التذكرة.

لكن هذه العبارة تفسّر عبارة القواعد، خصوصا بعد ما عرفت من تصريحهم بعدم اعتبار المطابقة اللفظية بين الإيجاب و القبول في النكاح الذي اهتمّ فيه الشارع غاية الاهتمام.

فقد ظهر ممّا ذكرنا في هذه الجهة أمور:

الأوّل: أنّ مورد التطابق هو العقد لا الإيقاع، لعدم اشتماله على الإيجاب و القبول.

الثاني: أنّ التطابق من شرائط العقد أعني به الالتزامين، لا الصيغة حتى يكون من

ص: 594

______________________________

قبيل العربية و الماضوية.

الثالث: أنّ التطابق لا يختص اعتباره بالعقد اللفظي، بل يعمّ العقد و لو كان بالمعاطاة، إذ المفروض أنّ التطابق شرط لنفس العقد الذي ينشأ تارة باللفظ، و أخرى بالفعل، كما لا يخفى.

و أمّا الجهة الثانية: فملخّص البحث فيها: أنّ التطابق بين الإيجاب و القبول يتصور على وجوه:

________________________________________

أحدها: أن يلاحظ بالإضافة إلى المبيع، كأن يقول البائع: «بعتك عبدي بألف دينار» فقال المشتري: «قبلت بيع العبد بذلك الثمن»، لا ينبغي الارتياب في اعتبار المطابقة هنا، إذ لو قال المشتري: «قبلت بيع الجارية بألف دينار» لم يكن هذا قبولا لما أنشأه الموجب، بل كان إنشاء أجنبيا عن الإنشاء الإيجابي، فلا يتحقّق عنوان العقد الذي هو عبارة عن التزامين مرتبطين كما لا يخفى.

ثانيها: أن يلاحظ بالإضافة إلى الثمن، كأن يقول البائع: «بعتك عبدي بألف دينار» و يقول المشتري: «قبلت ذلك بألف درهم» لا ينبغي الإشكال أيضا في بطلان العقد و عدم تحققه، لأنّ المعاهدة و المعاقدة لم تتحقّق بينهما، فإنّ الإنشاء القبولي- الذي هو عبارة عن إمضاء الإيجاب و الرّضا به- لم يحصل، فلم يتحقق عنوان البيع بينهما، لعدم التزامين مرتبطين بينهما، بل حصل بينهما إنشاءان أجنبيّان مندرجان تحت عنوان الإيقاع لا العقد، فإنّهما إيقاعان، كما لا يخفى.

ثالثها: أن يلاحظ بالإضافة إلى نفس المعاملة، كأن يقول البائع: «بعتك هذا الكتاب بدينار» فإن قال المشتري: «قبلت هذا البيع بهذا الثمن» فلا إشكال في الصحة.

و أمّا إذا قال: «قبلت هبة أو صلح هذا الكتاب» فلا إشكال في البطلان، لعدم اتّفاق الإنشائين على عنوان واحد حتى يرتبطا، فيكون كلّ واحد من الإنشائين أجنبيّا عن الآخر، فلا تحصل معاقدة بينهما حتى تشملها العمومات المقتضية للصحة.

ص: 595

______________________________

رابعها: أن يلاحظ بالنسبة إلى البائع و المشتري، فلو قال زيد لعمرو: «بعتك هذا الكتاب بدينار» و قال عمرو: «قبلت البيع لخالد» بطل العقد، لعدم ورود الإيجاب و القبول على مورد واحد.

و دعوى «عدم دخل خصوصية البائع و المشتري في صحّة البيع، حيث إنّ الرّكن فيه العوضان. بخلاف النكاح، إذ الركن فيه الزّوجان، فمقتضى القاعدة عدم لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول في البائع و المشتري، بل هذا التطابق معتبر في النكاح الذي ركنه الزوجان» غير مسموعة، لأنّ عدم لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول- في البائع و المشتري- إنّما هو فيما إذا كان العوضان من الأعيان الخارجية.

أمّا مع كون أحدهما- فضلا عن كليهما- كلّيا ذميّا فإنّه لا بدّ من اعتبار التطابق بين الإيجاب و القبول من ناحية البائع و المشتري، بداهة اختلاف ذمم الأشخاص من حيث الاعتبار، فربّ شخص لا يعتمد عليه إلّا في الأمور الحقيرة، و شخص آخر يعتمد عليه في الأمور الخطيرة، فلا بدّ حينئذ من المطابقة بين البائع و المشتري.

و عليه فإذا باع زيد متاعه من عمرو بمائة دينار في الذمة، فليس لعمرو أن يقبل هذا البيع لغيره، و لا لغيره أن يقبله لنفسه. و هذا هو ما أشار إليه المصنف قدّس سرّه بقوله:

«فحينئذ لو قال بعته من موكّلك بكذا فقال: اشتريته لنفسي لم ينعقد».

و كذا إذا باع زيد عبده بمائة من بكر و خالد، فقال أحدهما: «قبلت بيع نصفه بخمسين دينارا» فإنّ التطابق هنا أيضا مفقود، لأنّ الإيجاب عبارة عن تمليك العبد لاثنين لا لواحد.

أقول: اعتبار التطابق في هذه الصورة بين البائع و المشتري غير ظاهر، بل المدار على رضا البائع باشتغال ذمّة القابل بالثمن، فعلى تقدير كون القابل وجيها عند البائع فلا دليل على اعتبار التطابق المزبور، بعد وضوح عدم دخل خصوصية البائع و المشتري في صحّة البيع، و لذا لا يتفحّصون عن المالك غالبا، و يشترون الأمتعة من غير سؤال

ص: 596

______________________________

و فحص عن ملّاكها، هذا.

خامسها: أن يلاحظ التطابق بين الإيجاب و القبول في أجزاء المبيع و الثمن، فإذا قال: «بعتك داري بمائة دينار» فقال المشتري: «قبلت بيع نصف الدار بخمسين دينارا» فعن المحقق النائيني قدّس سرّه بطلان البيع، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر، حيث قال مقرّر بحثه الشريف: «و مما ذكرنا ظهر أنّه لا بدّ من اتّحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع و الشروط، فلو أنشأ أحدهما مع شرط، و قبل الآخر بلا شرط، أو باع البائع عبدين، و قبل المشتري أحدهما، و غير ذلك ممّا هو نظير ما ذكرناه لم يصحّ أيضا، لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر» «1».

و لا يخفى أنّ ذكر المثال الثاني- و هو قوله: أو باع البائع عبدين .. إلخ- غير مناسب، لأنّه تفريع على اتّحاد المنشأ في التوابع و الشروط، مع أنّه تبعيض في المبيع، أو هو مع الثمن كما لا يخفى.

و كيف كان فأيّده سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّه بما هذا لفظ المقرّر: «لأنّ مرجع بيع الدار بخمسين دينارا مثلا إلى بيع كل نصف منها بخمسة و عشرين دينارا مع اشتراط كلّ منهما بوجود الآخر، فإذا قبل المشتري أحدهما دون الآخر رجع ذلك إلى عدم المطابقة من جهة الشرط، و قد مرّ حكمه» «2».

و قد ذكر قبل ذلك لزوم التطابق بين الإيجاب و القبول في الشروط أيضا.

لكن الحق عدم اعتبار التطابق في الشروط، كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

سادسها: التطابق بين الإيجاب و القبول من ناحية الشروط المذكورة في العقد.

قيل: بصحة العقد مع عدم التطابق في الشروط، نظرا إلى أجنبية الشرط عن العقد، حيث إنّه التزام آخر غير الالتزام العقدي.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 114

(2) مصباح الفقاهة، ج 3، ص 74

ص: 597

______________________________

و هذا هو الأقوى بناء على كون دخل الشرط بنحو تعدّد المطلوب كالواجبات التي ثبت لها القضاء، فإنّ قضاءها يكشف عن كونها بنحو تعدّد المطلوب، فتعدّد المطلوب يكون في الوضعيات و التكليفيّات معا، ففوات الشرط لا يوجب بطلان العقد، لعدم كون الشرط مقوّما له، بل خارجا عنه غير موجب فواته لفوات العقد.

و دعوى: بطلان العقد، لأجل عدم التطابق بين الإيجاب و القبول في الشروط- كما في تقرير سيدنا المحقق الخويي قدّس سرّه نظرا إلى: «أنّ تعليق اللزوم يرجع إلى جعل الخيار، و هذا الجعل يرجع إلى تحديد المنشأ، و عدم التطابق فيه يوجب البطلان» «1».

انتهى ملخّصا.

غير مسموعة، لأنّ التطابق العقدي موجود بالنسبة إلى الالتزام الأوّل، كما هو قضية انحلال العقد إلى عقدين أو أزيد، نظير انحلال رواية متضمنة لجمل- سقط بعضها عن الحجية- إلى روايات تكون بعضها حجّة، و بعضها غير معتبرة، فالشرط لا يوجب تحديد المنشأ الأوّل بحيث يوجب وحدة المنشأ، حتى يلزم التطابق، بل هناك إنشاءان و التزامان و مطلوبان يوجب تخلّف الثاني سلطنة المشروط له على حلّ الالتزام الأوّل، و هذه السلطنة حكم شرعي مترتب على عدم وفاء المشروط عليه بالشرط، فالخيار مجعول شرعي موضوعه تخلّف الشرط، فالشارط لم يجعل الخيار حتى يكون مرجعه إلى تحديد المنشأ.

و الحاصل: أنّ انحلال الإيجاب المتضمّن لقيود إلى إيجابات يقتضي انحلال القبول أيضا، فإذا طابق القبول جميع مراتب الإيجاب كانت العقود التي انحلّ إليها الإيجاب صحيحة، و إلّا كان الصحيح خصوص العقد المطابق لقبوله.

و أمّا انحلال عقد الى عقود ففي غاية الوضوح، كبيع المملوك و غير المملوك معا، و كبيع ما يملكه مع مملوك الغير كذلك.

و عليه فإذا باع كتابه و فرسه بعشرة، و قبل المشتري بيع أحدهما بخمسة دراهم

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 3، ص 73

ص: 598

______________________________

صحّ البيع بالنسبة إليه، و بطل بالإضافة إلى الآخر، هذا.

و أمّا الجهة الثالثة: فملخّص الكلام فيها: أنّه يظهر من المصنّف و غيره أنّ منشأ اعتبار التطابق بين الإيجاب و القبول هو اعتبار القبول في العقد، إذ القبول- بمعنى الرّضا بالإيجاب- لا يصدق إلّا على الرّضا بما أنشأه الموجب، و لا نعني بالتطابق إلّا هذا، فاعتبار هذا الشرط يكون حقيقة مقوّما لمفهوم المعاهدة و المعاقدة. و لذا قال المحقق الخراساني في مقام بيان شرطية التطابق ما لفظه: «ضرورة أنّه لو لا التطابق لما قصدا أمرا واحدا، بل لكلّ همّ و قصد، فلا يكون بينهما عقد» «1». فدخل التطابق في العقد عرفي، لكونه مقوّما لمفهوم العقد العرفي.

و عليه فوزان اعتبار التطابق وزان اعتبار القبول في العقد، نظير شرائط تنجيز العلم الإجمالي كالابتلاء، فإنّها توجب العلم بالحكم الفعلي، لا أنّها شرائط منجزية العلم بالحكم الفعلي.

و بعبارة أخرى: تلك الشرائط مقوّمة لحصول العلم المزبور، فجعل العلم بالحكم الفعلي مشروطا بها لا يخلو عن مسامحة.

و كيف كان فإناطة المعاقدة بالتطابق المزبور ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، فشرطيّته في العقد من القضايا التي قياساتها معها، فلا يحتاج إثبات شرطيّته إلى إقامة برهان، فليست شرطيّة التطابق على حدّ شرطيّة العربية و الماضوية و التنجيز بعد تسليمها، حيث إنّها شروط تعبّديّة لا بدّ من إقامة الدليل على اعتبارها.

و المتحصل: أنّ الكبرى مسلّمة، إلّا أن تطبيقها على صغرياتها مشكل، كما عرفت في جملة من الموارد.

منها: كون الإيجاب مشروطا بشرط، و القبول خاليا عنه.

و منها: ما إذا أوجب البائع لشخصين، فقبل أحدهما نصف المبيع بنصف الثمن.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 29

ص: 599

______________________________

و منها: ما إذا باع شيئين بثمن معيّن، و قبل القابل أحدهما بنصف الثمن.

فالتحقيق أن يقال: إنّ في كل مورد ينحلّ العقد عرفا إلى عقدين أو عقود أو إلى عقد و شي ء آخر، فقبل القابل البعض المنحلّ يقع التطابق بينهما، كما إذا قاول المشتري البائع في بيع عبده بمائة و بيع ثوبه بمائة، بحيث لا يكون بين البيعين ارتباط في الغرض، فباعهما بمأتين، و كان الجمع بينهما في العبارة لمجرّد السهولة، ففي مثل هذه الصورة ينحلّ البيع في نظر العقلاء إلى بيعين، فإذا قبل المشتري أحدهما- كبيع العبد- يصدق أنّه باع عبده بمائة، و يكون القبول مطابقا للإيجاب.

بخلاف ما إذا كان في الواقع و بنظر العقلاء- أو في نظر المنشئ- ربط بينهما، فباع المجموع بما هو مجموع، فإنّ المشتري إذا قبل البعض لا يكون قبولا له، و لا مطابقا لإيجابه، كما إذا باع الباب فقبل أحد مصراعيه، لا يتحقق المطاوعة و التطابق، فيكون البيع باطلا.

و هكذا الكلام في الشروط، فعلى القول بانحلالها و كونها التزاما في التزام يكون القبول بلا شرط قبولا و مطابقا للإيجاب. و على القول بعدم انحلالها لا يكون القبول المجرّد عن الشرط مطابقا للإيجاب. فالمدار في المطابقة و عدمها على الانحلال و عدمه.

فعلى الأوّل يحصل التطابق بين الإيجاب و القبول، فيصح في أحد العقدين دون الآخر. أو في الالتزام العقدي دون الشرطي. و تشخيص موارد الانحلال بنظر العرف، فمع إحراز الانحلال أو عدمه لا كلام، و مع الشك في قابلية المنشأ للانحلال يرجع إلى أصالة الفساد، للشكّ في عقديته مع عدم إحراز التطابق.

و بالجملة: فاعتبار التطابق إنّما هو لأجل تقوّم العقد به، فالشكّ في التطابق يوجب الشك في تحقق العقد، و الأصل عدمه.

ففي جميع موارد الشك في انحلال العقد يشكّ في التطابق، و مرجع هذا الشكّ الى الشك في صدق العقد، فمقتضى أصالة الفساد عدم ترتب الأثر المقصود عليه.

ص: 600

______________________________

و من هنا يقال: إنّ الصداق و إن لم يكن ركنا في عقد النكاح إلّا أنّه شرط له، كقبول الموصى له بناء على عدم كون الوصية التمليكية عقدا، و ليست شرطيّته على حدّ سائر الشروط التي لا تكون قيدا للعقد حتى يبطل العقد بالإخلال بها، بل الصداق شرط كالقيد، فإذا لم يقصد الزوج اشتغال ذمته بالصداق، و قبل النكاح كذلك بطل العقد، لعدم التطابق بين الإيجاب و القبول، فإنّ المستفاد من النصوص أنّه لا بدّ في استحلال الفرج من بذل شي ء و لو تعليم سورة من القرآن، إلّا في تحليل الإماء، لأنّه من شؤون تصرّفات المالك في ملكه و سلطنته على ماله، غايته أنّ تصرفه في ماله تارة مباشري، و أخرى تسبّبي، كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في شرطية التطابق، و اللّه تعالى هو العالم.

ص: 601

[المبحث الخامس: اعتبار أهلية المتعاقدين حال العقد]

و من جملة الشروط في العقد: أن يقع كلّ من إيجابه في حال يجوز لكلّ واحد منهما الإنشاء (1)

______________________________

المبحث الخامس: اعتبار أهلية المتعاقدين حال العقد

(1) هذا آخر شروط الهيئة التركيبية لصيغة البيع، و هو أهلية المتعاقدين من حين الشروع في الإيجاب إلى الفراغ من القبول.

و توضيحه: أنّه لا ريب في توقف صحة العقد على جملة من الأمور الدخيلة فيها عرفا أو شرعا، فالأوّل كقابلية التخاطب في المتعاقدين، و عدم سقوطهما عنها بموت أو جنون أو إغماء أو نحوها. و الثاني كالبلوغ و عدم الحجر بفلس أو رقّ أو مرض موت. فيبحث عن أنّه هل يكفي اجتماع الشرائط في البائع حال الإيجاب خاصة، فيصحّ إنشاؤه و إن اختلّ بعضها قبل انضمام القبول، أو أنّه يعتبر بقاؤها إلى لحوق القبول بالإيجاب؟

و كذا هل يكفي في الصحة أهلية المشتري حين القبول و إن لم يكن أهلا له حال الإيجاب، أم تعتبر حال إنشاء البائع أيضا؟ أفاد المصنف قدّس سرّه- تبعا للقوم- اشتراط العقد بأهلية كلّ من الموجب و القابل في حال إنشاء الآخر، لأنّ للعقد حالة وحدانيّة، فبقاء كلّ واحد من الموجب و القابل على صفة الإنشاء شرط لمجموع العقد، فانتفاء الشرط من أحدهما حالة الإنشاء يوجب عدم انعقاد العقد، فالمعاهدة و المعاقدة لا تصدق إلّا مع اتصافهما بالشرائط حال الإنشاء.

ص: 602

فلو كان المشتري في حال إيجاب البائع غير قابل للقبول، أو خرج البائع حال القبول عن قابلية الإيجاب لم ينعقد (1).

ثم (2) إنّ عدم قابليّتهما إن كان لعدم كونهما قابلين للتخاطب كالموت و الجنون و الإغماء- بل النوم- فوجه الاعتبار عدم تحقّق معنى المعاقدة و المعاهدة حينئذ.

و أمّا (3) صحة القبول من الموصى له بعد موت الموصى فهو (4) شرط حقيقة لا ركن، فإنّ حقيقة الوصية الإيصاء، و لذا (5) لو مات قبل القبول قام

______________________________

و الوجه في هذا الشرط فيما إذا كان فقدانه موجبا لعدم قابلية فاقده للتخاطب كالموت و الجنون واضح، إذ لا معنى لمعاهدة العاقل مع المجنون أو النائم أو المغمى عليه.

(1) جواب قوله: «فلو كان» و قد تقدّم آنفا وجه عدم الانعقاد.

(2) مقصوده أنّ القابلية المعتبرة في المتعاقدين تكون مقوّمة لعقديّة العقد، سواء أ كانت لأجل أهليّة التخاطب، أم لأجل اعتبار الرّضا في العقد.

(3) هذا إشكال على اعتبار بقاء كلّ من المتعاقدين على الشرائط إلى تمام العقد، و حاصله: أنّ الموصى له حين ما يقبل الوصية التمليكية ليس للموجب- و هو الموصى- أهلية الإنشاء، لفرض موته، و هذا دليل على عدم اعتبار أهلية كل منهما حال إنشاء الآخر.

(4) هذا دفع الإشكال، و حاصله: أنّ قبول الموصى له ليس ركنا كركنيّة القبول في العقود، بل قبول الوصية شرط لها لا جزء للعقد، فإنّ الوصية حقيقة هي الإيصاء الذي هو من الإيقاعات، لا العقود. و مورد البحث في هذه المسألة هو العقد لا الإيقاع، فالوصية خارجة عنه موضوعا.

(5) يعني: و لأجل كون الوصية التمليكية إيصاء- أي إيقاعا لا عقدا- يقوم الوارث مقامه، إذ لو كانت عقدا كان القبول ركنا، و اللّازم حينئذ البطلان، و عدم قيام

ص: 603

وارثه مقامه. و لو ردّ جاز له القبول (1) بعد ذلك.

و إن كان (2) لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا (3) عن مفهوم التعاهد و التعاقد، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه، كمن

______________________________

الوارث مقام الموصى له، إذ المفروض انتفاء السبب الموجب للحق- و هو العقد- بانتفاء جزئه أعني به القبول، فلم يتحقق سبب تامّ لحقّ الموصى له حتّى ينتقل إلى وارثه. فقيام الوارث مقام الموصى له يكشف عن كون إيجاب الموصى سببا تامّا لثبوت حقّ للموصى له، فينتقل ذلك الحقّ إلى وارثه، و لا يصحّ ذلك إلّا إذا كانت الوصية إيقاعا.

(1) يعني: لو ردّ الموصى له جاز لوارثه قبول الوصية بعد موت الموصى له ما دام الموصى حيّا. و هذا يدلّ على عدم كون القبول ركنا، إذ لو كان ركنا لكان الرّد مانعا عن انضمامه مع الإيجاب، كما هو كذلك في جميع العقود، هذا.

ثم إنّ جواز القبول بعد الرّد إنما هو في الرّد الواقع حال حياة الموصى، أمّا ما كان حال موته و قبل قبول الموصى له فلا خلاف في عدم جواز القبول بعده، و في الجواهر «الإجماع بقسميه عليه» «1». و تنقيح ذلك موكول إلى محله.

(2) معطوف على قوله: «إن كان» و حاصله: أنّ عدم قابلية الموجب و القابل إن كان لعدم العبرة برضاهما كالمحجور بفلس أو سفه، فوجه اعتبار الأهلية في الموجب و القابل أيضا هو الوجه السّابق، حيث إنّ عدم الأهليّة يوجب إلغاء رضاهما شرعا، فكان التعاهد منهما كالعدم في نظر الشارع و إن لم يكن كذلك في نظر العرف، فهذا العقد عقد عرفي ذو أثر عرفي و إن لم يكن شرعيّا ذا أثر كذلك.

(3) يعني: كخروج العقد عن مفهوم التعاهد في القسم الأوّل، و هو عدم أهلية التخاطب.

______________________________

(1): جواهر الكلام، ج 28، ص 256

ص: 604

يعرض له الحجر بفلس أو سفه (1)، أو رقّ لو فرض (2)، أو مرض موت.

و الأصل (3) في جميع ذلك أنّ الموجب لو فسخ قبل القبول لغا الإيجاب السابق. و كذا لو كان المشتري في زمان الإيجاب غير راض، أو كان ممّن لا يعتبر رضاه (4) كالصغير.

فصحة كلّ من الإيجاب و القبول يكون معناه قائما في نفس المتكلم من أوّل العقد إلى أن يتحقق تمام السبب، و به يتمّ معنى المعاقدة، فإذا لم يكن هذا المعنى قائما في نفس أحدهما، أو قام و لم يكن قيامه معتبرا (5) لم يتحقق معنى المعاقدة.

______________________________

(1) لا يخفى: أنّ ذكر الحجر بالفلس و شبهه لا يناسب المقام و هو البطلان، ضرورة أنّ الحجر بالمذكورات لا ينافي الصحة، لأنّ تصرف المحجور بها يصحّ بالإجازة. و الحمل على رضا المالك بما أنّه مالك لأمر العقد كما ترى.

(2) كما إذا كان البائع حربيّا، فاسترقّ قبل قبول المشتري.

(3) يعني: أنّ منشأ الالتفات إلى وجه اعتبار ما ذكرناه- من اعتبار رضا كلّ من المتعاقدين حال إنشاء الآخر في حصول المعاقدة و المعاهدة- هو وضوح فساد الإيجاب بفسخ الموجب قبل إنشاء القبول مع عدم رضا القابل بهذا الفسخ، ففساد الإيجاب يكشف إنّا عن اعتبار رضا كلّ منهما- حال إنشاء الآخر- في تحقّق المعاهدة.

و عليه فلا يتّجه ما أفاده المحقق الإيرواني قدّس سرّه «من أنّ هذا عين المسألة المبحوث عنها، لا أصلها» «1».

(4) يعني: لا عبرة برضاه شرعا، و إن كان معتبرا عرفا كما في المميّز.

(5) كبيع الراهن بدون إذن المرتهن الّذي تعلّق حقّه بالعين المرهونة.

لكن عدم تحقّق المعاهدة عرفا هنا ممنوع، بل عدم الصحة فيه إنّما هو لأجل تعلق حق الغير بالمعقود عليه، و لذا يصح إذا تعقّبه الرّضا ممن له الحق.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 92

ص: 605

ثمّ إنّهم (1) صرّحوا بجواز لحوق الرّضا لبيع المكره، و مقتضاه (2) عدم اعتباره من أحدهما حين العقد، بل يكفي حصوله بعده (3) فضلا عن حصوله بعد الإيجاب و قبل القبول (4).

______________________________

و من هنا يظهر أنّ الحكم بصحة بيع المكره إذا لحقه الرّضا ليس على خلاف القاعدة، بل على طبقها. فما في المتن «من كون الحكم بالصحة في بيع المكره إذا لحقه الرّضا على خلاف القاعدة للإجماع» غير ظاهر، بل هو على طبق القاعدة، لأنّ المفقود حال العقد هو الرّضا الذي لا يعتبر تقارنه مع العقد.

(1) غرضه أنّه لا يرد النقض ببيع المكره الذي لا يكون حين الإنشاء راضيا، مع أنّ الرّضا دخيل في المعاهدة، فلا تكون أهليّة المتعاقدين- في حال إنشاء كلّ منهما- دخيلة في المعاهدة. فصحة بيع المكره دليل على عدم دخل الرّضا حين الإنشاء في الصحة. و على هذا تنحصر القابلية في القسم الأوّل و هو أهلية التخاطب.

وجه عدم ورود النقض: أنّ اعتبار الرّضا و طيب النّفس حال الإنشاء مسلّم، و لا ينافيه صحة عقد المكره الملحوق بالرّضا، و ذلك لخروجه بالإجماع عن القاعدة المقتضية للغوية الإنشاء الفاقد للرّضا، هذا. لكنه محلّ تأمّل، فراجع التعليقة.

(2) يعني: و مقتضى تصريحهم بجواز لحوق الرّضا ببيع المكره هو عدم اعتبار أصل رضا المتعاقدين حين العقد.

(3) أي: حصول الرّضا بعد العقد.

(4) يعني: أنّ صحة عقد المكره- الفاقد للرّضا حال الإنشاء- تقتضي بالأولوية القطعية صحة العقد الذي تحقق الرّضا فيه بعد الإيجاب و قبل القبول.

و وجه الأولوية: مقارنة القبول لشرط الصحة أي الرّضا بالإيجاب. و عليه فلا وجه لجعل الرّضا من الشرط المقوّم لمفهوم المعاهدة و المعاقدة.

ص: 606

اللهمّ إلّا أن يلتزم (1) بكون الحكم في المكره على خلاف القاعدة لأجل الإجماع [1].

______________________________

(1) هذا جواب النقض، يعني: لو لا الإجماع كان اعتبار مقارنة الرّضا للعقد مقتضيا لبطلان عقد المكره.

______________________________

[1] و تنقيح البحث في هذا الشرط منوط ببيان جهات.

الأولى: في مورد هذا الشرط، و أنّه هو العقد أو المتعاقدان.

و الثانية: في انقسام عدم أهلية المتعاقدين إلى قسمين.

و الثالثة: فيما يقتضيه الأصل مع فرض فقدان الدليل.

أمّا الجهة الأولى فنخبة الكلام فيها: أنّ الظاهر أنّ أوّل من تنبّه لاعتبار هذا الشرط هو المصنف قدّس سرّه، و لم نظفر بمن تعرّض له قبله، و لعلّ عدم التعرّض له لأجل عدم كونه شرطا زائدا على أصل العقد، حيث إنّه مقوّم له، بداهة تقوّم التعاقد بقابلية المشتري حين إيجاب البائع للتخاطب، و إلّا فلا يتحقق التعاهد بين الموجب و بين من يكون كالجدار أو الحمار، فهذا من الأمور المحقّقة للموضوع، و لذا عدّ من شرائط العقد، لتقوّم مفهوم العقد العرفي بأهلية كلّ من المتبايعين للإنشاء، و لم يعدّ من شرائط المتعاقدين مع كون عدّه منها أشبه.

و أمّا الجهة الثانية فحاصلها: أنّ عدم أهلية المتعاقدين تارة يكون مانعا عن تحقّق أصل التعاقد، كأن يكونا غافلين عرفا غير قاصدين لمدلول اللفظ. و أخرى يكون مانعا عن الرّضا بالعقد، فالكلام يقع في موضعين:

الأوّل: في عدم الأهلية المانع عن تحقق التعاهد.

و الثاني: في المانع عن الرّضا المعتبر في العقد.

أمّا الموضع الأوّل ففيه أقوال:

الأوّل: ما اختاره المصنف و المحقّق النائيني قدّس سرّهما من اعتبار واجدية كلّ منهما لجميع القيود المعتبرة في تحقق العقد في حال إنشاء الآخر، و جعل المحقق النائيني هذا

ص: 607

______________________________

الشرط كسابقه من القضايا التي قياساتها معها، حيث قال مقرّر بحثه الشريف ما لفظه:

«لا يخفى أنّ هذا الشرط أيضا كالشرط السابق من القضايا التي قياساتها معها، بل منشأ اعتباره هو المنشأ لاعتبار الشرط السابق، لأنّ العقد لا ينعقد إلّا بفعل الاثنين، فلو فقد حين إنشاء أحدهما شرائط العقد فوجودها سابقا أو لاحقا لا أثر له، و مجرّد تحقق الشرط حين إنشاء الآخر لا يفيد بعد كون إنشائه جزءا من العقد، لا إيقاعا مستقلّا، فلو كان المشتري حين إنشاء البائع نائما لا يصحّ العقد، و كذلك العكس. و التفصيل بينهما كما في حاشية السيد قدّس سرّه لا وجه له، و ما يدّعيه من الصحّة بلا إشكال في العقود الجائزة، فإنّها في العقود الإذنية لا العهدية» «1».

الثاني: عدم اعتبارها فيهما كما في حاشية المحقق الايرواني قدّس سرّه، حيث قال- بعد قول المصنف قدّس سرّه: فوجه الاعتبار عدم تحقق معنى المعاقدة- ما لفظه: «فيه منع، فإنّه لا يعتبر في تحقق مفهوم المعاقدة إلّا وجود الشرائط المعتبرة في كلّ من المتعاقدين حال إنشاء نفسه» «2».

و محصّله: أنّه إن كان اعتبار هذا الشرط لأجل توقف مفهوم المعاقدة فذلك غير ظاهر، ضرورة صدق المعاهدة على الإنشائين اللذين كان إنشاء كل من المتعاقدين في حال واجديته لشرائط إنشاء نفسه و إن لم يبق على تلك الشرائط حين إنشاء الآخر، فلو كان بقاؤه عليها شرطا فلا بدّ أن يكون شرطا تعبّديا، لا مقوّما لمفهوم العقد كما هو المفروض في الموضع الأوّل.

الثالث: اعتبار واجدية القابل للشرائط في حال الإيجاب، و عدم اعتبارها بالنسبة إلى الموجب، نسب ذلك إلى السيد قدّس سرّه في بعض الفروض.

الرابع: عكس ذلك، بأن كان الموجب جامعا للشرائط حين القبول، من دون اعتبار ذلك في القابل حين إنشاء الإيجاب.

______________________________

(1): منية الطالب، ج 1، ص 114

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 92

ص: 608

______________________________

أقول: تنقيح الكلام في الموضع الأوّل يتوقف على صرف عنان البحث الى مقامات ثلاثة:

الأوّل: في الإيجاب، و الثاني في القبول، و الثالث فيما بينهما.

أمّا المقام الأوّل: فملخّص البحث فيه: أنّه قد استدل- كما في المتن- لاعتبار واجدية القابل لتلك القيود- حين إنشاء الإيجاب- بأنّ المعاقدة لا تتحقق بدونها.

و أيّده المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بما حاصله: أنّ مناط المعاهدة مع الغير يقتضي كونهما معا كذلك في حال الإيجاب و القبول، إذ معيّة المتعاقدين ليست معيّة جسم مع جسم، و لا معيّة حيوان مع حيوان، بل معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير و يلتزم الغير له، و إلّا فلا ينقدح القصد الجدّي في نفس العاقل إلى المعاهدة مع من هو كالجدار أو كالحمار. و علمه بالتفاته فيما بعد لا يصحّح المعاهدة معه فعلا «1»، هذا.

و فيه: أنّ حقيقة العقد ليست من مقولة الفعل، و لا من مقولة اللفظ، و لا من الاعتبارات النفسانية المحضة، بل هي ارتباط أحد الالتزامين بالآخر، و الرّابط بينهما- كما تقدم سابقا- هو وحدة الملتزم به. و الالتزام قائم بالنفس، و لا يسقط عن صلاحية ارتباطه بالتزام آخر بعروض عارض من نوم أو إغماء أو جنون، فإنّ الالتزامات النفسانية لا تسقط عن الاعتبار بشي ء من ذلك.

و توضيح المقام منوط بتقديم مقدّمتين.

إحداهما: عدم اعتبار التخاطب في شي ء من العقود- غير النكاح و المعاملات الذمية- حتى يلتزم باعتبار الأهلية في المتعاقدين في زمان الإنشائين و ما بينهما، فإنّ البيع مثلا- كما تقدّم في صدر الكتاب- هو التبديل بين المالين، أو المبادلة بينهما، من دون نظر إلى حيثية التخاطب، فهذه الحيثية أجنبية عن حقيقة البيع، فإذا قال الدلّال مثلا:

«بعت هذا الكتاب بدينار» و استيقظ نائم و التفت إلى هذا الإيجاب و قال: «قبلت»

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 73

ص: 609

______________________________

فلا ينبغي الارتياب في صدق البيع عرفا عليه مع عدم الأهلية المصحّحة للتخاطب.

ثانيتهما: كون القبول تنفيذا للإيجاب و إمضاء له كالإجازة في عقد الفضولي، فكما لا يعتبر في المجيز أهليّته للإجازة حين عقد الفضولي، فكذلك في القابل، فالإيجاب هنا بمنزلة عقد الفضولي، و القبول بمنزلة الإجازة.

و بعد لحاظ هاتين المقدمتين يتّضح عدم اعتبار أهليّة القابل حين إنشاء الإيجاب.

و قد ظهر مما ذكرنا ضعف ما في كلام المحقق المزبور من قوله: «إذ معيّة المتعاقدين إنّما هي معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير و يلتزم الغير له، و إلّا فلا ينقدح القصد الجدي في نفس العاقل .. إلخ».

وجه الضعف: أنّ البيع و نحوه ليس إلّا تبديلا إنشائيا بين شيئين، و ليس البيع من المعاهدة المعتبر فيها وجود الشرائط للمتعاهدين حين التعاهد. و القبول ليس إلّا إمضاء للإيجاب.

و على تقدير كون البيع من المعاهدات يمكن أيضا منع اعتبار الشرائط لكلّ منهما حال تحقق المعاهدة، لصدق المعاقدة العرفية على العهد الذي صدر من أحدهما حال نوم الآخر، و بعد استيقاضه قبل ذلك العهد، فإنّه عقد عرفي بلا إشكال، و هو موضوع للاعتبار العقلائي و الشرعي، هذا.

و لا إشكال في انقداح القصد الجدّي في نفس الموجب مع علمه بلحوق القبول بعد دقيقة من شخص نائم بعد استيقاضه، فلا يتوقف انقداح القصد الجدّي على التفات شخص خاص إلى إيجابه و وجدانيّة لشرائط الإنشاء حين الإيجاب.

بل يمكن أن يقال: بعدم اعتبار القصد الجدّي في الإنشاء، و كفاية الإنشاء الإيجابي برجاء لحوق القبول من شخص مّا، كما تقدم في بحث التنجيز.

و أمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط حال الإيجاب من: «أنّه

ص: 610

______________________________

لا ريب في أنّه يعتبر في ترتيب العقلاء و الشارع الأثر على الالتزام النفساني أن يظهره لمن هو طرفه في المعاملة، فإذا كان الطرف غير قابل للتخاطب فالإظهار له كلا إظهار، فلأجل ذلك يعتبر قابلية القابل للتخاطب حال الإيجاب، فتدبّر، فإنّه دقيق».

فيتوجه عليه: أنّ المراد بالإظهار إن كان إنشاء الإيجاب بشرط قابلية القابل للتخاطب حينه، ففيه ما عرفت من منع اعتبار أهلية المتعاقدين للتخاطب، لخروج التخاطب عن ماهية العقد.

و إن كان مجرّد الإظهار لمن هو طرفه في المعاملة، فيكفي في صحة القبول اطّلاع القابل على إنشاء الموجب بأيّ نحو كان و لو بعد إفاقته من إغمائه أو جنونه.

و بالجملة: فلا تكون أهلية القابل حين إنشاء الإيجاب ممّا هو مقوّم لمفهوم العقد العرفي كما هو مدّعى الخصم، هذا.

و أمّا المقام الثاني:- و هو اعتبار أهلية الموجب حين إنشاء القبول- فقد استدلّ عليه بوجوه:

أحدها: ما تقدم آنفا من قولنا: «و أمّا ما قيل في وجه اعتبار واجديّة القابل للشرائط ..

إلخ» و فيه: ما مرّ، فلاحظ.

ثانيها: أنّ القبول لمّا كان متمّما للعقد و مخرجا لكل من المالين عن ملك مالكه فلا بدّ أن يكون الموجب أيضا في هذا الحال أهلا للتملّك حتى يترتب الأثر على التزامه النفساني، هذا.

و فيه: أنّ التمليك الإنشائي الذي هو حقيقة البيع قد أنشأه البائع، و بالقبول يتمّ موضوع الأمر الاعتباري و هو الملكية، فلو كان الموجب حيّا ملكه، و إلّا يملكه وارثه إن أمضى هذا العقد، حيث إنّ المال انتقل قبل القبول إلى الوارث الذي هو يقوم مقام الموجب المالك.

فالمتحصل: أنّ العقد العرفي لا يتقوّم ببقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى

ص: 611

______________________________

زمان القبول، هذا.

ثالثها: عدم تحقق المعاهدة من جهة انتفاء الالتزام النفساني بالإغماء و الجنون مثلا، فلا يبقى التزام من الموجب حتّى يرتبط بالالتزام القابل، هذا.

و فيه: عدم زوال الالتزامات النفسانية بالموت فضلا عن النوم و الإغماء. و لو كان الموت مزيلا للالتزام النفساني لم يكن فرق بين وقوع الموت قبل لحوق الالتزام القبولي و بعده، لأنّ ضمّ التزام آخر إلى الالتزام الإيجابي مثلا لا يوجب بقاءه إن كان الموت مزيلا له.

و بالجملة: لا يتقوّم العقد العرفي بواجديّة الموجب لشرائط الإنشاء حال القبول، هذا.

و أمّا المقام الثالث فقد ظهر حاله ممّا مرّ في المقامين المتقدمين، فلا يعتبر أهلية المتعاقدين للإنشاء في الزمان المتخلّل بين إنشائهما.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه في الموضع الأوّل- و هو عدم الأهليّة الموجب لعدم تحقق المعاهدة العرفية- أنّ اعتبار واجدية كلّ من المتعاقدين لشرائط الإنشاء مختصّ بحال إنشاء نفسه. و لا دليل على اعتبارها في كلّ منهما في زمان الانشائين و بينهما، و اللّه العالم.

و أمّا الموضع الثاني- و هو اعتبار الشرائط المعتبرة في صحة العقد و نفوذه بعد واجديّتهما لما هو دخيل في تحقق العقد العرفي- فاختلفوا فيه أيضا على أقوال.

و ملخّص الوجه في اعتبار الشرائط الزائدة على الأمور المقوّمة للعقد العرفي: أنّه قد استدل المصنف قدّس سرّه على اعتبارها في المتعاقدين حال كلّ واحد من الإنشائين على ما يستفاد من عبارته بوجهين:

الأوّل: عدم تحقق معنى المعاقدة بدون رضا المتعاقدين أو أحدهما، كما هو صريح عبارته، حيث قال: «و إن كان لعدم الاعتبار برضاهما فلخروجه أيضا عن مفهوم

ص: 612

______________________________

التعاهد و التعاقد، لأنّ المعتبر فيه عرفا رضا كلّ منهما لما ينشئه الآخر حين إنشائه، كمن يعرض له الحجر .. إلخ» فإنّه صريح في كون الرّضا دخيلا في مفهوم العقد، لا أنّه شرط تعبدي في العقد العرفي، هذا.

و لكن فيه ما لا يخفى، فإنّه مصادرة واضحة، لأنّ دخل الرضا في مفهوم العقد العرفي أول الكلام، بل المعلوم خلافه، و إلّا لكان عقد المكره و الصبي المميّز و الرّاهن بدون إذن المرتهن و المفلّس و غيرهم من المحجورين عن التصرف غير قابل للإجازة، لعدم كونه عقدا عرفيّا على الفرض، مع القطع بأنّها عقود عرفية قابلة للتأثير بالإجازة.

و دعوى: كون جميعها خارجة بالإجماع كما ترى، لأنّ الإجماع لا يجعل غير العقد عقدا، بل يخرج العقد العرفي الباطل شرعا- بلسان العموم- عن القواعد المقتضية للبطلان، فيكون الإجماع مخصّصا لعموم ما دلّ على بطلان العقد بعدم الرّضا حقيقة كعقد المكره، أو تنزيلا كعقد المحجور بفلس أو سفه أو غيرهما، فإنّ رضاهما كالعدم شرعا.

و ما أفاده المحقق الإيرواني في توجيه كلام المصنف قدّس سرّه بقوله: «لعلّ المراد أنّ رضاهما بعد أن كان في نظر الشارع كلا رضا، و المفروض أنّ رضاهما مما يعتبر في تحقق مفهوم التعاهد لا جرم كان تعاهدهما في نظره بمنزلة العدم، فلا يكون عقدهما عقدا معتبرا شرعا و إن كان عقدا عرفيا ذا أثر عرفي» «1».

لا يخلو من غموض، لأنّ تنزيل رضا المحجور عليه شرعا بمنزلة العدم في ترتب الأثر الشرعي لا يخرج العقد عن مفهومه العرفي الذي لا يعتبر فيه الرّضا، و لذا كان عقد المكره عقدا حقيقة مع عدم الرّضا به حين إنشائه.

و الحاصل: أنّ العقد الفاقد للرّضا حقيقة أو تنزيلا عقد عرفي غير مؤثّر شرعا، فليس الرّضا مقوّما لمفهوم العقد العرفي كما هو واضح.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 93

ص: 613

______________________________

الثاني: برهان إنّي، و هو: أنّ لغويّة الإيجاب بفسخ الموجب له قبل تمامية القبول تكشف إنّا عن شرطيّة رضا الموجب إلى زمان القبول المتمّم للعقد الذي هو الموضوع للأمر الاعتباري، إذ لو لم يكن الرّضا شرطا كذلك لم يؤثّر الفسخ، حيث إنّ ما يهدمه الفسخ عين ما يعمّره الرّضا، هذا.

و فيه: ما لا يخفى، ضرورة أنّ لغوية الإيجاب إنّما هي بسبب الفسخ، لأنّ الالتزام ينحلّ حقيقة به، فلا يبقى بعد الفسخ إيجاب حتى ينضمّ إليه القبول و يرتبط به حتى يحصل منهما عقد. فلغوية الإيجاب بفسخ الموجب أجنبية عن المقام، فلا تكشف عن اعتبار رضا الموجب حال إنشاء القابل، و عن تحقق معنى التعاقد.

و هذا بخلاف الموت و النوم و الإغماء، فإنّها لا توجب انحلال الالتزام، و لذا لا تبطل العهود و الالتزامات بالموت إلّا ما ليس التزاما حقيقة كالعقود الجائزة، فلو أوجب البائع و مات- فضلا عن الجنون و النوم- و قبل المشتري تمّ موضوع الاعتبار، غاية الأمر أنّ وارث الموجب يقوم مقامه، لانتقال المال إليه قبل قبول المشتري.

و بالجملة: فالشرط في لحوق القبول بالإيجاب حتى يتحقق العقد هو بقاء الالتزام الإيجابي و عدم انحلاله بالفسخ، لا بقاء الموجب على شرائط الإنشاء إلى تمامية القبول.

و كذا لا يشترط أهلية القابل لشرائط الإنشاء حين الإنشاء الإيجابي، فلو كان محجورا لصغر أو فلس أو سفه أو نحوها و زال الحجر بعد إنشاء الإيجاب و قبل الإيجاب كان ذلك عقدا عرفيا. فعدم الأهلية المانع عن اعتبار الرّضا شرعا بالإيجاب حين إنشائه لا يمنع عن تحقق العقد العرفي كما أفاده المصنف قدّس سرّه. فلا ينبغي جعل الحجر شرعا مانعا عن تحقق المعاهدة العرفية، بل هو مانع عن تأثير العقد شرعا.

نعم إذا كان الحجر للجنون أو عدم التمييز فمنع تحقق المعاهدة عرفا في محلّه.

و أمّا إذا كان لتعلّق حقّ الغير كحقّ المرتهن و الغرماء فمنع المعاهدة العرفيّة غير ظاهر جدّا.

ص: 614

______________________________

فالمتحصل: أنّه لا يعتبر بقاء أهلية الإنشاء من ناحية الشروط الشرعية في المتعاقدين في زمان الإنشاءين و لا بينهما، بل العبرة بوجود تلك الشرائط في كل من المتعاقدين حال إنشاء نفسه، هذا.

و أمّا الجهة الثالثة فملخص الكلام فيها: أنّ وجه اعتبار الشرائط في تمام آنات الإنشائين في كلّ من المتعاقدين إن كان لعدم صدق العقد العرفي فقد عرفت ما فيه.

و إن كان لدليل خاص شرعي ففيه: أنّه لم يقم دليل تامّ على اعتبار أهلية كلّ من المتعاقدين في جميع آنات الإنشائين و بينهما، فإذا شكّ في اعتبارها شرعا فالمرجع إطلاق أدلة نفوذ العقود.

و دعوى: انصرافها إلى العقود المتعارفة، و خروج المقام عن العقود المتعارفة، قد عرفت سابقا ما فيها. نعم بناء على تسليمها يرجع إلى أصالة الفساد.

فتلخص من جميع ذلك: أنّ واجدية المتعاقدين للشروط العرفية المقوّمة لمفهوم العقد العرفي كالحياة و العقل و الالتفات معتبرة في حال إنشاء كلّ منهما لنفسه، و ليست معتبرة في جميع آنات الإنشائين و بينهما.

و أمّا الشروط الشرعية المعتبرة في صحة العقد و نفوذه فهي معتبرة فيهما في الجملة و لو بعد العقد، و لذا يصحّ بيع المكره بعد حصول رضاه و طيب نفسه، و بيع المحجور عن التصرف لفلس أو رهن أو غيرهما، إذ لا شبهة في صحته بعد ارتفاع الحجر، فإنّ سلطنة المالك معتبرة في البيع و لو بعد العقد.

و بالجملة: فالشروط العرفية معتبرة في خصوص حال الإنشاء. و أمّا الشروط الشرعية فهي معتبرة في المتعاقدين في الجملة و لو بعد العقد، لأنها معتبرة في موضوع اعتبار الشارع، فهي جزء الموضوع، و بتحققها يتم الموضوع. و اعتبار مقارنتها لنفس العقد محتاج إلى الدليل.

ففرق واضح بين الشروط العرفية المقوّمة للعقد، و بين الشروط الشرعية المقوّمة لصحته و ترتّب الأثر عليه، فلاحظ و تدبّر.

ص: 615

[اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة]

فرع (1): لو اختلف المتعاقدان اجتهادا أو تقليدا في شروط الصيغة، فهل

______________________________

اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة

(1) الغرض من عقد هذا الفرع هو بيان حكم العقد الذي اختلف المتعاقدان في شرائطه صحّة و فسادا.

و توضيحه: أنّه لا كلام في صحة العقد الذي روعيت فيه الشروط المعتبرة فيه بنظر المتعاقدين، فإذا اجتهدا في شرطيّة تقدم الإيجاب و الفارسية و الماضوية و قالا بعدمها، فعقدا بالفارسي المضارع المقدّم قبوله على إيجابه صحّ. و كذا الحال إذا قلّدا مجتهدا نافيا لاعتبار ما ذكر، أو قلّد كلّ منهما مجتهدا فاتّفقا في الفتوى.

و أمّا إذا اجتهدا و اختلفا في الرأي، أو قلّد أحدهما من يقول بعدم جواز تقديم القبول و بجواز العقد بالفارسي، و قلّد الآخر من يقول بالعكس، بأن جوّز تقديم القبول و اشترط العربية، فيتجه هذا البحث، و هو: أنّه هل يجوز لكلّ واحد من المتعاقدين العمل برأيه أو برأي مقلّده، مع فرض بطلانه بنظر الآخر؟ أم تتوقف صحة العقد على رعاية كافة الشرائط حتى يعتقد كلاهما بصحّته، أفاد المصنف قدّس سرّه أنّ في المسألة وجوها ثلاثة:

الأوّل: صحّة العقد في حقّهما مطلقا، سواء لزم من عمل كلّ منهما على مقتضى مذهبه كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيّته للنقل، أم لا.

الثاني: عدم صحة العقد في حقّهما مطلقا.

ص: 616

يجوز أن يكتفي كلّ منهما بما يقتضيه مذهبه (1) أم لا؟ وجوه، ثالثها: اشتراط عدم كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بكونه سببا في النقل، كما لو فرضنا أنّه

______________________________

الثالث: التفصيل بين أن يكون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بسببيته للنقل فيبطل، و أن لا يكون ممّن لا قائل بسببيّته فيصح.

مثاله: ما لو قال المشتري بجواز تقديم القبول على الإيجاب، مع قوله بعدم جواز العقد بالفارسي، و قال البائع بجواز العقد بالفارسيّ، فقدّم المشتري القبول باللّفظ العربي عملا بمذهبه، و أوجب البائع بالفارسيّ عملا بمذهبه، فحصل من ذلك عقد فارسي مقدّم القبول. و من المعلوم أنّ القائل بالعربية يعتبرها في جميع العقد المركب من الإيجاب و القبول، فمع كون الإيجاب فارسيّا لا يكون العقد عربيّا، بل يصدق عليه العقد بالفارسي في الجملة. فالقائل باعتبار العربية يحكم بفساد العقد المزبور من جهة عدم العربية، و القائل بوجوب تأخير القبول عن الإيجاب يحكم بفساده من جهة تقدّم القبول، فلا يوجد قائل بسببيّة هذا العقد للنقل.

و مثال ما إذا وجد قائل بسببيته هو: أن يكون القائل باعتبار العربية موجبا، فأوجب بالعربية، و قبل الآخر بالفارسية، فإنّه يوجد قائل بسببيّة هذا العقد، لأنّ من لا يعتبر العربية يقول بسببيته، مع فرض تقدّم إيجابه على قبوله.

(1) بمعنى الإكتفاء بما يقتضيه مذهبه بالنسبة إلى خصوص ما يصدر منه، و أمّا بالنسبة إلى الصادر من الآخر فيعمل بما يقتضيه مذهبه، لا مذهب نفسه، فإذا اختلفا في اعتبار العربية، و كان القائل باعتبارها موجبا كفى صدور الإيجاب منه بالعربية، و إن كان القبول بالفارسية. فلا يلزم أن يقع القبول بالعربي أيضا، بل يكتفي في القبول بمذهب القابل، فيكون كلّ من الإيجاب و القبول صحيحا بمذهب منشئه فقط، فاجتهاد كلّ واحد منهما أو تقليده حجة على الآخر، و إلّا فحجية اجتهاد كلّ منهما في تمام العقد تقتضي فساده.

ص: 617

لا قائل بجواز تقديم القبول على الإيجاب، و جواز (1) العقد بالفارسي.

أردؤها أخيرها (2).

و الأوّلان (3) مبنيّان على أنّ الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها بمنزلة (4) الواقعية الاضطرارية (5)،

______________________________

(1) الواو للمعيّة، و مقصوده التمثيل للوجه الثالث، و قد عرفته آنفا.

(2) لأردئيّة وجهه و هو العلم الإجمالي ببطلان هذا العقد القائل بفساده كلّ واحد من المتعاقدين، و من المعلوم عدم جواز ترتيب آثار الصحة على عقد لم يقل أحد بصحّته.

وجه الأردئية: أنّ المرجع في العقد مجتهدان، أحدهما يفتي بجواز العقد الفارسي، و الآخر بجواز تقديم القبول على الإيجاب، فموضوع فتوى أحدهما مغاير لموضوع فتوى الآخر. نظير ما قيل في العبادات من صحّة صلاة واجدة لتسبيحة واحدة و فاقدة للسورة، استنادا إلى فتوى من يكتفي بتسبيحة واحدة و من يفتي بعدم جزئية السورة، فإنّ هذه الصلاة باطلة برأي كلّ منهما. لكن كلّ واحد منهما مرجع في جزء من الصلاة، لا في مجموعها حتى يقال: إنّ كلّ واحد منهما قائل ببطلانها.

(3) و هما الصحة مطلقا و الفساد كذلك.

(4) خبر قوله: «أن الأحكام» أي: هل تكون بمنزلة .. إلخ.

(5) المراد بها هي السببيّة، يعني: أنّ مبنى الصحة و الفساد هو الخلاف في كون الأمارات حجة على الموضوعية أو على الطريقيّة. و على الأوّل يكون قيام الأمارة على شي ء موجبا لحدوث مصلحة في المؤدّى موجبة لتشريع الحكم على طبقها و إن كان مخالفا للحكم الواقعي الأوّلي، فتكون الأمارة من العناوين الثانوية المغيّرة لأحكام العناوين الأوّلية.

و على الثاني- و هو الطريقية- تكون مؤدّياتها أحكاما عذريّة.

فعلى الموضوعية يصحّ العقد، و على الطريقية لا يصحّ.

ص: 618

فالإيجاب (1) بالفارسية من المجتهد القائل بصحّته- عند من يراه باطلا- بمنزلة (2) إشارة الأخرس، و إيجاب العاجز عن العربية، و كصلاة (3) المتيمّم بالنسبة إلى واجد الماء؟ أم (4) هي أحكام عذريّة (5) لا يعذر فيها إلّا من اجتهد أو قلّد فيها (6).

و المسألة محرّرة في الأصول.

هذا (7) كلّه إذا كان بطلان العقد.

______________________________

(1) هذا متفرّع على سببيّة الأمارات، لأنّ صحّة الإيجاب الفارسي عند القائل بصحّته حكم واقعي ثانوي، فيكون صحيحا عند القائل باعتبار العربية، لكون الإيجاب الفارسيّ عند من يعتبر العربية بمنزلة إشارة الأخرس، إذ لا شبهة في كون إشارة الأخرس إيجابا أو قبولا صحيحا عند من يرى اعتبار العربية مثلا كصحة ايتمام المتوضّي بالمتيمّم.

(2) خبر قوله: «فالإيجاب».

(3) فإنّ صحة صلاة المتيمّم حكم واقعي ثانوي، و صحة صلاة المتوضّي حكم واقعي أوّلي.

(4) معطوف على «الأحكام المجتهد فيها».

(5) هذا هو الطريقية، فمؤدّيات الأمارات حينئذ أحكام عذرية مختصة بمن اجتهد أو قلّد فيها، إذ يمكن أن يكون الحكم العذري موضوعا للأثر بالنسبة إلى الغير، مثل ما دلّ على «أنّ لكلّ قوم نكاحا» حيث إنّ نكاح كل قوم حكم عذري، لا يجوز للغير تزويجها لنفسه أو لغيره.

(6) يعني: فيختصّ الإجزاء بذلك المجتهد و مقلّده، دون غيره، فلا ينفذ بالإضافة إلى شخص آخر.

(7) أي: ابتناء المسألة على السببية و الطريقية. و غرضه الإشارة إلى تفصيل بين الشروط. و محصّله: أنّ ابتناء المسألة على كون الأحكام الظاهرية أحكاما اضطرارية أو عذريّة إنّما يكون في غير الشروط الثلاثة من الصّراحة و العربية

ص: 619

عند كلّ (1) من المتخالفين مستندا إلى فعل الآخر كالصراحة و العربية و الماضويّة و الترتيب (2).

و أمّا الموالاة و التنجيز و بقاء المتعاقدين على صفات صحة الإنشاء إلى آخر العقد، فالظاهر أنّ اختلافها يوجب فساد المجموع (3)، لأنّ بالإخلال بالموالاة أو التنجيز أو البقاء على صفات صحة الإنشاء يفسد عبارة من يراها شروطا، فإنّ الموجب إذا علّق مثلا أو لم يبق على صفة صحة الإنشاء إلى زمان القبول باعتقاد (4) مشروعية ذلك (5) لم يجز من القائل ببطلان هذا تعقيب هذا الإيجاب

______________________________

و الماضوية و نحوها ممّا يستند بطلان العقد فيه إلى فعل أحد المتعاقدين. و أمّا الشروط التي توجب فساد العقد عند كليهما كالموالاة و غيرها فلا يبتني بطلان العقد بها على المبنى المزبور من طريقية الأمارات و سببيّتها، بل يبطل مطلقا.

(1) الظاهر أنّ الصحيح أن تكون العبارة هكذا: «عند أحد المتخالفين» بدل «كلّ من المتخالفين».

(2) ليس الترتيب و ما تقدّمه من الشروط الثلاثة مما يوجب فساد العقد عند كلّ من المتعاقدين، إذ القائل بعدم اعتبارها لا يذهب إلى اعتبار عدمها.

(3) أي: فساد مجموع جزئي العقد، و هذا قرينة على لزوم بدليّة «أحد» عن لفظ «كل» في العبارة المتقدمة، لأنّ فساد المجموع عبارة أخرى عن فساده عندهما معا، و هذا الفساد عند كلّ منهما ناش عن فعل الآخر.

(4) متعلق بقوله: «علّق، لم يبق».

(5) أي: الإيجاب التعليقي، أو الإيجاب الذي لم يبق موجبه على صفة صحّة الإنشاء إلى زمان القبول، فإنّ الموجب إذا أنشأ الإيجاب المعلّق أو المنجّز لكن لم يبق على صفة الإنشاء إلى آخر زمان القبول- مع اعتقاد الموجب مشروعية الإيجاب و صحّته في هاتين الصورتين- لم يجز وضعا للقابل الذي يرى بطلان هذا الإيجاب أن ينشئ القبول، لاعتقاده لغويّة الإيجاب و كونه كالعدم، و مع هذا الاعتقاد يصير

ص: 620

بالقبول. و كذا (1) القابل إذا لم يقبل إلّا بعد فوات الموالاة بزعم صحة ذلك، فإنّه يجب على الموجب إعادة إيجابه إذا اعتقد اعتبار الموالاة، فتأمّل (2).

______________________________

القبول أيضا لغوا، فلا يتم العقد الذي هو موضوع الأثر.

(1) المفروض في مثال الموالاة اعتقاد الموجب باعتبارها، و اعتقاد القابل بعدمها، فإنّه إذا تخلّل الفصل بين الإيجاب و القبول لم يجز للموجب ترتيب الأثر على هذا العقد، لعدم تحقق عنوان المعاهدة بنظره.

(2) لعلّه إشارة إلى المناقشات التي ذكرناها في التعليقة في قسم الشروط فراجعها [1].

______________________________

[1] تنقيح البحث في هذا الفرع منوط ببيان الوجوه و الاحتمالات المتصورة في اختلافهما في الشروط، فنقول و به نستعين: إنّ الشرط المختلف فيه تارة يكون عرفيّا بمعنى اختلافهما في كونه دخيلا في مفهوم العقد عرفا كالقصد إلى مدلول العقد، و الموالاة و التنجيز بناء على كونهما من الشرائط المقوّمة لمفهوم العقد العرفي، بأن يكون القائل باعتبارهما مدّعيا لتقوّم العقد العرفي بهما، و القائل بعدم اعتبارهما منكرا لذلك. و أخرى يكون شرعيّا.

و على الأوّل قد يكون دليل الشرط المختلف فيه لبّيّا، و قد يكون لفظيّا.

و ثالثة قد يكون العقد الفاقد للشرط المختلف فيه فاسدا عند الكل، كما إذا فرضنا عدم القائل بسببية العقد المركّب من الإيجاب العربي المتأخر، و القبول الفارسي المتقدّم. و قد يكون صحيحا بنظر أحدهما دون الآخر كالعقد الملتئم من الإيجاب العربي المتقدم، و القبول الفارسي المتأخّر، فإنّه صحيح عند القائل منهما بعدم اعتبار العربية.

و رابعة قد يكون بطلان رأي الطرف معلوما للطرف الآخر، و قد يكون مظنونا له بالظن الاجتهادي. فإن كان بطلان العربية مثلا معلوما للطرف الآخر صحّ العقد،

ص: 621

______________________________

و إن كان مظنونا بطل.

و خامسة قد يكون المستند في نفي شرطيّة ما رآه أحد المتعاقدين شرطا أمارة، و قد يكون المستند فيه أصلا.

و سادسة: أنّ اختلاف المتعاقدين قد يكون موجبا لفساد الجزئين كالتعليق، فإنّ قبول الإيجاب المعلّق قبول تعليقي، و كالترتيب القائم بكلا الجزئين. فصور المسألة كثيرة.

الأولى: ما إذا كان الاختلاف في الشرط العرفي كالتنجيز و الموالاة. و حكمها الرجوع إلى العرف في أنّه هل يصدق عليه مفهوم العقد عرفا أم لا. فعلى تقدير الصدق يكون صحيحا، لأنّه عقد عرفي يشمله مثل أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و على فرض عدم الصدق أو الشّك فيه لا وجه للصحة، لعدم شمول دليل الصحة له، إمّا للقطع بعدم موضوعه، أو الشّك فيه، و مقتضى أصالة الفساد عدم الصحة.

الثانية: ما إذا كان دليل الشرط لبّيّا كالإجماع، فإنّ المتيقن من الإجماع هو غير صورة الاختلاف الناشئ عن الاجتهاد كاعتبار العربية، فإنّ الوجه فيه- كما قيل- هو الإجماع، فيقتصر على المتيقن المزبور، و يرجع في صورة الاختلاف إلى عموم دليل وجوب الوفاء بالعقد، فيحكم بصحّته.

و مثل الدليل اللّبّي الدليل اللّفظي المجمل، فإنّ المتيقن منه هو غير صورة اختلاف المتعاقدين اجتهادا أو تقليدا. نعم إذا كان للدليل إطلاق فيبتني على اعتباره حتى في صورة الاختلاف.

الثالثة: ما إذا كان العقد فاسدا عند الكل، كالعقد المركّب من الإيجاب العربي المتأخّر و القبول الفارسي المتقدّم، و فرضنا عدم قائل بصحته، لأنّ كلّا من القائلين باعتبار العربية و عدمه يقول بفساد هذا العقد. أمّا القائل باعتبار العربيّة فلفقدان العربية. و أمّا القائل بعدم اعتبارها فلفقدان الترتيب، هذا.

ص: 622

______________________________

و نظير ذلك ما ذكره جمع من محشّي العروة من أنّه إذا كان هناك مجتهدان متساويان، و كان أحدهما يرى عدم وجوب السورة، و لا يرى الاجتزاء بمرّة واحدة في التسبيحات الأربع. و الآخر يرى الاكتفاء بها، و لكنّه يرى وجوب السورة، فقلّد العامي كلّا منهما في فتواه فصلّى بغير السورة مقتصرا على المرّة الواحدة في التسبيحات الأربع، فإنّ هذه الصلاة- بعد فرض انحصار المجتهد في الدنيا بهما- باطلة عند الكل.

و لكن فيه: أن مثل هذا الإجماع لا يصلح للاستناد إليه لعدم توارد أقوال المجمعين على عنوان واحد، بل كلّ أفتى بعنوان غير العنوان الذي أفتى به صاحبه، و يخطّئ كلّ من المفتيين صاحبه في الفتوى، فمورد الإجماع عنوان انتزاعي، لأنّه ينتزع عن كل واحدة من الفتويين المتعلّقتين بعنوانين مختلفين كالعربية و الترتيب، فالمرجع هو عموم دليل الصحة بعد وضوح استناد كل من المتعاقدين إلى حجّة.

و المصنف قدّس سرّه جعل الفساد في هذا العقد- الذي لا قائل بصحّته- أردء الوجوه، و لعلّه لما عرفته آنفا.

و كذا الحال في نظيره المتقدّم عن جمع، و أنّ الصحيح ما ذهب إليه السيّد قدّس سرّه في العروة «1»، من أن المقلّد يجتزئ بالصلاة المذكورة، لاستناده- في كلا عملية- إلى حجّة شرعية، و هي فتوى من يقلّده.

و المقام أيضا كذلك، لأنّ كلّا من المتعاقدين مستند إلى حجة شرعية سواء أ كان هناك قائل بصحة العقد المركّب أم لا.

و أمّا إذا كان العقد صحيحا بنظر أحدهما دون الآخر كالعقد الملتئم من الإيجاب العربي المتقدم و القبول الفارسي المتأخر- حيث إنّه صحيح عند القابل المنكر لاعتبار العربية، و فاسد عند الموجب القائل باعتبارها- فابتنى المصنف قدّس سرّه صحّة العقد و فساده على كون الأحكام الظاهرية أعذارا صرفة أو أحكاما واقعية ثانوية اضطرارية، كإشارة

______________________________

(1): العروة الوثقى، ج 1، ص 24، المسألة: 65 من مسائل التقليد.

ص: 623

______________________________

الأخرس، و العاجز عن العربية، و تيمّم المعذور عن الطهارة المائية.

فعلى الأوّل يختص الحكم الظاهري بمن قامت عنده الأمارة دون غيره، فيبطل العمل بالنسبة إلى غيره الذي لا يقول بالصحة. فمن لا يعتبر العربية- و لذا ينشئ الإيجاب بالفارسية- لا يترتب عليه أثر عند القابل الذي يعتبر العربية، و لا يجوز له أن يجتزئ بالإيجاب الفارسي، فيكون العقد فاسدا.

و على الثاني لا يختصّ به، بل يكون نافذا في حق غير من قامت عنده الأمارة أيضا، فإجتهاد كل مجتهد نافذ بالنسبة إلى مجتهد آخر أيضا. و عليه فيصح العقد المؤلّف من الإيجاب الفارسي و القبول العربي، لنفوذ الاجتهاد المؤدّي إلى عدم اعتبار العربية بالنسبة إلى من لم يؤدّ اجتهاده إلى اعتبارها.

و بالجملة: فبناء على الموضوعية في الأمارات يصح العقد المزبور، و بناء على الطريقية لا يصح، هذا.

و لكن فيه: أنّ مجرّد البناء على السببية و الطريقيّة لا يوجب صحّة العقد في الأوّل و فساده في الثاني، بل لا بدّ من ملاحظة دليل الاعتبار. فإن كان مقتضاه عموم تنزيل مؤدّيات الأمارات منزلة الأحكام الواقعية لغير من قامت عنده الأمارة، أو عموم العذر كذلك اقتضى ذلك صحّة العقد. و إن لم يكن لدليل الأمارة عموم أو إطلاق اختصّ الحكم أو العذر بمن قامت عنده الأمارة، فلا يصحّ العقد المزبور مطلقا و إن قلنا بسببية الأمارات لا طريقيتها.

و الحاصل: أنّ مجرّد السببيّة لا يستلزم صحة العقد- الملتئم من الإيجاب الفارسي و القبول العربي- عند القابل القائل باعتبار العربية في العقد. و كذا لا يستلزم مجرّد الطريقية فساد العقد المذكور.

فالحقّ أن يقال: إنّ دليل اعتبار الأمارة إن أحرز عمومه لغير من قامت لديه فلا إشكال في الإجزاء كإمامة المتيمّم للمتوضئ مثلا و إن أحرز عدم عمومه له

ص: 624

______________________________

فلا ينبغي الإشكال في عدم الاجتزاء. و إن كان مجملا فمقتضى الأصل عدم الاكتفاء، إذ المتيقن اختصاص مؤدّى الأمارة على كلّ من السببية و الطريقية بمن قامت عنده.

و عليه فمقتضى أصالة الفساد فساد العقد المزبور، إلّا إذا قام دليل خاص على جواز اجتزاء غير من قامت عنده الأمارة به، كصحة ايتمام المتطهّر المائي بالمتطهّر الترابي، للنصوص الدالة على ذلك، كموثق ابن بكير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أجنب ثم تيمّم فأمّنا و نحن طهور؟ فقال: لا بأس به» «1» و قريب منه غيره.

و كحرمة تزويج المعقودة بالفارسي على من يرى فساد العقد بالفارسي، لما دلّ على «أنّ لكلّ قوم نكاحا» حيث إنّه يشمل نكاح المؤمن المعتقد لصحّة العقد الفارسي بالأولويّة، بعد أن شمل نكاح أهل الأديان الفاسدة.

مضافا إلى: صدق ذات البعل عرفا عليها. و البعد عن مذاق الشارع من أن يجوّز تزويج زوجة الغير بمجرّد اجتهاده، هذا.

الرابعة: التفصيل بين القطع بالخلاف و الظن المعتبر، كما إذا قطع مجتهد بفساد العقد الفارسي، فلا يصح العقد المؤلف من الإيجاب العربي و القبول الفارسي، و يصحّ إن كان ظانّا بفساده.

و قد ذكره السيّد قدّس سرّه في حاشيته على المتن في مسألة تبدل الرأي، حيث قال في صورة العلم بمخالفة الأحكام الاجتهادية للواقع ما لفظه: «لا يجوز ترتيب الأثر، بل يجب النقض لو رتّب، سواء أ كان ذلك بالنسبة إلى نفسه، كما إذا تبدّل رأيه بالانكشاف العلمي، أو بالنسبة إلى غيره ممّن علم خطائه في إصابة الواقع، و هو الذي عنونوه في الأصول هو:

أنّه هل هي أحكام شرعية أو عذرية .. إلخ» «2».

و محصل ما أفاده قدّس سرّه بطوله هو التفصيل بين العلم بالخلاف و الظنّ به، بالإجزاء

______________________________

(1): وسائل الشيعة، ج 5، ص 401، الباب 17 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث: 2

(2) حاشية المكاسب، ص 93

ص: 625

______________________________

و الصحة في الثاني، و العدم في الأوّل. ففي المقام إن كان أحد المتعاقدين عالما باعتبار العربية كان العقد فاسدا، لأنّ القبول الفارسي مقطوع الفساد عنده، فلا ينضمّ إلى الإيجاب العربي. و إن كان ظانّا باعتبارها الموجب للظّن بفساد العقد المزبور كان العقد صحيحا، لأنّ دليل اعتبار الظن متساوي النسبة إلى الظنين.

و الظاهر أنّ مقصوده قدّس سرّه عدم كون الاجتهاد الثاني هادما للاجتهاد الأوّل بحيث يجب تدارك الأعمال السابقة المأتيّ بها على طبقه، لأنّ كلّا من الاجتهادين ظنّي، و دليل اعتبار الظن متساوي النسبة إليهما، فالظن الثاني لا يهدم الأوّل رأسا، بل يهدمه بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة.

و قوله قدّس سرّه: «و كذا لو كان رأيه عدم وجوب السورة .. إلى قوله: لأنّه كان مطابقا للظن الذي هو حجة في ذلك الزمان كهذا الظن اللّاحق» كالصريح في صحة العمل السابق، لكونه مطابقا للظن الذي كان حجة في ذلك الزمان. فعلى تقدير مخالفة العمل السابق للواقع لا تجب إعادته لموافقته للطريق المعتبرة في ظرف الإتيان به.

و غرضه قدّس سرّه من قوله: «لأنّ دليل حجية الظن متساوي النسبة إلى الظنين» هو ظنّ المجتهدين، كما إذا ظنّ أحدهما اجتهادا بجواز العقد الفارسي، و الآخر كذلك بعدمه، فإنّ دليل اعتبار الظن متساوي النسبة إلى الظنين. و أمّا بالنسبة إلى تبدّل الرأي فلا معنى لتساوي الدليل الى الظنين، إذ المفروض زوال الظّن بعدم وجوب السورة، و تبدّل الظن به بوجوبها، فلا ظنّ بعدم وجوبها بعد تبدّله.

و الحاصل: أن دعوى حجية الظن السابق و كونه عذرا بالنسبة إلى الأعمال السابقة في محلّها، فإنّها ثابتة بالسيرة الجارية على عدم قضاء الأعمال السابقة الواقعة على طبق الآراء المعدول عنها، أو الفتاوى التي مات المفتون بها. بل لا يخطر ببال أحد احتمال وجوب القضاء بعد العدول عن الرأي، أو بعد موت المجتهد، و الرجوع الى الحي. فبهذا التسالم العملي المسمّى بالسيرة يثبت اعتبار الظّن الاجتهادي ما دام موجودا، كدوران كل

ص: 626

______________________________

حكم مدار وجود موضوعه.

نعم بعد زوال الاجتهاد الأوّل يجب تطبيق العمل على الاجتهاد الثاني، إذ لا موضوع لدليل الاجتهاد الأوّل.

فما أفاده بعض أجلّة العصر من قوله: «و فيه أنّ الطرق الاجتهادية الظنيّة إذا قامت على خلاف اجتهاده الأوّل أو اجتهاد مجتهد آخر يكشف منها فعلا بطلان الاجتهاد السابق و خطاؤه. و مع قيام الأمارة المعتبرة على بطلانه أو بطلان كل اجتهاد يخالفه لا يكون دليل الحجية متساوي النسبة إليهما، بل يختص الاجتهاد الفعلي بالحجيّة دون غيره، فلو دلّ دليل على طهارة الغسالة، و كان في طريقه ضعف، و كان مقتضى اجتهاده الأوّل وثاقة الراوي، ثم تبدّل رأيه إلى عدم الوثاقة، فلا شبهة في هدم اجتهاده الثاني الأوّل، لقيام الطريق الفعلي على بطلانه. و لا وجه لانطباق دليل حجية الظن عليه».

لا يخلو من غموض، لأنّ في قوله: «يكشف منها فعلا بطلان الاجتهاد السابق ..

إلخ» أنّ المراد بالبطلان إن كان مطلقا حتّى فيما مضى، ففيه: ما عرفت من قيام السيرة على خلافه. و إن كان بالإضافة إلى خصوص الأعمال اللاحقة فهو صحيح. لكن السّيد صاحب العروة لم يذكر هذا، بل قوله: «كهذا الظن اللّاحق» كالصريح في الاعتراف بحجية الاجتهاد الثاني في الزمان اللّاحق.

فقول السيّد قدّس سرّه: «لأنّ دليل حجية ظن المجتهد متساوي النسبة إلى الظّنين» ناظر إلى كل واحد من الظّنين الحاصلين لكلّ من المجتهدين، لأنّ الظنين الموجودين فعلا هما موجودان لهما، حيث إنّ أحدهما ظانّ بصحة العقد الفارسي، و الآخر ظانّ بفساده.

و لا مانع من حجية كلّ واحد من الظنين في حق صاحبه. و مقتضاه و إن كان جواز تزويج المرأة المعقودة بالعقد الفارسي لمن يرى بطلان العقد الفارسي، و عدم حصول النكاح بذلك، إلّا أنّ الدليل الخاص كقولهم: «لكل قوم نكاح» أو وجوب الاحتياط في الفروج أو «صدق ذات البعل عرفا عليها» يقتضي عدم الجواز.

ص: 627

______________________________

و بالجملة: فلا مانع من انطباق دليل اعتبار الظن على كلا الظنين الحاصلين للمجتهدين، غاية الأمر أنّ لزوم ترتيب الأثر على كل واحد منهما بالنسبة إلى ظنّ الآخر منوط بالدليل، و قد قام في موارد تقدّمت الإشارة إلى بعضها.

فالمتحصل: أنه مع العلم بشرطيّة أو مانعية شي ء للعقد لا يكون ظنّ غيره على خلافه حجّة عليه. إلّا فيما قام الدليل على وجوب اتّباع ظنّ الغير و ترتيب الأثر عليه كموارد النكاح، لأنّ لكلّ قوم نكاحا. و مع الظن بالشرطيّة أو المانعية يجب ترتيب الأثر عليه، فلو ظنّ عدم شرطية العربية في العقد لم يجز لمن يظنّ اعتبارها تزويج المرأة المعقودة بالفارسيّة كما تقدّم.

و يمكن أن يصحّح العقد بأن يقال: إنّ الفتويين المتعارضتين في شروط العقد تسقطان عن الاعتبار، و يرجع إلى عموم دليل نفوذ العقود، بعد وضوح صدق العقد العرفي عليه.

الخامسة: التفصيل في نفي الشرطية بين كون مستنده الأصول العمليّة كأصالتي الحلّ و الطهارة و كحديث الرفع، و بين كونه الأمارات العقلائية أو الشرعية، بالصحّة في الأوّل، و البطلان في الثاني.

توضيحه: أنّ مفاد الأصول بالنسبة إلى الشّاك كالحكم الواقعي في ترتيب الآثار، فالإيجاب الفارسي من الشّاك في اعتبار العربية استنادا إلى حديث الرفع في نفي اعتبارها إيجاب واقعي عند الشارع، فبضمّ القبول إليه يتمّ ركنا المعاملة التي هي متقوّمة بإيجاب صحيح واقعي، و قبول كذلك، و المفروض تحققهما. و لا معنى لبطلان ما هو وظيفة الشّاك الّذي يرجع إلى الأصول العملية، إذ لا واقع له حتى يكون خلافه باطلا، فلا محالة يكون مقتضى الأصل العملي صحيحا أي مقرّرا شرعيّا للشّاكّ. فإذا كان الإيجاب الفارسي من الشّاك صحيحا، فلا ينبغي الشّك في تمامية المعاملة حينئذ بانضمام القبول العربي إليه.

ص: 628

______________________________

و هذا بخلاف ما إذا كان مستند عدم الشرطية الأمارة كإطلاق دليل نفوذ العقود، بتقريب: أنّ إطلاقه ينفي كلّ شكّ في شرط أو مانع، فيفتي لأجل ذلك بعدم اعتبار العربية مثلا. و المجتهد الآخر يرى عدم الإطلاق، و أنّ استفادة إطلاق هذا الدليل خطأ و مخالف للواقع، فيعتقد بطلان الإيجاب الفارسي، و مع هذا الاعتقاد كيف ينضمّ القبول العربي إليه حتّى يتمّ ركنا العقد.

و بالجملة: يكون نفي الشرطية و المانعية بالأصول العملية في المعاملات كنفيهما بها في العبادات، و لذا يصح الاقتداء بمن يكون اجتهاده مخالفا لاجتهاد إمامه في مانعية شي ء، مع استناد الإمام في عدم المانعية إلى حديث الرفع الحاكم على أدلّة اعتبار الشرائط و الموانع. فصلاة الإمام عند المأموم صحيحة واقعا، لأنّ الشّاك في المانعية وظيفته نفي المانعية بحديث الرفع.

فما أفاده الفقيه الطباطبائي في العروة في بطلان العقد من قوله: «لأنّه- أي البيع- متقوم بطرفين» «1» لا يخلو إطلاقه من غموض، لما عرفت من أنّ البطلان إنّما يتمّ إذا كان المستند في نفي الشرطية إطلاق الدليل الاجتهادي، لأنّ المثبت للشرطية يخطّئه. و أمّا إذا كان مستنده مثل حديث الرفع فلا وجه للبطلان كما لا يخفى.

السادسة: ما أفاده المصنف قدّس سرّه من التفصيل بين الشروط التي يسري فسادها إلى إنشاء الآخر، بحيث يبطل مجموع الإيجاب و القبول، كالموالاة و التنجيز و بقاء المتعاقدين على صفات صحّة الإنشاء إلى آخر العقد، و بين الشروط التي لا يسري فسادها إلى إنشاء الآخر كالصراحة و العربية و نحوهما، ببطلان العقد في الأوّل و صحته في الثاني، فلا يجدي في الصحة كون الأحكام الظاهرية أعذارا، أو بمنزلة الواقعية الاضطرارية الّتي بنى المصنف قدّس سرّه صحة العقد و فساده عليها، بل العقد باطل على كلا التقديرين، لعدم تحقق العقد العرفي مع اختلال أحد الشروط المزبورة كالموالاة

______________________________

(1): العروة الوثقى، ج 1، ص 20، المسألة: 55 من مسائل التقليد.

ص: 629

______________________________

و التنجيز و بقاء أهلية المتعاقدين إلى آخر العقد، هذا.

و لا يخفى أن هذا التفصيل بحسب الكبرى صحيح، لكن الإشكال كلّه في الصغريات، فإنّ عدّ التنجيز من الشروط المقوّمة لمفهوم العقد عرفا ممنوع، لما مرّ سابقا من عدم الدليل على اعتبار التنجيز، لا في حقيقة العقد، و لا في صحّته و تأثيره.

أمّا الأوّل فواضح، لما عرفت من صحة الإنشاء المعلّق عرفا، و عدم توقف صدق العقد على التنجيز.

و أمّا الثاني فلأنّ الموجب إن كان قائلا باعتباره و أنشأ الإيجاب منجّزا بقوله:

«بعتك هذا الكتاب بدينار» و قال القابل: «إن طلعت الشمس قبلت» فلا يسري التعليق إلى الإيجاب، لأنّ الإيجاب الذي هو فعل الموجب دون القابل قد وجد متشخّصا، و بعد وجوده يمتنع تعليق وجوده على شي ء، نظير تعليق الضرب الواقع على شخص بأن يكون ذلك واقعا إن كان المضروب يهوديّا دون ما إذا كان مسلما، فإنّ هذا التعليق في غاية البشاعة، فلا يكون العقد من هذه الجهة فاسدا.

و توهّم فساده لأجل عدم التطابق بين الإيجاب و القبول فاسد، لعدم دليل على اعتبار هذا المقدار من التطابق بين الإنشائين، فيصح العقد مطلقا، أمّا مع طلوع الشمس فلتحقّق الشرط و فعليّته. و أمّا بدونه فلما مرّ أيضا من أنّ الموجب- الذي هو موجد البيع- لا يملك التمليك الحالي، إذ الحال ظرف للإيجاب و إنشائه، فالمنشأ نفس التمليك، و بضمّ القبول إليه يتمّ السبب سواء لحق به في الحال أو الاستقبال.

و إن كان القابل قائلا باعتبار التنجيز و الموجب قائلا بعدم اعتباره فأنشأ الموجب معلّقا، و قال: «بعتك هذا الكتاب بدينار إن طلعت الشمس» فقبل القابل و قال: «قبلت» صحّ العقد أيضا، لعدم كون القبول معلّقا، و إنّما هو قبول إيجاب معلّق. ففرق واضح بين تعليق القبول على شي ء، بأن يقول: «قبلت إن جاء زيد» و بين قوله عقيب:- بعتك إن جاء زيد-: «قبلت هذا الإيجاب المعلّق» إذ القبول في الأوّل معلّق دون الثاني، لكونه قبولا

ص: 630

______________________________

منجّزا لهذا المعلّق.

فالمتحصل: أنّ التنجيز ليس ممّا يوجب انتفاؤه فساد مجموع العقد، فلا ينبغي عده ممّا يسري فساده إلى جزئي العقد، كما لا يخفى.

و أمّا الموالاة فإن كان معتبرها هو القابل فلا يصحّ إنشاء القبول مع الفصل المخلّ بالموالاة، فمع الفصل كذلك لا ينضمّ القبول إلى الإيجاب، و يسري فساد القبول المتأخر كذلك إلى الإيجاب، فيفسد كلا جزئي العقد.

و إن كان القائل باعتبارها هو الموجب، فأوجب، و لم يقبل المشتري إلّا مع الفصل المفوّت للموالاة، فسد الإيجاب بنظر الموجب، لأنّه يرى سقوط الإيجاب عن صلوحه لضمّ القبول إليه، فقبل تحقق القبول خرج إيجابه عن الصحة التأهّليّة بنظر الموجب.

و كذا الكلام في بقاء الأهلية، فإن اعتبره الموجب خرج إيجابه- المتعقب بالحجر- عن الصحّة التأهّلية، فلا ينضم إليه القبول في نظره. و إن اعتبره القابل كان الإيجاب المتعقب بالحجر كلا إيجاب، فلا ينضمّ إليه القبول.

فالمتحصل: أنّ العقد الفاقد للأهلية و الموالاة فاسد بكلا جزئية، بخلاف الفاقد للعربية و الماضوية و الصراحة. هذا على مذاق المصنف قدّس سرّه. و قد تقدم الإشكال في اعتبار الموالاة و بقاء الأهلية إلى آخر العقد، فيسقط ما فرّعوه عليهما، فلاحظ و تدبّر.

و أمّا الترتيب فقد جعله المصنف أيضا مما لا يسري فساده إلى الجزء الآخر كالصراحة و العربية. لكن أورد عليه في تقرير سيدنا الخويي: «بأنّه مثل الموالاة و التنجيز ممّا يسري فساده إلى الجزء الآخر، نظرا إلى أنّ التقدم و التأخر متضايفان، فإذا تقدّم القبول على الإيجاب فقد تأخّر الإيجاب عن القبول، فيسري فساد القبول المتقدّم إلى الإيجاب المتأخر» «1» هذا.

______________________________

(1): مصباح الفقاهة، ج 3، ص 81

ص: 631

______________________________

و فيه: أنّه لا يعتبر عنده قدّس سرّه تقدم الإيجاب و تأخر القبول من حيث التقدّم و التأخر، بل قادحية تقدم القبول إنّما هي لأجل عدم تضمّنه للنقل في الحال، و من المعلوم عدم سراية هذه الخصوصية إلى الإيجاب، لأنّه متضمّن للنقل في الحال مطلقا تقدّم أو تأخّر.

نعم بناء على كون تقدم الإيجاب على القبول لأجل الاقتصار على ما هو المتداول في العقود، فيكون الإيجاب المتأخر فاقدا للصفة المعتبرة فيه، و هي التداول الذي يجب الاقتصار عليه.

لكن هذا الوجه مبنى على انصراف العقود إلى خصوص المتداولة و المتعارفة و قد تقدم منعه، و أنّ الحق خلافه. كما أنّ مقتضى التحقيق عدم تضمن الإيجاب و كذا القبول للتمليك و التملك في الحال، بل الحال ظرف لهما. و انصراف العقود إلى المتعارفة قد عرفت سابقا ما فيها، مع الغضّ عن كون كلّ من تقدم الإيجاب و القبول على الآخر متداولا عند العرف.

تتمة فيها مطلبان:

الأوّل: أنّ السيد قدّس سرّه ذكر في حاشيته وجها لفساد العقد مع اختلاف المتعاقدين في الشروط. و محصّل ذلك الوجه: أن العقد متقوّم بطرفين، و يجب على كلّ من المتبايعين إيجاد عقد البيع، و هو عبارة عن الإيجاب و القبول، فلا يجوز لواحد منهما الأكل إلّا بعد ذلك، فمع اعتقاد أحدهما ببطلانه- و لو لأجل بطلان أحد جزئية- لا يجوز له ترتيب الأثر. و إنّما يتم ما ذكره المصنف قدّس سرّه لو كان المؤثر في حق البائع في جواز الأكل الإيجاب الصحيح، و بالنسبة إلى المشتري القبول الصحيح. و ليس كذلك، إذ المؤثر المجموع، و هو فعل كل واحد منهما.

و بعبارة أخرى: ليس جواز القبول معلّقا على وجود إيجاب صحيح من الغير حتى يقال: إنّ المفروض أنّه محكوم بالصحة عند الموجب، بل البيع فعل واحد تشريكي. و لا بدّ من كونه صحيحا في مذهب كلّ منهما ليمكن ترتيب الأثر عليه، و هذا

ص: 632

______________________________

بخلاف مسألة النكاح، فإنّ الفعل للأوّل، و الثاني مرتّب عليه أثره «1».

و حاصل كلامه- بعد أن قال: إنّ ترتب الأثر على ظن المجتهد الآخر إنّما يجوز فيما إذا كان فعله قائما مقام فعله موضوعا للأثر بالنسبة إليه كالنكاح و غيره، دون ما كان فعله قائما مقام فعله، كاستيجار الوليّ للقضاء عن الميّت من يعتقد بطلان صلاته، فإنّ فعل الأجير فعل المستأجر- هو: أن ما نحن فيه أعني اختلاف المتعاقدين في الشروط من هذا القبيل، لتقوّمه بطرفين. فلا بدّ أن يكون صحيحا في مذهب كلّ منهما، لما أفاده في تقليد العروة، فالبيع فعل واحد صادر منهما، فلا بد من كونه صحيحا عندهما معا، هذا.

و فيه أوّلا: أنّ فعل الأجير ليس فعل المستأجر، لأنّه نائب عن الميّت لا عن المستأجر، و لذا قال في العروة بوجوب عمل الأجير على مقتضى تكليف الميّت اجتهادا أو تقليدا.

و ثانيا:- بعد الغضّ عن ذلك- أنّ تنزيل المقام منزلة فعل الأجير غير وجيه، إذ لا يعقل أن يكون فعل كلّ من المتعاقدين فعل الآخر، ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون الإيجاب قبولا و القبول إيجابا، إذ الإيجاب فعل الموجب، و القبول فعل القابل كما هو ظاهر قوله قدّس سرّه في الحاشية: «و يجب على كل من المتبايعين إيجاد عقد البيع، و هو عبارة عن الإيجاب و القبول» الى آخر ما تقدّم، حيث إنّ ظاهره أنّ العقد- الذي هو الإيجاب و القبول- يوجده كل من المتعاقدين. مع أنّه لا يعقل أن يكون العقد بهذا المعنى فعلا لكلّ واحد منهما، بل كلّ منهما يوجد جزءا من العقد الذي هو موضوع الأثر، و إن كان اعتبار القبول اعتبار الإمضاء و التنفيذ لما أوجبه الموجب كما تقدم سابقا.

و الحاصل: أنّ كون البيع فعلا واحدا تشريكيّا غير وجيه، كيف؟ و الإيجاب و القبول عرضان لمحلّين، و يمتنع اتّحادهما وجودا، و لذا ينطبق على العرضين لمحلّين ضابط التركيب، لا التقييد.

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ج 1، ص 93

ص: 633

______________________________

فاللازم حينئذ أن يكون كل واحد من الإيجاب و القبول مطابقا للحجّة عند موجده، فالإيجاب الصحيح عند الموجب و كذا القبول المقبول عند القابل كاف في صحة العقد و ترتّب الأثر عليه. نظير الصلاة الفاقدة للسورة استنادا الى فتوى من لا يرى جزئيّتها، و المشتملة على المرة الواحدة في التسبيحات الأربع، اعتمادا على فتوى من يكتفي بالواحدة، فإنّ هذه الصلاة صحيحة، لأنّ كلّا من فقدانها للسّورة و للثلاث من التسبيحات ممّا يستند إلى الحجة، فإنّ مجموع الصلاة لم يقع عن تقليد أحد المجتهدين حتى يقال: إنّه لم يقل أحد منهم بصحتها، بل وقع بعضها عن تقليد واحد، و بعضها الآخر عن تقليد آخر.

فإذا كانت الصلاة التي هي أهمّ الارتباطيّات كذلك كانت البيع و نحوه من العقود- التي هي من المركبات الارتباطيّة- أولى.

فالتحقيق أن يقال: إن المرجع في المقام هو عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود. توضيحه: أنّ الشّك في اعتبار صحة مجموع الإيجاب و القبول عند كلّ منهما يرجع إلى الشّك في شرطيّة ذلك شرعا، بعد صدق العقد العرفي على العقد المركّب من الإيجاب العربي و القبول الفارسي مثلا. و المرجع حينئذ هو العموم المزبور، و مع هذا الوجه الواضح لا حاجة إلى جعل مبنى المسألة كون الأحكام الظاهرية اضطرارية أو عذريّة، فلاحظ و تدبّر، و اللّه العالم.

المطلب الثاني: أنّه قد أورد المحقق الخراساني على ما أفاده المصنف قدّس سرّهما- من الصحة بناء على كون الأحكام الاجتهادية واقعية اضطرارية- بما حاصله: أنّ مجرد ذلك لا يجدي في الصحة إلّا إذا ثبت كونها اضطراريّة بالنسبة إلى الغير الذي له مساس بالعقد، و إلّا فمجرّد كونه حكما حقيقيا في حقّ نفس الموجب أو القابل لا يجدي في الصحة.

و الحاصل: أنّه لا بد من تقييد إطلاق الصحة- على القول بكون الأحكام الظاهرية

ص: 634

______________________________

بمنزلة الاضطرارية- بما إذا كانت كذلك حتى في حق الغير، هذا «1».

و قد ناقش فيه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بما محصله: أن الاشكال مبني على كون الملكية من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، إذ بناء على حجية الأمارة على الموضوعية يتجه البحث عن إطلاق التعبد بالآثار و تقييده بخصوص من قامت عنده، فإذا كانت الملكية متوقفة واقعا على العقد بالعربية و أنشأ الموجب بالفارسي و هو يرى صحته، فتصرفه و إن كان في مال الغير حقيقة، لكنه جائز حقيقة، لحدوث مصلحة في التعبد بالأمارة- كإطلاق وجوب الوفاء بالعقود- غالبة على مفسدة التصرف في مال الغير، و التعبد بالملكية تعبد بآثارها، و حينئذ يمكن الإطلاق و التقييد. فبناء على الإطلاق يجوز للمعتقد جميع التصرفات المترتبة على الملك، و لا يجوز لغيره التصرف فيه بدون رضاه، و إن لم يعتقد سببية ما يراه المعتقد سببا. و بناء على التقييد يجوز لخصوص المعتقد التصرف فيه، و لا يحرم على الطرف الآخر- الذي لا يرى سببية الإنشاء بالفارسي- التصرف فيه بدون رضا الموجب.

و أما بناء على ما هو الحق من كون الملكية من الاعتبارات الوضعية يشكل ما أفاده المحقق الخراساني قدّس سرّه، إذ كما تكون الملكية مجعولة شرعا فكذا سببها مجعول أيضا، فالعقد الفارسي الذي قامت الحجة على سببيته شرعا يصير ذا مصلحة مقتضية لاعتبار الملكية شرعا، فهو سبب تام في التأثير يقتضي ترتيب الملك عليه و لو في حق الطرف الآخر الذي لا يرى سببية الإنشاء الفارسي.

و هذا بخلاف الأحكام التكليفية، فإنّ مجرد قيام الأمارة على خلاف الواقع لا يوجب بدلية مصلحة المؤدى عن مصلحة الواقع، و لذا يجب التدارك، هذا «2».

أقول: الظاهر ورود الاشكال على المحقق الخراساني قدّس سرّه القائل بأن الملكية

______________________________

(1): حاشية المكاسب، ص 29

(2) حاشية المكاسب، ج 1، ص 74

ص: 635

______________________________

اعتبار شرعي وضعي كما صرّح به في بحث الأحكام الوضعية من الكفاية و حاشية الرسائل. الا أنه يبقى سؤال الفرق بين التكليف و الوضع، فإنّ لسان التعبد بالأمارة سواء على الطريقية أو الموضوعية هو وجوب تصديق العادل مثلا، فلو كان مدلوله حدوث مصلحة بقيامها يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع لزم التعبد بها سواء أ كان المضمون إنشاء المعاملة بالفارسي أم وجوب صلاة الجمعة، و لم يظهر وجه التفصيل بين البابين، هذا.

بل لا حاجة الى التدارك، لأنّه على السببية يكون من تبدل الموضوع كصيرورة المسافر حاضرا، لا من انكشاف الخلاف.

و عليك بملاحظة ما اختاره هذا المحقّق في بحث الإجزاء من حاشية الكفاية، لعلّك تستفيد منه و مما أفاده هنا أمرا آخر.

و كيف كان فالمختار ما ذكرناه في المسألة الثالثة (في ص 622) و اللّه هو الهادي للصواب.

هذا آخر ما أوردناه في هذا الجزء، و سيأتي الكلام إن شاء اللّه تعالى في الجزء الثالث في المقبوض بالعقد الفاسد، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و صلى اللّه على سيّد المرسلين و آله الغرّ الميامين، و اللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

________________________________________

ص: 636

ص: 637

ص: 638

صورة

ص: 639

صورة

ص: 640

صورة

ص: 641

صورة

ص: 642

صورة

ص: 643

صورة

ص: 644

صورة

ص: 645

صورة

ص: 646

صورة

ص: 647

صورة

ص: 648

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.